إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، ونصلي ونسلم على خاتم رسله وأفضل أنبيائه سيدنا، محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
رقم هذا الدرس مائة وثمان وتسعون من أمالي شرح بلوغ المرام، وهذا يوم الثلاثاء السابع عشر من جمادى الأولى من سنة: (1427هـ) ورقم الحديث الذي وقفنا عنده (564)، وهو حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: ( كان النبي صلى الله عليه وسلم يكبر على جنائزنا أربعاً، ويقرأ بفاتحة الكتاب في الأولى ).
والمصنف -رحمه الله- عزا هذا الحديث للشافعي، والشافعي قد خرجه في كتاب الأم له، وهو مصنفه الفقهي المطبوع، وكذلك خرج هذا الحديث الإمام البيهقي في سننه، والإمام البيهقي كما هو معروف أيضاً هو من الشافعية، وعني بفقه الإمام الشافعي ونصوصه وأدلته، وكذلك خرجه الحاكم في مستدركه.
وهذا حقيقة من العجائب؛ لأن الإمام الشافعي رضي الله عنه إمام جليل القدر أولاً، وهو ثقة أمين، وهو يروي عن رجل .. يروي عن إبراهيم بن محمد ويسميه الثقة، ويأخذ عنه، ويقول: إنه ثقة في الأحكام والحديث، والرجل بهذه المنزلة عند أهل العلم وأهل الحديث، فهذا أمر غريب؛ لأن الإمام الشافعي -كما قلت- ثقة، مأمون، عظيم القدر، عظيم الشأن في الإسلام وهو أحد الأئمة العظام، وهو رجل نبيه، ويروي عن إبراهيم بن محمد المدني هذا ويسميه الثقة، أحياناً لا يسميه لا يقول: إبراهيم بن محمد وإنما يقول: حدثنا الثقة، ولهذا درج العلماء على أن الإمام الشافعي إذا قال: حدثنا الثقة؛ فإنه يعني إبراهيم بن محمد هذا وهو وضّاع، ليس فقط أنه ضعيف أو مغفل وإنما كذاب، فضلاً عن أنه متهم بعدد من البدع كبدعة الإرجاء، أنه مرجئ وجهمي وقدري، وفيه بلاء كثير.
فكيف يخرج.. كيف ينفصل الإنسان عن مثل هذا؟
لا ينفصل الإنسان عن مثل هذا إلا إذا كان عنده معرفة بسعة العذر للناس، أن يكون عنده قدر من العذر والتفهم لمواقف الناس، الشافعي رضي الله عنه لما قال هذا قاله عن معرفة وعن اقتناع، ولكن لا يلزم أن يكون صواباً، أبى الله سبحانه وتعالى أن يكون الصواب المطلق إلا لكتابه، وأن تكون العصمة إلا لرسله وأنبيائه عليهم الصلاة والسلام.
فهذا لا يحملنا على أننا نقبل رواية إبراهيم بن محمد ونقلد الشافعي، وقد يقع للبيهقي شيء من هذا؛ فإنه تكلف الاعتذار عن إبراهيم بن محمد وتوثيقه، بينما الأئمة مطبقون على أنه كذاب ومرجئ ومبتدع وجهمي وكل بلاء فيه -كما يقولون-.
فلا هذا يحملنا على أن نوثق إبراهيم ونأخذ مروياته تقليداً للشافعي، ولا هذا أيضاً ينزل من قدر وقيمة ومقام الإمام الشافعي فإنه إمام مجتهد، وهذا بينه وبين الله سبحانه وتعالى، ولا يداخلنا ريب ولا شك أنه ناصح لله ولرسوله ودينه، ولو يعلم أنه كذاب ما أخذ عنه شيئاً، فلا بد أن يتعلم الطالب من مثل هذه المواقف والعبر؛ لأن بعض الناس قد يخفى عليهم أشياء، يعني يظنون أن العلم في الشريعة مثل علم الحساب والرياضيات: 1+1=2، لا، هو علم فيه صنعة وفيه إتقان وفيه اختيار وانتقاء واجتهاد، وعذر وتأويل وخطأ وصواب، هذا علم الشريعة؛ ولذلك نقول: إن الفقه ليس هو الدين، الدين من عند الله سبحانه وتعالى ولا يعرض له خطأ، وإنما الفقه هو اجتهاد الناس، ويخطئون قليلاً ويصيبون كثيراً خصوصاً الأئمة الكبار، المهم هذا إبراهيم -كما ذكرنا-.
وأود أن أشير هنا إلى نقطة أخرى وهي: أن الإمام ابن حجر رحمه الله إمام شافعي، ولعله لذلك ساق هذا الحديث.
طيب! لماذا ساق الحديث وهو بهذه الدرجة ولم يشر إليه؟ هذا له أجوبة.
أيضاً ينبغي أن يكون عندنا عذر للحافظ ابن حجر، هؤلاء الناس يهمهم دينهم وتهمهم آخرتهم لا يريدون أن يغشوا المؤمنين، ولكن يكون للإنسان اجتهاد بينه وبين الله سبحانه وتعالى، فمن اجتهاده: أنه قد يوافق -كما قلنا- الشافعي على أن هذا الرجل قد لا يرى أنه ثقة ولكن يرى أنه ضعيف وأن حديثه قد ينجبر بغيره، وهذا وجد من ذهب إليه كما ذكرت أن البيهقي يميل إلى هذا، أن يكون الراوي ضعيفاً ولكنه قد ينجبر برواية غيره من الرواة، هذا جواب؛ ولذلك الحافظ ابن حجر بعدما ساق الحديث هذا ساق بعده حديث ابن عباس رضي الله عنه في المسألة ذاتها.
الجواب الثاني: أن يكون الحافظ ابن حجر -رحمه الله- ساق هذا الحديث لأنه شافعي، ويدرس في المدارس الشافعية، ويعرف أن مثل هذا الحديث يكون متداولاً عند طلبة العلم في مدارسهم ومجالسهم؛ لأنهم شافعية ويقرءون كتاب الأم ويعرفون هذا الحديث، ولذلك يناسب أن يساق في هذا المقام، ولكن كان الأولى في مثل هذا المقام أن يبين ضعف الحديث ويشير إليه كما هي عادته رحمه الله، فإن ابن حجر غالباً في البلوغ إذا ذكر حديثاً ضعيفاً أشار إلى ضعفه، خصوصاً إذا كان شديد الضعف على ما هو متبع.
وما أحلى أن يسوق المصنف هذا الحديث ثم يقول لك: رواه البخاري، يعني: أوردك على عج -كما يقولون- فلا نحتاج إبراهيم بن محمد المدني ولا غيره، هذا حديث رواه البخاري .
و هناك أكثر من طلحة كلهم مشهورون بالكرم، أولهم طلحة بن عبيد الله صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان سمحاً جواداً كريماً باذلاً للمال، وهو من أصحاب الأموال الطائلة وأصحاب الكرم والجود.
الثاني: هذا طلحة بن عبد الله بن عوف، كان أيضاً كريماً سمحاً جواداً.
الثالث: كان هناك ثالث اسمه طلحة بن عبد الله الخزاعي وهو يسمى: طلحة الطلحات، وكأن الذين اقتربوا منه رأوا أنه من أشدهم كرماً؛ ولهذا سمي طلحة الطلحات، وقد توفي طلحة هذا صاحبنا - طلحة بن عبد الله بن عوف - سنة سبع وتسعين للهجرة، وهو هنا يروي -كما هو واضح- عن عبد الله بن عباس رضي الله عنه.
حديث الباب: (في أن ابن عباس قرأ سورة الفاتحة في صلاة الجنازة وقال: لتعلموا أنها سنة).
عندما نقول: (له شاهد) معناه: يوجد حديث آخر عن صحابي مختلف، ولكنه يحمل نفس المعنى، عن صحابي مختلف -مثلاً- إذا كان عن أبي أمامة قلنا: هذا شاهد، أما إذا كان ابن عباس نفسه، فهذا لا يقال: (له شاهد)، وإنما يسمى (متابع) أو نقول: (له طرق).
فمن شواهده: عن أبي أمامة عند النسائي .
ومن شواهده: عن الضحاك بن قيس عند النسائي أيضاً.
ومن شواهده: عن أم شريك عند ابن ماجه وفي سنده شهر بن حوشب، وشهر بن حوشب فيه مقال، فمن أهل العلم من وهاه وضعفه، ومنهم من قواه، ففيه اختلاف وكلام، وذكره الإمام مسلم في مقدمة صحيحه، وأن بعض أهل العلم يقول: إن شهراً نزكوه .. إن شهراً نزكوه، وفي رواية: إن شهراً تركوه، يعني: نزكوه ضربوه بالنيزك، يعني أجهزوا عليه، أما تركوه فهي واضحة، ويقال: إنه ولي بيت المال فذم لذلك، وقال القائل:
لقد باع شهر دينه بخريطة فمن يأمن القراء بعدك يا شهر
المهم: هذا الكلام لسنا منه، يعني: لسنا شهوداً فيه، وقد يكون شهراً أفضل عند الله ممن ذمه وعابه، ولكنه في الحديث فيه مقال، ليس بقوي، فهو يوهن ويضعف حديث أم شريك عند ابن ماجه، لكن مجموع هذه الأحاديث الثلاثة إضافة إلى حديث ابن عباس رضي الله عنه كلها تتعلق أو تدل على مشروعية قراءة الفاتحة في صلاة الجنازة.
إذاً: عندنا حديث ابن عباس الذي هو حديث الباب أصلاً، وشواهده ثلاثة:
أولها: حديث أبي أمامة عند النسائي .
والثاني: الضحاك بن قيس عند النسائي أيضاً.
والثالث: حديث أم شريك عند ابن ماجه، وفيه شهر بن حوشب .
فهذه أربعة أدلة يعضد بعضها بعضاً، حتى لو كان حديث شهر فيه مقال إلا أنه يتقوى بما سبق.
فهذه أربعة أدلة على مشروعية قراءة الفاتحة في صلاة الجنازة.
اختلف العلماء في قراءة الفاتحة في صلاة الجنازة على قولين مشهورين:
ومتى تقرأ الفاتحة؟
في الركعة الأولى.
طيب! وهل معها استفتاح أم بدون استفتاح؟
نقول: الأولى أنه بدون استفتاح، لأنه لم يرد النص عليه، ولو أنه استفتح فلا بأس بذلك أيضاً، فالمسألة ليس متفقاً عليه، بعض الأئمة يرون أن يستفتح، ولكن إذا كان يفوته قراءة الفاتحة فقراءة الفاتحة أولى من الاستفتاح. هذا هو القول الأول.
ما هو دليلهم؟
دليلهم أولاً: حديث الباب، حديث ابن عباس : ( أنه صلى بهم وكبر أربعاً وقرأ الفاتحة، وقال: لتعلموا أنها سنة ).
هو ابن عباس يقول: سنة، ونحن نقول: واجب، فكيف نجيب؟
أن المقصود بالسنة هنا: ليس السنة التي في مقابل الواجب، وإنما السنة يعني: أن هذا مأثور عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ونحن نقول: إن كل ما نقل عن النبي صلى الله عليه وسلم فهو من السنة، بما في ذلك الأركان والواجبات وغيرها، تسمى سنة باعتبار أنها نقلت عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ( فمن رغب عن سنتي فليس مني ) .
إذاً: السنة هي المأثور عن الرسول عليه الصلاة والسلام.
إذاً: حديث ابن عباس يدل على قراءة الفاتحة في صلاة الجنازة، وأنها واجبة، وقوله: ( لتعلموا أنها السنة )، يقول العلماء: هذا له حكم المرفوع، يعني: ابن عباس عندما يقول: (إنها السنة) يقصد سنة الرسول صلى الله عليه وسلم.
وبناءً عليه: كأن ابن عباس قال: سمعته من رسول الله، أو سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرؤها، فله حكم المرفوع، وإن كان ابن عباس رضي الله عنه قد يقول هذا لمسائل يعني: يقع عليها اختياره ونظره، ويرى أنها من السنة العامة، بمعنى: أنه لا يلزم أن يكون ورد بها نص بخصوصها؛ ولذلك -مثلاً- في أكثر من مسألة مثل ابن عباس في مسألة صيام رمضان، وأن كل أهل بلد لا يصومون حتى يروه، قصة كريب لما كان معاوية في الشام وابن عباس في المدينة وقال: ( لا نصوم حتى نراه، تلك سنة النبي عليه الصلاة والسلام ).
فذهب جمع من أهل العلم أن قول ابن عباس : ( تلك السنة ) لا يلزم منه أن يكون عنده نص بخصوص هذه المسألة، وإنما أخذه ابن عباس من قول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق عليه حديث ابن عمر وغيره: ( صوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته ) فأخذ من هذا أنه خطاب لأهل كل بلد.
إذاً: نقول: إن قول ابن عباس في هذا الحديث: ( تلك السنة ) هو حمله القائلون بالوجوب على أن المقصود السنة المأثورة وأنه واجب، لكن الذين يشكون في هذه الدلالة، يقولون: إن قول ابن عباس : ( تلك السنة )، لا يلزم منه أن يكون ابن عباس عنده شيء بخصوص صلاة الجنازة، وإنما قد يكون أخذه من عموم الأحاديث الآمرة بقراءة الفاتحة في الصلاة، كما سوف يأتي في بقية الأدلة.
إذاً: الدليل الأول: حديث الباب، وقد بينا طريقة الاستدلال به.
الدليل الثاني: حديث أبي أمامة وحديث الضحاك وحديث أم شريك، هذه تصبح أربعة أدلة على وجوب قراءة الفاتحة في صلاة الجنازة.
الدليل الخامس: حديث: ( لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب )، هذا حديث عبادة بن الصامت، حيث قال رضي الله عنه: ( لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب )، والحديث خرجه البخاري .
فقالوا: إن صلاة الجنازة صلاة، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: ( لا صلاة لمن لم يقرأ ) فكما أن هذا يكون في صلاة الفريضة والنافلة وكل أنواع الصلوات، فكذلك يكون في صلاة الجنازة، فلا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب.
فهذا أقل ما يدل عليه الوجوب، وينبغي أن يعلم أننا إذا قلنا الوجوب؛ فإنه يدخل فيه من يقول بالركنية؛ لأن الركن واجب أيضاً.
إذاً: الدليل الخامس هو عموم حديث عبادة : ( لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب )، ونقول: لعل ابن عباس لما قال: ( لتعلموا أنها السنة ) قصد الاستنباط من حديث عبادة وما كان على بابه من الأمر بقراءة الفاتحة في عموم الصلاة، وليس عنده نص بخصوص صلاة الجنازة، وقد يكون عنده نص وتوقيف بخصوص صلاة الجنازة.
إذاً: هذا هو القول الأول، وهو منسوب إلى جمع من الصحابة كـابن عباس كما هو واضح، وأبي أمامة والضحاك وأبي بكر الصديق رضي الله عنهم.
لعل أقوى الحجج هي الآثار عن الصحابة كما قلنا: ابن عمر رضي الله عنه: كان لا يقرأ الفاتحة في صلاة الجنازة وفضالة بن عبيد، وعطاء من التابعين كان يقول: [ ما سمعنا بهذا ]، يعني: قراءة الفاتحة في الجنازة، وكذلك طاوس وعطاء، وهما من فقهاء التابعين، فكانوا ينكرون قراءة الفاتحة فيها.
إذاً: هذه الآثار تحمل على أنهم يقولون: ليس فيها توقيت، يعني: ليس فيها مشروعية، هذا هو الدليل الأول، إذاً: أنه ليس فيها نص أو توقيت أو لم يبلغهم النص.
الدليل الثاني: أنهم يرون أن صلاة الجنازة دعاء، ويحتجون بمثل حديث: ( إذا صليتم على الميت فأخلصوا له الدعاء )، وسوف يأتي بعد قليل، وهو حديث حسن: ( إذا صليتم على الميت فأخلصوا له الدعاء ) .
فيقولون: إن صلاة الجنازة دعاء؛ ولذلك عندهم تكبيرات وبين التكبيرات يدعو، يعني: يكبر التكبيرة الأولى ويدعو، والثانية ويدعو، والثالثة ويدعو، ثم الرابعة ويدعو أو يسلم، فهم يرون أن صلاة الجنازة دعاء لا يشاب بقرآن، هذه حجتهم.
وقد يحتجون أيضاً: بأن صلاة الجنازة ليس فيها ركوع ولا سجود ولا تشهد، فكذلك ينبغي أن لا يكون فيها قراءة؛ لأن إسقاط الركوع وإسقاط السجود والقعود والتشهد عنها، دليل على أنها ليست كصفة الصلاة الفريضة أو الصلاة المعتادة، هذه بعض أدلتهم.
وقد نقل عن ابن مسعود رضي الله عنه، ولم أقف له على سند لكن نقل عن ابن مسعود واشتهر عنه أنه كان يقول: (لم يوقت لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في صلاة الجنازة شيئاً، وإنما هو التكبير ثم تنتقي من أطايب الكلام )، فكأن ابن مسعود رضي الله عنه يقول: إن المشروع في صلاة الجنازة الثابت هو أن تكبر وتنتقي من أطايب الكلام، ويقصد طبعاً (بأطايب الكلام) ما يتعلق بالدعاء للميت.
إذاً: هذا هو القول الثاني؛ أن صلاة الجنازة ليس فيها قراءة، وهذا القول إذا اطلعت على تفاصيل النصوص الواردة عن الصحابة وجدته قولاً له قوة وله وجاهة.
وكأن أصحاب هذا القول جمعوا بين الأدلة، جمعوا بين دليل حديث ابن عباس : ( لتعلموا أنها سنة )، وأخذوه على ظاهره أنها سنة.. مأثورة وليست بواجبة، وجمعوا بين مثل كلام ابن مسعود أنه لم يوقت لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبين كلام عمر وابن عمر وعلي وجماعة من الصحابة: أنهم أنكروا -وكذلك أئمة التابعين كما ذكرت عن عطاء وطاوس - أنهم كانوا يستنكرون على من يقرأ الفاتحة، فقالوا: إنها سنة وليست بواجبة.
وهذا اختيار جمع من السلف، ولعل كثيراً ممن ينسب إليهم القراءة يميلون إليه، ورجحه الإمام ابن القيم وابن تيمية في الاختيارات .. وغيره، والإمام ابن القيم في الزاد وغير موضع، وكذلك جماعة من المحققين كصاحب عون المعبود وسواه.
والواقع: أن هذا القول هو الراجح؛ لأن صلاة الجنازة لا يمكن أن ينحى بها منحى صلاة الفريضة في إلحاق الأحكام لاختلافها عنها اختلافاً كلياً، من جهة أنه ليس فيها ركوع ولا سجود ولا قعود ولا تشهد، فهي صلاة مختلفة، والأصل فيها الدعاء، وهو أهم ما فيها مما لا يختلف فيه.
فمشروعية قراءة الفاتحة فيها وردت كما ذكرنا عن ابن عباس في صحيح البخاري ؛ لكن هذا الورود لا يقوى على القول بأنه ركن أو واجب، وإنما نقول: إن قراءة الفاتحة في صلاة الجنازة سنة كما اختاره ابن تيمية وابن القيم والمباركفوري وسواهم.
ورد في رواية عند النسائي وغيره أنه قرأ الفاتحة وسورة، ولكن هذه الزيادة منكرة ولا تصح؛ ولهذا نقول: لا يشرع قراءة سورة مع الفاتحة، بل لو أطال الإمام الوقت قبل التكبيرة الثانية فإن المصلي يجوز له أن يقرأ سورة، والأفضل له أن يدعو للميت؛ لأن الدعاء للميت هو الركن الأعظم في صلاة الجنازة.
جهر، والدليل أنهم سمعوه، ولهذا لما سلم قال: ( لتعلموا أنها سنة )، فلولا أنه جهر ما عرفوا أنه كان يقرأ الفاتحة أو أنه يدعو، فالأقرب أن ابن عباس جهر، وفي بعض الروايات: (أنه جهر بها)، نص على أنه جهر بها.
وفي بعضها: (أنه خافت) يعني: أنهم سمعوا بعض الآيات منها، فنقول: إن ابن عباس رضي الله عنه جهر بها؛ ولهذا نقول: إنه لا يشرع الجهر بها وإنما يجوز أن يجهر بها ليعلم الناس: أنه يقرأ الفاتحة أو أنه يشرع لهم أن يقرءوا الفاتحة، هذا وجه وهو الأقرب.
وبعض أهل العلم من الشافعية لهم اختيار لطيف أيضاً، قالوا: إن كانت صلاة الجنازة في الليل استحب له أن يجهر، وإن كانت في النهار استحب له أن لا يجهر، وألحقوا هذا بحكم الصلاة المفروضة: أنه يجهر في الليلية ولا يجهر في الصلوات النهارية.
منها: مشروعية صلاة الجنازة.
ومنها: استحباب قراءة الفاتحة في صلاة الجنازة.
ومنها: جواز الجهر بالفاتحة للمصلحة كما جهر بها ابن عباس .
ومنها: أن السنة في صلاة الجنازة الإسرار، ولهذا اعتذر ابن عباس لهم عن الجهر بقوله: ( لتعلموا أنها السنة ).
والحديث كما قال المصنف -رحمه الله- رواه مسلم، خرجه مسلم في كتاب الجنائز: باب الدعاء للميت.. وهكذا خرجه بقية الأئمة في الباب نفسه كـالنسائي وابن ماجه والبيهقي .. وغيرهم، وقد أخرجه الإمام أحمد في مسنده أيضاً.
قول عوف رضي الله عنه: ( إن النبي صلى الله عليه وسلم صلى على جنازة قال: فحفظت من دعائه ):
قوله: (حفظت) إشارة إلى النبي صلى الله عليه وسلم دعا بأدعية كثيرة، لكن هذا هو الذي حفظه عوف منها، وإلا فقد يكون فاته من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم ما فاته، وبقية الدعاء يحتاج إلى شرح يسير؛ لأن الإنسان يقرؤه في صلاة الجنازة .. وغيرها، فينبغي أن يفهم معناه.
فكان من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم أن يقول: ( اللهم اغفر له )، والغفر: ما معناه في اللغة؟ هو الستر، ومنه المغفر، وهو الذي يغطى به الرأس، فقوله: ( اغفر له )، يعني: امحُ عنه ذنوبه في الآخرة.
( وارحمه )، يعني: بدخول الجنة والعفو عن السيئات وقبول الحسنات، فإنما يتقبل الله من المتقين.
( وأكرم نزله )، النزل: هو الضيافة التي تقدم للضيف أو الوافد، هذا هو أصل النزل، ولذلك إذا دعا وقال: ( اللهم أكرم نزله )، كأنه جعل هذا الميت أو المتوفى ضيفاً نزل على قوم فيكرمونه، فيدعو الله سبحانه وتعالى أن يحسن ضيافته، وأن يكون له في ذلك من المغفرة في قبره والروح والريحان وفي الجنة أيضاً، فهذا معنى قوله: ( أكرم نزله )، وفي القرآن الكريم ذكر الله سبحانه وتعالى: أَذَلِكَ خَيْرٌ نُزُلًا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ [الصافات:62] فذكر النزل لأهل الجنة، والنزل لأهل النار: هَذَا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ [الواقعة:56].
يعني: النزل للصالحين بالرضوان والمغفرة وهو الضيافة، بل النزل هو الضيافة التي تقدم أول شيء، يعني: يقولون في اللغة الحديثة (مشهيات)، يعني: مقبلات، تقدم له قبل الطعام، هذا النزل، فإذا أكرم نزله، معناه ما بعد النزل يكون أفضل وأفضل.
( واغسله بالماء والثلج والبرد ) المقصود هنا: اغسله من الخطايا، وقد جاء في بعض الألفاظ كما في حديث أبي هريرة في دعاء الاستفتاح.
والغسل هنا منوع: جعله بالماء وبالثلج والبرد من أجل أن لا يبقى شيء من الدرن أو الوسخ، وكأنه شبه هذا الإنسان بالثوب، فالثوب يكون به وسخ، فيغسل بالماء مرة، ثم يغسل بالثلج مرة أخرى، ثم يغسل بالبرد مرة ثالثة حتى يذهب ما به من الوسخ.
( ونقه من الذنوب والخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس ):
النقاء هو الصفاء، (نقه) يعني: صفه.
و( كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس )، أيضاً واضح في التشبيه، وأن الدعاء لهذا الميت المسلم الذي هو عبارة عن ثوب أبيض، ولكن فيه بقع من ذنوب أو خطايا أن ينقى منها.
ثم قال: ( وأبدله داراً خيراً من داره ) يعني: سكناً أو منزلاً خيراً من منزله .
( وأهلاً خيراً من أهله )، الذين كان فيهم، والأهل يطلق على الزوجة وعلى الولد وعلى من يساكن الإنسان .
ثم قال: ( وزوجاً خيراً من زوجه ) وهذا واضح.
وهنا قوله: ( داراً خيراً من داره ).
(وأهلاً) (وزوجاً) فيها مسائل كثيرة -لكن نمر عليها-:
أن هذا قد يكون المعنى: أنه يبدله شيئاً آخر غيرهم.
وقد يكون المعنى: أن الله تعالى يصلح له أهله: وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ [الأنبياء:90] يعني: يصلح الله تعالى له أهله وزوجه؛ بحيث يكونون في الآخرة خيراً منهم في الدنيا له، وهذا معنى وارد ومعتبر.
وأيضاً من المباحث في هذه المسألة: المرأة، هل يدعى أن يبدلها الله تعالى خيراً من زوجها أو لا يدعى؟ هذه ليس فيها شيء في السنة، بعض الناس يظن أنه وارد، لم يرد إلا هذا الحديث وهو عام.
والزوج في الأصل يطلق على الذكر والأنثى، لكن قصة الحديث تدل على أن الدعاء -والله أعلم- كان لرجل ولم يكن لامرأة، فبعض أهل العلم يقولون: يدعى للمرأة مثل ما يدعى للرجل: (وزوجاً خيراً من زوجه.. أو زوجاً خيراً من زوجها).
وقد اختلفوا أيضاً هل يغير الضمير بين المرأة والرجل أو لا يغير؟
بعضهم قال: يغير، يعني إذا كانت أنثى يقال: (زوجها، ودارها، ونزلها).
وبعضهم يقول: لا يغير، بل يبقى كما هو؛ لأن المقصود الميت أياً كان ذكراً أو أنثى.
فالذين قالوا: يدعى للمرأة، قالوا: إنه قد لا يكون زوجها في الدنيا هو زوجها في الآخرة، كما لو كانت هي مؤمنة وهو غير مؤمن، هذا احتمال.
الاحتمال الثاني: قالوا لأن من معاني: (وزوجاً خيراً من زوجها) لا يعني أن زوجها يتغير ويأتي رجل آخر بدله، وإنما يكون هو نفسه، ولكنه خيراً منه لها مما كان، يعني: أن الله تعالى يصلحه لها فهذا محتمل.
وبعضهم قالوا: بالنسبة للمرأة لا يقال: (وزوجاً خيراً من زوجها).
والمسألة فيها بحث؛ لأنه ليس فيها نص شرعي، وإنما هي من مباحث الفقهاء، فالأمر فيه سعة.
( وأدخله الجنة، وقه فتنة القبر وعذاب النار ) أما فتنة القبر فقد اختلف فيها:
قيل: هي عذاب القبر، وعذاب القبر حق.
وقيل: إن فتنة القبر هي فتنة الملكين اللذين يسألان الإنسان: (من ربك؟ وما دينك؟ ومن نبيك؟)، وقد يقع لبعض الناس في ذلك شك أو تردد أو عجز عن الجواب، فيسأل الله تعالى أن يلهمه حسن الجواب وإصابة الصواب، فهذا معنى قوله: ( وقه فتنة القبر )، وعذاب النار معروف.
منها: الدعاء للميت.
ومنها: صيغة الدعاء، وهذه واحدة من صيغ عديدة، فقد جاء في السنة ثلاث أو أربع أو خمس صيغ كلها دعاء.
بعض أهل العلم يرى وجوب الاقتصار على ما ورد.
وبعضهم يقول: يجوز الزيادة عليه.
والأقرب أنه يجوز الزيادة عليه؛ لكن بشرط أن تكون الزيادة من جنس ما ورد، يعني: أنه لا يخترع أو يبتكر الإنسان أدعية قد تكون مشكلة أو غير صحيحة أو فيها غلط، وكثير من الناس قد يقع منهم ذلك؛ ولهذا لما قال النبي صلى الله عليه وسلم في صلاة الفريضة بعد التشهد: ( ثم ليتخير من الدعاء أعجبه إليه فيدعو به )، فقال أهل العلم بعضهم: من الدعاء الوارد.
وبعضهم قالوا: من الدعاء الوارد أو من جنس الوارد، وهذا هو المختار.
يعني: لو دعوت للميت -مثلاً- بدعاء وأنت لا تحفظ الدعاء المنصوص عن النبي صلى الله عليه وسلم، لكن قلت: اللهم كفر عنه ذنوبه وخطاياه وتجاوز عنه برحمتك وأدخله الجنة، فهذا من جنس ما ورد، وكما نعرف في قصة الأعرابي الذي قال: ( يا رسول الله! إني لا أحسن دندنتك ولا دندنة
وأيضاً: هذا الأعرابي إذا كان لا يحسن هذه الدندنة أن يقول من عند نفسه من جنس الوارد، يعني: لا يدعو بدعاء غير وارد.
وهذا وهم! إما من المصنف أو من بعض النساخ، فإن مسلماً لم يخرج هذا الحديث وإنما رواه الأربعة: الترمذي والنسائي وأبو داود وابن ماجه في سننهم، كلهم رووه في كتاب الجنازة، باب الدعاء للميت.
ورواه أيضاً ابن حبان والبيهقي وابن أبي شيبة والحاكم في كتاب الجنائز، ورواه الإمام أحمد في مسنده .
الترمذي رحمه الله روى الحديث في سننه كما ذكرت وقال: هذا حديث حسن صحيح.
وكذلك الحاكم رواه في مستدركه، وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، يعني مسلماً والبخاري .
والواقع أن الحديث فيه أكثر من علة:
العلة الأولى: أنه مرسل، وأن ذكر أبي هريرة فيه وهم.
والصواب: أنه من رواية أبي سلمة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أبي سلمة بن عبد الرحمن عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأبو سلمة تابعي.
فالحديث مرسل، وقد سبق معنا: أن الحديث المرسل هو: ما رواه التابعي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، يعني لم يذكر فيه الصحابي، والمرسل عند الأكثرين يعتبر من أقسام الضعيف، إلا إذا اعتضد بغيره.
فهذا الحديث مرسل من مراسيل أبي سلمة، وذكر أبي هريرة فيه وهم وغلط، وقد يذكر غير أبي هريرة أيضاً، يعني: قد يقال: عن أبي سلمة عن أبي هريرة، وقد يقال عن أبي سلمة عن ابن عمر أو سواه، فهذا يزيد الحديث ضعفاً؛ لأنه يدل على نوع من الاضطراب.
العلة الثانية: أن في سند الحديث عدداً من الرواة المجاهيل، ولهذا نقول: إن الحديث بذاته: مرسل ضعيف، ولكن له شاهد أو أكثر من شاهد، لكن أصح شواهده عن أبي قتادة رضي الله عنه.
وشاهد أبي قتادة سنده جيد، له شاهد عن أبي قتادة بمعناه، بل بلفظه تقريباً وسنده جيد، وبه يصبح هذا الدعاء مشروعاً أو وارداً، خصوصاً وأنه من جنس الدعاء الوارد -كما قلنا- وفيه عموم أيضاً.
ففي قوله: ( اللهم اغفر لحينا وميتنا )، ما معنى (حينا وميتنا) أحي واحد وميت واحد؟
المقصود لجنس الأحياء والأموات، وهكذا ما بعدها.
( وشاهدنا ) يعني: حاضرنا، الحاضرين في صلاة الجنازة.
( وغائبنا ) يعني: الغائبين.
( وصغيرنا وكبيرنا ) يقولون: إن الصغير لم يرتكب ذنباً ولم يجرِ عليه قلم التكليف فكيف دعا له؟ ما هو الجواب على هذا يعني: لماذا دعا له بالمغفرة؟
الجواب ما أورده الطحاوي -رحمه الله- حيث قال: إن المقصود الدعاء له إذا كبر، يعني: صغيرنا الآن اغفر له إذا كبر؛ لأنه إذا كبر يكون عرضة لوقوع الذنب، فهذا استغفار أسبقي، يعني: أن يطلب المغفرة له من ذنوب قادمة، وهذا لا بأس به؛ ولهذا كان من الدعاء الذي يقوله النبي صلى الله عليه وسلم: ( اغفر لنا ما قدمنا وما أخرنا )، فقوله: (وما أخرنا)، يعني: من الأشياء التي لم تأتِ ولكنها سوف تأتي بعد.
ويحتمل في قوله: (وما أخرنا) يعني: ما أخرنا من الأعمال الصالحة فلم نعملها بسبب التفريط.
إذاً: قوله: (وصغيرنا) يحتمل أن يكون المقصود: اغفر له إذا كبر ووقع منه بعض الذنب، هذا معنى.
وهناك معنىً آخر: أن يكون المقصود بالصغير هنا: الشاب، ليس معناه الصغير الذي هو غير مكلف، وإنما الصغير في السن الذي جرى عليه قلم التكليف.
ويحتمل أن يكون أيضاً المقصود بركة الدعاء، وأن تكون المغفرة للصغير برفع درجاته؛ ولهذا حتى الطفل إذا صُليّ عليه يقال: ( اللهم اغفر له وارحمه، واجعله ذخراً لوالديه وفرطاً، وأجراً وشفيعاً مجاباً ).
وهذه هي الرواية المعتمدة، وفي بعض الكتب يقع قلب، والصواب هكذا: ( من أحييته منا فأحيه على الإسلام، ومن توفيته فتوفه على الإيمان ).
طيب! لماذا فرق بينهما بحيث جعل الحياة على الإسلام والوفاة على الإيمان؟
قوله: ( اللهم من أحييته منا فأحيه على الإسلام )؛ لأن الإسلام هو الأركان الظاهرة، وهي إنما تعمل حال الحياة لا حال الموت، فكأنك تقول: من أحييته فأحيه على الصلاة والزكاة والصوم والحج وغيرها من الشعائر، لأنها شعائر ظاهرة، وهذا هو الإسلام؛ ولهذا في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم وهو حديث حسن يقول: ( الإيمان في القلب، والإسلام علانية )، فقال هنا: ( من أحييته فأحيه على الإسلام )، يعني: على أفعال الإسلام الظاهرة .
( ومن توفيته فتوفه على الإيمان )؛ لأن المتوفى ليس في مقام الفعل وهو عاجز، وهو بحالة الكرب والاحتضار؛ ولهذا ليس في مقام أن يعمل، وإنما يبقى له الإيمان في قلبه، فيقول: ( توفه على الإيمان ) أن لا يسلب الإيمان من قلبه، وقد ورد أن العبد إذا حضر ربما تعرض للفتنة عند الاحتضار ؛ ولهذا يقول الله سبحانه وتعالى: يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ [إبراهيم:27]، وقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم كما في حديث البراء بن عازب أن هذا عند الموت، يعني في الحياة الدنيا: أن الله تعالى يثبته فيختم له بالإيمان، ويختم له بالتوبة، ويختم له بالشهادة.
وينبغي أن يعلم أن الإنسان قد يرزق النطق بالشهادة وقد يحال بينه وبينها، والحيلولة أيضاً أنواع: قد يكون الإنسان مات موت الفجأة، أو لم ينطق بها بسبب ثقل لسانه، ولكنها في قلبه عند الله سبحانه وتعالى.
فالمهم أن يختم له بقلب مقبل على الله مؤمن بالله سبحانه وتعالى، ولكن من لقن الشهادة فصار يصد عنها ويقول غيرها، وقد يقول إفكاً أو يقول زوراً أو يقول كلاماً فاحشاً، فهذا يخشى عليه من سوء الخاتمة؛ ولذلك نقول: إن قول النبي صلى الله عليه وسلم هنا: ( ومن توفيته فتوفه على الإيمان ).
معناه: أن يختم له بالإيمان وثبات القلب عند النزع وعند الاحتضار؛ لأن الشياطين قد تأتي وتجلب عليه، وقد تذكره ببعض الأخطاء وبعض الذنوب وبعض الأشياء.
وأيضاً: الذين يحضرونه يشرع لهم أن يذكروا له نصوص الرجاء، نصوص الوعد، نصوص الجنة، وليس العكس أن يذكروا له نصوص الوعيد أو نصوص النار أو غير ذلك، لأن هذا قد يقلقه، ولهذا النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ( لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله ).
فمن المواضع التي يقدم فيها الرجاء على الخوف ماذا؟
من المواضع التي يقدم فيها الرجاء على الخوف عند الطاعة، حتى يكون عند الإنسان حافز للفعل.
ومن المواضع التي يقدم فيها الرجاء على الخوف عند الموت: حتى يموت وهو يحسن الظن بالله عز وجل.
ومن المواضع التي يقدم فيها الخوف على الرجاء: عند المعصية، حتى ينزجر ويرتدع، وفي بقية المواضع يكون خوفه ورجاؤه سواء، كما قال الإمام أحمد : ينبغي أن يكون خوفه ورجاؤه واحداً، إذاً: قوله: ( فتوفه على الإيمان ) أصبح واضحاً.
وفي بعض النسخ ذكر الإسلام في الثنتين أو ذكر العكس.
ونقول: هذا لا يتجه إلا عند من يقول: إن الإيمان والإسلام معناهما واحد، وهو أحد الأقوال، واختاره البخاري وغيره، لكن القول الآخر وهو الراجح: أن بين الإيمان والإسلام فرقاً، فالإسلام هو الأفعال الظاهرة، والإيمان هو الذي في القلب، وقد يطلق أحدهما على الآخر.
قال في آخره: ( اللهم لا تحرمنا أجره ) يعني: أجر الصبر على هذه المصيبة، وأجر الدعاء له.
( ولا تفتنا بعده ) يعني: لا تفتنا في ديننا بعد رحيله، طبعاً! هذا أيضاً في الدعاء.
ورواه ابن ماجه أيضاً في الباب ذاته وعبد الرزاق في مصنفه والبيهقي .
وفي سند الحديث محمد بن إسحاق بن يسار وقد سبق الكلام فيه كثيراً، ماذا قلنا في محمد بن إسحاق ؟
قلنا: صدوق مدلس، يعني: إذا صرح بالتحديث فقال: (حدثنا) فحديثه حسن، ولكن إذا قال (عن) فحديثه ضعيف لاحتمال التدليس.
محمد بن إسحاق صاحب السيرة هو صدوق مدلس، ولا يقبل ما تفرد به من الأخبار والروايات، وقد صرح في هذا الحديث بالتحديث كما عند ابن حبان، ففي سند ابن حبان تصريحه بالتحديث.
ولهذا نقول: هذا حديث حسن، وقد صححه جماعة من المتقدمين والمتأخرين كـابن حبان -كما ذكرنا- والألباني والأرناؤوط وغيرهم.
والدعاء للميت الجمهور على أنه واجب، وهذا مشهور عند المالكية والحنابلة والشافعية، يرون أن الدعاء للميت واجب، وبعضهم قد يقول: ركن؛ لأنه هو المقصد الأعظم من الصلاة.
ومن أقوى ما يستدلون به على هذا: حديث الباب، حديث أبي هريرة، فإن قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( فأخلصوا له الدعاء )، هذا أمر بالإخلاص، وهو متضمن الأمر بالدعاء؛ لأنه إذا أمر بالإخلاص في الدعاء فقد أمر بالدعاء أيضاً والإخلاص فيه، والأمر كما هو معروف يقتضي الوجوب، خصوصاً إذا كان في أبواب العبادات، إلا إذا كان ثمة قرينة تصرفه عن الوجوب.
فنقول: إن حديث الباب دليل على وجوب الدعاء في صلاة الجنازة، ولا غرابة أن نقول بوجوب الدعاء في صلاة الجنازة مع أن صلاة الجنازة هي فرض كفاية، لأننا نقول: الإنسان إذا صلى نافلة -مثلاً- أليس يجب عليه أن يركع ويجب عليه أن يسجد؟ هذا واجب، لأنه إذا دخل في النافلة وجب عليه أن يؤديها كما أمر.
فكذلك نقول في صلاة الجنازة: إن الدعاء للميت واجب عند أكثر أهل العلم.
إذاً: في صلاة الجنازة:
التكبيرة الأولى: وبعدها قراءة الفاتحة.
والتكبيرة الثانية: وبعدها الصلاة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
التكبيرة الثالثة: وبعدها الدعاء للميت.
والتكبيرة الرابعة: وبعدها السلام.
ولو تأخر الإمام في السلام ماذا تصنع؟ تدعو للميت.
ولو أن الإمام أيضاً كبر خمساً -كما ذكرناه عن جماعة- فإنك تدعو للميت بعد الرابعة حتى يسلم الإمام.
وبعض أهل العلم كالمالكية: يرون الدعاء للميت بعد كل تكبيرة، والأمر -كما قلنا- فيه سعة؛ لأن الصلاة على الميت ليس فيها نصوص حاسمة قاطعة، ولكن هذا الذي ذكرناه: أنه يكبر ثم يقرأ الفاتحة، ويكبر الثانية ثم يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم، ويكبر الثالثة ثم يدعو للميت، ويكبر الرابعة ثم يسلم، هذا الذي ذكرناه هو الأقرب والأصح.
وقد جاء فيه حديث عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف رضي الله عنه وهذا الحديث سنده جيد، وقد رواه الحاكم والشافعي بسند جيد: أنه ذكر هذا عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ( تكبر، ثم تقرأ الفاتحة، ثم تصلي على النبي صلى الله عليه وسلم، ثم تدعو للميت، ثم تكبر وتسلم ) .
رواه أبو أمامة بن سهل، أبو أمامة صحابي ولكنه صحابي صغير، وروى هذا الحديث عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فهل نقول: إن هذا الرجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم مجهول؟
مداخلة: ...
الشيخ: لماذا؟
نقول: إن أهل الحديث يقولون: إن جهالة الصحابي لا تضر، يعني: كون الصحابي غير محدد ولا معروف من هو لا يضر، فالصحابة رضي الله عنهم عدول، وأي واحد منهم سواءً كان أخذه عن أبي هريرة أو عن ابن عمر أو عن عثمان أو عن علي أو عن أبي أمامة أو عن غيرهم، فلا حرج ولا بأس ولا يختلف الأمر.
فلذلك نقول: إن هذا الحديث الذي عند الحاكم والشافعي في صفة صلاة الجنازة إنه حديث جيد الإسناد، وجهالة الصحابي فيه لا تضر.
وفيه مشروعية الدعاء في صلاة الجنازة.
وفيه وجوب الدعاء، وأنه أهم ركن في صلاة الجنازة.
وفيه أيضاً مشروعية الإخلاص، بل وجوب الإخلاص في الدعاء.
ما هو معنى الإخلاص؟
أصح ما قيل في معنى الحديث: ( إذا صليتم على الميت فأخلصوا له الدعاء )، أن يريد وجه الله سبحانه وتعالى بالدعاء.
ومن معاني (الإخلاص هنا) أن يقصر الدعاء على الميت، يعني أن يجعله للميت خالصاً، أو ما في حكمه مما يشمل الميت، مثل دعاء: ( اللهم اغفر لحينا وميتنا )، هذا نقول: فيه إخلاص أو ما فيه إخلاص؟ فيه إخلاص؛ لأننا حين نقول: (لحينا وميتنا) الميت هو هذا الذي أمامك تدعو له وتدعو لولده أيضاً، فهنا أنت دعوت له ولغيره، فلا ينافي الإخلاص أن تدعو للميت وغيره، لكن قد ينافي الإخلاص: أن تدخل في الباب ما ليس منه، يعني كون الإنسان يقول مثلاً في صلاة الجنازة: اللهم ارزقني وأنت خير الرازقين، هل هذا من الإخلاص؟
الأقرب أنه ليس كذلك وليس هذا موضعه، وإنما يمكن أن يدعو به في غير ذلك من المواضع.
فمن معاني الإخلاص إذاً: إرادة وجه الله.
ومن معاني الإخلاص: تخصيص الميت بالدعاء وما في حكمه.
ومن معاني الإخلاص: -وهو معنى واضح ومباشر- الصدق في الدعاء، والإلحاح على الله سبحانه وتعالى، فإن الله سبحانه وتعالى يحب الملحين في الدعاء، ويقبل الدعاء إذا كان خالصاً.
ومن الإخلاص: أن تدعو الله تعالى بأسمائه الحسنى وصفاته العليا وأن تكرر الدعاء وأن يصحب ذلك الخضوع والخشوع والصدق، وهذا مما يعظم معنى الأخوة؛ لأن هذا الميت لن تراه يوماً من الأيام في الشارع ويقول: الله يبيض وجهك أنت ما قصرت، فقد صليت عليَّ ودعوت لي! هذا لن يحدث في الدنيا، ولكن تدعو له بقلب صادق وأنت تتعامل مع الله عز وجل.
فيكون نتيجة لذلك الصدق في القلب وإرادة وجه الله سبحانه وتعالى في هذا العمل، من دون أن يكون لذلك قصد دنيا أو مصلحة أو ذكر أو جاه .. أو ما أشبه ذلك من المعاني.
فإذا كان الله سبحانه وتعالى يحب ذلك منا، والرسول صلى الله عليه وسلم يلح عليه في الإخلاص في الدعاء للميت؛ فأولى أيضاً .. ومثل ذلك أن يكون للحي، من أن يكون تواصل المؤمنين فيما بينهم وصفاء قلوبهم، لأنه لو كنت تكره الميت فإنك في الغالب لا تدعو له، وقد لا تشهد الجنازة، إلا أن يكون الإنسان عنده قوة في إيمانه فيتجاوز ذلك ويستجيب، ولو أنه دعا ربما لا يكون في قلبه صفاء.
فهذا المعنى عندما يقول: ( فأخلصوا له الدعاء ) يذكرنا أنه إذا كان هذا مطلوباً للميت، فهو أيضاً مطلوب للحي أن يكون في القلوب من الصفاء والإخلاص بين المؤمنين القدر الكبير الذي يجعل حياتهم ومماتهم أيضاً تكون على خير .
الميت ينبغي أن تخلص له الدعاء وتنسى حتى لو كان ظلمك أو أخطأ عليك، حتى لو كان جارك أو قريبك ويمكن يكون قد سبق له مواقف ليست جيدة، فهنا من أعظم البر والقرب إلى الله سبحانه وتعالى أن تذهب وتصلي عليه وتخلص له الدعاء.
وأذكر هنا ابن تيمية رحمه الله كان له بعض الخصوم والأعداء فمات، فكأن بعض تلاميذه جاءوا يبشرونه يقولون له: أبشر فلان مات! فحزن لذلك وظهر الحزن في وجهه وكره من طلابه ما فعلوا، وذهب إلى أهل الميت وسلم عليهم وعزاهم ودعا لهم، وقال لهم: إذا كان فلان مات فأنا مكانه وعدوني في مقامه، وإذا احتجتم أمراً من الأمور فلا تترددوا، وكان له موقف نبيل وعظيم، وهذه مواقف كما قال الله سبحانه وتعالى: وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ [فصلت:35] .
والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
الجواب: موقف الإمام من الجنازة قلنا:
قيل: يقف على رأس الرجل وعلى وسط المرأة.
وقيل: يقف على صدر الرجل والمرأة، وقيل: على وسط الرجل والمرأة، وقيل: يختار من الأقوال ما شاء.
السؤال: هذا يسأل عن مجلة الإسلام اليوم؟
الجواب: إن شاء الله .. الإخوة الذين لم يحصلوا عليها موجود بعض الأعداد.
الجواب: هذا أحد الأسباب، وفي كتب مخصصة في أسباب اختلاف العلماء وليتك تقرؤها، فإن العلماء قد يختلفون بسبب ضعف الحديث أو صحته، وقد يختلفون بكونه منسوخاً، أو يختلفون بخاص أو عام أو يختلفون في دلالة الحديث، أو يختلفون في بلوغ الحديث لبعضهم وعدم بلوغه لغيرهم .. إلى غير ذلك من الأسباب.
الجواب: نعم، الحديث فيه عبد الله بن محمد بن عقيل، عبد الله بن محمد بن عقيل فيه مقال وهو ضعيف، ولكني رأيت أنه ما دام إبراهيم بن محمد فيه هذا الطامة، فهذه قاضية، وجود راوٍ آخر ضعيف لا ينفع ولا يضر؛ لأن فيه من هو كذاب كما ذكرنا.
الجواب: الحديث إذا كان شديد الضعف أو موضوعاً فإنه لا يتقوى بغيره، فالصفر والصفر صفر.
الجواب: هذا قد يكون في لباس خاص كالأزر، أما ملابس الناس اليوم، فالسنة هو ألا يكون ثوب شهرة؛ لأن بعض الناس قد يتكلف أمراً من الأمور ويكون فيه نوع من الشهرة والعجب والرياء، فالإنسان يراعي دائماً قلبه وما بينه وبين الله سبحانه وتعالى.
الجواب: لو قرأ سورة فلا بأس، يعني لو قرأ سورة في صلاة الجنازة لا ننكر عليه، لكن نقول: لم يثبت، الرواية التي فيها قراءة سورة، رواية شاذة.
الجواب: لا، هذا لم يرد فيه شيء، وإنما ورد الدعاء للميت.
الجواب: إِنَّا أَنشَأْنَاهُنَّ إِنشَاءً * فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا * عُرُبًا أَتْرَابًا * لِأَصْحَابِ الْيَمِينِ [الواقعة:35-38].
الجواب: الدعاء واسع، ولكن الأولى في صلاة الجنازة أن يقتصر على ما ورد وما كان في معناه، وادع لوالدك في مناسبات أخرى، ولو دعوت فلا حرج.
الجواب: فيما أعلم أنه لم يرد.
السؤال: ما حكم التكبير في صلاة الجنازة؟
الجواب: هذا سيأتي إن شاء الله.
الجواب: المشكلة الانقطاع، المهم في الإنسان هو أن يتصل، والعبرة -كما يقال- بكمال النهاية لا بنقص البداية.
الجواب: حاول أن تقنعهم وتلح عليهم حتى تحصل على مرادك.
الجواب: احرص عليها، ولا يأتيك الشيطان من هذا المدخل، وحاول دائماً أن تصحح نيتك.
الجواب: هذا طبيعي، النسيان من طبع ابن آدم، ولو أن كل من حفظ شيئاً أو سمع شيئاً ضبطه، لأصبح المتأخرون أعلم بمراحل من المتقدمين، لكن مع التكرار تستقر المعاني.
الجواب: إن شاء الله، لعله يكون لها وقت.
الجواب: ذكرنا أن منهم من قال بالفاتحة وكذلك ما يتعلق بالقراءة، ولعله يأتي مزيد إيضاح.
السؤال: قضاء صلاة الميت؟
الجواب: نذكره إن شاء الله فيما يستقبل.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر