إسلام ويب

شرح الترمذي - باب ما جاء في فضل الطهور [6]للشيخ : عبد الرحيم الطحان

  •  التفريغ النصي الكامل
  • من أقسام الذنوب ما يكون بين العباد من حقوق وتبعات، وهذه كفارتها إعادة الحقوق إلى أهلها أو استحلالها منهم، وذهب بعض العلماء إلى تكفيرها بالطاعات، وأن الله تعالى يتحمل عن عبده التائب ما عليه من حقوق العباد الذين ظلمهم قبل توبته، وعلى هذا فالأحاديث التي ورد فيها مغفرة الذنوب مطلقاً، تقيد بعجز العبد عن رد الحقوق إلى أهلها.

    1.   

    أنواع الطاعات المكفرة للكبائر

    بسم الله الرحمن الرحيم

    الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى جميع الأنبياء والمرسلين, ورضي الله عن الصحابة أجمعين, وعمن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، اللهم لا سهل إلا ما جعلته سهلاً وأنت تجعل الحزن إذا شئت سهلاً، سهل علينا أمورنا وعلمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا يا أرحم الراحمين، اللهم زدنا علماً نافعاً, وعملاً صالحاً بفضلك ورحمتك يا أكرم الأكرمين، سبحانك الله وبحمدك على حلمك بعد علمك, سبحانك اللهم وبحمدك على عفوك بعد قدرتك، اللهم صل على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً، أما بعد:

    فكنا نتدارس باب ما جاء في فضل الطهور، وهو من أبواب الطهارة من جامع الإمام الترمذي عليه رحمات رب العالمين، وقد أورد في هذا الباب حديثاً عن أبي هريرة رضي الله عنه, ساقه من طريق شيخيه إسحاق بن موسى الأنصاري وقتيبة بن سعيد رحمهما الله.

    ولفظ الحديث عن نبينا الأمين عليه صلوات الله وسلامه أنه قال: ( إذا توضأ العبد المسلم أو المؤمن فغسل وجهه خرجت من وجهه كل خطيئة نظر إليها بعينيه مع الماء أو مع آخر قطر الماء, فإذا غسل يديه خرجت كل خطيئة بطشتها يداه مع الماء أو مع آخر قطر الماء حتى يخرج نقياً من الذنوب ). قال أبو عيسى : هذا حديث حسن صحيح.

    وبعد أن تدارسنا ما يتعلق برجال الإسناد انتقلنا إلى مدارسة المبحث الثاني في فقه الحديث وبيان معناه، وقلت: سنتدارس أمرين اثنين في فقهه ومعناه:

    الأمر الأول: في الخطايا التي تكفر بالوضوء والطاعة.

    والأمر الثاني: في كيفية خروج الخطايا والذنوب من بدن المتوضئ المتطهر.

    أما الأمر الأول: فتدارسنا قسماً كبيراً منه فيما مضى, ولعلنا أن ننتهي منه في هذه الموعظة.

    تقدم معنا أن الذنوب تنقسم إلى قسمين اثنين: ذنوب بين العبد وربه جل وعلا, وذنوب بينه وبين عباد الله جل وعلا، وهو المسمى بحقوق العباد.

    والتقصير الذي يجري من الإنسان في حق الرحمن ينقسم ثلاثة أقسام: قسم لا يغفر ولا يكفر بالاتفاق وهو الشرك والكفر, فلابد من التوبة عنه والإقلاع عنه, والله لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ [النساء:48].

    وقسم آخر, وهو: الصغائر, وتقدم معنا أن الصغائر تكفر بالطاعات باتفاق أئمة الناس, فمن اجتنب الموبقات وفعل الطاعات فإنه تغفر له الصغائر إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا [النساء:31]. وهذان الأمران كما تقدم معنا لا خلاف فيهما. ‏

    بقي معنا القسم الثالث ألا وهو الكبائر, وقلت: تعريف الكبيرة: كل ذنب فيه حد مقدر في هذه الحياة أو وعيد شديد بعد الممات، فمن فعل هذا الذنب الكبير هل يكفره بطاعة الله الجليل إذا توضأ وصام وصلى وحج واعتمر وجاهد, هل يكفر عنه هذا الذنب الكبير؟ هذا ما كنا نتدارسه.

    وقد تقدم معنا مع الأدلة أن المعتمد عند أهل السنة وهذا قول الجمهور وهو الحق أنه لا بد من توبة من الكبائر من أجل مغفرتها وتكفيرها, فالطاعات لا تغفر بها الكبائر ولا تكفرها ولا تسقطها, إذ لا بد من توبة صادقة بين العبد وبين ربه جل وعلا.

    وقلت: إنه ورد عن بعض علمائنا الكرام أن الكبائر تغفر بطاعة الرحمن، من الوضوء والصلاة والحج وسائر الطاعات التي يقوم بها الإنسان, وبينت أدلة هذا القول, وقلت مع صحتها -أي الأدلة- وصراحتها على المطلوب و( أن من صام رمضان غفر له ما تقدم من ذنبه ) بل وما تأخر, وهكذا ( من قام رمضان ), وهكذا ( من قام ليلة القدر ), وهكذا ( من حج خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه ) وغيرها من الأحاديث صحيحة، مع أنها تدل دلالة واضحة على ذلك، لكن قلنا: الشأن في توجيه هذه الأحاديث وفهمها على حسب نصوص الشريعة الأخرى، فهذه عدة من ربنا الكريم بمغفرة الذنوب للإنسان إذا حج وصام وقام رمضان وقام ليلة القدر.

    وهذه العدة مقيدة بوجود شروط وانتفاء موانع, فإذا وجدت شروط الطاعات -لتكون مقبولة- من توبة إلى الله، وإنابة إليه، فالله جل وعلا يغفر ما سلف من عبده من الموبقات والكبائر التي بينه وبين ربه جل وعلا وأما إذا لم يتب منها فهو ظالم.

    وهذه الطاعة من صلاة أو حج أو صدقة لا زال فيها نقص، وهل قبلت منه أو لا؟ العلم في ذلك عند الله؛ فالصلاة إذا ما نهتك عن الفحشاء والمنكر فإنها لا تزيدك من الله إلا بعداً، والحج إذا لم يصدر من تقي, والله لا يتقبل العمل إلا من المتقين, والذي يصر على معصية رب العالمين فليست فيه هذه الصفة.

    ولذلك قلنا: لابد من أن يتوضأ الإنسان كما أمر, وأن يصلي كما أمر, وأن يحج ويعتمر كما أمر، وتحقيق كل هذا لا يكون إلا بتوبة صادقة مخلصة لله جل وعلا, فمن تاب وفعل الطاعات فإنه تغفر له الموبقات, فرحمة الله واسعة, فمن يشرب الخمر -نسأل الله العافية- ويزني ويفعل كثيراً من المنكرات ثم تاب إلى الله وصام وصلى وحج فإنه حتماً له ضمان عند الله بأنه يغفر له ذنوبه, ورحمته واسعة, وهو أكرم الأكرمين, وهو رب العالمين سبحانه وتعالى.

    وعليه، تلك الأحاديث -كما قلت- صحيحة, وتدل على أن الذنوب تغفر, لكن هذه الدلالة مقيدة بما لو وجدت الطاعات بالكيفية التي يحبها رب الأرض والسماوات, إذا ما تاب الإنسان وفعل الطاعات.

    وهل سيعذب على الموبقات التي لم يتب منها؟

    قطعاً وجزماً أنه ستقع المقاصة, فلو قدر أن السيئات بقيت بعد المقاصة, والحسنات انتهت هل سيعذب؟

    أمر هذا إلى الله جل وعلا ليس لأحد من خلقه، وهو تحت مشيئته إن شاء عذبه, وهذا عدل من رب العالمين, وإن شاء غفر له وهذا فضل: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ [النساء:48]، فلا نجزم بوقوع العقوبة عليه, بل نقول: استحق العقوبة وتأهل لوقوعها عليه, لكن هل سيعاقب أو لا؟ هذا مرده إلى رب العالمين، الذي لا يسأل عما يفعل والعباد يسألون عن كل تصرفاتهم، فإن غفر فمن يمنعه؟! وهو الرحمن الرحيم، وإن عذب فبعد إقامة الحجة وقطع العنق, ولا يظلم ربك أحداً سبحانه وتعالى.

    وبعد فهذا خلاصة ما تقدم معنا من تقرير وكلام حول الصغائر والكبائر، وعلى هذا التفصيل تصبح الذنوب أربعة أقسام: حقوق العباد وسيأتي تفصيلها، والشرك لا يغفر، والصغائر تغفر، والكبائر المعتمد أنه لابد لها من توبة.

    1.   

    تبعات حقوق العباد ومظالمهم

    أما التبعات وهي: حقوق العباد وظلمهم فيما يتعلق بأبدانهم وأموالهم وأعراضهم، فإذا ظلم الإنسان غيره بأن ضربه أو قتله أو سرق ماله أو أكل حقه أو تكلم عليه وشتمه وسبه، فهذه تبعات وكلها حقوق العباد, فهل تغفر وتكفر بالطاعات والحج والصيام وقيام ليلة القدر وقيام ليال رمضان والوضوء والصلاة؟

    إذا كانت الكبائر التي بينك وبين الله لا تغفر إلا بتوبة، فمن باب أولى حقوق العباد لا تغفر إلا بتوبة.

    ومن شروط التوبة في هذا الباب أن ترد المظالم والحقوق إلى أصحابها؛ لأن التوبة إذا كانت من معصية بينك وبين ربك كشرب خمر مثلاً وترك طاعة واجبة، فالواجب في التوبة أن تقلع عن ذلك الذنب, وأن تعزم ألا تعود, وأن تندم على ما صدر منك, ورحمة الله واسعة بعد ذلك.

    وأما إذا كانت المعصية متعلقة بينك وبين العباد فهذه الثلاث لابد منها: أن تقلع وتندم وتعزم على عدم ظلم العباد، ثم ترد الحقوق إلى أصحابها، وتسترضيهم وتمكنهم من القصاص إذا قتلتهم أو من إقامة حد القذف عليك إذا قذفتهم, أو من رد للأموال إذا ظلمتهم في أموالهم، هذا لابد منه، وبدونه لم تحصل التوبة النصوح الصادقة.

    1.   

    دلالة حديث: (من حج فلم يرفث...) على تكفير الكبائر بالطاعات

    نقل عن بعض أئمتنا أن الطاعات تكفر صغائر السيئات وكبائر الخطايا والموبقات, وتكفر أيضاً التبعات أي: حقوق الناس ورحمة الله واسعة.

    وظاهر ما تقدم نقله من كلام ابن حزم وابن تيمية وكلام ابن المنذر وما يشير إليه كلام الإمام أحمد على وجه العموم أن طاعة الوالدين وبرهما يكفر الكبائر مطلقاً وما قيد هذا بحق العباد.

    فظاهر ما تقدم من نقل يشمل الكبائر المتعلقة بينك وبين ربك, وبينك وبين عباده، وانضاف إلى ذلك كلام سفيان بن عيينة أيضاً حيث قال: طاعة الصيام تكفر المعاصي بأسرها سواء كانت بينك وبين ربك أو بينك وبين خلقه.

    وهذا القول ذكره الحافظ ابن حجر , وأريد أن أذكر أدلته, وأوضح هذه الأدلة؛ لنكون على بينة من أمرنا إن شاء الله.

    قال الحافظ ابن حجر عليه رحمة الله في الفتح في الجزء الثالث صفحة ثلاث وثمانين وثلاثمائة عند شرح الحديث المتعلق بفضل الحج: ( من حج لله فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه ) ( خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه )، وقد تقدم معنا الحديث وتخريجه, وهو في أعلى درجات الصحة.

    يقول الحافظ : ( رجع كيوم ولدته أمه ) أي: بغير ذنب, كما يولد الإنسان ليس عليه عيب من العيوب ولا خطيئة من الخطايا.

    يقول: وظاهر الحديث غفران الصغائر والكبائر والتبعات، وهو من أقوى الشواهد لحديث العباس بن مرداس المصرح بذلك, وله شاهد من حديث ابن عمر رضي الله عنهم أجمعين.

    1.   

    دلالة حديث العباس بن مرداس: (دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عشية عرفة...) على تكفير الكبائر بالطاعات

    حديث العباس بن مرداس رواه ابن ماجه في سننه, وهو في الجزء الثاني صفحة اثنتين بعد الألف، ورواه البيهقي في السنن في الجزء الخامس صفحة مائة وثمانية عشرة، ورواه الإمام أحمد في المسند في الجزء الرابع صفحة عشرة، ورواه البيهقي أيضاً في البعث والنشور، ولفظه: ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا لأمته عشية عرفة عند غروب الشمس ), والناس سيفيضون إلى مزدلفة دعا نبينا عليه الصلاة والسلام وهو بنا رءوف رحيم، دعا لأمته عشية عرفة, وهي الحجة الوحيدة التي حجها نبينا عليه الصلاة والسلام, دعا لأمته من كان منهم معه ومن يأتي إلى يوم القيامة, ولنا في هذا الدعاء نصيب كبير ( فأجيب: أني قد غفرت لهم ما عدا المظالم ) أي: أغفر لأمتك الكبائر والصغائر إلا المظالم, فهذه لابد من استيفاء حقوق أصحابها، لابد من ذلك: ( فإني آخذ للمظلوم منه ) أي: آخذ للمظلوم حقه من الظالم الذي ظلمه.

    قال نبينا عليه الصلاة والسلام: ( أي رب! إن شئت أعطيت المظلوم الجنة ) ويربح حقيقة عندما يعفو عن الظالم، يعني: لو قلت للمظلوم: تدخل الجنة إن تعف عمن ظلمك؟ فإنه يقول: أعفو عنه وأقبل رجليه وأدخلوني الجنة.

    النبي عليه الصلاة والسلام قال: ( أي رب! إن شئت أعطيت المظلوم الجنة وغفرت للظالم )؛ ولأن رحمتك واسعة فسترضي المظلوم وتغفر الظالم؛ ولأن الحق يبقى بينك وبينه, أي: أنت تضمن هذه الظلامة, وتتحملها فترضي المظلوم وتعطيه مقابل مظلمته جنتك, التي فيها ما لا عين رأت, ولا أذن سمعت, ولا خطر على قلب بشر, فتعطي المظلوم هذا ثم تغفر للظالم, فأنت أرحم الراحمين, وأكرم الأكرمين.

    ( فلم يجب )، أي: ما أجابه الله فيه، ( فلما أصبح بمزدلفة أعاد النبي عليه الصلاة والسلام سؤاله فدعا لأمته فأجيب إلى ما سأل، أن الله يغفر لأمته الصغائر والكبائر والتبعات المظالم، قال: فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم أو قال: تبسم فقال له أبو بكر وعمر رضي الله عنهما: بأبي أنت وأمي يا رسول الله! إن هذه لساعة ما كنت تضحك فيها ) نزلنا الآن وأفضنا من عرفات في المشعر الحرام وهذا مكان عبادة وسعي وحركة وسنذهب إلى منى فهذه ساعة ليس من عادة الإنسان أن يضحك فيها، فما الذي أضحكك؟

    فقال عليه الصلاة والسلام: ( إن عدو الله إبليس لما علم أن الله استجاب دعائي, وغفر لأمتي أخذ التراب فجعل يحثوه على رأسه, ويدعو بالويل والثبور, فأضحكني ما رأيت من جزعه )، رواه ابن ماجه عن عبد الله بن كنانة بن العباس بن مرداس أن أباه أخبره عن أبيه.

    تخريج حديث العباس بن مرداس: دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عشية عرفة ...

    والحديث في إسناده ضعف ففيه راويان مجهولان عبد الله بن كنانة مجهول كما قال الحافظ في التقريب, وهو من رجال أبي داود وابن ماجه , ووالده كنانة بن العباس بن مرداس أيضاً مجهول, فالحفيد والأب مجهولان والعباس بن مرداس صحابي.

    يقول الإمام المنذري : ورواه البيهقي ولفظه (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا عشية عرفة لأمته بالمغفرة والرحمة فأكثر الدعاء, فأوحى الله إليه أني فعلت إلا ظلم بعضهم بعضاً, وأما ذنوبهم فيما بيني وبينهم فقد غفرتها، فقال: يا رب! إنك قادر على أن تثيب هذا المظلوم خيراً من مظلمته, وتغفر لهذا الظالم فلم يجبه تلك العشية, فلما كان غداة مزدلفة أعاد الدعاء فأجابه الله: أني قد غفرت لهم، قال: فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم, فقال له بعض أصحابه: -وهم أبو بكر وعمر خاصة أصحابه رضي الله عنهم أجمعين- يا رسول الله! تبسمت في ساعة لم تكن تتبسم فيها, قال: تبسمت من عدو الله إبليس, إنه لما علم أن الله قد استجاب لي في أمتي أهوى يدعو بالويل والثبور ويحثو التراب على رأسه ) رواه البيهقي من حديث ابن كنانة المتقدم عبد الله بن كنانة عن كنانة عن العباس بن مرداس رضي الله عنه.

    وخرج لهما أبو داود لكن غير هذا الحديث، فهذا الحديث لا يوجد في سنن أبي داود .

    يقول الإمام المنذري في الترغيب والترهيب في الجزء الثاني صفحة مائتين واثنتين: رواه البيهقي من حديث ابن كنانة بن العباس بن مرداس السلمي ولم يسمه -يعني ابن كنانة - واسمه عبد الله ولم يسمه عن جده العباس .

    ثم قال -أي البيهقي -: وهذا الحديث له شواهد كثيرة, وقد ذكرناه في كتاب البعث, فإن صح بشواهده ففيه الحجة على أن الله يغفر الصغائر والكبائر والتبعات, إن صح بهذه الشواهد مع وجود مجهولين في هذا الإسناد وهو يثبت إذا ما شهد له, وسأذكر بعض الشواهد، فإن صح بشواهده ففيه الحجة, وإن لم يصح فإنه يكون ضعيفاً.

    ولا تظنوا أننا نقضنا أمراً معلوماً من الدين بالضرورة أو خالفنا شريعة محكمة، لا، فإن الله يقول: وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ [النساء:48] وظلم العباد بعضهم بعضاً دون الشرك، هذا هو مدلول الآية، وليس في ذلك خلاف بنص من نصوص الشريعة المطهرة.

    تقوية حديث أنس: (وقف النبي بعرفات وقد كادت الشمس...) لحديث العباس بن مرداس

    ومن شواهد الحديث أيضاً لكن بسند ضعيف في كتاب الزهد لـعبد الله بن المبارك عن سفيان الثوري عن الزبير بن عدي عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: ( وقف النبي صلى الله عليه وسلم بعرفات، وقد كادت الشمس أن تئوب ) أي: أن تغرب وتجبر، ( فقال: يا بلال ! استنصت لي الناس، فقام بلال فقال: أنصتوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنصت الناس، فقال: معشر الناس! أتاني جبريل عليه السلام آنفاً فأقرأني من ربي السلام, وقال: إن الله عز وجل غفر لأهل عرفات وأهل المشعر، وضمن عنهم التبعات. فقام عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال: يا رسول الله! هذا لنا خاصة؟ قال: هذا لكم ولمن أتى من بعدكم إلى يوم القيامة، فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: كثر خير الله وطاب ).

    هذا الحديث خلاصة الكلام حوله كما قلت: إسناده ضعيف وفيه مجهولان، لكن إن صح بشواهده ففيه الحجة وإلا فمدلوله لا يخالف أمراً ثابتاً في الشرع، بل نصوص الشرع تشهد له بالجملة، ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء، وظلم العباد بعضهم بعضاً دون الشرك فهو تحت المشيئة، ورحمة الله جل وعلا واسعة.

    تقوية حديث ابن عمر: (كنت جالساً...) لحديث العباس بن مرداس

    والحديث الثاني الذي أشار إليه الحافظ ابن حجر ، قال: هذا نص الشاهد لحديث العباس بن مرداس المصرح بذلك، وله شاهد من حديث ابن عمر عند الطبراني والبزار ، وقال البزار : روي من وجوه، ولا نعلم له أحسن من هذا الطريق.

    ورواه ابن حبان في صحيحه، في صفحة أربعين ومائتين من موارد الضمآن إلى زوائد ابن حبان , ورقم الحديث ثلاث وستون وتسعمائة.

    قال الحافظ الهيثمي في المجمع في الجزء الثالث صفحة خمس وسبعين ومائتين: رجال البزار موثقون.

    وقال الإمام المنذري في الترغيب والترهيب في الجزء الثاني صفحة سبعين: هذه طريق لا بأس بها، ورواتها كلهم موثقون.

    ولفظ حديث ابن عمر قال: ( كنت جالساً مع النبي صلى الله عليه وسلم بنفسي في منى، فأتاه رجل من الأنصار ورجل من ثقيف، فسلما ثم قالا: يا رسول الله! جئنا نسألك، فقال: إن شئتما أخبرتكما بما جئتما تسألاني عنه فعلت )، أي: قبل أن تسألا أنا أخبركما ما الذي جئتما تسألان عنه، وإن شئتما أن أنصت وتسألاني فعلت، فأنتما بالخيار، ( فقالا: أخبرنا يا رسول الله! ) أي: أخبرنا عن أسئلتنا وأجب عليها، والله جل وعلا يطلع نبيه عليه الصلاة والسلام على غيبه، عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا * إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا * لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا [الجن:26-28].

    ( فقال الثقفي للأنصاري: سل, فقال: أخبرني يا رسول الله! ) يعني: أخبرني عن الأسئلة التي جئت أسأل عنها.

    فقال النبي عليه الصلاة والسلام: ( جئت تسألني عن مخرجك من بيتك تؤم البيت الحرام وما لك فيه) أي: تقصد من بيتك بيت الله الحرام، وما لك في هذا الطريق من أجر ( وعن ركعتيك بعد الطواف وما لك فيهما، وعن طوافك بين الصفا والمروة وما لك فيه، وعن وقوفك عشية عرفة وما لك فيه، وعن رميك الجمار وما لك فيه، وعن نحرك وما لك فيه، وعن حلقك رأسك وما لك فيه، وعن طوافك بعد وما لك فيه ) طواف الإفاضة، وفي رواية: ( وعن حلقك رأسك مع طوافك وما لك فيه )، يعني: الحلق بعد طواف الإفاضة وما لك فيه؟

    فقال: ( والذي بعثك بالحق لعن هذا جئت أسأل، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: فإنك إذا خرجت من بيتك تؤم البيت الحرام لا تضع ناقتك خفاً ولا ترفعه إلا كتب الله لك به حسنة، ومحا عنك خطيئة )، فكل خطوة من بيتك إلى بيت الله الحرام يكتب لك حسنة، وتحط عنك خطيئة، ( وأما ركعتاك بعد الطواف فهما كعتق رقبة من بني إسماعيل )، - ( ومن أعتق رقبة أعتقه الله من النار )- ( وأما طوافك بالصفا والمروة فكعتق سبعين رقبة، وأما وقوفك عشية عرفة فإن الله يهبط إلى السماء الدنيا فيباهي بكم الملائكة، يقول: عبادي جاءوني شعثاً من كل فج عميق يرجون رحمتي )، وفي رواية: ( يرجون جنتي ولو كانت ذنوبكم كعدد الرمل، أو كقطر المطر، أو كزبد البحر لغفرتها، أفيضوا عبادي مغفوراً لكم ولمن شفعتم له، وأما رميك الجمار فلك بكل حصاة رميتها تكفير كبيرة من الموبقات، وأما نحرك فمذخور ) يعني: مخبأ ومدخر لك عند الله ويكون لك ذخراً، ( فمذخور لك عند ربك، وأما حلاقك رأسك فلك بكل شعرة حلقتها حسنة ويمحى عنك بها خطيئة، وأما طوافك بالبيت بعد ذلك فإنك تطوف ولا ذنب لك، يأتي ملك حتى يضع يديه بين كتفيك فيقول: اعمل فيما يستقبل فقد غفر لك ما مضى ).

    رواه الطبراني في الكبير والبزار واللفظ له، وقال: قد روي هذا الحديث من وجوه, ولا نعلم له أحسن من هذا الطريق، وقال الهيثمي -كما ذكرت لكم- في المجمع رجال البزار موثقون، ورواه ابن حبان في صحيحه كما سبق.

    والحافظ الهيثمي عليه رحمة الله في صنيعه في الترغيب والترهيب يقضي بتحسين الحديث، وقد صدره بلفظ: (عن) ثم تكلم في آخر الحديث بما يشير إلى ثبوته، فلا نعلم له أحسن من هذا الطريق.

    قال المنذري : وهذه طريق لا بأس بها، رواتها كلهم موثقون، وقد رواه ابن حبان في صحيحه.

    إذاً: حديث ابن عمر يشهد لحديث العباس بن مرداس ، والحديث المتقدم ( من حج لله فلم يرفث ولم يفسق، رجع كيوم ولدته أمه )، يشهد لحديث العباس بن مرداس .

    تقوية قول ابن عباس في تفسير قوله تعالى: (فمن تعجل في يومين) لحديث العباس بن مرداس

    ووجد أيضاً شاهد آخر يشهد لهذا عن ابن عباس رضي الله عنهما, وإسناد الحديث فيه ضعف لكن الشواهد إذا كثرت تتعاضد، رواه الطبري في تفسيره في الجزء الرابع صفحة ثلاث وعشرين ومائتين، من الصفحة التي حققها الشيخ أحمد شاكر وهي في تفسير قول الله: فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى [البقرة:203]. وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ( إذا قضيت حجك فأنت مثل ما ولدتك أمك )، كلفظ الحديث المتقدم معنا ( رجع كيوم ولدته أمه ) وكحديث ابن عمر ، وحديث العباس بن مرداس رضي الله عنهم أجمعين.

    وهذا المعنى الذي دلت عليه هذه الأحاديث هو أحد احتمالين معتبرين قويين في تفسير قول الله جل وعلا: وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ [البقرة:203]، بعد يوم النحر من أيام التشريق، وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ [البقرة:203]، هذا في المبيت في منى والبقاء فيها، وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ [البقرة:203].

    إذاً: فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى [البقرة:203]، الآية تحتمل قولين اثنين: أي: ليس عليه ذنب ولا قصور إذا كان تقياً، فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى [البقرة:203]، ( يخرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه ).

    وتحتمل الآية معنىً ثانياً وهو: فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ [البقرة:203]، ولا ذنب في تعجله أي في نفسه بذهابه إلى أهله إذا طاف طواف الإفاضة وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ [البقرة:203]، أيضاً: ولا ذنب في تأخره، وكأن الله يقول: الأمران مستويان، إن شئت أن تتعجل بعد إتمام اليومين، وإن شئت أن تبقى إلى اليوم الثالث بعد يوم النحر، فأنت مخير، كلاهما لا إثم عليك في فعله ولا حرج عليك، بشرط أن تتقي محذورات الحج، وإذا بقيت في منى, وإن كنت محرماً فلا تتعرض للطيب ولا لغيره انتبه لهذا، فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى [البقرة:203]، المحذورات؛ لأن الحج لا زال هناك شيء من شعائره، وهو أن من مناسكه الرمي، وبعد ذلك عليك طواف الوداع إن كنت قد طفت طواف الإفاضة.

    وعلى كل حال لا إثم عليه في تعجله ونفره، ولا إثم عليه في تأخره وبقائه. وعلى القول الأول في تفسير الآية: لا إثم عليه أي: خرج من ذنوبه، ثم تحتمل الآية معنيين:

    الأول: فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ [البقرة:203]، أي: إذا حج وكان متقياً في حجه غفر له ما تقدم من ذنبه، فلا إثم عليه، ومن تأخر فلا إثم عليه أيضاً، لكن بشرط حصول التقوى من الحاج، فإذا كان متقياً لربه سقطت عنه جميع الذنوب، ولا إثم عليه.

    وهذا التفسير منقول عن علي وابن عمر وابن مسعود وابن عباس في أسانيد صحيحة رضي الله عنهم أجمعين، أنه من تأخر أو من تعجل كلهم غفرت ذنوبه بشرط أن يحج لله ( فلا يرفث ولا يفسق )، كمدلول الحديث، ونقل عن جم غفير من التابعين، عن مجاهد وعن إبراهيم النخعي وعن عامر الشعبي وعن معاوية بن قرة رضي الله عنهم أجمعين.

    والآية تحتمل معنىً ثانياً على القول الأول: فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى [البقرة:203]، قالوا: لمن اتقى المحذورات التي منعه الله من فعلها فيما بقي من عمره، أي: عاد تقياً، فإذا عاد تقياً فما تقدم منك غفر, ورحمة الله واسعة، لكن بشرط فهذه مغفرة مقيدة بقيد: وهو أن لا تعود إلى المحذورات وإلى المحرمات وإلى الخطايا، فإذا أسأت بعد مغفرتك تؤاخذ بما كان قبل حجك وما كان بعده.

    وهكذا إذا أسلم الإنسان وحسن إسلامه يكفر الله عنه كل خطيئة عملها ومضت، وهذا يعني أنه يغفر له ما تقدم، وإذا أساء بعد ذلك فإنه يحاسب على ما تقدم وعلى ما تأخر؛ لأن هذه المغفرة ينبغي أن يحافظ عليها, وأن لا يفرط فيها، فغفر ما تقدم يعني التزم طاعة الله جل وعلا.

    فإذا أحسن الإنسان في الإسلام يغفر له ما تقدم، وإذا أساء في الإسلام يعاقب بعد ذلك على الإساءات التي جرت منه. وهنا كذلك هذه التوبة، غفر لك بشرط أن يلازم التقوى في المستقبل، وهذا التفسير الثاني منقول عن أبي العالية وعن إبراهيم النخعي أيضاً.

    وعليه: خلاصة معنى الآية: فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ [البقرة:203]، أي: يخرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه، وهذه الآية تحتمل أمرين: تحتمل إذا اتقى الله في حجه، وتحتمل إذا لازم التقوى فيما بقي من عمره، والأمران متلازمان، فمن اتقى الله في حجه فإنه سيحفظ من المعاصي، ولو قدر أنه وقع فيما لا تنفك عنه طبيعة البشرية والجبلة الإنسانية فإنه يكون مغفوراً مكفراً عنه كما تقدم معنا في توجيه الأحاديث في مغفرة الذنوب المتقدمة والمتأخرة، إنما لابد من هذين الأمرين، تقواه في فعل الحج، فإن قبل الحج فيترتب عليها تقواه بعد الحج، وهذا علامة القبول أن يكون حالك بعد الحج كما يحبه الله، فهذا دليل قبول الحج، وإذا لم يقبل فإنك تعود بعد الحج كما كنت أو أسوأ مما كنت، ونسأل الله العافية وحسن الخاتمة.

    والمعنى الثاني للآية: فلا إثم عليه في تعجله ونفره، ولا إثم عليه في تأخره وبقائه، هذا معنى الآية الثاني.

    إذاً: هذه الآية أيضاً تشهد لحديث العباس بن مرداس وابن عمر وابن عباس والأحاديث المتقدمة؛ لأن الذنوب تغفر إذا فعل الإنسان طاعة وقبلها الله جل وعلا منه.

    تقوية حديث أنس في قضاء الله بين المتخاصمين يوم القيامة لحديث العباس بن مرداس

    وروي أيضاً حديث عن أنس -وسبق مروياً عنه- لكنه ضعيف، ورد في مستدرك الحاكم في الجزء الرابع صفحة ست وسبعين وخمسمائة، وصححه، وقد تعقبه الإمام الذهبي ؛ لأن فيه عباداً وهو ضعيف، وشيخه لا يعرف.

    ورواه الإمام ابن أبي الدنيا في كتاب حسن الظن كما ذكر ذلك الإمام شيخ الإسلام العراقي في تخريج أحاديث الإحياء في الجزء الرابع صفحة خمسمائة وسبعة، ورواه أيضاً أبو يعلى والبيهقي في البعث.

    ولفظ حديث أنس رضي الله عنه كما في مستدرك الحاكم قال: ( بينا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم جالس إذ رأيناه ضحك حتى بدت ثناياه، فقال له عمر : ما أضحكك يا رسول الله! بأبي أنت وأمي قال: رجلان من أمتي جثيا بين يدي رب العزة, فقال أحدهما: رب خذ لي مظلمتي من أخي، فقال الله تعالى للطالب: فكيف تصنع بأخيك ولم يبق من حسناته شيء )، أنت أخذت حقوقك منه، والحسنات التي عنده كلها أخذتها، ثم تطالبه وما بقي عنده حسنات، وأنت لك عليه حقوق فأخذت لك من حقوقه جميع حسناته حتى نفذت حسناته وبقيت لك حقوق وأنت تطالب، ما العمل؟ ( فكيف تصنع بأخيك ولم يبق من حسناته شيء؟ قال: يا رب! فليحمل من أوزاري )، يوجد حل وأنت الحكم العدل، حسناته ما وفت فليتحمل أوزاري؛ لأكون نقياً, وهذه الحسنات تزيد في رفعتي وعلو درجتي عندك، قال: ( وفاضت عينا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالبكاء عند ذلك )، حسناته انتهت فما العمل؟ قال: سنأخذ من أوزاره، ثم قال: ( إن ذلك اليوم عظيم، يحتاج الناس أن يحمل عنهم من أوزارهم، فقال الله تعالى للطالب المظلوم ) الذي ظلم من قبل هذا الظالم ( ارفع رأسك فانظر في الجنان, فرفع رأسه فقال: يا رب! أرى مدائن من ذهب وقصوراً من ذهب مكللة باللؤلؤ لأي نبي هذا؟ أو لأي صديق هذا؟ أو لأي شهيد هذا؟.. لكن الله يصلح بين المسلمين )، هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه.

    علق عليه الإمام الذهبي في تخليص أحاديث المستدرك قائلاً: قلت: عباد ضعيف، وهو عباد بن شيبة الحبطي ، ويقال: عباد بن الزبير روى عن سعيد بن أنس عن أنس بن مالك رضي الله عنه هذا الحديث، وروى عن غير سعيد بن أنس .

    وقال عنه في الميزان وتبعه الحافظ في اللسان في الجزء الثالث صفحة ثلاثين ومائتين: ضعيف.

    وعلى كل حال لم يصل الضعف فيه إلى درجة الترك والنكارة, ومن باب أولى إلى درجة الترك.

    وقال ابن حبان : لا يجوز الاحتجاج بما انفرد به من المناكير، وإذا كان الحديث منكراً حقيقة، فأحاديث كثيرة صحيحة وضعيفة تشهد له في الجملة، ومنها الذي تقدم معنا ( رجع كيوم ولدته أمه )، وقول الله: وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ [النساء:48].

    وأما سعيد بن أنس لأنه يقول: عباد ضعيف وشيخه لا يعرف، وهو سعيد بن أنس الراوي عن أنس بن مالك رضي الله عنه، قال الحافظ في اللسان وأصل الكلام للذهبي في الميزان : سعيد بن أنس عن أنس بن مالك في المظالم، أي: روى حديثاً في المظالم وهو هذا، لا يتابع عليه.

    قال العقيلي : عصري مجهول، وذكره ابن حبان في الثقاة، وقال: روى عنه عباد بن شيبة الحبطي الذي تقدم معنا.

    هذا حديث من ناحية الإسناد ضعيف، لكن وجد ما يشهد له من أصول الشرع وقواعده كما يقال في الجملة.

    1.   

    فضيلة الصيام في غفران الذنوب والموبقات.

    هل من أحاديث احتج بها من قال: بأن جميع الموبقات تغفر بالطاعات -إذا قبلت- من وضوء، وصلاة، وصيام، وحج، وقيام، وغير ذلك فاترك الإطلاق على إطلاقه: ( من صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه )، وما تأخر؟ اتركه على إطلاقه.

    هنا: ( إذا توضأ العبد المسلم أو المؤمن فغسل وجهه خرجت من وجهه كل خطيئة نظرت إليها عيناه مع الماء أو مع آخر قطر الماء )، لا تقيد هذا وتخصه بالصغائر على هذا القول، صغائر وكبائر وتبعات رحمة الله واسعة.

    هذا القول الذي قاله من قاله، يحتاج إلى توجيه بعد أن أنقل كلام الحافظ ابن حجر في نقل هذا القول عن الإمام ابن عيينة رضي الله عنهم أجمعين.

    يقول الحافظ في الفتح في الجزء الرابع صفحة مائة وتسعة، عند حديث الصيام: ( من صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقد من ذنبه ).

    وعند الحديث أيضاً الثابت في الصحيح أيضاً، صحيح البخاري وغيره: ( كل عمل ابن آدم له إلا الصيام فإنه لي وأنا أجزي به )، وهو حديث قدسي من رواية نبينا عن ربنا.

    يقول الحافظ في الفتح في توجيه قول الله جل وعلا: ( إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به )، وذكر عشرة أقوال، تاسعها يقول: جميع العبادات والطاعات يؤخذ منها مظالم العباد, وتوفى منها مظالم العباد إلا الصيام، نقل هذا الإمام البيهقي عن ابن عيينة فقال: إذا كان يوم القيامة -هذا يقوله الإمام ابن عيينة - يحاسب الله عبده ويؤدي ما عليه من المظالم من عمله حتى لا يبقى له إلا الصوم, فيتحمل الله ما بقي عليه من المظالم ويدخله بالصوم الجنة.

    هذا أحد تأويلات عشرة معان يحتملها الحديث، قاله سفيان بن عيينة : ( إلا الصوم فإنه لي )، فإنه لي بأن يقول: جميع الأعمال تكفر بها الخطايا والأوزار, ويقتص من الصالحات بالسيئات, وتقع المقاصة إلا الصوم فهذا لا يقتص منه، هذا يكفر ولا يجوز، فصار حاله كحال الطاعات عندما تغفر صغائر السيئات, كما تقدم معنا تكفرها ويبقى أجرها.

    يقول سفيان بن عيينة : وهكذا الصوم، فهو عبادة خاصة بالله, وما عبد بها أحد من خلق الله، فإذا كانت هذه العبادة لم يتعبد بها لأحد سوى الله، وسائر العبادات صرفت لغيره من طواف، ومن قسم، ومن نذر، ومن ركوع، وسجود، ومن قيام ( إلا الصوم )، لا أحد يصوم لأحد تعظيماً له، لا أحد يصوم لملك ولا لأمير تعظيماً له.

    وهذا المعنى استنبطه أمير من أمراء المسلمين في القرن السادس كان في عهد الإمام ابن الأثير صاحب جامع الأصول، سيأتينا إن شاء الله عند أحاديث الصوم، ضبط الأقوال العشرة وتوجيهها، واستنباط هذا الأمير لهذا المعنى الجليل الذي ما استنبطه العلماء, عليهم جميعاً رحمات رب العالمين.

    إذاً: هذا الصوم له شأن عظيم عند الله، فهو يكفر الذنوب ويبقى أجره، فإذا استوفيت المظالم من الطاعات وما بقي شيء تأتي عبادة الصيام تتبختر, فتقول: أنا لكل تبعة وكل حال، فتقف أمام المظالم فتكفرها, وترضي المظلوم لما للصوم من أجر عظيم، تعوضهم أجور ودرجات ومظالم وخيرات حتى يرضى، ولا يزول أجر الصوم فيدخل الله عبده بالصوم الجنة بعد ذلك.

    1.   

    القول بأن الذنوب بأسرها تغفر بالطاعات

    هذه الآثار لا يمكن أن نقول: إنها في الجملة تدل على أن الذنوب بأسرها تغفر بالطاعات من صغائر وكبائر وتبعات، وإن كان بعض الأحاديث ضعيفاً، لكن بعضها صحيح، وعلى المدلول صريح، وبعضها ضعيف يتقوى بذاك الصحيح وتتقوى ببعضها، فتدل -كما يقال- في الجملة على أن التبعات تغفر بالطاعات كما أن الموبقات تغفر بالطاعات، كما أن صغائر السيئات تغفر بالطاعات، وليس الأمر على إطلاقه.

    فتوجيه معشر أهل السنة وجمهور أهل السنة لهذه الأحاديث ما قلناه في شأن الكبائر نقول هنا.

    نقول: ما ورد من مغفرتها بالطاعات فهو مشروط بالتوبة، وإن قيل: أي توبة، فالكبائر من زنا وشرب خمر من أقلع عنها وتاب عنها يتب عليه، أما هنا فلا يوجد توبة، وإنما عليه مغارم ونذرت له.

    نقول: ومن قال لكم: إن من شروط التوبة أن نرد الحق إذا كان لا يملكه ولا يستطيع أن يرده، فمثلاً عندي سهم سرقه سارق لنفرض مائة ألف، ثم تاب توبة نصوحاً، وما عنده ولا درهم منها، فيأتي لهذا الشخص ويقول: سرقت منك مائة ألف فسامحني، وأسأل الله أن يعوضك خيراً مما أخذت منك، فما عندي إلا ملابسي، هل تريد أن تجردني منها؟

    تاب توبة نصوحاً، وما عنده الرد، فهل بقي عليه مظلمة؟ فإن قيل: هذا حق سيضيع. تقول: لا، لا، لا.

    إذاً: أنت عندما تبت عملت الطاعات، وهذه الطاعات لها أجر كبير، ويكفر الله بطاعاتك هذه المظالم أي: يتحملها عنك، عندما تتوب وعجزت عن الوفاء والسداد ورحمة الله واسعة.

    وقد أشار نبينا صلى الله عليه وسلم إلى هذا، كما في المسند وصحيح البخاري وسنن ابن ماجه والحديث في أعلى درجات الصحة، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( من أخذ أموال الناس يريد أداءها أدى الله عنه، ومن أخذها يريد إتلافها أتلفه الله ).

    افرض أنه استقرض واستدان وفي نيته السداد والوفاء ثم ما أمكنه، كأن أفلس وخسر في التجارة، فاستقرض ملايين ثم خسر، وأفلس وما بقي عنده شيء, أو احترق محله من أوله لآخره، وهذه الملايين الكثيرة هو في نيته أن يفي، فإنه يؤدي الله عنه. وكيف سيؤدي الله عنه؟ يتحمل عنه هذه التبعة.

    واللفظ يحتمل أمرين: أنه يساعده على السداد والوفاء ويفتح له أبواب الرزق.

    وإذا لم يتمكن وأدركته المنية قبل أداء الحقوق إلى أصحابها يتحمل عنه صاحب الكرم والجود ربنا المعبود سبحانه وتعالى، ويضمن التبعات وهو أكرم الأكرمين.

    حقيقةً: هذا المعنى صحيح، ونحن نقول: إن تاب حقيقة فستغفر له المظالم مهما كانت.

    فإن قيل: ما حصل رد للمظالم وهناك المظلوم يطالب، فنقول: نعم، المظلوم يطالب والحسنات هنا إن تاب فهذه الحسنات تفي بتلك المظالم، إذا ما وفاك الله يبارك له, ويتحمل هذه الظلامة, ويرضي المظلوم, وهو أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين.

    وثبت في معجم الطبراني بإسناد حسن لرواية عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( الدين دينان، فمن مات وهو ينوي قضاءه فأنا وليه، ومن مات لا ينوي قضاءه فذاك الذي يؤخذ من حسناته، وليس يومئذ دينار ولا درهم ).

    فإذاً: الطاعات تكفر الصغائر والموبقات والتبعات كما قلنا بشرط التوبة، وتوبة كل ذنب بحسبه، فحقوق العباد لابد من ردها إليهم، فإذا عجز عن ردها فالله يتحمل عنه وهو أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين.

    فإن قيل: إذا أطاع الإنسان ربه وعليه مظالم فما ردها إلى أصحابها أي: ما تاب منها.

    نقول: بقي تحت قول الله: وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ [النساء:48]، وهذا مستحق للعقوبة وأمره إلى الله، إن وفت حسناته برد المظالم فرحمة الله واسعة، وإن لم تف فأمره إلى الله ورحمته واسعة، لكن أمره على خطر، أما إذا تاب وأراد الوفاء ووفى فالأمر واضح، وإذا لم يتمكن من الوفاء فالله سيضمن عنه ويتحمل عنه حتماً وجزماً، وهو أرحم الراحمين, وأكرم الأكرمين.

    فإذاً: هذه الأحاديث التي مرت معنا فيها عدة بالمغفرة حسب مشيئة الله، إن شاء أن يغفر الله له وهو أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين، وإن شاء أن يقتص من حسناته, وإذا نفدت الحسنات ألقي في الدركات, فهو الحكم العدل سبحانه وتعالى.

    أما إذا تاب فإنه سيأخذ صكاً من الله -وهو أرحم الراحمين- بأنه سيغفر له ويتحمل عنه، وإلا فهو تحت المشيئة, وأمره إلى الله سبحانه وتعالى.

    وهذه الأحاديث الأخرى لابد من أن ننظر إليها كما نظرنا إلى هذا الجانب, وأن نجمع بين كلام النبي عليه الصلاة والسلام بأن لا نأخذ ببعضه ونترك بعضه.

    1.   

    الأدلة من السنة على اشتراط التوبة من الذنوب المتعلقة بحقوق العباد لأهل الطاعات

    ثبتت أحاديث عن نبينا عليه الصلاة والسلام لأناس عملوا طاعات ثم أفلسوا يوم القيامة وألقوا في الدركات.

    دلالة حديث المفلس على اشتراط التوبة من حقوق العباد لأهل الطاعات

    ففي مسند الإمام أحمد ، وصحيح مسلم ، وسنن الترمذي من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للصحابة الكرام: ( أتدرون من المفلس؟ قالوا: المفلس فينا من لا درهم عنده ولا متاع )، أي: من ليس عنده فلوس، دراهم ودنانير، ولا عنده أمتعة، ولا عروض تجارة وملابس وحاجات، لا متاع دنيوي ولا نقد عيني.

    فقال عليه الصلاة والسلام -وانتبه لهذا الحديث-: ( لكن المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة )، وهذه رويت في الطاعات، ( بصلاة وصيام وزكاة، ويأتي وقد شتم هذا )، انظر للتبعات والمظالم والحقوق، ( وقد شتم هذا، وقذف هذا، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا )، هذه خمس مظالم متنوعة تعلقت برقبته: شتم, وقذف, وأخذ مال, وسفك دم, وضرب، ( فيأخذ هؤلاء من حسناته، فإذا نفذت أخذ من سيئاتهم فطرحت عليه ثم ألقي في النار )، هذا كلام النبي عليه الصلاة والسلام، والحديث صحيح.

    إذاً: هذا الحديث يدل على أن تلك الأحاديث التي فيها ذكر المغفرة مقيدة بما لو تاب، وأما إذا لم يتب فتحتمل شيئين: إن غفر الله له فهو حكم عدل سبحانه وتعالى، وإن لم يغفر له فلا يعاقب إلا بناءً على ذنب وعلى حسب تقصيره.

    وأما ما ورد في حديث المستدرك في الذي له مظالم، فأخذ المظلوم من ظالمه من حسناته واقتص، حتى ما بقيت له حسنات لكن هذا الظالم كان قد تاب، فإذا تاب الله جل وعلا عليه فإنه سيضمن؛ ليوضح لنا نبينا عليه الصلاة والسلام صورة كرم الرحمن، قال للمظلوم: كيف ستفعل بأخيك هذا، فإنه تائب أناب إلي وما كان عنده في الحياة ما يقضيك ويرد إليك ظلامتك ماذا ستفعل به الآن, وقد انتهت حسناته؟

    قال: سيأخذ من أوزاره، أين أكرم الأكرمين ورب العالمين الذي يقبل التوبة عن عباده؟ وهذا العبد قد تاب وأناب إليه، فقال: ارفع رأسك، أنا سأرضيك وأنت تعفو عن أخيك، ورأى غرس الجنان وما فيها من قصور من ذهب مكللة باللؤلؤ فقال: لمن هذه؟ لأي نبي، لأي صديق، لأي شهيد؟ لمن ملك الثمن. ومن يملك ثمن هذا؟ أنت لأي شيء؟ لعفوك عن أخيك، فيقول: عفوت عنه.

    إذاً: الحسنات في هذه الصورة أخذ منها لكن الكريم سبحانه ضمن، والأجر باقي، قال: خذ بيد أخيك فادخلا الجنة ورحمة الله واسعة.

    لكن هذا كما قلنا في من عجز عن أداء الحق في هذه الحياة، و لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا [البقرة:286]، أما إذا بإمكانه أن يرد الحق وما رده فيحتمل فيها، ولا نقول: إنه سيعذب قطعاً وجزماً، ولا نتألى على الله، ولا أننا نقول: سيغفر له، بل نقول: هذا أمره إلى ربه جل وعلا فهو أعلم بعباده سبحانه وتعالى، إن غفر ففضل، وإن عذب فعدل: لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ [الأنبياء:23].

    هذا حديث صحيح، وعلى المطلوب صريح؛ لأنه سيأتي أناس برءوس طاعات وأفضل طاعات، صلاة وصيام وحج وزكاة، وهذا في الحقيقة فيه إشارة إلى تضعيف قول أبي محمد سفيان بن عيينة عليه رحمة الله، فقد نص الحديث على أن صاحب الصوم أفلس، وهذه العبادة الصيام اقتص منها وذهب أجرها.

    لكن الحافظ ابن حجر قال: يمكن أن يبقى قول أبي محمد سفيان بن عيينة معتبراً، فنخرج عبادة الصوم من هذا العموم.

    وقوله لا توجيه له إلا بما يظهر لي والعلم عند ربي فأقول: واجب الإخراج إذا كان الصوم مقبولاً عند الله، أما صوم بلا قبول، وصلاة وعد صاحبها بالويل، وزكاة أخرج صاحبها رديء ماله، فهذه ما قبلت على وجه التمام والكمال، فإن أتى بشيء اسمه زكاة لكن فيها نقص، وأتى بشيء اسمه صوم لكن فيه نقص، وأتى بشيء اسمه صلاة لكن فيه نقص، فهذه حقيقة فيها خلل, وما قويت على التفسير، ولا يمكن أن يقال هي مقبولة. أما إذا وقع الصيام مقبولاً، فيمكن أن يبقى كلام أبي محمد سفيان بن عيينة على ظاهره.

    نقول: ومن علامة الصوم الكامل أن يتوب وأن يكون حافظاً بعد الصوم، حيث بقي في حال التائب، وهذا الذي يرجح ويقوي قول جمهور أهل السنة، وأن الكبائر والتبعات لا تسقط بالطاعات بل لابد لها من توبة صادقة نصوح مخلصة ينيب الإنسان بها إلى ربه جل وعلا.

    إذاً: عندنا هنا طاعة قصرت، ثم بعد ذلك ما وفت، فألقي صاحبها في نار جهنم بعد أن طرح عليه من سيئات من ظلمهم.

    دلالة حديث كفارة من لطم مملوكه أو ضربه على اشتراط التوبة من حقوق العباد لأهل الطاعات

    وثبت أيضاً ما يدل على هذا في الجمع الذي ذكرته أن هذه النصوص إنما هي في حق من تاب، وأما إذا لم يتب فهو تحت المشيئة، ثبت في مسند الإمام أحمد وصحيح مسلم وسنن أبي داود عن زاذال -الزاي الأولى التي هي على صورة الراء منقوطة، والثانية بالذال التي هي على صورة الدال المنقوطة المعجمة-.

    قال: أتيت ابن عمر رضي الله عنهما وقد أعتق مملوكاً له، فأخذ عوداً من الأرض وقال: ليت لي فيه من الأجر ولا ما يسوى مثل هذه، ولا بمقدار هذا العود.

    قلت: ولم؟ سبحان الله! من يعتق عبداً ليس له عليه أجر؟ لمه؟ قال: لأنني ضربته، وقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( من لطم مملوكه أو ضربه فكفارته أن يعتقه ).

    اللطم: ضرب على الوجه، والضرب: مطلق على أي مكان كان من البدن، فإذا ضربت المملوك فكفارته هي أن تعتقه، كأنه يقول: إذا تاب كفر السيئة بدون أجر.

    إذاً: هذه المظلمة تكفر بهذه الطاعة، فأنت أحسنت إليه بالعتق عندما أسأت إليه بالضرب وكان قبل ذلك عبدك، فكأنه اقتص منك هذه المظلمة فصرتما رأساً برأس, وما بقي لك أجر عند الله جل وعلا، ( من لطم مملوكه أو ضربه فكفارته أن يعتقه )، وأنا ليس لي فيه من الأجر ولا ما يسوى هذه العودة، ما لي عليه من الأجر شيء.

    وثبت في صحيح مسلم وسنن أبي داود وسنن الترمذي ( أن النبي عليه الصلاة والسلام مر وأبو مسعود يضرب- أبو مسعود البدري الأنصاري رضي الله عنه- يضرب غلامه -أي: عبده ورقيقه- فناداه من خلفه: اعلم أبا مسعود ).

    يقول أبو مسعود : فسمعت الصوت وبقيت في الضرب، يضرب غلامه من شدة غضبه ومن انفعاله وما ميزت صوت من هذا؟ هل هو صوت النبي عليه الصلاة والسلام أم غيره؟ أي: انتبهت، يقول: ( حتى دنا مني النبي عليه الصلاة والسلام فقال: اعلم أبا مسعود )، فتوقفت فعلمت أنه النبي عليه الصلاة والسلام يتكلم، فقال: ( اعلم أبا مسعود ! والله لله أقدر عليك منك على هذا الغلام ).

    يعني: إذا كنت تظن أنك قادر عليه، فالله أقدر عليك من قدرتك على هذا، إذا كنت ستظلم هذا المملوك استعد للقاء ملك الملوك، كيف ستحاسب أمامه؟ ( والله لله أقدر عليك منك على هذا الغلام )، إذا هذا ما له ناصر وهو مسكين، فكيف ستكون أنت يا مسكين! أمام رب العالمين؟ أما تخاف الله عندما تضرب هذا؟

    قلت: ( يا رسول الله! هو حر لوجه الله )، انتهى، قال: ( أما لو لم تفعل للفحتك النار )، انظر بعد ذلك عندما صدرت منه هذه المظلمة، يقول له: انتبه! انتبه! وبما أنه بدري كما تقدم معنا أن أهل بدر لا يدخلون النار، فعند ذلك أتى بمكفر لذنبه مباشرة دون تردد، والخطيئة زالت، لكن ليس لك عليه أجر، ( أما لو لم تفعل للفحتك النار ).

    إذاً: هناك موبقات ومظالم يرتكبها الإنسان، وتكتب له الطاعات، وليس عنده طاعات كثيرة ولا تكفي لتكفيرها، فالقول بأن الطاعات تسقط وتكفر الموبقات والتبعات على إطلاقه بدون توبة لا يشهد له دليل معتبر، لابد من تقييم تلك الأدلة بهذه الأدلة.

    دلالة حديث هدم قذف المحصنة عمل مائة سنة لاشتراط التوبة من حقوق العباد لأهل الطاعات

    إن الإنسان لو أطلق لسانه بقذف مؤمن أو مؤمنة، هذه الكلمة فقط عندما نقول: فلان ابن زانية أو هذه زانية، هذه الكلمة تحبط له عمل مائة سنة، بطاعات متوالية، هذه الكلمة فقط.

    يعني: لو أتى الله بعبادة مائة سنة وما عصاه طرفة عين، لما كفت تلك العبادات شناعة هذه الكلمة، وهذا صرح به نبينا عليه الصلاة والسلام، كما في معجم الطبراني الكبير ومسند البزار وعند الحاكم في مستدركه، والحديث جميع رجاله أئمة ثقات وليس فيهم من تكلم فيه إلا ليث بن أبي سليم وهو ضعيف ويحسن حديثه كما قال الحافظ في التقريب، وقد روى له مسلم في صحيحه لكن في الشواهد والمتابعات، وأخرج عنه أهل السنن الأربعة، وروى له البخاري تعليقاً، ليث بن أبي سليم بن زنيم ، يأتي بكثرة في روايات الحديث، ويقول عنه الحافظ : صدوق اختلط كثيراً اختلط جداً ولم يتميز حديثه فترك، ويقول عنه الهيثمي في المجمع : ضعيف وقد يحسن حديثه، ولهذا الحديث شواهد كثيرة.

    والقذف من الموبقات بلا شك: إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ [النور:23]. وفي الصحيحين عن نبينا عليه الصلاة والسلام: ( اجتنبوا السبع الموبقات )، ومنها: ( قذف المحصنات الغافلات المؤمنات )، وقذف المحصنة يهدم عمل مائة سنة، وكأن وجه التحديد بمائة سنة أنها أكثر مدة يعيشها الإنسان فيما إن يمكن أن يعيشه الناس في هذه الأيام، وأنت إذا قذفت إنساناً فقد لوثت سمعته مدة حياته.

    فمن كان يتصور أن يعيش في فترة من الزمن وهي مائة سنة، وهذه الكلمة ستتناقل والناس يذكرونها مدة حياته لو عاش مائة سنة، جزاءً وفاقاً من أجل تلويث سمعته, هذه المدة التي يمكن أن يعيشها لا يقبل الله لك فيها عملاً، وجميع حسناتك تحول إليه، هذا لو لم تفعل معصية.

    فإذاً: القول بأن الطاعات تكفر التبعات على إطلاقه، لابد حقيقة من تقييده بما لو تاب، فلو قال: قذفت، وأنا أتوب إلى الله، وتائب مما جرى مني، ولك حق من جلد ثمانين جلدة عن طريق ولي الأمر، وإذا لم يقم هناك حكم شرعي فأمام الناس اجلدني ثمانين جلدة، وأنا أشهد على كذبي وعلى عفتك ونقاء عرضك.

    فإذا كان كذلك الذي بذله، وهذا الذي في وسعه، وبقي ما حصل من تلويث سمعة هذا الإنسان، فحقيقة يغفره الله، عندما حصل توبة وإنابة، وأما إذا لم يحصل، فعندها لا يمكن أن تغفر له هذه البلية بما يقوم به من طاعات إلا إذا شاء رب الأرض والسماوات، وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ [النساء:48].

    لكن ليس عنده ضمان بالمغفرة، أما إذا تاب، فأمره كما قلت: إن شاء الله يرجى له الخير، ورحمة الله جل وعلا واسعة، وآية القذف في سورة النور: وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ * إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [النور:4-5].

    فإذاً: إذا تاب وأصلح ومكن بعد ذلك المقذوف من استيفاء حقه وجلد القاذف، هذا الذي يملكه الإنسان وهذا الذي في وسعه، وهذا الذي يشكر في توبته أما بدون هذا فالقول بأنه تكفر التبعات مطلقاً فيه نظر، فإذا انفتح باب للاعتداء على المخلوقات فسيقول الظالم: أذهب وأتوضأ وأتوب. وماذا نفعك بوضوئك؟ لابد من أن تتقي الله من ظلم عباده ورحمة الله واسعة.

    وكل إنسان لا يخلو من تقصير، وأما أن تطلق لسانك في أعراض المؤمنين ثم تقول: أنا أتوضأ، أنا أصلي، أنا أحج، أنا أصوم، لو حججت مائة حجة في مائة سنة متتابعة مع طاعات أخرى لما كفتك كلمة القذف التي نطقت بها عدا كلمات أخرى.

    وهذه إخوتي الكرام! لابد من وعيها، ولذلك كان أئمتنا يقولون: حفظ العمل على العمال أشق عليهم وأصعب من سائر الأعمال.

    يعني: ليس المهم أن تعمل، إنما المهم أن تحافظ على العمل، فإن عملت حسنات قليلة تحافظ عليها، فأنت المنتفع من حسنات كثيرة تهدمها وتضيعها، حالك كحال من يبني قصراً ويهدم مصراً، إذا كنت تكثر حسنات فالسيئات أكثر عندما تعتدي على عباد الله، ليسلم الناس منك مع حسنات قليلة هذا إن شاء الله خير لك وأحسن وأصلح.

    دلالة أحاديث التشديد في الدين وعدم الوفاء به على اشتراط التوبة من حقوق العباد لأهل الطاعات

    إن القول بأن الطاعات تكفر التبعات على إطلاقه قول غير مقبول, وترده نصوص الشريعة, والنصوص المتقدمة مقيدة بالتوبة أو عدة إذا شاء الله ذلك ورحمة الله واسعة.

    وهذا المعنى ثابت في أحاديث كثيرة، وذكر في مسند الإمام أحمد وعند النسائي في سننه والحاكم في مستدركه عن محمد بن جحش رضي الله عنه قال: ( كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم فرفع النبي عليه الصلاة والسلام بصره إلى السماء وشخص ببصره ثم وضع يده على جبينه وقال: سبحان الله! ماذا نزل من التشديد في الدين ).

    يقول محمد بن جحش : فسكتنا وفزعنا وما سألنا النبي عليه الصلاة والسلام عن هذا التشديد الذي نزل في الدين، أي: في مظالم العباد وحقوقهم، يقول: ( فلما كان من الغد سألته فقلت: يا رسول الله! ما هذا التشديد الذي نزل في الدين؟ ) فقال عليه الصلاة والسلام والحديث صحيح كالشمس: ( والذي نفسي بيده لو أن رجلاً قتل في سبيل الله ثم أحيي، ثم قتل ثم أحيي، ثم قتل ما دخل الجنة حتى يقضى عنه دينه ).

    سبحانك ربي! استشهد في سبيلك ثلاث مرات يقتل ثم تحييه، ثم يقتل ثم تحييه، ثم يقتل ثالثة ويموت شهيداً، والدين لا يسقط عنه؟ إن مظالم العباد لا تسقط.

    فإذاً: هذه طاعة عظيمة أعظم من طاعة الحج, وهي ذروة سنام الإسلام, وما كفرت حق الدين عن الشهيد حتى يقضى عنه.

    وثبت في صحيح مسلم ومسند الإمام أحمد وسنن البيهقي من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( يغفر للشهيد كل ذنب إلا الدين ).

    وفي رواية في صحيح مسلم وسنن البيهقي والترمذي من حديث أنس رضي الله عنه، قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ( القتل في سبيل الله يكفر كل شيء إلا الدين )، أي: كل شيء من حقوق الله.

    قال الإمام النووي في شرحه لصحيح مسلم في الجزء الثالث عشر صفحة ثلاثين، قوله: ( إلا الدين ) تنبيه على جميع حقوق الآدميين، وأن الجهاد والشهادة وغيرهما من أعمال البر لا تكفر حقوق الآدميين، إنما تكفر حقوق رب العالمين سبحانه وتعالى.

    فالدين حقيقةً له منزلة, وهكذا حقوق العباد كلها ومظالمهم، فلابد إذاً من وعي هذا الأمر.

    وقد ثبت في سنن ابن ماجه بإسناد حسن من رواية سعد الأحول وعند أحمد في المسند عن سمرة بن جندب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى بعض الصحابة الكرام فقال لهم: ( إن أخاك محتبس بدينه فاقض عنه دينه ) أي: نفس المؤمن معلقة بدينه حتى يقضى عنه، وقد احتبس وما سمح لروحه بدخول الجنة فاقض عنه دينه.

    قلت: ( يا رسول الله! قد قضيت كل دين كان عليه غير دينارين زعمتهما امرأة ولا بينة، قال: أعطها فإنها صادقة، ولا زال أخوك محتبساً بدينها ) أي: أخوك لا زال على باب الجنة، وما سمح لروحه بدخول الجنة فأعطها فإنها صادقة.

    إذاً: إن إطلاق القول بأن الدين والمظالم كلها تكفر بالطاعات من غير شرط التوبة، حقيقة هذا القول في غير محله، وقد صرح نبينا عليه الصلاة والسلام بأن من استدان وفي نيته أن يفي فالله سيتحمل عنه، وهكذا إذا ظلم ثم مكن الناس من أخذ الظلامة، وإذا لم يمكنه أن يرد الحق المالي إليهم وأعطاهم ما في وسعه فإن الله يتحمل عنه، وأما ما عدا هذا فهو مفرط، ثم نقول: أبشر بطاعتك فسيغفر لك كل تبعة عليك في حق الله، وأما في حق خلقه فلا، ثم لا.

    وورد في سنن ابن ماجه وسنن البيهقي من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ( إن الدين يقضى من صاحبه يوم القيامة إذا مات إلا من استدان في ثلاث خلال )، هذا ورد فيها غير مقصر، ( الرجل تضعف قوته في سبيل الله فيستدين يتقوى به لعدو الله وعدوه )، أي: ما عنده سلاح، وما عنده ذخيرة، وما عنده نفقة على بدنه من أجل حبس نفسه للجهاد في سبيل الله ( فاستدان ثم مات )، ماذا يكون حاله؟ هل نقول: هو شهيد يكفر عنه كل شيء إلا الدين؟ إنما ذاك إذا فرط، وأما هنا فلا تفريط وقد استدان ليتقوى على طاعة الله وقتال عدو الله وعدوه فمات، فالله يتحمل عنه ولا يقضى هذا من أعماله.

    ( ورجل يموت عنده مسلم لا يجد ما يكفنه ويواريه إلا بدين )، فيستدين من أجل كفن ثم يموت ولا يقضي هذا الدين، فالله يتحمل عنه ولا يقضى هذا من عمله.

    ( ورجل خاف على نفسه العزبة )، أي: أنه عازب، خشي أن يقع في المحظور، والمحظور هو الزنا، (فينكح خشية على دينه, فإن الله يقضي عن هؤلاء يوم القيامة) .

    وهذا الحديث جميع رجال إسناده أئمة ثقات غير رجل واحد تكلم فيه وهو عبد الرحمن بن زياد بن أنعم , وهو قاضي إفريقية أو إفريقيا وهو ضعيف في حفظه، وكان رجلاً صالحاً، أخرج له البخاري في الأدب المفرد، وهو من رجال أبي داود والترمذي وابن ماجه عليهم جميعاً رحمة الله، وكان من الأئمة الصالحين. هذه موعظة ولمحة موجزة من ذكر حال وسيرة القاضي عبد الرحمن بن زياد بن أنعم كما ذكر ذلك الإمام الذهبي في السير في الجزء السادس صفحة إحدى عشرة وأربعمائة، والحافظ ابن حجر في تهذيب التهذيب.

    يقول الذهبي : هو الإمام القدوة شيخ الإسلام -وفي حفظه ضعف كما قلت، وهو صالح تقي عابد ينسى كثيراً، وهو الذي في إسناد هذا الحديث- أبو أيوب قاضي إفريقيا وعالمها ومحدثها على سوء في حفظه، وفد على المنصور فوعظه وصدع بالحق، جاء من إفريقيا إلى بلاد العراق ليشكو المظالم التي تقع من الأمراء في بلاد إفريقيا إلى أبي جعفر المنصور ، فلما دخل على أبي جعفر قال لـأبي جعفر : جئت لأشكو إليك ما يوجد من ظلم في بلاد إفريقيا، فرأيت الظلم من بابك يخرج.

    أي: أنت منبع الظلم، وكنت أظن أن الظلم هناك في أفريقيا وعندك العدل، ثم أنتم لا تعلمون بأحوال الولاة، وإذا بالظلم يخرج من هنا من عندكم.

    فغضب أبو جعفر حتى هم أن يوقع به ثم قال: كيف لي بأعوان الصدق، يعني الأناس الصالحين، أين هم لأستعين بهم؟

    فقال: يا أبا جعفر أما بلغك قول عمر بن عبد العزيز : الوالي بمنزلة السوق يجلب إليه ما ينفق فيه، فإن كان صالحاً جاء إليه الصالحون، وإن كان خبيثاً جاء إليه الخبيثون المغنون.

    الوالي بمنزلة السوق، السوق ماذا يدور فيها؟ لو قلت إن سلعة كذا يخبرها التجار، وسلعة كذا لو أحضرتها ما أحد يسومها ولا أحد يحضرها ويستوردها.

    فالأمير والوالي بمنزلة السوق يجلب إليه ما ينفق فيه، وأنت عندك ولاة سوء لأنك أنت سيء، ولو كان فيك صلاح لكان جاء إليك الصالحون ووليتهم، فنكس أبو جعفر رأسه طويلاً وما استطاع أن يرفعه، حتى أشار الربيع حاجب أبي جعفر إلى عبد الرحمن بن زياد بن أنعم بالخروج فخرج.

    وكان الإمام سفيان الثوري يعظمه جداً، ومن كراماته أن الروم أسروه، فقدم إلى طاغية الروم ليضرب رقبته، يقول: فالتجأت إلى الله وقلت: الله ربي لا أشرك به شيئاً, ولا أتخذ من دونه ولياً.

    فقال طاغية الروم: علي بشماس العرب، هو عظيم الرتبة للنصارى يعني بشيخ كما يسمى في النصارى البطريق، من مراتب رجال الكنيسة عندهم، علي بشماس العرب بشماس المسلمين.

    يقول: فلما جئت قال لي: ماذا قلت؟ قلت: الله ربي لا أشرك به شيئاً, ولا أتخذ من دونه ولياً.

    قال: من أمرك بهذا؟ قلت: أمرني به رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم، أمرنا أن نقول هذا الدعاء، إذا وقعنا في كرب نلجأ إلى الله جل وعلا.

    قال: ونحن أمرنا به عيسى ابن مريم على نبينا وعليه صلوات الله وسلامه، ثم قال: خلوا عن الشيخ، وأطلقوا سراحه وما قتلوه، رحمه الله ورضي الله عنه. توفي سنة ست وخمسين ومائة للهجرة.

    وهذا الحديث كما قلت: جميع رجال إسناده ثقات غير هذا العبد الصالح، الذي في حفظه شيء من الضعف، ويشهد لهذا الحديث حديث أبي هريرة المتقدم: ( من أخذ أموال الناس يريد أداءها أدى الله عنه )، ويشهد له أيضاً حديث الطبراني عن عبد الله بن عمرو : ( الدين دينان ) كما تقدم معنا.

    كما يشهد له ما رواه الإمام أحمد في المسند، والترمذي والنسائي وابن ماجه في السنن، وابن حبان في صحيحه، والحاكم في مستدركه، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( ثلاثة حق على الله عونهم: الناكح يريد العفاف، والمكاتب يريد الأداء، والمجاهد في سبيل الله ).

    نسأل الله برحمته التي وسعت كل شيء أن يثبتنا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة، وأن لا يزيغ قلوبنا بعد إذ هدانا، وأن يجعل خير أيامنا يوم لقاه، اللهم صل على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً، اللهم اغفر لآبائنا وأمهاتنا، وارحمهم كما ربونا صغاراً، اللهم اغفر لمشايخنا ولمن علمنا وتعلم منا، اللهم أحسن إلى من أحسن إلينا، اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات، الأحياء منهم والأموات.

    وصل اللهم على نبينا محمد وعلى جميع الأنبياء والمرسلين وسلم تسليماً كثيراً، والحمد لله رب العالمين.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718659

    عدد مرات الحفظ

    755927942