إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك نبينا محمد وآله وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين، أما بعد.
بقي عندنا -كما أسلفت في الجلسة الماضية- مسألتان فقهيتان في حديث جابر وحديث حذيفة وحديث علي .
المسألة الأولى: مسألة: هل التيمم مبيح أو رافع؟
وقد اختلف العلماء في هذه المسألة على قولين:
وهذا مذهب الشافعي ورواية عن أحمد، بل نسبه النووي رحمه الله في المجموع لجمهور العلماء.
واحتج أصحاب هذا القول بأدلة منها: ( قوله صلى الله عليه وسلم -في حديث
ومنها: حديث أبي ذر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( الصعيد طهور المؤمن وإن لم يجد الماء عشر سنين )، ومثله حديث أبي هريرة أيضاً: ( الصعيد وضوء المؤمن عشر سنين، فإذا وجد الماء فليتق الله وليمسه بشرته ).
فقالوا: كونه يجب عليه أن يغتسل بالماء إذا وجده دليل على أن حدثه لم يرتفع.
ومن أدلتهم: ما رواه البخاري تعليقاً عن عمرو بن العاص : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم بعثه في سرية وهي سرية أو غزوة ذات السلاسل قبل نجد، فأجنب في ليلة باردة فتيمم وصلى بأصحابه، فلما رجعوا ذكروا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال لـ
ووجه استدلالهم بهذا الحديث على أن التيمم مبيح لا رافع قالوا: لأن النبي صلى الله عليه وسلم سمى عمرو بن العاص أو وصفه بأنه جنب قال: ( صليت بأصحابك وأنت جنب )، فقالوا: هذا دليل على أن التيمم لم يرفع جنابته، فوصفه النبي صلى الله عليه وسلم بأنه جنب، وربما استدلوا بالإجماع على أن المحدث إذا لم يجد الماء أو لم يستطع أن يستعمله فيتيمم، ثم وجده بعد، أن عليه أن يستعمل الماء لرفع حدثه.
فهذه خمسة أدلة: دليل عمران بن حصين، حديث أبي هريرة، حديث أبي ذر، حديث عمرو بن العاص، الإجماع على أن الجنب وغيره إذا تيمم ثم وجد الماء واستطاع أن يستعمله وجب عليه أن يستعمله ولو لم يتجدد حدثه، هذا هو القول الأول.
ومن قالوا: بأن التيمم يرفع الحدث وليس يبيح العبادة احتجوا بعدة أدلة:
فقالوا: هذا دليل على أن التيمم مطهر مثل ما يطهر الماء بنص كتاب الله عز وجل.
ومثله -وهو الدليل الثاني- قوله صلى الله عليه وسلم: ( وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً )، فقالوا: هذا دليل على أن التراب طهور للمتيمم كما أن الماء طهور له، فمن تطهر بالتراب لحاجة فهو كمن تطهر بالماء سواء بسواء، إلا أن طهارة التراب مؤقتة ما دام لا يستطيع أن يستعمل الماء؛ إما لفقده، أو لمرض، فهي بدل عن طهارة الماء.. تقوم مقامها، فهذا دليلهم الثاني.
واستدلوا ثالثاً بما سبق من حديث عمرو بن العاص قالوا: لأن الله عز وجل بين في كتابه أنه لا يجوز للإنسان أن يقرب الصلاة وهو جنب إلا أن يغتسل، ومع ذلك أباح للجنب إذا تيمم لحاجة أن يصلي، فدل على أن التيمم يقوم مقام الغسل في رفع الحدث فيرتفع حدثه بذلك.
وهذا القول بأن التيمم رافع وأنه مطهر هو الأقوى؛ ولذلك قال شيخ الإسلام ابن تيمية : فمن قال: إن المتيمم غير متطهر فقد خالف الكتاب والسنة، بل هو متطهر.
ولعل الخلاف أيضاً نظري في هذه المسألة أكثر من كونه عملياً؛ لأن الجميع متفقون على أن المحدث إذا اضطر إلى استخدام التيمم بدل الماء، أو احتاج إليه إما لعدم الماء أو لمرض الرجل نفسه ثم وجد الماء، أنه يجب عليه أن يستعمل الماء، فمن ظن أن قولنا: إنه مبيح للصلاة والعبادة، يعني أن المانع موجود بحاله فقد أخطأ؛ لأن الجميع متفقون أن له أن يصلي ويقرأ القرآن إذا تيمم تيمماً شرعياً، فالذين قالوا: إنه مبيح قصدوا أنه مبيح للعبادة، وقصدوا أن التيمم يجعل المانع الذي هو الجنابة أو الحدث أخف، بحيث يصح له.. بل يجب عليه أن يصلي ما فرض عليه، وكذلك الذين قالوا: إن التيمم رافع، لا يقصدون أنه رافع مطلقاً، بل هم يقولون: رافع إلى أن يجد الماء، فإذا وجد الماء فليمسه بشرته؛ وبذلك فإن الخلاف يعتبر في هذه المسألة نظرياً، ولم يكن معهوداً عن الصحابة والسلف الأولين فيما أعلم الجدل في هذه المسألة هل هو رافع أو مبيح؟ لأن المسألة لا تختلف، فنحن جميعاً نقول: إذا لم يستطع الإنسان استعمال الماء إما لمرض أو لعدم الماء، فإن الجميع متفقون.. إلا من سوف يأتي ذكره من الخلاف على أنه يتيمم ويصلي، فإذا وجد الماء اتفق الجميع على أنه يجب عليه أن يستعمله.
ثم الخلاف بعد ذلك: هل هو مبيح أو رافع؟ أمر لا يترتب عليه كبير فائدة، إلا إن أراد البعض أن يربط بقولنا: إنه مبيح أو رافع أنه ينتقض بخروج الوقت، ولابد أن يكون بعد دخول الوقت، فهذا قد يقول البعض أنه متعلق بمسألة هل هو مبيح أو رافع؟
وعلى كل حال فالصحيح أنه رافع للحدث إلى حين وجود الماء، وأن الإنسان يجوز له أن يتيمم قبل دخول الوقت ويصلي به ما شاء من فروض أو نوافل، ولا ينتقض تيممه إلا بأحد أمرين:
الأول: إمكانية استعمال الماء بوجوده إن كان قد عدمه، أو بشفائه إن كان مريضاً.
الثاني: الحدث يعني: نواقض الوضوء، فلا ينتقض تيممه إلا بنواقض الوضوء، أو بإمكانية استعمال الماء.
هذه هي المسألة الأولى وهي تؤخذ من قوله: ( وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً ).
أما دليلهم الثاني -وكان يجب أن يكون الأول- فهو قوله تعالى: فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ [المائدة:6]، قالوا: الصعيد هو التراب كما قاله الشافعي وغيره، قالوا: الصعيد هو التراب، وقالوا: قوله سبحانه: فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ [المائدة:6] كلمة (منه) تدل على أنه لابد أن يكون تراباً ذا غبار، بحيث يعلق بالعضو شيء منه يمسح به الوجه وتمسح به الكفان، فقوله: (منه) يعني للتبعيض، فلابد أن اليد إذا ضربت يعلق بها شيء منه، استدلوا بهذا على اشتراط التراب.
واحتج هؤلاء بأدلة منها قوله تعالى: فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا [المائدة:6]، قالوا: الصعيد كل ما على وجه الأرض من تراب، أو رمل، أو بطحاء، أو صخر، أو غيره فهو يسمى صعيداً، فما على سطح الأرض فهو صعيد، وهكذا قال كثير من أئمة اللغة.
واحتجوا ثانياً بقول صلى الله عليه وسلم في اللفظ الآخر: ( وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً )، فقالوا: هذا اللفظ لم يفرق كما فرق حديث حذيفة : ( وجعلت لي الأرض مسجداً، وجعلت تربتها لنا طهوراً ) لا. قال: (وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً )، فكأن المعنى: ما صحت الصلاة عليه فإنه يصح التيمم به.
واستدلوا ثالثاً بما رواه الشيخان .. رواه البخاري وعلقه مسلم من حديث أبي الجهيم بن الحارث بن الصمة : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم أقبل من نحو بئر جمل، فلقيه رجل فسلم عليه، فلم يرد عليه السلام حتى أتى صلى الله عليه وسلم الجدار فضرب يديه به وتيمم ثم رد عليه السلام )، قالوا: فتيمم النبي صلى الله عليه وسلم بالجدار، فدل على أنه لا يشترط في التيمم أن يكون بتراب أو نحوه.
ومن أدلتهم: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان بـالمدينة، والمدينة كما هو معلوم فيها سباخ كثيرة، بل غالب أرضها سبخة، وقد جاء في صحيح ابن خزيمة عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( أريت دار هجرتكم، أرضاً سبخة ذات نخل بين حرتين )، (أريت دار هجرتكم) يقولها لأصحابه (أرضاً سبخة ذات نخل بين حرتين)، فـالمدينة سبخة، ومع ذلك كان صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم يتيممون بأرضها، كما أن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه سافروا أسفاراً كثيرة، منها: سفرهم إلى تبوك، والطريق ما بين المدينة وتبوك غالبه من الرمال، ولم ينقل أنهم كانوا يحملون التراب معهم ليتيمموا به، فدل على أن كل ما على وجه الأرض من أرض سبخة، أو رملية، أو تراب، أو بطحاء، أو صخرية، أو مختلطة بمعادن.. أو غيرها أنه يجوز التيمم بها، وهذا القول أيضاً القول الراجح فيما يظهر.
ولبعض الفقهاء في ذلك تفصيلات طويلة عريضة لم يذكروا عليها أدلة، ومن المعلوم أن التيمم هو من التيسيرات التي جاءت في الشريعة، وما كان سبيله التيسير فينبغي التوسعة فيه على الناس وعدم التضييق، بل إن كثيراً من الفقهاء من الشافعية والحنابلة وغيرهم نصوا على أنه يجوز للإنسان أن يتيمم على الوسائد، والمخدات، والفرش، والحصر، والثياب، والأدوات التي يكون عليها غبار، نصوا على ذلك، حتى الذين قالوا: لا يتيمم إلا بالتراب، هذه المسألة الثانية.
أما حديث علي رضي الله عنه فإن الرسول صلى الله عليه وسلم ذكر فيه عدة خصال لعلها تبلغ خمساً، منها ما يتفق مع حديث جابر كقوله: (نصرت بالرعب)، ومنها: (أنه صلى الله عليه وسلم سمي أحمد)، ومنها: الخصلة المتعلقة بالباب وهي: (وجعل التراب لي طهوراً)، ومن هذه الخصال أيضاً المذكورة في حديث علي عند أحمد أنه أعطي مفاتيح خزائن الأرض، أو أعطي خزائن الأرض، ومعنى أنه أعطي خزائن الأرض: أن الله تبارك وتعالى كتب لأمته النصر والتمكين في الأرض، وقد جاء هذا المعنى في غير حديث منها: حديث ثوبان رضي الله عنه في صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إن الله زوى لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها، وإن ملك أمتي سيبلغ ما زوي لي منها ).
ومنها ما رواه عقبة بن عامر رضي الله عنه كما في البخاري في كتاب الجنائز وغيره، وكما في مسلم في الفضائل: أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج إلى أهل أحد فصلى عليهم صلاته على الجنازة، ثم جاء فصعد المنبر فقال صلى الله عليه وسلم في ضمن خطبته: ( وإني أعطيت مفاتيح الأرض أو مفاتيح خزائن الأرض )، فأشار إلى أن الله تبارك وتعالى كتب له ولأمته النصر والتمكين، وهذا الوعد لا يزال قائماً إلى اليوم، فإننا نعلم أن كثيراً من البلاد لم يدخلها الفتح الإسلامي، ومن أهمها عاصمة العالم النصراني روما التي بشر النبي صلى الله عليه وسلم بأنها سوف تفتح، كما في حديث عبد الله بن عمرو بن العاص الصحيح: ( أن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله! أي المدينتين تفتح أولاً القسطنطينية أم رومية ؟ فقال صلى الله عليه وسلم: مدينة
وقوله: ( مدينة
وهذا الحديث.. حديث عمار كما ذكر أنه متفق عليه، وفيه مسائل وفوائد كثيرة لعل الوقت أن يسعف بالوقوف عندها.
الجماهير من الصحابة والتابعين وسائر أهل العلم، بما في ذلك الأئمة الأربعة والفقهاء المشهورون يقولون: إذا أجنب الإنسان، سواء كانت جنابة بغير اختياره كالاحتلام، أو جنابة باختياره، فإنه إن لم يجد الماء يتيمم، وحججهم في ذلك ظاهرة، منها الآية: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ [المائدة:6]، إلى قوله: وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ [المائدة:6]، فذكر الأحداث الصغرى والحدث الأكبر، ثم قال: فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا [المائدة:6]، فالآية نص على أن الإنسان يتيمم عن الحدث الأصغر وعن الحدث الأكبر.
ومن أدلتهم أيضاً أكثر من خمسة أحاديث ثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم في تيمم الجنب.
الأحاديث التي تدل على أن الجنب يتيمم إذا لم يجد الماء، أو لم يستطع أن يستعمله، أحمد.
حديث عمرو بن العاص وسبق الكلام فيه، أيضاً حديث عمار بن ياسر وهو حديث الباب، حديث عمران بن حصين : ( في الرجل الذي كان متنحياً فقال: يا رسول الله! أصابتني جنابة ولا ماء، قال له النبي صلى الله عليه وسلم: عليك بالصعيد فإنه يكفيك )، والحديث في البخاري كما سبق مراراً.
أيضاً حديث أبي ذر وأبي هريرة : ( الصعيد الطيب طهور المؤمن وإن لم يجد الماء عشر سنين )، وليس فيه تفصيل لذلك.
ومنها: حديث جابر وابن عباس رضي الله عنهما في قصة صاحب الشجة، وسيأتي في درس قادم في قصة الرجل الذي كان به شجة فأجنب، فسأل الصحابة فأمروه بالاغتسال فاغتسل فمات، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ( قتلوه قتلهم الله، ألا سألوا إذ لم يعلموا، فإنما شفاء العي السؤال، إنما كان يكفيه أن يقول بيديه هكذا، وذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم التيمم ).
فثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في التيمم من الحدث الأكبر ما يزيد على خمسة أحاديث، وهي صريحة فيما ذهب إليه الجمهور، وهو القول الصحيح الذي لا إشكال فيه: أن الجنب إذا لم يستطع أن يستعمل الماء تيمم كما يتيمم صاحب الحدث الأصغر.
وذهب عمر وابن مسعود إلى أنه لا يتيمم، بل يجلس إلى أن يجد الماء ثم يغتسل ويصلي.
وبعضهم قال: تسقط عنه الصلاة لعجزه، وهذا قول شاذ ضعيف.
هذا القول ذهب إليه عمر رضي الله عنه كما في صحيح مسلم (أن رجلاً سأله فقال: يا أمير المؤمنين أجنبت وليس عندي ماء؟ فقال له عمر: لا تصل)، وكذلك ذهب إليه ابن مسعود متابعة لـعمر رضي الله عنه، وهذا ظاهر من خلال الحوار الذي دار بين أبي موسى وابن مسعود، فقد تناظرا كما في الصحيحين، وفي رواية مسلم بشكل أوضح أن ابن مسعود وأبا موسى اجتمعا فقال أبو موسى لـابن مسعود : إذا أجنب ولم يجد الماء شهراً فلا يصلي؟ فقال ابن مسعود : نعم لا يصلي، فقال أبو موسى : فماذا تصنع بحديث عمار، وأنه أجنب فلم يجد الماء فتيمم فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ( إنما يكفيك أن تقول بيديك هكذا ) الحديث..؟ فقال ابن مسعود : ألم تر عمر لم يقنع بقول عمار، وهو بذلك يشير إلى ما جرى بين عمر وعمار، حين قال عمر لـعمار : كنت وإياك في سرية فأجنبنا أما أنت فلم تصل وأما أنا فتمرغت فقال عمر لـعمار : اتق الله، كان عمر لا يذكر ذلك، قال عمار : يا أمير المؤمنين إن شئت لم أحدث به، قال: بل نوليك ما توليت، يعني: بل حدث بهذا.
فـابن مسعود لما يقول لـأبي موسى : ألم تر عمر لم يقنع بقول عمار، يشير إلى ما جرى بين عمر وعمار، فقال أبو موسى الأشعري لـابن مسعود : دعنا من قول عمار، فما تقولون في هذه الآية: فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا [المائدة:6]؟
فلم يستطع ابن مسعود رضي الله عنه أن يقول شيئاً، كل ما يقوله ابن مسعود يقول: يوشك لو رخصنا لهم في التيمم إذا برد على أحدهم الماء أن يتيمم ويصلي، فكأنه خشي أن يستغل الناس هذه الرخصة ويتوسعوا فيها، ولم يستطع أن يرد على حجة أبي موسى بشيء.
ولذلك نقل عن عمر وابن مسعود رضي الله عنهما، كما ذكر ذلك ابن تيمية والنووي في المجموع وغيرهما: أنهما رجعا عن هذا القول، ورجوعهما رضي الله عنهما عن هذا القول هو اللائق بهما وجلالة قدرهما، وما علم عنهما من الانصياع للدليل الشرعي والرجوع إلى الحق إذا تبين لهما، خاصة وأن الدليل في هذه المسالة واضح جلي لا لبس فيه.
وقد نقل هذا القول أيضاً عن النخعي، كما رواه عنه عبد الرزاق وابن المنذر في الأوسط أنه قال: (لا يصلي حتى يجد الماء ثم يغتسل ويقضي).
وعلى كل حال فهذا قول ساقط كما أشار إليه سماحة شيخنا عبد العزيز بن عبد الله بن باز وليس له حظ من النظر، بل القول الصحيح: أن الإنسان إن لم يجد الماء تيمم، سواء كان تيممه عن حدث أصغر أو عن حدث أكبر، هذه المسألة الأولى في حديث عمار.
في هذه المسألة أيضاً اختلاف، فقد نقل عن عمر وابن مسعود وعلي أنهم منعوا ذلك وكذلك الزهري، وقال الإمام مالك: (إذا لم يكن معه ماء فلا أحب أن يصيب أهله).
أما القول الثاني: فهو قول جمهور أهل العلم من الصحابة والتابعين وبقية الأئمة: أنه له أن يجامع أهله في ذلك ولو لم يكن معه ماء ... بأن له أن يصيب أهله وإن لم يجد الماء له أدلة كثيرة.
منها أنهم قالوا: إن الله عز وجل أباح للإنسان زوجه وما ملكت يمينه إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ [المؤمنون:6] بنص القرآن الكريم، فلا يقال بمنع الإنسان عن أهله إلا بدليل، يقال بمنعه عنهم مثلاً إذا كانت في حالة حيض، أو إذا كان أو كانت في حالة صيام، أو إذا كانوا في حالة إحرام، أو إذا كان مظاهراً، أو ما أشبه ذلك مما فيه الحجة ظاهرة بينة تمنع إصابة الرجل لأهله، أما ما سوى ذلك فلا يمكن منعه عنهم إلا بنص صريح أو بإجماع، ولا يوجد هاهنا لا نص صريح ولا إجماع، فلا يمكن القول بمنعه من إصابة أهله.
كما أنه يقال أيضاً في الدليل: ثبت أن التيمم كاف ورافع للحدث، سواء كان الحدث أصغر أو أكبر، كما سبق تقريره في المسألة قبل هذه، وما دام أن التيمم رافع وهو يقوم مقام الوضوء، فحينئذ لا إشكال بأن يصيب الإنسان أهله ثم يتيمم، كما يصيبهم ثم يغتسل سواء بسواء.
والقول الثالث في المسألة: أنه نقل عن بعض السلف -وهو مذهب لـعطاء - أنه قال: إن كان بينه وبين الماء أربعة أيام فأكثر جاز له أن يصيب أهله، وإن كان بينه وبين الماء ثلاثة أيام فأقل فإنه لا يصيبهم، ولا أدري ما وجه هذا القول، إلا أن يكون يرى أن الرجل يمكن أن يصبر عن أهله مدة ثلاثة أيام فما دونها، لكن هذا ظاهر أنه تفريق ليس عليه دليل، والناس يختلفون في ذلك، فقوة الإنسان وشدة غريزته وشهوته ليس لها ضابط محدود عند الناس، فمنهم من قد لا يستطيع أن يصبر هذه الأيام، ومنهم من يصبر أكثر منها، فهو تفريق ليس عليه دليل.
و القول الصحيح أيضاً في هذه المسألة: أن الإنسان له أن يصيب أهله وإن لم يجد الماء، ويتيمم عن حدثه الأكبر كما سبق.
منها: أن التيمم يكون من الحدث الأكبر والأصغر كما سبق.
ومنها: أنه يكون عن الحدثين بصفة واحدة فالتيمم عن الجنابة كالتيمم عن الحدث الأصغر لا يختلف، بخلاف استعمال الماء فإنه يختلف فيستعمل الوضوء للحدث الأصغر والغسل للحدث الأكبر.
ومن فوائده: وقوع الاجتهاد من الصحابة في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وفي حياته، فإن عماراً اجتهد في حياة النبي صلى الله عليه وسلم وهو حي، فتمرغ في الصعيد كما تتمرغ الدابة، ولعل هذا الفعل من عمار رضي الله عنه من باب القياس؛ لأنه رأى أن الإنسان في استعمال الماء إذا كان حدثه أصغر غسل أعضاءه الأربعة فقط، أما إن كان حدثه أكبر فإنه يغسل بدنه كله، فقاس على ذلك التيمم فقال: إذا كان التيمم عن حدث أصغر اكتفي بما هو معروف، أما إن كان عن حدث أكبر فلا بد من تعميم البدن كله بالتراب، كأنه قاس ذلك على هذا، فأخبره النبي صلى الله عليه وسلم بالصواب.
ومن فوائد حديث عمار : أنه لا ينبغي أن يلام الإنسان إذا اجتهد وبذل وسعه، ولا أن يعنف عليه؛ حيث إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يعنف عماراً وإنما قال: ( إنما يكفيك أن تقول بيدك هكذا )، ومثله ما حصل من غيره من الصحابة في مناسبات كثيرة، لعل منها ما حدث في بني قريظة حيث قال: ( من كان سامعاً مطيعاً فلا يصلين العصر إلا في بني قريظة )، فبعضهم صلى في الطريق، وبعضهم صلى في بني قريظة، ولم يعنف النبي صلى الله عليه وسلم أحداً منهم، فالإنسان إذا اجتهد وبذل وسعه لا يلام على ذلك.
ومن فوائده: أن المجتهدين إذا اختلفت اجتهاداتهم لا ينبغي أن يقاتل بعضهم بعضاً على مسائل فرعية، أو يبغضه في ذلك، أو يهجره، أو يذمه، كما يقع لكثير من الجهلة الذين لم يستنيروا بالفقه الصحيح، فتجد إذا خالفهم إنسان في مسألة فرعية صغرت أو كبرت أجلبوا عليه، ولاموه وعنفوا وسبوا وضللوا وبدعوا وفسقوا، وهذا من ضعف الفقه، ومن أين نأخذ هذه المسألة من حديث عمار؟
نأخذها من قصة عمر وعمار ؛ لأن عمر كان مع عمار في هذه الحادثة، ومعروف أن عمر لم يفعل ما فعله عمار بل لم يتيمم، ولم ينقل أن عمر عاتب عماراً أو لامه أثناء هذه السرية أو هذا الحاجة، ولا أن عمار أيضاً عاتب عمر، بل كل واحد منهما عذر الآخر فيما فعل، ولم يلمه أو يعاتبه.
ومن فوائد حديث عمار : أن الإنسان إذا اجتهد وبذل وسعه وصلى بحسب ما يستطيع في الوقت فلا إعادة عليه، فمن قال مثلاً: إنه إذا وجد الماء في الوقت فأعاد فلا دليل عليه، إنسان اجتهد وصلى بحسب ما يستطيع من حيث الوضوء والتيمم واستقبال القبلة وغير ذلك ثم صلى، فإنه لا إعادة عليه، هذا ظاهر حديث عمار.
ومنها أيضاً: أن الترتيب يسقط في التيمم عن الجنابة، وهذا يؤخذ من أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأمر عماراً بأن يعيد صلاته التي صلاها بالتيمم، مع أنه لم يراع الترتيب في ذلك.
وفي حديثه رضي الله عنه فوائد أخرى غير هذه.
سبحانك اللهم وبحمدك، نشهد أن لا إله إلا أنت، نستغفرك ونتوب إليك.
اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر