إسلام ويب

في رحاب رحمة الله الواسعةللشيخ : صالح بن حميد

  •  التفريغ النصي الكامل
  • آفاق رحمة الله الواسعة تفهم من قوله سبحانه: ( وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ ) فيسمع الإنسان هذا المفهوم فيسعى للرحمة وينشر أنوارها بين الخلق، وبينما هو كذلك إذ يستجلب الرحمة من الله لتمده رحمة الله برحمة خلقه، فيستجلبها بطاعة الله ورسوله، بإقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والرحمة بالعباد، وإحسان معاملة الخدم، وصلة الأرحام، ثم يقسو أحياناً على من يرحم؛ ليكون حزماً في رحمة مسداة، فيكون ممن شملهم قول الله: (وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِنَا يُؤْمِنُونَ).

    1.   

    حاجة الناس إلى الرحمة

    الحمد لله وسع كل شيء برحمته، وعمَّ كل حي بنعمته، لا إله إلا هو خضعت الخلائق لعظمته، سبحانه يسبح الرعد بحمده والملائكة من خيفته، أحمده سبحانه وأشكره على سوابغ آلائه وجلائل منِّته، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له في ربوبيته وألوهيته، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبد الله ورسوله، خيرته من بريته، ومصطفاه لرسالته، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وعترته، والتابعين ومن تبعهم بإحسانٍ وسار على نهجه وطريقته.

    أما بعــد:

    فأوصيكم -أيها الناس- ونفسي بتقوى الله عز وجل، فاتقوا الله رحمكم الله، واعتبروا بمن مضى من قبلكم، فقد عاجلهم ريب المنون، وجاءهم ما كانوا يوعدون .. هم السابقون وأنتم اللاحقون، سبقوكم بمضي الآجال، وأنتم على آثارهم تشد بكم الرحال .. أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ [الحج:46].

    أيها المسلمون: الناس في حاجة إلى كنف رحيم، ورعاية حانية، وبشاشة سمحة.

    هم بحاجة إلى ودٍ يسعهم، وحلمٍ لا يضيق بجهلهم، ولا ينفر من ضعفهم.

    في حاجة إلى قلبٍ كبير يمنحهم ويعطيهم، ولا يتطلع إلى ما في أيديهم، يحمل همومهم ولا يثقلهم بهمومه.

    إن تبلد الحس يهوي بالإنسان إلى منزلة بهيمية أو أحط، والإنسان بغير قلبٍ رحيم أشبه بالآلة الصماء، وهو بغير روحٍ ودود أشبه بالحجر الصلد.

    إن الإنسان لا يتميز في إنسانيته إلا بقلبه وروحه، لا في أكوام لحمه وعظامه، فبالروح والقلب يحس ويشعر، وينفعل ويتأثر، ويرحم ويتألم.

    الرحمة -أيها الإخوة في الله- كمالٌ في الطبيعة البشرية، تجعل المرء يرق لآلام الخلق، فيسعى لإزالتها كما يسعى في مواساتهم، كما يأسى لأخطائهم فيتمنى هدايتهم ويتلمس أعذارهم.

    الرحمة صورة من كمال الفطرة وجمال الخلق، تحمل صاحبها على البر، وتهب عليه في الأزمات نسيماً عليلاً تترطب معه الحياة وتأنس له الأفئدة.

    1.   

    سعة رحمة الله

    جاء في الحديث الصحيح: (جعل الله الرحمة مائة جزءاً، أنزل في الأرض جزءاً واحداً، فمن ذلك الجزء تتراحم الخلائق حتى ترفع الدابة حافرها عن ولدها خشية أن تصيبه ).

    وربنا سبحانه متصف بالرحمة صفةً لا تشبه صفات المخلوقين، فهو أرحم الراحمين، وخير الراحمين، وسعت رحمته كل شيء، وعم بها كل حي، وملائكة الرحمة وهي تدعو للمؤمنين أثنت على ربها وتقربت إليه بهذه الصفة العظيمة: رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ [غافر:7] وفي الحديث القدسي: (إن رحمتي تغلب غضبي ) مخرَّج في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وفي التنزيل الحكيم: وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ [المؤمنون:118]، فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظاً وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ [يوسف:64].

    وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: (قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم بسبي، فإذا امرأة من السبي تسعى قد تحلَّب ثديها، إذ وجدت صبياً في السبي أخذته فألزقته ببطنها فأرضعته، فقال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم: أترون هذه المرأة طارحة ولدها في النار؟ قلنا: لا والله وهي تقدر على ألاَّ تطرحه. قال: فالله تعالى أرحم بعباده من هذه بولدها ) أخرجه البخاري .

    رحمة الله سبب واصل بين الله وعباده

    أيها المسلمون: إن رحمة الله سببٌ واصل بين الله وعباده، بها أرسل رسله إليهم، وأنزل كتبه عليهم، وبها هداهم، وبها يسكنهم دار ثوابه، وبها يرزقهم ويعافيهم وينعم عليهم، فبينهم وبينه سبب العبودية، وبينهم وبينه سبب الرحمة: يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ * قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ [يونس:57-58].

    والرحمة تحصل للمؤمنين المهتدين بحسب هداهم؛ فكلما كان نصيب العبد من الهدى أتم كان حظه من الرحمة أوفر، فبرحمته سبحانه شرع لهم شرائع الأوامر والنواهي، بل برحمته جعل في الدنيا ما جعل من الأكدار حتى لا يركنوا إليها فيرغبوا عن نعيم الآخرة، وأرسل رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم بالرحمة؛ فهو نبي الرحمة للعالمين أجمعين: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّراً وَنَذِيراً [الإسراء:105] بعثه ربه فسكب في قلبه من العلم والحلم، وفي خلقه من الإيناس والبر، وفي طبعه من السهولة والرفق، وفي يده من السخاوة والنداء ما جعله أزكى عباد الرحمن رحمة، وأوسعهم عاطفة، وأرحبهم صدراً: فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ [آل عمران:159]، لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ [التوبة:128].

    عموم الرحمة للخلق كافة

    الإسلام رسالة خير وسلام ورحمة للبشرية كلها؛ دعا إلى التراحم، وجعل الرحمة من دلائل كمال الإيمان، فالمسلم يلقى الناس وفي قلبه عطف حنون، وبرٌ مكنون، يوسع لهم ويخفف عنهم ويواسيهم، فعن ابن مسعود رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: {لن تؤمنوا حتى تراحموا، قالوا: يا رسول الله! كلنا رحيم. قال: إنه ليس برحمة أحدكم صاحبه، ولكنها رحمة العامة } رواه الطبراني ورجاله ثقات.

    فليس المطلوب قصر الرحمة على من تعرف من قريبٍ أو صديق، ولكنها رحمة عامة تسع العامة كلهم، وأحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم تبرز هذا العموم في إفشاء الرحمة، والحث على انتشارها، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {لا يرحم الله من لا يرحم الناس } متفق عليه .. وفي الحديث الآخر: {من لا يرحم لا يرحم } يقول ابن بطال رحمه الله: في هذا الحديث الحض على استعمال الرحمة للخلق فيدخل المؤمن والكافر، والبهائم المملوك فيها وغير المملوك، ويدخل في الرحمة التعاهد بالإطعام، والمساعدة في الحمل، وترك التعدي بالضرب.

    مستجلبات رحمة الله

    عباد الله: ورحمة الله تستجلب بطاعته وطاعة رسوله محمدٍ صلى الله عليه وسلم، والاستقامة على أمر الإسلام: وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [آل عمران:132] كما تُستجلَب بتقوى الله: وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [الحجرات:10]، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [الحديد:28].

    ومن جالبات رحمة الله: إقام الصلاة وإيتاء الزكاة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [التوبة:71] والعبد بذنوبه وتقصيره فقير إلى رحمة الله: لَوْلا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [النمل:46].

    ومن أعظم ما تُستجلَب به رحمة الله عباد الله: الرحمة بعباده، ففي الحديث الصحيح: {الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء } رواه أبو داود والترمذي .

    ومن أجل هذا، فإن المؤمن قوي الإيمان، يتميز بقلبٍ حي مرهف لين رحيم، يرق للضعيف، ويألم للحزين، ويحنو على المسكين، ويمد يده إلى الملهوف، وينفر من الإيذاء، ويكره الجريمة، فهو مصدر خيرٍ وبرٍ وسلامٍ لما حوله ومن حوله.

    مواطن الرحمة

    أيها المسلمون: وإذا كان الأمر كذلك؛ فإن من أولى الناس وأحقهم بالرحمة وأولاهم بها الوالدين، فببرهما تُستجلَب الرحمة، وبالإحسان إليهما تكون السعادة: وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً [الإسراء:24].

    ثم من بعد ذلك الأولاد فلذات الأكباد، فعن أسامة بن زيد رضي الله عنه قال: {كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأخذني فيقعدني على فخذه، ويقعد الحسن على فخذه الأخرى، ثم يضمهما ثم يقول: اللهم ارحمهما فإني أرحمهما } أخرجه البخاري .

    والمشاهد أن في الناس أجلافاً تخلو قلوبهم من الرقة والحنو، في مسالكهم فظاظة، وفي ألفاظهم غلظة، فقد قبَّل رسول الله صلى الله عليه وسلم الحسن والحسين رضي الله عنهما وعنده الأقرع بن حابس ، فقال الأقرع : إن لي عشرة من الولد ما قبلت منهم أحداً، فنظر إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: {من لا يرحم لا يرحم } وفي رواية: {أوأملك أن نزع الله الرحمة من قلبك؟ } مخرَّج في الصحيحين من حديث عائشة وأبي هريرة رضي الله عنهما.

    ويرتبط بالوالدين والأولاد حق أولي الأرحام، فالرحم مشتقة من الرحمة في مبناها، فحريٌّ أن تستقيم معها في معناها، وفي الحديث: {الرحم شجنة من الرحمة، من وصلها وصله الله، ومن قطعها قطعه الله } فليس للمسلم أن يوصد قلبه وبيته دون أقاربه، أو يقطع علائقهم، فلا يسدي لهم عوناً، ولا يواسيهم في ألم، ولا يبادرهم في معروف.

    إن الغلظة والجفاء والقطيعة والصدود في حق ذوي الرحم تحرم العبد بركة الله وفضله، وتعرضه لسخط الله ومقته، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: {الرحم شجنة من الرحمة تقول: يا رب إني قُطعت، يا رب إني ظُلمت، يا رب إني أسيء إليَّ فيجيبها: ألا ترضين أن أصل من وصلك، وأن أقطع من قطعك } أخرجه أحمد .

    ومن مواطن الرحمة: إحسان معاملة الخدم والترفق بهم فيما يكلَّفون به من أعمال، والتجاوز عن هفواتهم، وليحذر المرء من سطوة التصرف، فيسخّرهم ويسخر منهم، فإن الله إذا ملّكَ أحداً شيئاً فاستبد به وأساء سلبه ما ملّك، ويخشى عليه من سوء المنقلب.

    يقول أنس بن مالك رضي الله عنه: {خدمت رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر سنين، فما قال لي أفٍ قط، وما قال لشيءٍ صنعته: لم صنعته؟ ولا لشيء تركته: لم تركته؟ } رواه مسلم ، وعن أبي مسعود البدري رضي الله عنه قال: {كنت أضرب غلاماً لي بالسوط، فسمعت صوتاً خلفي: اعلم أبا مسعود ، فلم أفهم الصوت من الغضب، فلما دنا فإذا هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإذا هو يقول: اعلم أبا مسعود أن الله أقدر عليك منك على هذا الغلام. فقلت: يا رسول الله! هو حر لوجه الله. فقال: أما لو لم تفعل للفحتك النار }، وجاءه عليه الصلاة والسلام رجل يسأله: كم أعفو عن الخادم؟ فقال صلى الله عليه وسلم: كل يومٍ سبعين مرة أخرجه أبو داود .

    وفي الناس أقوام شداد قساة ينتهزون ضعف الخدم؛ فيوقعون بهم ألوان الأذى، وقد شدد الإسلام في ذلك وغلظ، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: {من ضرب سوطاً ظلماً اقتص منه يوم القيامة }.

    وممن تتطلب حالتهم الرحمة: المرضى، وذوو العاهات والإعاقات وهم يعيشون في الحياة بوسائل منقوصة تعوق مسيرهم، وتحول دون تحقيق كل مقاصدهم، وتضيق بها صدورهم، وتحرج نفوسهم، فلقد قيدتهم عللهم، واجتمع عليهم حر الداء مع مر الدواء، فيجب الترفق بهم، والحذر من الإساءة إليهم، أو الاستهانة بمتطلبات راحتهم، فإن القسوة معهم جرمٌ عظيم: لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ [النور:61].

    أما الصغار والأطفال فإنهم محتاجون إلى عناية خاصة، ورحمة راحمة، ،فليس منَّا من لم يوقر كبيرنا، ويرحم صغيرنا، وللنفوس ذات الفطر السليمة تعلق بالصغير حتى يكبر، وبالمريض حتى يُشفى، وبالغائب حتى يحضر، وفي الحديث: {ليس منا من لم يرحم صغيرنا ويعرف شرف كبيرنا } أخرجه أحمد والترمذي ، وقال الترمذي : حديث حسن صحيح.

    امتداد الرحمة إلى كل شيء

    أيها الإخوة المسلمون: وتعاليم الإسلام وآداب الدين في هذا الباب تتجاوز الإنسان الناطق إلى الحيوان الأعجم، فجنات عدن تفتح أبوابها لامرأة بغيٍّ سقت كلباً فغفر الله لها، ونار جهنَّمٍ فَتَحت أبوابها لامرأة حَبَست هرة حتى ماتت، لا هي أطعمتها وسقتها، ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض .. فإذا كانت الرحمة بكلبٍ تغفر ذنوب البرايا؛ فإن الرحمة بالبشر تصنع العجائب، وفي المقابل فإذا كان حَبسُ هرة أوجب النار، فكيف بحبس البرآء من البشر.

    وتترقى تعاليم ديننا في الرحمة بالبهائم حتى في حال ذبحها والمشروع من قتلها .. يقول عليه الصلاة والسلام: {إن الله كتب الإحسان على كل شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة، وليحدَّ أحدكم شفرته، وليُرح ذبيحته }.

    وبعد -أيها الناس- فبالرحمة تجتمع القلوب، وبالرفق تتألف النفوس، والقلب يتبلد مع اللهو الطويل والمرح الدائم، لا يشعر بحاجة محتاج، ولا يحس بألم متألم، ولا يشاطر في بؤس بائس، ولا حزن محزون.

    جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم يشكو قسوة قلبه فقال له: {أتحب أن يلين قلبك؟ ارحم اليتيم، وامسح رأسه، وأطعمه من طعامك يلن قلبك } والرحمة لا تنزع إلا من شقي عياذاً الله.

    أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيّاً وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ [الزخرف:32].

    نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم، وبهدي محمدٍ صلى الله عليه وسلم، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنبٍ وخطيئة، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

    1.   

    الرحمة خُلُق يرعى الحقوق كلها

    الحمد لله يعلم مكنونات الصدور ومخفيات الضمائر، أحمده سبحانه وأشكره على ما أولى من وافر النعم والفضل المتكاثر، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، هو الأول والآخر والباطن والظاهر، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبد الله ورسوله المطهر الطاهر كريم الأصل زكي المنافذ، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه أولي الفضائل والمفاخر، والتابعين ومن تبعهم بإحسان ومن على درب الحق سائر.

    أما بعــد:

    فيا عباد الله: إن الرحمة ليست حناناً لا عقل معه، وليست شفقة تتنكر للعدل والنظام. كلا! بل إنها خُلُق يرعى الحقوق كلها، فقد تأخذ الرحمة صورة الحزم حين يُؤخذ الصغير إلى المدرسة من أجل التربية وطلب العلم، فيلزم بذلك إلزاماً، ويكف عن اللعب كفاً، ولو تُرِكوا وما أرادوا لم يُحسنوا صنعاً ولم يبنوا مجداً، والطبيب يُمزق اللحم ويَهشم العظم ويبتر العضو؛ وما فعل ذلك -أحسن الله إليه- إلا رحمة بالمريض وعلاجه، ناهيكم بإقامة الحدود والأخذ على أيدي السفهاء وأطرهم على الحق أطراً، فهي الرحمة في مآلاتها، والحياة في كمالاتها: وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة:179].

    والشفقة على المجرمين تظهر أشد أنواع القسوة على الجماعة، إنها تشجع الشواذ على الإجرام. والشفقة على المجرمين سماها القرآن رأفة ولم يسمها رحمة، فقال في عقاب الزناة والزواني: وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ [النور:2]، إن القسوة التي استنكرها الإسلام جفاف في النفس لا ترتبط بتحقيق عدل، ولا بمسلك صعب، ولكنها شدة وانحراف في دائرة مجردة وهوىً مضل.

    أيها المسلمون: وقد يستوقف المتأمل معنى الشدة على الكافرين في مقابل الرحمة بالمؤمنين في قول الله عز وجل: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ [الفتح:29] والحق أن الإسلام قد جاء بالرحمة العامة لا يستثنى منها إنسانٌ، ولا دابة، ولا طير، بيد أن هناك من الناس والدواب من يكون مصدر خطرٍ ومسار رعبٍ، فيكون من رعاية مصلحة الجماعة كلها أن يحبس شره، ويكف ضرره، بل إن الشدة معه رحمة به وبغيره، فالإسلام رسالة خيرٍ وسلام، ورحمة للبشرية كلها بل للدنيا كلها، ولكن ذئاب البشر أبوا إلا اعتراض الرحمة المرسلة ووضع العوائق في طريقها؛ حتى لا تصل إلى الناس فيهلكوا في أودية الحيرات والجهالات، فلم يكُ بد من إزالة هذه العوائق والإغلاظ لأصحابها، ويوم ينقطع تعرضهم وتحديهم تشملهم هذه الرحمة العامة، فليس في الرحمة قصور، ولكنَّ القصور في من حرم نفسه متنزلاتها، اقرءوا قول الله عز وجل: وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآياتِنَا يُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ [الأعراف:156-157].

    ألا فاتقوا الله رحمكم الله، وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر وتواصوا بالمرحمة.

    ثم صلوا وسلموا على نبيكم نبي الرحمة المهداة، والنعمة المسداة محمد رسول الله، فقد أمركم بذلك ربكم جلَّ في علاه فقال في محكم تنزيله، وهو الصادق في قيله قولاً كريماً: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً [الأحزاب:56].

    اللهم صلِّ وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد وعلى آله الطيبين الطاهرين، وعلى أزواجه أمهات المؤمنين، وارض اللهم عن الخلفاء الأربعة الراشدين: أبي بكر ، وعمر ، وعثمان ، وعلي ، وعن بقية الصحابة أجمعين، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنَّا معهم بعفوك وإحسانك يا أكرم الأكرمين!

    اللهم أعزَ الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، واحم حوزة الدين، واخذل الطغاة والملاحدة وسائر أعداء الملة والدين.

    اللهم آمنا في أوطاننا، واحفظ أئمتنا وولاة أمورنا، وأيدَّ بالحق والتوفيق والتأييد والتسديد إمامنا وولي أمرنا، ووفقه لما تحب وترضى، وارزقه البطانة الصالحة، وأعلِ به كلمتك، وأعز به دينك، واجعله نصرة للإسلام والمسلمين، وألبسه لباس الصحة والعافية، واجمع به كلمة المسلمين على الحق يا رب العالمين!

    اللهم وفق ولاة أمور المسلمين للعمل بكتابك وبسنة نبيك محمدٍ صلى الله عليه وسلم، واجعلهم رحمة لعبادك المؤمنين، واجمع كلمتهم على الحق والهدى يا رب العالمين!

    اللهم وأبرم لأمة الإسلام أمر رشدٍ يعز فيه أهل طاعتك، ويذل فيه أهل معصيتك، ويؤمر فيه بالمعروف وينهى فيه عن المنكر، إنك على كل شيءٍ قدير.

    اللهم انصر المجاهدين الذين يجاهدون في سبيلك في كل مكان، اللهم انصرهم في فلسطين ، وفي كشمير ، وفي الشيشان ، اللهم سدد سهامهم وآراءهم، وقوِّ عزائمهم، وأمدهم بنصرٍ من عندك يا قوي يا عزيز!

    اللهم إن هؤلاء اليهود المحتلين الغاصبين قد بغوا وطغوا، وآذوا وأفسدوا، وقتلوا وشردوا، اللهم أرنا فيهم عجائب قدرتك، اللهم فرق جمعهم، وشتت شملهم، واجعل بأسهم بينهم، اللهم عليك بهم فإنهم لا يعجزونك، اللهم واجعل الدائرة عليهم يا ذا الجلال والإكرام!

    اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات، والمسلمين والمسلمات، الأحياء منهم والأموات، اللهم ارفع عنا الغلاء والوباء والربا والزنا والزلازل والمحن، وسوء الفتن ما ظهر منها وما بطن، عن بلادنا وعن سائر بلاد المسلمين يا رب العالمين!

    اللهم أحسن عاقبتنا في الأمور كلها، وأجرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة.

    ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين.

    ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.

    عباد الله: إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى، وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي؛ يعظكم لعلكم تذكرون، فاذكروا الله يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756303594