إسلام ويب

شرح الترمذي - باب ما جاء في كراهية ما يستنجى به [13]للشيخ : عبد الرحيم الطحان

  •  التفريغ النصي الكامل
  • إن الله سبحانه مكن الجن من التشكل على صورة الإنس، والأدلة والأخبار على ذلك متوافرة متضافرة، وقد وقع من ذلك حوادث كثيرة شهيرة لعدد من الصحابة حيث كانت تتشكل لهم بعض الجن وتكلمهم بل وتسرق من أموالهم، هذا وإن الحرز منهم قراءة آية الكرسي وخواتيم سورة البقرة، ولا يصيب العبد بعد ذلك منهم شيء.

    1.   

    الأدلة على تشكل الجني بصورة آدمي

    الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحابته الكرام، وعلى تابعيهم ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، اللهم لا سهل إلا ما جعلته سهلاً، وأنت تجعل الحزن إذا شئت سهلاً، سهل علينا أمورنا، وعلمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا يا أرحم الراحمين، اللهم زدنا علماً نافعاً، وعملاً صالحاً بفضلك ورحمتك يا أرحم الراحمين، سبحانك اللهم وبحمدك على حلمك بعد علمك، سبحانك اللهم وبحمدك على عفوك بعد قدرتك، اللهم صل على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

    أما بعد:

    ما زلنا في الباب الرابع عشر من أبواب الطهارة، من جامع الإمام أبي عيسى الترمذي عليه وعلى أئمتنا رحمة ربنا، وعنوان هذا الباب كما تقدم معنا: باب ما جاء في كراهية ما يستنجى به، فقد أورد الإمام الترمذي عليه رحمة الله في هذا الباب حديثاً من طريق شيخه هناد بن السري ، بسنده المتصل إلى عبد الله بن مسعود رضي الله عنه وأرضاه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( لا تستنجوا بالروث ولا بالعظم، فإنه زاد إخوانكم من الجن )، قال الإمام الترمذي عليه رحمة الله: وفي الباب عن أبي هريرة وجابر وسلمان وابن عمر رضي الله عنهم أجمعين.

    ولا زلنا في المبحث الرابع من مباحث هذا الحديث الشريف، ألا وهو فقه الحديث، وتقدم معنا أن هذا الحديث دل على أن الجن إخوان لنا، وأن طعامهم يختلف عن طعامنا، وإذا كان الأمر كذلك فلا بد من البحث فيما يتعلق بحال هذه الأمة التي تقابل الإنس ألا وهي عالم الجن، وقلت: إن البحث سيكون فيهم ضمن ثلاثة أمور:

    أولها: فيما يتعلق بخلقهم ووجودهم، والثاني: فيما يتعلق بتكليفهم وجزائهم، وقد مضى الكلام على هذين الأمرين موسعاً ومفصلاً بأدلته، وشرعنا في الأمر الثالث من فقه الحديث، وهي الأمور التي نشتبه فيها ونتساوى فيها معهم، والأمور التي نختلف فيها عنهم، وقلت إن هذا المبحث الثالث من فقه الحديث، سيتضمن ثلاثة أمور:

    أولها: في الأمور التي نستوي فيها معهم، وذكرت لذلك أربعة أمور:

    الأول: فيما يتعلق بالخلق، فهم مخلوقون ونحن كذلك، وكل مخلوق سيموت، وهذان مما يستوي فيه الإنس والجن.

    والثاني: في التكليف، فنحن مكلفون وهم كذلك.

    والثالث: في انقسام المكلفين إلى مؤمنٍ وكافر، ومطيعٍ وعاصي، وهذا موجود فيهم كما هو موجود فينا.

    ورابع الأمور: في جزائهم ودخولهم الجنة، ودخول عاصيهم النار.

    وهذا تقدم معنا، وقلت: إنه مما يستوي فيه الإنس والجن تماماً.

    الأمر الثاني: فيما يختلف فيه الإنس عن الجن، والجن عن الإنس، وقلت: إنهم يختلفون عنا في عدة أمور، وسأتكلم على أربعة منها:

    أولها: في عنصر خلقهم، يختلف عن عنصر خلقنا، فهم خلقوا من نار ونحن خلقنا من طين.

    والثاني: في كونهم يروننا ولا نراهم، والله على كل شيءٍ قدير، وقد مضى الكلام على هذين الأمرين.

    والثالث وهو الذي كنا نتكلم عنه: في قدرتهم على التشكل حسبما أقدرهم الله، وليس في وسعنا أن نغير أشكالنا التي خلقنا الله عليها.

    ورابع هذه الأمور: في طعامهم، والاختلاف بين طعامنا وطعامهم.

    هذه الأمور الأربعة مما يختلف فيها الإنس عن الجن، والجن عن الإنس.

    وسأختم البحث بالأمر الثالث الذي فيه أربعة أمور أخرى، فيما يتعلق بالصلة بيننا وبينهم.

    الأمر الأول: حكم الاستعانة بهم.

    والثاني: حكم المناكحة بينهم وبين الإنس، لا على الكلام في حصول المناكحة بينهم، فهذا أمرٌ ثابتٌ ومما يساووننا فيه، إنما هل يجوز أن تحصل المناكحة بين الإنس والجن؟

    والثالث: في تلبسهم بالإنس.

    ورابع الأمور: في كيفية التحصن منهم؟

    هذه أمور أربعة أختم الكلام بها على أمر الجن.

    وكنا في الأمر الثالث: وهو كيفية تشكل الجن، في المبحث الثاني منه: وهو ما يختلف فيه الإنس عن الجن، وتشكلهم يحصل بصورٍ مختلفة، وتواترت به الأحاديث، وعليه إجماع المسلمين، وقد يتشكلون أحياناً بصور الآدميين، وأحياناً بصور الحيوانات، وأحياناً بغيرها.

    قلت: وسأذكر لذلك مثالاً فيما يتشكلون فيه مما له صفة معينة يميز بها، وبدأ ذكر أمثلة مما له صفة مطلقة على أنهم من بني آدم.

    ففيما يتعلق بالأمر الأول: ذكرت تمثل الشيطان بصورة الشيخ النجدي، وقررت هذا وتكلمت بتوسع على حديث نجد قرن الشيطان، وبينت أن المراد بنجد نجد اليمامة، ونجد العراق، كما أن المراد بها في المشرق على وجه العموم، فجهة الشرق بالنسبة للمدينة المنورة مركز الشيطان، وفيها الإفساد والإغواء، وبينت معنى الحديث، ورددت على من وهم في معناه أو حرفه. ‏

    مجيء الشيطان لأبي هريرة وهو يحرس الصدقة

    وأما فيما يتعلق بتمثل الجني بصورة آدمي بدون صفة معينة فهذا واردٌ في أحاديث كثيرة ثابتةٌ عن نبينا عليه الصلاة والسلام.

    منها: الحديث الصحيح الثابت في صحيح البخاري ، ورواه النسائي في السنن الكبرى، وأبو نعيم في دلائل النبوة، والبيهقي في دلائل النبوة، وابن جريج في فضائل القرآن، وابن مردويه في تفسيره، والحديث صحيح.

    وكنت أشرت إلى هذا الحديث ضمن المباحث السابقة عند مبحث من مباحث سنن الترمذي ، وهو ضمن غرض الإمام الترمذي من جامعه.

    وتقدم معنا أن الإمام الترمذي قصد من تأليفه الجامع، سنن الترمذي ثلاثة أمور:

    الأولى: الحديث من حيث الناحية الحديثية استفاده من جهود شيخه الإمام مسلم .

    والثالثة: الحديث من حيث الناحية الفقهية استفاده من شيخه الإمام البخاري .

    والثالثة: مزج ذلك بقواعد المصطلح، فأورد علوم الحديث ضمن الحديث، فجمع الحديث والفقه وقواعد الحديث، وقد قلنا: إن الإمام مسلم فيه ميزة من هذه المزايا، وهي الحديث فقط من حيث الصناعة الحديثية، والبخاري عليه رحمة الله مع أن كتابه كتاب حديث، لكنه قصد منه أصالةً أن يدلل به على فقهه، وما يراه من أحكام شرعية، ولذلك فقه البخاري في تراجم أبوابه.

    والإمام الترمذي مزج بين الطريقتين: فقه، وحديث، وأضاف إلى ذلك قواعد المصطلح، ولذلك قلت: هو أعظم كتب السنة وأكثرها فائدةً؛ لكنه من ناحية المنزلة أنزل من الصحيحين، لأنه لم يجرد الحديث الصحيح، لكن الفوائد التي فيه ليست في غيره، حتى أنه يروي الفقه بالأسانيد عن الأئمة المتقدمين، وهذه ميزة لا توجد في غيره من كتب الحديث الشريف.

    على كل حال عند هذا المبحث هناك ذكرت مثالين:

    الأول: حديث ابن عمر رضي الله عنه، ( إن من الشجر شجرةً لا يسقط ورقها )، وكيف أورده الإمام البخاري عليه رحمة الله، في عدة أبواب يستنبط منه فوائد متعددة.

    الثاني: حديث أورده البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وفيه تشكل الشيطان بصورة إنسان، أورده ضمن ثلاثة أماكن في صحيحه، وانظر كيف يستنبط من هذه الأحاديث.

    الأول: أورده في كتاب الوكالة، وما هي علاقته به؟ الحديث فيه تمثل الشيطان بصورة الإنسان؛ ليسرق من تمر الصدقة كما سيأتينا في كتاب الوكالة، لكن فقهه في تراجم أبوابه، قال الإمام البخاري : باب إذا وكل رجلاً فترك الوكيل شيئاً فأجازه الموكل فهو جائز، وإن أقرضه إلى أجل مسمى جاز، والأمر الثاني وهو الفرض لم يذكر في الحديث لكنه قاسه عليه، فإذا تصرف الوكيل دون إذن الموكل، فأقر الموكل ذلك جاز، وإن تصدق جاز، وإن أقرض إلى أجل مسمى جاز، لكن لا بد من إذن الموكل.

    وسيأتي كيف استنبط البخاري هذا من حديث أبي هريرة الذي سيأتينا.

    الموضع الثاني: أورده في كتاب: بدء الخلق، باب: صفة إبليس وجنوده، كيف يتمثل جنود إبليس ويتشكلون فيأتون بصورة الآدميين.

    الموضع الثالث: أورده في كتاب: فضائل القرآن، في باب: فضل سورة البقرة.

    أورد الإمام البخاري عليه رحمة الله هذا الحديث ضمن هذه الأماكن الثلاثة في صحيحه.

    ولفظ الحديث أذكره باختصار: أن أبا هريرة رضي الله عنه وأرضاه قال: ( وكلني رسول الله صلى الله عليه وسلم بحفظ تمر الصدقة )، قلت: والمراد من الصدقة، صدقة الفطر في رمضان، وفي هذا الحديث دلالتان:

    الدلالة الأولى: يجوز إخراج صدقة الفطر قبل يوم الفطر، وهذا ما كان يفعله الصحابة رضوان الله عليهم والنبي عليه الصلاة والسلام بين أظهرهم، فيقوم بالصدقة ويحرسها إنسان، وتوزع بعد ذلك على المستحقين بعد صلاة العيد، وهم يأتون بالصدقة قبل صلاة العيد.

    الدلالة الثانية: أن يوم العيد من قبل الصلاة إلى غروب الشمس كله وقت لصدقة الفطر، وإذا أخر الإنسان صدقة الفطر حتى بعد الصلاة فإنها تجزئ عند المذاهب الأربعة، وما يثار من لغط في هذه الأيام أنه بعد صلاة العيد يخرج وقتها فهذا كله باطل، وكان في زمن النبي عليه الصلاة والسلام يأخذ الصدقة ويقسمها على المحتاجين بعد صلاة عيد الفطر.

    نعم يستحب لك أن تسارع في إخراجها قبل الصلاة، حتى لا تشغل عنها بترتيبات العيد والزيارة، وإن أخرتها بحيث أديتها قبل غروب الشمس فجائز.

    يقول: ( وكلني رسول الله صلى الله عليه وسلم بحفظ تمر الصدقة )، فبينا أبو هريرة رضي الله عنه يحرس تمر الصدقة جاء إنسان في وسط الليل فبدأ يحثوا من التمر في ثوبه، فقبض عليه أبو هريرة وقال: تسرق من تمر الصدقة؟! هذا سيوزع على المساكين والمحتاجين في يوم العيد وأنت تسرق منه؟! فقال له: إنني فقير، وذو عيال، وشيخ كبير وأعاهدك ألا أعود، يعني: زلة ومطلوب منا أن نقيل العثرات، فإن أقلتني عثرتي لن أعود مرةً ثانيةً لأسرق من تمر الصدقة، وما عرف أبو هريرة حاله فخلى سبيله، والمؤمن غر كريم، وكان أئمتنا يقولون: من خدعنا بالله انخدعنا له، يعاهد الله ألا يعود، كما قال الله تعالى -حاكياً عن إبليس-: وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ [الأعراف:21]، ما ظن أبونا آدم على نبينا وعليه الصلاة والسلام أن أحداً يعطي عهداً بالله أو يحلف بالله وهو كاذب غدار: فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ [الأعراف:22].

    وهنا: شكا إليه الحاجة والفقر فرق له وخلى سبيله، فلما صلى الفجر مع النبي على نبينا وآله وصحبه صلاته الله وسلامه، وقد أطلع الله نبيه عليه الصلاة والسلام على ما حصل لـأبي هريرة ، يقول أبو هريرة : ( فلما رآني النبي عليه الصلاة والسلام تبسم وقال: ما فعل أسيرك البارحة يا أبا هريرة؟ قلت: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم! شكا إلي الحاجة والفقر، وزعم أنه لن يعود فخليت سبيله، قال: كذبك وسيعود ) .

    انظر ليقين أبي هريرة ، قال: فعلمت أنه سيعود لقول النبي عليه الصلاة والسلام، لكنه ما خطر ببال أبي هريرة من هذا العائد، ومن كان في الليلة الماضية، ما خطر بباله أبداً، بل ظن أنه فعل إنسان عادي مجهول، يأتي من أطراف المدينة ويسرق، وأبو هريرة لا يعرف حاله.

    يقول: فذهبت وأنا أحرس التمر وأعلم أنه سيعود، ففي وسط الليل جاء هذا الإنسان وأخذ يحثوا من التمر في ثوبه، فقبضت عليه، قلت: أنت عاهدتني ألا تعود الليلة الماضية، فشكا إليه الحاجة والفقر مرة ثانية، وقال: إنني ضعيف وذو عيال، وحالي كما ترى، هذه آخر ليلة، أعاهدك على ألا أعود، فرق له أبو هريرة رضي الله عنه وأرضاه، ولا يوجد أرق من قلبه، فخلى سبيله، فصلى مع النبي عليه الصلاة والسلام، فتبسم إليه وقال: ( ما فعل أسيرك البارحة يا أبا هريرة ؟ )، قال: زعم أنه لن يعود، وشكا إلي الحاجة والفقر، قال: ( كذبك وسيعود )، فعلمت أنه سيعود لقول النبي عليه الصلاة والسلام أنه سيعود، لكن هذه المرة الثالثة لا يمكن أن يتركه إلا بفائدة شرعية، فعذر الفقر ما عاد ينفع.

    يقول: فلما جاء في الليلة الثالثة قبض عليه، وقال: لأرفعنك إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام، فهذه ثالث ليلة! قال: إني فقير، وذو عيال، وصاحب حاجة، قال: لأرفعنك إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام، قال: دعني، فإذا تركتني أعلمك شيئاً إذا قلته لا يقربك شيطان حتى تصبح، انظر لتعليل أبي هريرة رضي الله عنه لتركه، قال: وكانوا أحرص شيء على الخير، فكأنه يريد أن يقول: بأن الصحابة وهو منهم هذا حالهم، أمة تحرص على الخير، فلا نهتم بأمور الدنيا بل بالمنفعة الدينية، وهذا سيعلمنا فائدة، إذا قلناها لا يقربنا الشيطان حتى نصبح.

    فقال أبو هريرة : وما هي؟ قال: إذا أخذت مضجعك فاقرأ آية الكرسي، فلا يقربك شيطان حتى تصبح، ولن يزال عليك من الله حافظ، يقول: فخليت سبيله، والمعنى: ما دام الأمر كذلك وأنت علمتني هذه الفائدة فانصرف، فصلى مع النبي عليه الصلاة والسلام صلاة الفجر، فتبسم في وجهه وقال: ( ما فعل أسيرك البارحة يا أبا هريرة ؟ )، قلت: يا رسول الله! زعم أنني إذا قرأت آية الكرسي لا يقربني شيطان حتى أصبح، قال: ( صدقك وهو كذوب )، أي: هو كذاب مخادع، لكن في هذه الجزئية صادق، خذ هذه النصيحة منه: ( صدقك وهو كذوب، تدري من تخاطب يا أبا هريرة منذ ثلاث؟ قلت: لا يا رسول الله! قال: ذاك شيطان )، تمثل بصورة آدمي، فجاء ليسرق من تمر الصدقة في المدينة المنورة.

    فهذه صورة من تمثل الجني بصورة إنسان، دون أن يكون على هذا الإنسان مظهر معين، أو صفة خاصة، تميزه عن غيره من بني آدم.

    وهذا حديث صحيح في صحيح البخاري وغيره من الكتب التي ذكرتها.

    هذه القصة تكررت مع ستة من الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين، خمسة منهم رفعوا أمرهم إلى النبي عليه الصلاة والسلام وأخبرهم بما حصل، وواحد منهم كما سيأتينا حصل له هذا وعلمه الشيطان إذا قرأ آية الكرسي، أنه لا يقربه الشيطان حتى يصبح، لكنه ما رفع هذا الأمر إلى النبي عليه الصلاة والسلام، وهو زيد بن ثابت رضي الله عنه.

    فصار معنا إذاً سبع حوادث، ست حوادث منها كما قلت رفعت إلى النبي عليه الصلاة والسلام، حادثة أبي هريرة وخمس حوادث، وحادثة واحدة مع زيد لم ترفع إلى النبي عليه الصلاة والسلام.

    وقلت مراراً: الحديث إذا ضم إليه نظائره وما يشبهه في موضوعه تكسبه قوةً وترفعه درجةً، وهذه الأحاديث السبعة تقرب من المتواتر.

    أما تشكل الشيطان، وجنس التشكل من الشياطين والجن، فهذا متواتر في الأحاديث الكثيرة.

    مجيء الشيطان لمعاذ وهو يحرس تمر الصدقة

    ومن جملة من وقع له مثل هذه الحادثة:

    معاذ بن جبل رضي الله عنه وأرضاه، حيث كان يحرس تمر الصدقة، كما هو الحال مع أبي هريرة رضي الله عنه وأرضاه، والحديث ثابت في المستدرك في (1/563)، وصححه الإمام الحاكم ، وأقره عليه الذهبي ، والحديث في دلائل النبوة، للإمام البيهقي في (7/110)، وفي المعجم الكبير للإمام الطبراني كما في مجمع الزوائد في (6/322).

    قال الإمام الهيثمي في المجمع: وشيخ الطبراني : يحيى بن عثمان بن صالح صدوقٌ إن شاء الله كما قال ذلك الإمام الذهبي في ميزان الاعتدال في (4/376)، قال الإمام الهيثمي : وقال أبو حاتم : تكلموا فيه، وبقية رجاله وثقوا، وكلام الإمام أبي حاتم في الجرح والتعديل في (9/175).

    والحديث رواه مع من تقدم: الحاكم ، والبيهقي ، والطبراني ، ورواه ابن أبي الدنيا في كتاب مكائد الشيطان، ورواه محمد بن نصر ، ورواه أبو نعيم في كتاب دلائل النبوة أيضاً كما في الدر المنثور في (1/324).

    ولفظ الحديث: عن أبي الأسود الدؤلي قال: قلت لـمعاذ بن جبل رضي الله عنه: حدثني عن قصة الشيطان حين أخذته، فقد فقيل عنك أنك قبضت على الشيطان في عهد النبي عليه الصلاة والسلام، فحدثني عن قصته، فقال معاذ رضي الله عنه وأرضاه: جعلني رسول الله صلى الله عليه وسلم على صدقة المسلمين، وهي صدقة الفطر في شهر رمضان، فجعلت التمر في غرفة، وهي المكان المرتفع في علية من أجل أن يسهل علي حفظه، وضبطه من أجل ألا يكون متناثراً في الأرض، فوجدت فيها نقصاناً، فأخبرت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك، التمر في الغرفة ولا يوجد نفر تمتد أيديهم إليه، ومع ذلك أرى فيه نقصاناً.

    فقال النبي عليه الصلاة والسلام: ( هذا الشيطان يأخذه )، الشيطان يأتي ويأخذ، فاحترس، قال: فدخلت الغرفة فأغلقت الباب علي، فجاءت ظلمة عظيمة فغشيت الباب، أي: أصبح أمام الباب ظلمة عظيمة، ثم تصور الشيطان في صورة فيل، فيل أيمكن أن يدخل! ثم تصور في صورة أخرى، قال معاذ : ثم دخل من شق الباب، الباب فيه فتحة صغيرة فدخل منها، فشددت إزاري علي من أجل أن أضبطه وأحكم إمساكه، فجعل يأكل من التمر.

    قال: فوثبت عليه فضبطته فالتفت يداي عليه، يعني: أمسكه إمساكاً محكماً، فقلت: يا عدو الله -علم أنه شيطان- فقال: خل عني فإني كبيرٌ، ذو عيال كثير، وأنا فقير من جن نصيبين -بفتح النون- وكانت لنا هذه القرية - وهي المدينة المنورة على منورها صلوات الله وسلامه - قبل أن يبعث صاحبكم، فلما بعث أخرجنا منها، فخل عني فلن أعود إليك، فخليت عنه، فجاء جبريل عليه السلام فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بما كان، فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الصبح، فنادى مناد به -يعني: بـمعاذ-: أين معاذ بن جبل؟ فقمت إليه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( ما فعل أسيرك يا معاذ؟ )، فأخبرته، فقال: ( أما إنه سيعود فعد )، أي: للانتباه واليقظة لإمساكه، وإياك أن تغفل.

    قال: فدخلت الغرفة وأغلقت علي الباب، فدخل من شق الباب مرة ثانية، فجعل يأكل من التمر، فصنعت به كما صنعت في المرة الأولى، التفت يداه عليه وأحاط به، فقال: خل عني فإني لن أعود، فقلت: يا عدو الله، ألم تقل: لا أعود؟ فقال: فإني لا أعود، وآية ذلك أنه لا يقرأ أحد منكم خاتمة البقرة فيدخل أحد منا في بيته تلك الليلة.

    هنا بدل آية الكرسي، خاتمة البقرة، الآيتان من آخر سورة البقرة وهي: آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ [البقرة:285] إلى آخر السورة، فقد ثبت في المسند، والصحيحين، والسنن الأربعة، إلا سنن النسائي ، والنسائي روى الحديث في السنن الكبرى، وعليه فهو في الكتب الستة، ورواه الإمام الدارمي في مسنده، وابن حبان في صحيحه، كما في كتاب الإحكام في ترتيب صحيح ابن حبان في الجزء (2/78) وفي الجزء (4/121).

    من رواية أبي مسعود عقبة الأنصاري البدري رضي الله عنه وأرضاه، ووقع في بعض الكتب الحديثة ابن مسعود، وهذا خطأ، إنما هو: أبو مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( الآيتان من آخر سورة البقرة من قرأهما في ليلة كفتاه )، وفي رواية: ( من قرأ الآيتين من آخر سورة البقرة في ليلة كفتاه ).

    و(كفتاه) تحتمل عدة أمور:

    أظهرها: كفتاه من كل شر في تلك الليلة، فلا يصاب بضر، ولا يمس بأذى من قبل أعداء الله جل وجلا من الإنس والجن، فيحفظ منهم بفضل الله وهو خير الحافظين.

    وقيل: كفتاه عن قيام الليل، إذا كانت عادته أن يقوم فاستثقل جسمه بالنوم وما استطاع أن يقوم، وقرأ هاتين الآيتين، فببركة قراءتهما وعظيم الأجر الذي يحصل له من قراءتهما يكتب له كأنه قام تلك الليلة إذا عجز عن القيام.

    وقيل: كفتاه كل مكروه.

    وقيل: كفتاه عن غيرهما من الأذكار والأوراد، يعني: هما آيتان جامعتان، من قرأهما وما استطاع أن يقرأ غيرهما فلا يضر، لكن لا يفوت هاتين الآيتين في كل ليلة، فهما تكفيانه من كل ورد، وتكفيانه عن القيام إذا عجز، وتكفيانه عن كل مكروه، كما حقق ذلك شيخ الإسلام الإمام النووي عليه رحمة الله في شرح صحيح مسلم .

    إذاً: ذكر هنا: آية ذلك أنه لا يقرأ أحد منكم خاتمة البقرة فيدخل أحد منا في بيته تلك الليلة.

    والحديث صحيح، صححه الحاكم، وأقره عليه الذهبي، ومن طريقه الطبراني، إلا يحيى بن عثمان بن صالح قلت: إنه صدوق كما قال الإمام الذهبي إن شاء الله، فالحديث لا ينزل عن درجة الحسن بعون الله وقوته.

    مجيء الشيطان لأبي بن كعب وهو يحرس تمر الصدقة

    الحادثة الثالثة: مع أبي المنذر سيد القراء أبي بن كعب رضي الله عنه وعن الصحابة أجمعين، وحديثه في المستدرك أيضاً في المكان المشار إليه آنفاً، ورواه الإمام النسائي في السنن الكبرى، وأبو يعلى في مسنده، وابن حبان في صحيحه، كما في الإحسان في (2/79) في موارد الظمآن صفحة (426).

    حديث أبي مسعود لم أقل: انظروا موارد الظمآن، وإنما قلت: الإحسان، فلماذا؟

    والجواب: موارد الظمآن في زوائد ابن حبان ، الذي هو في مجلد واحد، هو زوائد على الصحيحين فقط.

    ومجمع الزوائد ومنبع الفوائد، للإمام الهيثمي ، زوائد على الكتب الستة، فإذا كان الحديث في الصحيحين، فلا يذكره صاحب زوائد ابن حبان ؛ لأنه موجود في الصحيحين، أما إذا لم يكن الحديث في الصحيحين، ورواه الإمام النسائي -مثلاً- أو في سنن الترمذي أو غيرهما فيوردها في موارد الظمآن؛ لأنها ليست في الصحيحين فانتبه لهذا.

    إذاً: موارد الظمآن في زوائد صحيح ابن حبان على الصحيحين، أما مجمع الزوائد ومنبع الفوائد فزوائده على الكتب الستة، ولذلك لا يمكن للإمام الهيثمي أن يورد حديثاً في المجمع وهو في الكتب الستة؛ في الصحيحين والسنن الأربعة، لكن يورد مما هو في المسند، ومعاجم الطبراني الثلاثة، وأبي يعلى ، والبزار ، كما تقدم معنا، وهذه ستة على ستة.

    ولذلك قلت: إذا وقع أحياناً شيء من الأحاديث في المجمع وهو في الكتب الستة، فيكون هذا عن طريق الوهم من الإمام الهيثمي، وكل بني آدم يهم ويخطئ، لكن هو في الأصل لا يورد حديثاً مذكوراً في الكتب الستة في مجمع الزوائد، أما في موارد الظمآن فقد يورده؛ لأنه لا علاقة له بذلك على الإطلاق، إلا إذا كان في الصحيحين فلا يورده، فانتبه لهذا، وحديث أبي مسعود لا يوجد في موارد الظمآن أبداً؛ لأنه في الصحيحين، إنما يوجد في الإحسان في ترتيب صحيح ابن حبان ، فموجود فيه؛ لأنه ترتيب لصحيح ابن حبان ، سواءً كان في الصحيحين أو في غيرهما.

    إذاً: الحديث كما قلت في المستدرك، والسنن الكبرى للنسائي ، ومسند أبي يعلى ، وصحيح ابن حبان ، ورواه أبو الشيخ في كتاب العظمة، والطبراني في المعجم الكبير، وأبو نعيم في دلائل النبوة، والبيهقي في دلائل النبوة، في الجزء (7/109).

    وكتاب أبي الشيخ العظمة لا أعلم عنه شيئاً، هل لا زال مخطوطاً، أو طبع؟ ليس عندي علم عنه على الإطلاق، والعزو إليه في الدر المنثور في الجزء (1/322)، والعزو إلى بعض الكتب المتقدمة في الترغيب والترهيب للإمام المنذري في (2/275) .

    ولفظ حديث أبي بن كعب رضي الله عنه وأرضاه: حدثنا يحيى بن أبي كثير ، قال: حدثني ابن لـأبي بن كعب ، وابنه اسمه الطفيل كما صرح بذلك الإمام ابن حبان كما في الإحسان في الجزء (2/80) قال: اسم ابن أبي : الطفيل بن أبي بن كعب رضي الله عنه.

    حدثني ابن لـأبي بن كعب : أن أباه أخبره أنه كان له جريناً فيه تمر - انتبه: هذا من تمره ليس من تمر الصدقة - وكان يتعاهده فوجده ينقص، فحرسه ذات ليلةٍ فإذا هو بدابة تشبه الغلام المحتلم، كأنه شاب في أول حياته، احتلم وبدأت الرجولة تظهر فيه، قال: فسلمتُ، من المسلم؟ أبي ، فرد السلام، فقلت: ما أنت: جني أم إنسي؟ قال: بل جني، من الجن في صورة غلام محتلم، قال: فقلت ناولني يدك، قال: فناولني، فإذا يده يد كلب ولها شعر كلب! كأن يده كيد الكلب، قال: فقال أبي : هكذا خلق الجن؟ كأن أبي يقول: إذاً أنت هزيل ضعيف، يعني: لك يدٌ كيد الكلب وبهذا الهزال، وفي هذه الخلقة المنكرة؟! وتأتي لتسرق من جريني، وأنت في هذا الضعف.

    فقال الجني: لقد علمت الجن ما فيهم أحدٌ أشد مني، فقال له أبي : ما حملك على ما صنعت؟ قال: بلغنا أنك تحب الصدقة فأحببت أن نصيب من طعامك، والمعنى: أنت رجل كريم وسيد القراء، فجئنا لنأخذ من تمرك، قال: فقال له أبي : فما الذي يحرزنا منكم؟ فلم يعاقبه، ولم يقل: لأرفعنك إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام؛ لأنه أتاه من جانب النخوة، والتمر تمره، وليس الحق عام فيسأل.

    وكأنه قال: يصيب من تمري، وأنا أحب الصدقة، إذاً لن أحاسبك على مأخذك، لكن ما الذي يحرزنا منكم؟

    قال: هذه الآية: اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ [البقرة:255]، وهي سيدة آي القرآن كما ثبت ذلك في صحيح مسلم عن نبينا عليه الصلاة والسلام، أعظم آيات القرآن آية الكرسي، وهذا مما أجاب به أبو المنذر أبي بن كعب ، وأقره النبي عليه الصلاة والسلام، فقد قال له النبي عليه الصلاة والسلام: ( أبا المنذر ! أي آية في كتاب الله أعظم؟ فقلت: آية الكرسي، قال: فضرب النبي عليه الصلاة والسلام في صدري وقال: ليهنك العلم أبا المنذر )، هنيئاً لك.

    على كل حال ما الذي يحرزنا منكم؟ قال: هذه الآية اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ [البقرة:255] آية الكرسي، قال: فتركه، ثم غدا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فحدثه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( صدق الخبيث )، كلام حق، ويحرزك من الشيطان أن تقرأ آية الكرسي.

    وهذه الحادثة إسنادها صحيح كما قال الإمام الحاكم ، وأقره عليه الذهبي رحمة الله ورضوانه عليهم أجمعين.

    مجيء الغول لأبي أسيد الساعدي في تمر حائطه

    الحادثة الرابعة: جرت لـأبي أسيد الساعدي أيضاً في تمر حائطه دون أن يكون ذلك التمر تمر الصدقة، روى ذلك الإمام الطبراني في معجمه الكبير، قال الهيثمي : ورجاله وثقوا وفي بعضهم ضعف، كما في المجمع في الجزء (6/323)، والأثر رواه ابن أبي الدنيا في مكائد الشيطان، ومحمد بن نصر ، وأبو نعيم في دلائل النبوة كما في الدر المنثور في الجزء (1/325)، ولم يروها الإمام البيهقي في دلائل النبوة، وإنما رواها أبو نعيم في دلائل النبوة.

    ولفظ الحديث: عن أبي أسيد الساعدي أنه: قطع تمر حائطه، أي: بستانه، فجعله في غرفة، فكانت الغول تخالطه إلى متربته، والمتربة: المكان المرتفع الذي يوضع فيه التمر، فتسرق تمره وتفسده عليه، فشكا ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: ( تلك الغول يا أبا أسيد ، فاستمع إليها، فإذا سمعت اقتحامها فقل: باسم الله أجيبي رسول الله صلى الله عليه وسلم )، فراقبها أبو أسيد رضي الله عنه، فقال لها ذلك، فقالت الغول: يا أبا أسيد ! اعفني أن تكلفني أن أذهب إلى رسول الله، وأعطيك موثقاً من الله ألا أخالفك إلى بيتك ولا أسرق تمرك، وأدلك على آية تقرؤها على بيتك، فلا تخالف إلى أهلك، وتقرؤها على إنائك فلا يكشف غطاؤه، فأعطته الموثق - يعني: الغول - الذي رضي به منها، فقالت: الآية التي أدلك عليها هي آية الكرسي، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقص عليه القصة، فقال: ( صدقت وهي كذوبة ).

    وسيأتينا في الأحاديث الأخرى أن الغول جاءت إلى غير أبي أسيد.

    سرقة الغول من تمر أبي أيوب الأنصاري

    الحادثة الخامسة: جرت مع أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه، حيث سرقت الغول من تمره الذي جعله في سهوة في بيته، والسهوة: هي الخزانة في البيت.

    روى هذا الحديث أحمد في المسند، والترمذي في السنن، وقال: هذا حديث حسن غريب، ورواه الحاكم في المستدرك في الجزء (3/459)، قال الحاكم بعد أن رواه من ثلاث طرق: هذه أسانيد إذا جمع بينها صارت حديثاً مشهوراً.

    قال الإمام الذهبي عن الطريق الثالث من طرق حديث أبي أيوب : هذا أجود طرق الحديث، وقد رواه أيضاً ابن أبي شيبة في مصنفه، وابن أبي الدنيا في مكائد الشيطان، وأبو الشيخ في العظمة، والطبراني في معجمه الكبير، وأبو نعيم في دلائل النبوة كما في الدر المنثور في الجزء (1/325)، وأشار الإمام البيهقي في دلائل النبوة في الجزء (7/11) إلى أثر أبي أيوب فقال: ويذكر عن أبي أيوب الأنصاري أنه وقع له ذلك أيضاً، وساق الإسناد دون أن يذكر القصة، والحديث في جامع الأصول في الجزء (8/477).

    ( أنه كانت له سهوة فيها تمر، وكانت تجيء الغول فتأخذ منه، قال: فشكا ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: اذهب، فإذا رأيتها فقل: باسم الله أجيبي رسول الله صلى الله عليه وسلم )، كما جرى مع أبي أسيد الساعدي ، قال: ( فأخذها فحلفت ألا تعود فأرسلها، سبحان الله! ما أرحم الصحابة الكرام رضوان الله عليهم! فجاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ما فعل أسيرك؟ قال: حلفت ألا تعود، قال: كذبت وهي معاودة الكذب، قال: فأخذها مرةً أخرى فحلفت ألا تعود فأرسلها، فجاء إلى النبي عليه الصلاة والسلام فقال: ما فعل أسيرك؟ قال: حلفت ألا تعود، قال: كذبت وهي معاودة الكذب، قال: فأخذها، قال: ما أنا بتاركك حتى أذهب بكِ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: إني ذاكرة لك شيئاً، آية الكرسي اقرأها في بيتك فلا يقربك شيطان ولا غيره، فجاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: ما فعل أسيرك؟ قال: فأخبره بما قالت، قال: صدقت وهي كذوب ).

    حديثٌ صحيح.

    مجيء الغول لبريدة بن الحصيب وأخذها من طعامه

    الحادثة السادسة: جرت لـبريدة بن الحصيب رضي الله عنه وأرضاه، ثبت ذلك في دلائل النبوة للإمام البيهقي ، عن عبد الله بن بريدة ، عن أبيه قال: ( كان لي طعامٌ فتبينت فيه النقصان، فكمنت في الليل فإذا غول قد سقطت عليه، فقبضت عليها فقلت: لا أفارقك حتى أذهب بك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: إني امرأة كثيرة العيال لا أعود، فحلفت لي فخليتها )، يعني: ما بين ذكران وإناث كلهم يتمثلون ويسرقون، قال: ( فجئت فأخبرت النبي صلى الله عليه وسلم، فقال لي النبي صلى الله عليه وسلم: كذبت وهي كذوب.

    يقول: وتبين لي النقصان مرة ثانية، قال: فإذا هي قد وقعت على الطعام فأخذتها فقالت لي كما قالت في المرة الأولى، وحلفت ألا تعود، فجئت فأخبرت النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: كذبت وهي كذوب، ثم تبين لي النقصان مرة ثالثة -أي سرقت مرة ثالثة- فكمنت لها فأخذتها فقلت: لا أفارقك أو أذهب بك إلى النبي عليه الصلاة والسلام، فقالت: ذرني حتى أعلمك شيئاً إذا قلته لم يقرب أحدٌ منا متاعك، وتستريح منا، إذا أويت إلى فراشك فاقرأ على نفسك ومالك آية الكرسي، قال: فخليتها، فجئت فأخبرت النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: صدقت وهي كذوب ).

    قال البيهقي : وهذه غير قصة معاذ فيحتمل أن يكونا محفوظين، ويذكر عن أبي أيوب الأنصاري أنه وقع له ذلك أيضاً.

    هذه الحوادث الست كلها رفعت إلى النبي عليه الصلاة والسلام، حادثتان منها كما تقدم في تمر الصدقة مع أبي هريرة ، ومعاذ ، وأربع حوادث كما تقدم معنا مما يملكه الإنسان سطا عليه الشيطان، الغول، الجني.

    مجيء رجل من الجان لزيد بن ثابت عند حائطه بالمدينة

    الحادثة السابعة وهي آخرة الحوادث: جرت مع زيد بن ثابت رضي الله عنه وأرضاه، روى ذلك ابن أبي الدنيا في كتابه مكائد الشيطان، وأبو الشيخ في كتاب العظمة كما في الدر في الجزء (1/327)، وأشار الإمام البيهقي في دلائل النبوة في الجزء (7/111) إلى هذه الرواية فقال: وروى أبو إسحاق السبيعي أن زيد بن ثابت خرج إلى حائط بالمدينة فسمع جلبةً، فقال له رجل من الجان: أصابتنا سنة فأحببنا أن تطيبوا لنا من ثماركم.

    وقوله: تطيبوا، لعل الذي يظهر والعلم عند الله أن تطيب وهنا ضبطها بضم الباء، يعني: تطيب لنا من ثماركم بشيء فنصيب منها.

    قال: ثم علمه الجان ما يعوذه منهم آية الكرسي، يعني: آية الكرسي تحفظه منهم.

    والقصة ذكرها الإمام السيوطي في الدر، (1/327) قال: خرج زيد بن ثابت ليلاً إلى حائطه فسمع فيه جلبة، فقال: ما هذا؟ فقال رجل من الجان: أصابتنا السنة فأردت أن أصيب من ثماركم فطيبوه لنا، قال: نعم، ثم قال زيد بن ثابت : ألا تخبرنا بالذي يعيذنا منكم؟ قال: آية الكرسي.

    هذه أحاديث متعددة تدل على تشكل الجني بصورة إنسان، والأخبار في ذلك كثيرةٌ متعددة.

    مصارعة عمر بن الخطاب لجني

    وقد روي أيضاً في الآثار الثابتة الصحيحة أن بعض الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين، صارع جنياً عندما تصور بصورة إنسي فصرعه وغلبه، وكان المصارع هو عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه، ثبت الحديث بذلك في سنن الدارمي ، ومعجم الطبراني الكبير، والأثر رواه الإمام أبو نعيم في دلائل النبوة، والبيهقي وفي دلائل النبوة في الجزء (7/123) وهو في مجمع الزوائد في الجزء (9/71).

    قال الإمام الهيثمي : رواه الطبراني بإسنادين، ثم قال: إسناد الرواية الثانية رجاله رجال الصحيح، إلا أن الشعبي لم يسمع من عبد الله بن مسعود ولكنه أدركه، وقال: وإسناد الرواية الأولى فيها المسعودي وهو ثقة لكنه اختلط، انتبه لكلام الهيثمي ، قال: فبان لنا صحة رواية المسعودي برواية الشعبي وبهذا نعلم ما الذي نستفيده من تعدد الروايات، والشعبي إمام ثقة حافظ ضابط، وتقدم معنا قوله: ما كتبت سوداء في بيضاء، وهو سيد المسلمين في زمانه، لكن الإسناد بينه وبين عبد الله بن مسعود منقطع، وجاء من طريق آخر متصل، لكن فيه من اختلط، لكن يتبين صحة إسناد الشعبي وعدم وهم المسعودي بأنه له روايتان كل منهما تشهد للأخرى، فالحديث إذاً صحيح.

    والمسعودي هو: عبد الرحمن بن عبد الله بن عتبة بن عبد الله بن مسعود ، قال عنه الحافظ في التقريب: صدوق اختلط قبل موته.

    وضابط الرواية عنه: أن من روى عنه في بغداد فالرواية عنه بعد الاختلاط، ومن روى عنه في غير ذلك المكان، فالرواية عنه قبل الاختلاط، وتوفي سنة ستين، وقيل: خمس وستين بعد المائة، وحديثه في صحيح البخاري معلقاً، وأخرجه أهل السنن الأربعة، فـالمسعودي يقال دائماً بهذه النسبة، وهو كما قلت: عبد الرحمن بن عبد الله جده عبد الله بن مسعود رضي الله عنهم أجمعين.

    ولفظ الرواية: عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: خرج رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فلقيه رجل من الجن: وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ [الجن:6]، ولفظ الرجل يطلق على الذكر من الإنس والجن.

    ولفظ الناس -كما تقدم معنا- يطلق أيضاً على الجني، كما يطلق على الإنسي بناءً على مراعاة المعنى اللغوي من ناس ينوس إذا تحرك، ولذلك ثبت في صحيح البخاري وغيره من حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، قال: كان ناس من الإنس يعوذون بناس من الجن، فأسلم الجن وبقي الإنس على عبادتهم، فأنزل الله هذه الآية يعيرهم: أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُوراً [الإسراء:57].

    قال الحافظ ابن حجر في الفتح: قال ابن التين : هذا خطأ من عبد الله بن مسعود كيف أطلق لفظ الناس على الجن وهذا خاص بالإنس؟! فقال الحافظ ابن حجر : قال هذا هنا بناءً على مراعاة المعنى اللغوي من ناس ينوس إذا تحرك، والإنسان سمي إنساناً لوجود الحركة والاضطراب فيه، كما سمي إنساناً لوجود الأنس فيه، يأنس بعضهم ببعض كما يأنسون بخالقهم، وسمي إنساناً لأنه مجبول على النسيان، فالأمور الثلاثة فيه.

    ثم قال الحافظ ابن حجر : على من يعترض -يعني: ابن التين - أيعترض على صحابي عربي هو أعلم باللغة من ابن التين وممن بعده!

    خرج رجلٌ من الإنس فلقيه رجلٌ من الجن، قال: هل لك أن تصارعني؟ فقيل له: ويحك! أنت تقدر على مصارعة عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه؟! قال: فإن صرعتني علمتك آية، وبهذا تبين أنه من الجن، فهو في الأصل رجل في صورة إنسي يقول لـعمر : هل لك أن تصارع، إن صرعتني أعلمك آية، فصارعه عمر فصرعه، ثم الثانية فصرعه، ثم الثالثة فصرعه.

    وورد في الرواية أنه لما قبض على يديه وجد يديه كيدي الكلب، فيها شعر فكشفه، قال: أنتم معشر الجن كذلك، قال: لقد علمت الجن أنه ما فيهم أقوى مني، والمعنى: لا تظن أنه لأن اليد ضعيفة وكيد الكلب أننا معشر الجن ضعاف، لا، فأنا أقوى واحد فيهم، ومع هذا صرعه عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه.

    فبعد أن صرعه لا بد الآن أن يفي بالشرط وإلا لن يتركه عمر رضي الله عنه، فقال له: تقرأ آية الكرسي إذا أمسيت وإذا دخلت بيتك، فإنه لا يقرؤها أحد إذا دخل بيته إلا خرج الشيطان وله خبج كخبج الحمار، والخبج: هو الضراط، فقيل لـعبد الله بن مسعود : من هذا الرجل المصارع أهو عمر ؟ فأنت لم تسمه، تقول: رجل من الإنس صارع رجلاً من الجن، قال: من عسى أن يكون إلا عمر ، يعني: من الذي يقدر على مصارعة الجني إلا عمر رضي الله عنه وأرضاه.

    نكتفي بهذا، ونصلي ونسلم على محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756418078