إسلام ويب

شرح الترمذي - باب ما جاء في كراهية ما يستنجى به [38]للشيخ : عبد الرحيم الطحان

  •  التفريغ النصي الكامل
  • من رحمة الله بعباده أن جعل لهم مطهرات لذنوبهم التي عملوها، ومن هذه المطهرات ما يكون في الدنيا كالتوبة، وما يكون بعد الموت كحياة البرزخ، وما يكون منها بعد البعث من التعرض لأهوال يوم القيامة، ومما قد يصاب به الإنسان في الدنيا الطاعون الذي هو وخز الجن، والذي جعله الله عز وجل شهادة لكل مؤمن، ومن أهم أسباب ظهور الطاعون انتشار الفواحش.

    1.   

    انتشار الطاعون في الأمم السابقة

    بسم الله الرحمن الرحيم

    الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى جميع الأنبياء والمرسلين، ورضي الله عن الصحابة الطيبين, وعمن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، أما بعد:

    فقد كنا نتدارس سبب ظهور الطاعون، وقلت: إن سببه انتشار المعاصي وظهور المخالفات، وفي مقدمتها انتشار الفواحش والمنكرات، مثل فاحشة الزنا, واللواط, والسحاق, نسأل الله العافية من سخطه.

    وهذا الأمر حصل في الأمم الماضية, وأيضاً حصل في هذه الأمة عندما حصل فيها هذه الفاحشة وهذه المنكرات.

    وقد أشارت أحاديث نبينا عليه الصلاة والسلام إلى هذا الأمر، وكما قلت: سنقرأ ما وقع في الأمم السابقة ثم ننتقل إلى ما وقع لهذه الأمة، وإشارة النبي عليه الصلاة والسلام إلى ظهور الطاعون وحصوله عند انتشار الفواحش والمنكرات.

    إخوتي الكرام! معنا أثر بلعام في تفسير الطبري رواه الإمام سليمان التيمي عن سيار الشامي ، والأثر حكم عليه الحافظ ابن حجر بأنه مرسل جيد الإسناد, وله شواهد ستأتينا.

    وخلاصة الأثر إخوتي الكرام! عندما ذهب جيش نبي الله موسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام إلى فتح بيت المقدس، جاء الذين يسكنون في تلك البقعة إلى بلعام في ذلك الوقت، وطلبوا منه أن يدعو على جيش نبي الله موسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام، فرفض في أول الأمر فقالوا: استخر ربك وآمر ربك لعله يرضى.

    ففي الليلة الأولى ينهاه الله ويقول له: لا تدع على جيش موسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام، ويظهر له رؤيا تخبره بذلك في نومه، وهكذا في الليلة الثانية والثالثة، وفي الرابعة لم ير شيئاً، فقالوا له بعد أن قدموا له الهدايا: قد رضي الله منك أن تدعو على جيش نبي الله موسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام، فلما رفع يديه ودعا قلب الله لسانه فدعا على قومه ودعا لجيش موسى بالنصر والظفر.

    فلما قيل له: إنك أهلكتنا، قال: هذا ما قدره الله ولو دعوت عليهم لما استجيب لي فيهم، لكن أخبركم على شيء تنتصرون به عليهم.

    وخلاصته ما ذكرته: أن يرسلوا بناتهم ونساءهم إلى جيش موسى ليبعن الطعام وهن مزينات، فإذا طلب الجيش من النساء شيئاً من المحرمات وقعوا في بلاء، وقال لهم: إن الله يبغض الزنا، وإذا وقع الجيش في الزنا سقطوا من عين الله، فتنتشر فيهم الآفات والأمراض والأسقام, وتستريحون منهم ولا داعي بعد ذلك لقتالهم، فكان كذلك فأرسل النساء ووقع الجيش في الزنا -هذا الشاهد- فابتلاهم الله بمرض الطاعون.

    يقول في الأثر: فوقع في بني إسرائيل الطاعون، فمات منهم سبعون ألفاً في يومٍ واحد يقول: وهذا مرسل جيد الإسناد، وسيار شامي موثق، وقد ذكر الطبري هذه القصة من طريق محمد بن إسحاق عن سلمة بن الفضل فذكر نحوه، وسمى المرأة: كشتا بفتح الكاف وسكون المعجمة بعدها مثناة، هذه التي كانت مع قائد الجيش، وسمى الرجل: زمري بكسر الزاي وسكون الميم وكسر الراء رأس سبط شمعون وسمى الذي طعنهما في الحملة الثانية: فنحاص بكسر الفاء وسكون الميم بعدها المهملة ثم مهملة ابن هارون.

    وقال في آخره: فحسب من هلك من الطاعون سبعون ألفاً، هذا في يومٍ واحد، والمقلل يقول: عشرون ألفاً.

    قال: وهذه الطريق تعضد الطريق الأولى التي رويت عن سيار .

    يقول: وقد أشار إليها القاضي عياض فقال: كونه أرسل على بني إسرائيل.

    قيل: مات منهم في ساعة واحدة عشرون ألفاً، هذا يقوله القاضي عياض كما يذكره الحافظ ابن حجر ، وقيل: سبعون ألفاً.

    انتشار الطاعون في عهد داود عليه السلام

    ثم قال الحافظ ابن حجر : وقد ذكر ابن إسحاق في كتاب المبتدأ، يعني: مبتدأ المخلوقات ومنتهاها أن الله أوحى إلى داود على نبينا وعليه الصلاة والسلام، أن بني إسرائيل كثر عصيانهم -فالمعصية بشكل عام سبب لظهور الطاعون، والفاحشة بوجه خاص سبب لظهور الطاعون من باب أولى؛ لأنها أشنع الفواحش- فخيرهم بين ثلاث، فالله أوحى إلى نبيه داود على نبينا وعليه الصلاة والسلام أن بني إسرائيل قومك كثر عصيانهم فخيرهم بين ثلاث, أن يطهرهم الله في العاجل قبل الآجل: إما أن نبتليهم بالقحط، أو أن نسلط عليهم العدو شهرين، أو الطاعون ثلاثة أيام، فاختر واحدة من هذه الثلاثة: فأخبرهم نبي الله داود، فقالوا: اختر لنا، فاختار لهم الطاعون فمات منهم إلى أن زالت الشمس، يعني من طلوعها إلى زوالها يعني: الظهر، سبعون ألفاً, وقيل: مائة ألف، وهو ثلاثة أيام, فتضرع داود إلى ربه الرحمن فرفعه الله, فما مد الطاعون إلى ثلاثة أيام.

    انتشار الطاعون في عهد موسى عليه السلام

    وورد وقوع الطاعون في غير بني إسرائيل، يقول: فيحتمل أن يكون هو المراد بقوله: من كان قبلكم، يعني: بني إسرائيل أو غيرهم ممن أصيبوا بالطاعون.

    فمن ذلك ما أخرجه الطبري وابن أبي حاتم من طريق سعيد بن جبير قال: أما موسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام أمر بني إسرائيل أن يذبح كل رجل منهم كبشاً، ثم ليخضب كفه في دم الكبش، ثم يضرب به على بابه، ففعلوا، فسألهم القبط أتباع فرعون عن ذلك، فقالوا: إن الله سيبعث عليكم عذاباً، وإننا ننجو منه بهذه العلامة، فالجني لا يقرب البيت الذي فيه هذه العلامة بحفظ الله ورعايته، فأصبحوا وقد مات من قوم فرعون سبعون ألفاً.

    وهذا الأثر له حكم الإرسال، وهذا مرسل جيد الإسناد أيضاً.

    وأخرج عبد الرزاق في تفسيره والطبري من طريق الحسن في قول الله جل وعلا: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ [البقرة:243] فقال الحسن البصري : حذار من الطاعون فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ [البقرة:243] ليكملوا بقية آجالهم.

    وأخرج ابن أبي حاتم من طريق السدي عن أبي مالك قصتهم مطولة، ثم قال الحافظ ابن حجر: فأقدم من وقفنا عليه في المنقول ممن وقع الطاعون به من بني إسرائيل في قصة بلعام ومن غيره في قصة فرعون، وتكرر بعد ذلك لغيرهم، والعلم عند الله جل وعلا.

    وهذه كلها بسبب المعاصي والمخالفات؛ لذلك لما انتشر فيهم الفواحش سلط عليهم الطاعون فمات منهم سبعون ألفاً، وقوم نبي الله داود على نبينا وعليه الصلاة والسلام، لما حصل فيهم ما حصل وهم بعد قوم نبي الله موسى على نبينا وعليه الصلاة والسلام، قال: خيرهم بين ثلاث: بين القحط شهرين، وبين أن يسلط عليهم العدو, أو أن يصابوا بالطاعون ثلاثة أيام، فاختاروا الطاعون فامتد إلى الزوال فقط بعد أن مات منهم مائة ألف أو سبعون ألفاً كما تقدم في الرواية.

    هذا كله كما قلت إخوتي الكرام! وقع في الأمم قبلنا، إما في بني إسرائيل أو من غيرهم من قوم فرعون، ونستفيد من قصة بلعام أن نسأل الله الثبات، لأن الإنسان لا يأمن على نفسه، وقد حدث لأشخاص آخرين مثلما حصل لـبلعام ، وهذا من خذلان الله له نسأل الله العافية والسلامة، فالآن إبليس الذي يقال له: عابد الجن, عبد الله سبحانه وتعالى، وكان في الملأ الأعلى وله شأن، لكن خذله الله نسأل الله العافية والسلامة، والذين رأوا النبي عليه الصلاة والسلام حالهم أعلى من بلعام بكثير، يعني: عبد الله بن أبي رئيس المنافقين.

    فهذا من العجب أن يروا نبي الله عليه الصلاة والسلام يمشي على الأرض بين الناس ولا تؤمنوا به إيماناً حقاً إلا في الظاهر فهذا أمر عظيم، لكن: وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ [المائدة:41].

    نسأل الله العافية، وأن يثبت الإيمان في قلوبنا، اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على دينك، اللهم يا مصرف القلوب صرف قلوبنا إلى طاعتك ومحبتك، يا ولي الإسلام وأهله ثبتنا عليه حتى نلقاك به.

    إخوتي الكرام! إن من آثر عرض الدنيا على الآخرة خسر، وليعلم أن هذه الشهوة ما هي إلا دقائق معدودة، ثم له العار والبهذلة وعذاب الآخرة، ويحكى أن امرأة راودت رجلاً على فاحشة الزنا، فلما ألحت قال: استحي من الله اتقي الله، إن رجلاً يبيع جنة عرضها السماوات والأرض بالوقوع بين رجليك، أنترك جنةً واسعة لأجل هذه البقعة الضيقة؟! لكن لا بد من عقل، فإذا كان الإنسان لا يملك عقلاً يزن به الأمور يصبح ألعوبة للشيطان.

    1.   

    وقوع الطاعون في هذه الأمة وما ورد فيه من روايات

    وأما في هذه الأمة قال الحافظ ابن حجر بعد هذا بصفحات في صفحة (10/192) أيضاً، وهذا الكلام قلنا في صفحة (183) يعني: بعد عشر صفحات تقريباً، يقول: وقد وقع في حديث ابن عمر ما يدل على أن الطاعون ينشأ عن وقوع وظهور الفاحشة، إذا ظهرت الفاحشة حصل الطاعون، ويورد لحديث ابن عمر ما سأذكره، وغالب ظني أنه تقدم له ذكر ضمن مباحث سنن الترمذي في هذا المبحث الذي هو مبحث أيضاً الجن بطوله، تقدم معنا ذكر لبعض رواياته وأضيف إليه ما تيسر.

    رواية ابن عمر في وقوع الطاعون

    أما حديث ابن عمر رضي الله عنهما فقد رواه الإمام ابن ماجه في سننه والبيهقي في السنن الكبرى في الجزء (9/132) ورواه الحاكم في المستدرك في الجزء (4/540), ورواه البزار , ورواه أبو نعيم في الحلية في الجزء (8/333), ورواية البزار إن شئتم أن تنظروها في الترغيب والترهيب في الجزء (1/543)، وفي الجزء (3/170 ، 286) والحديث صححه الحاكم وأقره عليه الذهبي وإسناده صحيح، من رواية عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( يا معشر المهاجرين! خصال إذا ابتليتم بهن ونزلن بكم، أعوذ بالله أن تدركوهن، لم تظهر الفاحشة في قوم حتى يعلنوا بها إلا فشا فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن في أسلافهم، ولم ينقصوا المكيال والميزان إلا أخذوا بالسنين وشدة المؤنة وجور السلطان -والثالثة- ولم يمنعوا زكاة أموالهم إلا منعوا القطر من السماء، ولولا البهائم لم يمطروا -والرابعة- ولم ينقضوا عهد الله وعهد رسوله -عليه الصلاة والسلام- إلا سلط عليهم عدواً من غيرهم فيأخذ بعض ما في أيديهم -وآخر الخصال الخمسة- وما لم تحكم أئمتهم بكتاب الله إلا جعل الله بأسهم بينهم ) نسأل الله العافية والسلامة. فهذا الحديث يدل على أن الطاعون ينشأ عن ظهور الفاحشة وانتشارها وفشوها.

    رواية بريدة في وقوع الطاعون

    وورد ما يشهد لهذا الحديث من رواية بريدة رضي الله عنه وأرضاه في مستدرك الحاكم في الجزء (2/126) وقال: إسناده صحيح على شرط مسلم وأقره عليه الذهبي ، والحديث في السنن الكبرى للإمام البيهقي في الجزء (3/346) وفي المكان الأول في الجزء (9/231)، ورواه الإمام الطبراني في معجمه الأوسط بسندٍ رجاله ثقات، كما في الترغيب والترهيب في الجزء (1/543)، ورواه البزار كما في المجمع بسندٍ رجاله رجال الصحيح, انظروا الجزء (7/269).

    قال الإمام الهيثمي : ورجاله رجال الصحيح غير رجاء بن محمد وهو ثقة، ورجاء بن محمد هو: رجاء بن محمد العذري السقطي ، توفي سنة 240 وهو من رجال الإمام الترمذي فقط، ولكن في حديث بريدة رضي الله عنه، عن نبينا صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( ما نقض قوم العهد إلا جعل الله القتل بينهم، ولا ظهرت الفاحشة في قوم إلا فشا فيهم الموت ) والمراد هنا موت بسبب الطاعون كما بين هنا: ( إلا فشا فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن في أسلافهم ). إذاً: طاعون تسبب عنه الموت ( وما منع قوم زكاة أموالهم إلا حبسوا القطر من السماء ) .

    رواية ابن عباس في وقوع الطاعون

    وورد ما يشهد أيضاً لهذين الحديثين من رواية عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، رواه الإمام الطبراني في معجمه الكبير.

    قال الإمام المنذري في الترغيب والترهيب في المكان المتقدم في الجزء (1/544): وسنده قريب من الحسن وله شواهد، ورواه الإمام البيهقي في السنن الكبرى في المكانين المتقدمين في الجزء الثالث والتاسع، لكن رواه البيهقي موقوفاً عن عبد الله بن عباس وله حكم الرفع، ورواية الطبراني مرفوعة إلى النبي عليه الصلاة والسلام.

    قال الحافظ في الفتح عند ذكر هذا الحديث في الجزء (10/193): في سنده مقال، وهذا ما أشار إليه الإمام المنذري قال: قريب من الحسن وله شواهد كما تقدم معنا.

    ولفظ الحديث عن نبينا عليه الصلاة والسلام أنه قال: ( خمس بخمس ) إذا صدرت منكم خمسة أمور فلها خمس عقوبات ( خمس بخمس: ما نقض قوم العهد إلا سلط الله عليهم عدوهم، ولا حكموا بغير كتاب الله إلا فشا فيهم الموت، ولا منعوا الزكاة إلا حبس عنهم القطر، ولا خففوا المكيال والميزان إلا حبس عنهم النبات وأخذوا بالسنين، وما جار قوم في حكم إلا ظهر البأس بينهم ) وهو القتل والاقتتال فيما بينهم.

    الشاهد هنا إذاً: إذا لم يحكموا بكتاب الله فشا فيهم الموت، والموت هو بسبب الطاعون، فإذا لم يحكموا بكتاب الله ظهرت المعاصي والمنكرات وكما تقدم معنا: ( لم تظهر الفاحشة في قومٍ حتى يعلنوا بها إلا فشا فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن في أسلافهم ) فهنا ما حكموا بكتاب الله، فصارت الشوارع كما ترونها في كل مكان فيهن من النساء الكاسيات العاريات الكثير، وأئمتنا كانوا يقولون: إذا خرجت المرأة من بيتها بحجابها وجلبابها فتح باب من الزنا؛ لأنها تعرضت لمن قد يفتن بمجرد خروجها وهي متحجبة وعليها الجلباب، فكيف إذا كانت من الكاسيات العاريات؟! وبلدة ينتشر فيها السفور ولا ينتشر فيها العهر والفجور قول باطل وزور! ولا يكون أبداً، فالمرأة إذا خرجت سافرة قارن مع سفورها على أقل تقدير عملية الزنا، فنسأل الله أن يسترنا في الدنيا والآخرة، فالزنا الآن انتشر بكثرة، وهذا حال الشباب الهابط فقد يزني بعض الناس -وقد يقع بكثرة في هذه العصور التي نعيش فيها- بأخته، وهذا وقع بكثرة؛ لأنه رأى وما استطاع أن يصل إلى ما رأى فإذا وجد أخته بجواره اغتصبها، وهذا يقع بكثرة.

    ومما يساعد في انتشار الفاحشة جهاز الإفساد الذي يسمى: بالتلفاز، وأشنع منه ما وجد اليوم من شغالات في البيوت في هذه الأوقات، وأشنع من الشغالات السواق، فنسأل الله تعالى العافية.

    أثر يحيى بن سعيد في وقوع الطاعون

    إخوتي الكرام! ورواية رابعة ورد في الموطأ من رواية يحيى بن سعيد وهو من أئمة التابعين: أنه بلغه, وعليه فهو مقطوع الأثر.

    قال الحافظ : فيه انقطاع ولا شك، وقال ابن عبد البر : رويناه متصلاً عنه، ومثله لا يقال من قبيل الرأي فله حكم الرفع إلى النبي عليه الصلاة والسلام.

    ولفظ الأثر كما قلت عن يحيى بن سعيد أنه قال: (ما ظهر الغلول في قوم إلا ألقى الله في قلوبهم الرعب) والغلول هي الخيانة في غنائم الحرب، وأعم من ذلك الخيانة من الأموال العامة.

    قال: (وإذا فشا فيهم الزنا كثر فيهم الموت، وإذا نقصوا المكيال قطع الله عنهم الرزق)، المراد خزائن السماء فلا تمطر، (وإذا حكموا بغير الحق فشا فيهم الدم) ، أي: القتل، (وإذا ختر قوم العهد) ، أي: نقضوه، (سلط الله عليهم العدو). إذاً: تتبع الروايات المتقدمة.

    رواية أم المؤمنين ميمونة في وقوع الطاعون

    ورواية خامسة عن أمنا ميمونة رضي الله عنها وأرضاها، مروية في مسند الإمام أحمد في الجزء (6/333)، وانظروها في مجمع الزوائد ونسبها أيضاً إلى مسند أبي يعلى ومعجم الطبراني وعليه فهي في المسند, وهي في المجمع في الجزء (6/257)؛ لأن مسند النساء كله في الجزء السادس في آخر المسند، يعني: لا يوجد روايات النساء قبل الجزء السادس أبداً، من روايات أمنا عائشة فمن بعدها رضي الله عنهن أجمعين، كلها في آخر المسند، وهنا من رواية أمنا ميمونة ، ولفظ الحديث عن أمنا ميمونة رضي الله عنها وأرضاها: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لا تزال أمتي بخير ما لم يفش فيهم ولد الزنا، فإذا فشا فيهم ولد الزنا أوشك أن يعمهم الله بعقاب من عنده ) وفي روايةٍ: ( لا تزال أمتي بخيرٍ متماسك أمرها ما لم يظهر فيهم ولد الزنا ).

    وولد الزنا إخوتي الكرام لا يراد منه الزنا عن طريق السفاح والحرام المعروف فقط، فمفهوم الزنا عندنا أوسع من هذا بكثير، أكثر بيوت المسلمين في هذه الأيام على الزنا إلا ما رحم ربك الرحمن، فمثلاً: يطلق زوجته ثلاثاً ثم يعاشرها، فهذا زنا وما أكثره الآن.

    ولذلك من أشراط الساعة: يكثر أولاد الزنا وينتشر الزنا؛ ولذلك: ( لا تزال أمتي بخير ما لم يفش فيهم ولد الزنا ) و( لا تزال أمتي بخير متماسك أمرها ما لم يظهر فيهم ولد الزنا, فإذا ظهر فيهم ولد الزنا عمهم الله بعقاب من عنده ).

    والحديث إخوتي الكرام! في إسناده محمد بن عبد الرحمن بن لبيبة ، قال الإمام الهيثمي في المجمع: وثقه ابن حبان وضعفه ابن معين , وفيه ابن إسحاق وقد صرح بالسماع؛ لأنه يدلس ويصرح. قال الإمام الهيثمي : فالحديث صحيح أو حسن؛ لأن محمد بن عبد الرحمن بن لبيبة موثق، فالإسناد متصل لتصريح ابن إسحاق بالسماع، فالحديث صحيح أو حسن.

    وقال الحافظ في الفتح في الجزء (10/193): إسناد الحديث حسن. لكن هل الوهم منه أو من الطباعة؟ لا أعلم، فقد نسبه إلى أمنا عائشة رضي الله عنها وأرضاها، وليس هو في مسندها، إنما هو في مسند أمنا ميمونة كما قلت: في الجزء (6/333) من المسند.

    وأما هنا كما قلت في فتح الباري، في صفحة (10/193) يقول: ولـأحمد من حديث عائشة مرفوعاً: ( لا تزال أمتي بخيرٍ ما لم يفش فيهم ولد الزنا، فإذا فشا فيهم ولد الزنا أوشك أن يعمهم الله بعقاب ) وسنده حسن، نعم أقصد هذه رواية أمنا ميمونة كما في المسند والمجمع، وليست رواية أمنا عائشة رضي الله عنهن أجمعين، فانتبهوا لهذا.

    على كل حال: إسناد الحديث حسن، مع أن الحافظ حكم على محمد بن عبد الرحمن بن لبيبة في التقريب قال: ويقال ابن أبي لبيبة : ضعيف كثير الإرسال، وهنا حكم على حديثه أنه حسن، وهناك حكم عليه بأنه ضعيف مع أنه وثق كما تقدم معنا، وهو من رجال أبي داود والنسائي وحيثما كان الأمر، فالحديث له شواهد يرتقي بها والعلم عند الله جل وعلا.

    1.   

    وجوب ستر صاحب المعصية المسلم

    إخوتي الكرام! هنا أمر ينبغي التنبه إليه، وهو أنه إذا رأى أحدنا شخصاً يعمل معصية فلا يشهر به، سواء إلى الحاكم أو غيره فلا فائدة من الإعلام، فقد كان كثير من أئمتنا -وعلى رأسهم الإمام المبجل أحمد بن حنبل رحمة الله ورضوانه عليه وعلى المسلمين أجمعين- يكرهون رفع الأمر إلى السلطان في كل شيء، يقول: لأنه يتجاوز الحد المقدر، وأيضاً قد ترفع إلى الحاكم فيتجاوز عنها بواسطات أو غيره، يعني: أن الأمور فيها ما فيها من الدخل والغبش منذ أن تكدرت الأحوال في بلاد المسلمين ومنذ ضياع الخلافة الراشدة، فكان أئمتنا يكرهون رفع الأمر إلى السلطان؛ لأنه لم يعاقب العقوبة الشرعية، فهذا إخوتي الكرام لا بد أيضاً من وعيه وضبطه.

    وحضرت مرةً إقامة حد السرقة على بعض الناس، وانظروا إخوتي الكرام فالله جل وعلا كما قال في عقوبة الزنا: وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [النور:2] قال أئمتنا: شهود الطائفة لأمرين: الأمر الأول: لينزجروا ويعتبروا ويحصل في القلوب هيبة ورهبة.

    والثاني كما قال النضر بن علقمة : ليستغفروا للزاني الذي حد، اللهم اغفر له، اللهم طهره، اللهم اجعل هذا جبراً له، مهما كان فهو من عداد المؤمنين.

    فلما حضرت وأقيم حد السرقة وجدت الناس ما بين تصفيق وتصفير، بدلاً من أن يستغفروا له، وبعد ذلك هتافات بالتحقير له، فيا عباد الله لم هذا التحقير؟ وكأنهم ما سمعوا النبي عليه الصلاة والسلام، والحديث في الصحيحين: ( إذا زنت أمة أحدكم فليجلدها الحد ولا يثرب عليها ) لا تقل لها: يا خائنة.. يا خبيثة.. يا شيطانة، ألا تستحي, فكلنا يا عبد الله نخطئ في الليل والنهار، فلا داعي للتشهير ولا للتحقير، فليس معنى هذا أيضاً أننا نرأف به حتى نعطل الحد، ثم لما قرأ الآية والله سمعته بأذني يقرؤها خطأ: وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا [المائدة:38] هو هذا: (أَيْدِيِهُمَا) يعني: لا يقرأها بالنصب، فلا يتقن قراءة ومع ذلك تصفيق وتصفير.

    ثم بعد ذلك كما قال أئمتنا: سارق العلن يقطع سارق الخفاء، الأمور كلها ما يعلم بحالها إلا فاطر السماوات والأرض سبحانه وتعالى، فأنت لا ترفع الأمر إلى السلطان، وازجره وانصحه لعله ينزجر، أما الرفع كما قلت في ذلك مجاوزات كثيرة، ونسأل الله أن يفيض علينا وأن يسترنا في كل جميل.

    1.   

    الاستعاذة بالله من الطاعون

    إخوتي الكرام! أشار نبينا عليه الصلاة والسلام في أحاديثه الكثيرة، أنه إذا حصل الزنا وانتشر مع بقية المعاصي، فينزل بالناس عقوبة، وتقدم معنا أيضاً الحديث بذلك وهو في مسند الإمام أحمد ومسند أبي يعلى ورواه الطبري في تفسيره، وإسناده جيد من رواية عبد الله بن مسعود .

    وتقدم معنا أيضاً أن الحديث رواه الحاكم في مستدركه وصححه وأقره عليه الذهبي وهو في الجزء (3/37)، ورواه الطبراني في معجمه الكبير والبيهقي في شعب الإيمان من رواية عبد الله بن عباس .

    فهو من رواية هذين العبدين الصالحين: عبد الله بن مسعود وعبد الله بن عباس رضي الله عنهم أجمعين: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إذا ظهر الربا والزنا في قومٍ فقد أحلوا بأنفسهم عقاب الله ) أي: عذاب الله، استوجبوا هذا وهم الذين استنزلوا هذا العذاب، وتقدم معنا أن العذاب عام ويدخل فيه أن يسلط الله الجن على الإنس عن طريق الوخز ليصيبوهم بالطاعون.

    فإن قيل: تقدم معنا أن الطاعون شهادة، وهنا الآن وقع بسبب معصية، ما الجواب عن هذا إخوتي الكرام؟

    فنقول: إن كان بسبب معصية فهو مصيبة مكفرة، لكن بما أن هذه المصيبة وقعت من أعدائنا الفجرة فلنا ثواب الشهادة، ولذلك نتمنى الطعن وهو أن يموت الإنسان شهيداً في سبيل الله، والطاعون أن نموت من قبل وخز الجن وطعنهم؛ لأنه في الحالتين سيتسلط علينا عدو لله ولرسوله عليه الصلاة والسلام وللمؤمنين ويؤذينا، فنحن لنا شرف الشهادة.

    أما بقية الأمور فلا نسأل الله حرقاً ولا غرقاً ولا غيرها مما تقدم، فتلك مصيبة مكفرة لكن ما وقعت بسبب عدو، فهذا هو الفارق، لكن بما أنها مصيبة، وميتة شديدة من حرق وغرق والمرأة تموت بدم، كما تقدم معنا تفضل الله علينا بالثواب في الآخرة بما يعدل ثواب الشهيد، وميز مصيبة الطاعون عن غيرها؛ لأنها وقعت بسبب عدو.

    ومثل ذلك انكسار الصحابة رضي الله عنهم في موقعة أحد بسبب تقصيرهم، لكن وقع على أيدي أعدائهم: أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [آل عمران:165] .. وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ [آل عمران:166] إلى آخر الآيات الكريمة، (قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ) الرماة خالفوا أمر النبي عليه الصلاة والسلام ففارقوا المكان الذي أوقفوا فيه.

    أنتم في موقعة بدر خيرتم بين أن تأخذوا الفكاك من الأسرى وبين أن تقتلوا، فاخترتم الفداء على أن يقتل منكم في العام القادم مثلهم من أجل أن تتقوا بالفداء وتنالوا ثواب الشهداء، فأنتم اخترتم هذا، فإذا كان الأمر كذلك: (قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ).

    ولذلك تختلف عقوبة الطاعون عن غيرها، فيجوز أن نسأل الطاعون وما نكرهه، لكن ما عداه نستعيذ بالله منه, وهذا ما سأل عنه الشيخ الكريم سابقاً، يعني: أنه ورد في الأحاديث الاستعاذة من الحرق والغرق وأن يموت الإنسان لديغاً، تقدم معنا أحاديث كثيرة في ذلك, فهل لها ثواب الشهادة.

    نقول: نعم، فهي مصيبة وليست معيبة لكن هنا مصيبة ليست عن طريق عدوك الذي يعاديك في الدين، فلك فيها منزلة وفضل وفخر، فتلك من أجل الله، فإنما قدر الله عليك هذا بمصيبة من المصائب الدنيا فكفرت، وأما في الطاعون فعدوك تمكن منك، وإن كان بتقصيرك، سواء العدو الظاهري أو العدو الباطني، فقتلت في سبيل الله، ولذلك عندما تقتل في سبيل الله من قبل أعدائك تتمنى هذا: نسأل الله طعناً وطاعوناً، لكن لا نسأل الله أن نموت بلدغ ثعبان أو لدغ عقرب.

    فهناك نستجير بالله من ذلك، وهنا نقول: هذه شهادة، لو قيل: الموت باللدغ شهادة، نقول: لكن تختلف، فشهادة الطاعون تختلف عن شهادة اللديغ كما تقدم معنا، فشهيد الطاعون يأتي يوم القيامة جرحه يثعب دماً كلون دم الشهيد وريحه ريح المسك، لأنه وقع بسبب قتل كافر عدو، ونتمنى الآن الشهادة بسببه، وهناك لا نتمناها، وإن كانت ستحصل لنا لأننا كما قلنا: تلك مصيبة لم تقع على أيدي الأعداء، فلم تحصل من أجل الله، إنما إذا وقعت علينا لا بد من أن نرضى بقدر ربنا، والله عوضنا هذا الأجر، وبهذا يحصل الجواب الذي ذكره الشيخ الكريم.

    إخوتي الكرام! بعض الأحاديث التي وردت فيها الاستعاذة، يعني: من بعض الآفات ولكن ما فيها الاستعاذة من الطاعون, وأن يموت الإنسان لديغاً.

    تقدم معنا بعض هذه الأحاديث، منها - وغالب ظني ذكرتها سابقاً - ما في المسند وسنن أبي داود والنسائي والحديث في صحيح ابن حبان ومستدرك الحاكم ورواه الإمام الطبراني في معجمه الصغير، وإسناد الحديث رجاله رجال الصحيح، عن أنس رضي الله عنه وأرضاه قال: كان الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: ( اللهم إني أعوذ بك من الجذام ) مرض لكن ليس بسبب الجن، وسيأتينا ذكر الجذام عند حديث: ( لا عدوى ) في المبحث الرابع عند الأدب النبوي الذي ينبغي أن يتصف به عند حصول الطاعون في بلد دخولاً إليها وخروجاً منها.

    إذاً هنا: ( أعوذ بك من الجذام ) مرض كريه الرائحة، إذا أصيب الإنسان به يتساقط لحمه ( والبرص والجنون ومن سيئ الأسقام ).

    والحديث كما قلت: هذه رواية سنن أبي داود والنسائي ، وأما رواية ابن حبان والحاكم والطبراني في الصغير مطولة، أن النبي عليه الصلاة والسلام كان يقول: ( اللهم إني أعوذ بك من العجز والكسل والجبن والبخل والهرم ).

    وتقدم معنا هذه الروايات في الاستعاذة بالله من هذه الأربع، وتقدم معنا أنه ثابت في الكتب الستة إلا سنن ابن ماجه وهو في مسند الإمام أحمد أيضاً، لكن زيادة الحديث هنا: ( وأعوذ بك من القسوة والغفلة والعيلة والذمة والمسكنة والفقر والكفر والفسوق والشقاق والنفاق والسمعة والرياء، وأعوذ بك من الصمم والبكم، والجنون والبرص وسيئ الأسقام ).

    إذاً: هنا حصلت الاستعاذة بالله من هذه الأمراض التي هي مصائب لكن ليست عن طريق أعدائنا من شياطين الإنس أو الجن، ما قال: أعوذ بك أن أموت شهيداً في سبيلك، ولا أن أموت مطعوناً.

    وثبت أيضاً في مسند الإمام أحمد وسنن أبي داود والنسائي ومستدرك الحاكم من حديث أبي اليسر .

    وروى الإمام أحمد في المسند نحوه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول: ( اللهم إني أعوذ بك من الهدم ) وهذا له ثواب الشهادة ( وأعوذ بك من التردي ) يهدم عليه شيء أو يتردى من شاهق إلى وادٍ، أو في حادث سيارةٍ أو غيره، ( وأعوذ بك من الغم والغرق والحرق، وأعوذ بك من الهرم، وأعوذ بك أن يتخبطني الشيطان عند الموت ) وفي رواية: ( وأعوذ بك أن أموت لديغاً ) مع أنه تقدم أن له ثواب الشهادة.

    وورد في معجم الطبراني الكبير كما في المجمع في الجزء (10/144) قال الإمام الهيثمي : وفي إسناده عبد الرحمن بن عثمان الحاطبي وهو ضعيف، ولم يخرج له أحد من أصحاب الكتب الستة كما في المغني في الضعفاء للإمام الذهبي في الجزء (2/383) قال: ضعفه أبو حاتم .

    ومعنى الحديث يدخل في معاني الأحاديث المتقدمة، ولفظ الحديث عن عائشة بنت قدامة بن مظعون رضي الله عنهم أجمعين: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول: ( اللهم إني أعوذ بك من شر الأعميين -تثنية أعمى- قالوا: يا رسول الله! وما الأعميان؟ قال: السيل والبعير الصئول ) الذي يصول ويند.

    قال أئمتنا: سميا أعميين لاعتبارين: أولهما لأنه في داره بحيرة في أمره حتى كأنه أعمى لا يدري أين يذهب وأين يمشي، إذا جاءه السيل أين سيذهب؟ لا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ [هود:43].

    فالبعير إذا ند وصال أقوى من مائة أسد، لكن سبحان من ذلـله: وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ [يس:72] فإن الأسد لا تعدل صولته صولة البعير إذا صال.

    والمعنى الثاني الذي من أجله سمي: السيل والبعير الصؤول الناد الشارد المتوحش أعميان، قيل: لأنهما لا يتقيان موضعاً, ولا يتجنبان شيئاً عند وقوعهما، فالسيل إذا جاء لا يأتي لبقعة ويترك بقعة، والبعير الصؤول إذا صال وجال فلا يميز بين هذا وهذا، فيضرب وهو مسرع.

    فإذاً: كأنه أعمى لا يميز بقعة من بقعة، ومن أصيب به يحار في أمره فما يستطيع أن يجد مخرجاً.

    إذاً: هذه كما قلت إخوتي الكرام! المصائب فيها شدة وليس فيها ثواب الشهادة، لكن لا نتمناها لأنها مصيبة، فهي ليست معيبة لكنها مصيبة، فلا نتمنى المصائب ومن بابٍ أولى لا نتمنى المعائب، إنما فيما يتعلق بالطعن والطاعون كلاهما مصيبة لكن فيهما شرف وفخر ورتبة ومنزلة لأنك قتلت في سبيل الله على يد أعداء الله من شياطين الإنس والجن، فنتمنى الطعن والطاعون, هذا الذي يختلف عن بقية المصائب، فهنا نتمنى الطاعون، وهذا منقبة لنا، ولا نتمنى أن نصاب بغرق أو بحرق؛ لأن هناك وردت الاستعاذة بالله من ذلك، هذا ما ظهر لي: أن في الطاعون مصيبة لكن على يد عدو، وأما هذه بتقدير ربي دون أن يكون مدخل لأعداء الله في ذلك.

    ولذلك إخوتي الكرام! في قول الله جل وعلا في سورة التوبة: إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ [التوبة:111].

    تقدم معنا أنه قرأ حمزة والكسائي وخلف بتقديم المبني للمجهول على المبني للمعلوم، (فَيُقْتَلُونَ وَيَقْتُلُونَ) وبذلك قرأ هؤلاء الثلاثة في قول الله في آخر سورة آل عمران: فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا [آل عمران:195] قرأ حمزة والكسائي وخلف : (وَقُتِلُوا وَقَاتَلُوا) قدم قتلهم على قتلهم لغيرهم؛ لأنه إذا باع نفسه في سبيل الله، لو قيل: (إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ) فهو يريد أن يفرض البيع, وأن يقدم نفسه، وأن يدلل على تعلقه بالشهادة أكثر من قتله لعدوه، يعني: يفرح باستشهاده أكثر مما يفرح بقتله لعدوه، وليس بعد هذه المنقبة منقبة؛ ولذلك كان كثيراً من الشهداء عندما يطعن يقول: فزت ورب الكعبة، كما تقدم معنا, في حرام بن ملحان في بئر معونة التي وقعت، لما طعن فقال: فزت ورب الكعبة، فالذي طعنه أسلم بعد ذلك، فقال: بأي شيءٍ فاز؟ قالوا: فاز بالجنة، فقال: نحن إذا طعنا خسرنا الدنيا والآخرة وهذا نطعنه ويقول: فزت, فقيل له: هذا ترك الفانية إلى الباقية, وذهب إلى أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين في عليين، فهذا هو الفوز المبين، وطاعنه جبار بن سلمى أسلم بعد ذلك، وعندما عرف سبب فوزه.. فاز بأي شيء؟ قال: فاز بالجنة.

    لذلك بالنسبة للكفار يختلف أمرهم عن المجاهدين الصادقين الأبرار: إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ [النساء:104].

    ذاك الخبيث الخسيس الكافر إذا مات خسر الدنيا والآخرة، هو يقاتل من أجل تمتع في الدنيا، وأما أنت إذا مت استرحت من الدنيا التي هي سجنك، وذهبت إلى دار كرامتك فهنيئاً لك.

    ولذلك يحرص المجاهد على الموت أكثر مما يحرص الكافر على الحياة, ولذلك ننتصر عليهم، هذه القوة المعنوية إذا لم تكن في نفوس المقاتلين فسرعان سرعان ما ينهارون ويندحرون ويتأخرون.

    1.   

    مطهرات الذنوب

    إخوتي الكرام! هذا الطاعون كما قلت يقع بسبب معاصي العباد، لكن تكرم الله على عباده الموحدين فجعله مطهراً لهم في هذه الحياة، وأثابهم عليه ثواب الشهادة بعد الممات، فيختلف عن سائر المطهرات الأخرى لأنه وقع بسبب أعدائنا من الجن بتسليط الله، والله على كل شيءٍ قدير.

    والمطهرات التي تحصل للمؤمنين والمؤمنات ذكر أئمتنا أنها تسع، فإذا حصلت لك فأنت ناجٍ من نار جهنم، فإذا حصلن لك ولم تطهرك فستدخل إلى المطهر العاشر وهو نار السعير، نسأل الله أن يلطف بنا إنه هو الغفور الرحيم.

    مطهرات في الدنيا

    منها ثلاث مطهرات في الدنيا، أولها: التوبة والاستغفار، ثانيها: المصائب المطهرة، ثالثها: الطاعات المكفرة.. فهذه ثلاث في الدنيا كلها تغسل لك الذنوب: إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ [هود:114] (ولا يزال البلاء بالمؤمن والمؤمنة حتى يمشي على وجه الأرض وليس عليه خطيئة) ، (ومن تاب تاب الله عليه)، إن الله غفورٌ رحيم.

    مطهرات في البرزخ

    ومن المطهرات ثلاث في البرزخ:

    أولها: عند بداية الخروج من الدنيا إلى دار البرزخ: فشدة النزع، وآلام الموت هذه كلها تحت عنك الذنوب والأوزار كما تسقط الأوراق اليابسة من الشجرة اليابسة.

    ثانيها: ما يهدى إليك من قبل عباد الله من دعاء واستغفار وسائر الطاعات.

    ثالثها: عذاب في البرزخ تعذب به، فالقبر إما روضة من رياض الجنة, أو حفرة من حفر النار.

    فهذه ثلاث مطهرات في البرزخ.

    مطهرات في يوم القيامة

    وثلاث مطهرات في الآخرة:

    أولها: هول الموقف, وشدة الحساب الذي يجعل الولدان شيباً، هذا في حق المؤمنين أيضاً شدائد تمحصهم من ذنوبهم وأوزارهم، فإن نزع هذا المطهر فالحمد لله وأنت في سلامة وعافية.

    ثانيها: شفاعة نبينا الأمين عليه الصلاة والسلام، وبعده شفاعة الشافعين، فيشفعون للخطاءين والمذنبين، فإن شفعوا فيهم وبقي عليهم حقوق وواجبات فتأتي شفاعة أرحم الراحمين، بعد أن تشفع المخلوقات يقول: بقي شفاعتي فيشفع ويدخل أقواماً الجنة لم يعملوا خيراً قط بشفاعته فهي أعظم الشفاعات وأوسعها.

    ثالثها: وهو الكير، فإذا دخل وهذب ومحص ونقي، يقال له: أبشر فادخلوها خالدين بعد ذلك، وإذا كان معدنه نجس لا يقبل التطهير، حاله كما قال الله: وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ [الأنعام:28] هؤلاء لا يخرجون منها وهم فيها مخلدون.

    فإذاً: المصائب المكفرة المطهرة هذه نعمة في حق المؤمن.

    وقد أشار إلى ذلك نبينا عليه الصلاة والسلام، فقد ثبت في سنن الترمذي ومستدرك الحاكم والحديث رواه الإمام البيهقي في الأسماء والصفات، والحديث إسناده صحيح من رواية أنس بن مالك رضي الله عنه وأرضاه، وسأذكر هذا الحديث وبعده بضعة أحاديث إن شاء الله في أول اللقاء الآتي في تقرير هذا الأمر، ألا وهو أن المصائب مكفرة.

    ولفظ الحديث كما قلت: من رواية أنس بن مالك رضي الله عنه وأرضاه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إذا أراد الله بعبدٍ خيراً عجل له العقوبة في الدنيا، وإذا أراد بعبدٍ شراً أمسك عنه -يعني: العقوبة- حتى يوافي به يوم القيامة ) يعني: بذنوبه وأوزاره.

    وجاء أيضاً من رواية أبي هريرة رضي الله عنه، ما رواه الإمام أحمد في المسند ومالك في الموطأ، ورواه الإمام الترمذي وقال: حسن صحيح، والحاكم في المستدرك وأبو نعيم في الحلية وإسناده صحيح كالشمس من رواية أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لا يزال البلاء بالمؤمن والمؤمنة في نفسه وولده وماله، حتى يلقى الله وما عليه خطيئة ) .

    وصلى الله على نبينا محمد وعلى جميع الأنبياء والمرسلين، وسلم تسليماً كثيراً.

    ربنا آتنا في الدنيا حسنةً وفي الآخرة حسنةً وقنا عذاب النار، اللهم اغفر لآبائنا وأمهاتنا، اللهم ارحمهم كما ربونا صغاراً، اللهم اغفر لمشايخنا ولمن علمنا وتعلم منا، اللهم أحسن إلى من أحسن إلينا، اللهم اغفر لمن وقف هذا المكان المبارك، اللهم اغفر لمن عبد الله فيه، اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات.

    وصلى الله على نبينا محمدٍ وعلى جميع الأنبياء والمرسلين وسلم تسليماً كثيراً.

    والحمد لله رب العالمين.

    والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    755964637