إسلام ويب

تفسير سورة القدرللشيخ : أبوبكر الجزائري

  •  التفريغ النصي الكامل
  • اصطفى الله سبحانه ليلة من أواخر شهر رمضان وجعلها خيراً من ألف شهر، وفيها أنزل القرآن إلى السماء الدنيا، وفيها تنزل الملائكة بمن فيهم جبريل بإذن ربهم، وجعلها ليلة أمن واطمئنان وسلام، والموفق من وفقه الله.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (إنا أنزلناه في ليلة القدر)

    الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.

    أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.

    أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إن سورتنا الليلة لسورة مباركة ميمونة، إنها سورة القدر، والسورة مدنية، ومرحباً بالمدنيات والمكيات، وآياتها خمس آيات.

    وتلاوتها بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم: إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ * لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ * تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ * سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ [القدر:1-5].

    معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! المقصود بالضمير في قوله: (إِنَّا)، هو رب العزة والجلال.

    (إِنَّا): الله جل جلاله وعظم سلطانه.

    والضمير المعمول: (أَنزَلْنَاهُ)، يعود إلى القرآن العظيم، إلى الكتاب الكريم، إلى هذا النور الإلهي الذي نعيش عليه.

    إِنَّا أَنزَلْنَاهُ [القدر:1] أي: القرآن، فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ [القدر:1]. وكما صح عن الحبر عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: أن هذا النزول للقرآن كان في ليلة القدر من شهر رمضان، وكان نزوله كاملاً من اللوح المحفوظ إلى بيت العزة في السماء الدنيا، وقد علمنا القرآن العظيم من سورة البروج أنه موجود في اللوح المحفوظ: بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ * فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ [البروج:21-22]، ثم لما دخل شهر رمضان المبارك المعظم أنزل الله تعالى القرآن من اللوح المحفوظ إلى بيت العزة في السماء الدنيا، كما في سورة البقرة يقول تعالى: شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ [البقرة:185]، أي: أنزل من اللوح المحفوظ إلى بيت العزة في السماء الدنيا.

    إذاً: ثم بعد ذلك أخذ القرآن ينزل آية فآية وسورة فأخرى خلال ثلاث وعشرين سنة إلى آخر ما نزل وهو قول الله تعالى: وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ [البقرة:281]، من آخر سورة البقرة، آخر ما نزل هذه الآية، وآية: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا [المائدة:3] من أخريات ما نزل، ولكن نزلت في مكة.. في عرفات.. في الحج.. وعاش بعدها الرسول المحرم وصفر ثم التحق بالرفيق الأعلى.

    وسورة النصر: إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا [النصر:1-2] كذلك من آخر ما نزل، ولكن ليست في الأيام الأخيرة.

    قال تعالى: إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ [القدر:1] ما ليلة القدر؟ ليلة القدر: أولاً: الليلة التي يتم فيها تقدير الأمور والحكم والقضاء فيها، إذ في ليلة القدر يكتب فيها أحداث السنة التي تتم على سطح هذه الأرض، تلك الأحداث تؤخذ من اللوح المحفوظ، ويعرف أهلها وتنفذ خلال السنة، حتى يكتب أن المرء سيتزوج ويلد ويموت في تلك السنة، يتزوج وينجب ويموت في تلك السنة؛ إذ قضي بذلك وقدر، فأحداث السنة التي تتم تؤخذ من اللوح المحفوظ في هذه الليلة، ثم تنفذ حسب علم الله تعالى وتدبيره وحكمته، لذا سميت بليلة القدر. وشأنها عظيم، وحسبنا أن يقول العظيم فيها: وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ [القدر:2] أي: من يعلمك بعظمها وشأنها العظيم؟!

    هذه الليلة -ليلة القدر- جاء في فاتحة سورة الدخان ذكرها؛ إذ قال تعالى: حم * وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ * إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ [الدخان:1-3]، ما هذه الليلة المباركة؟ إنها ليلة القدر، فإنها ليلة القضاء والأحكام الإلهية إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ * فِيهَا [الدخان:3-4] أي: في هذه الليلة، يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ * أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ * رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [الدخان:4-6].

    ليلة القدر هي ليلة من ليالي شهر رمضان

    ومن هنا قال العالمون والعارفون: هذه الليلة ليست هي ليلة النصف من شعبان، انزعوها من أذهانكم، اقتلعوها من قلوبكم، إنها ليلة القدر في رمضان، وليست ليلة النصف من شعبان، والعوام والذين لا رشد لهم يتعنترون ويريدون أن يثبتوا أنها ليلة النصف من شعبان، وأي داع لهذا؟

    ما دام لم يثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم خبر فكيف نقول برأينا ونناقض كلام الله؟

    الله يقول: شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ [البقرة:185]، ويقول: إِنَّا أَنزَلْنَاهُ [القدر:1] أي: القرآن؛ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ [القدر:1]، ويقول: إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ [الدخان:3].

    لم لا تكون هي ليلة القدر؟ لأن أصحاب الزرد يريدون ذلك.

    أو أنتم لا تعرفون الزرد، ومن يبحث أعرف أنه مغربي يعرف الزردة.

    ما هي الزردة؟ سافروا إلى المغرب في زيارات تجدون الزردة.

    الزردة: مفرد، والجمع: زرد، وهي موسم يقام لولي من الأولياء، كبدوي مصر، فيجتمعون ويأتون باللحوم يذبحون البقر والغنم، ويطبخون الطعام للنساء والرجال والصغار والكبار ويزدردونه.

    الازدراد معروف: ازدرد الطعام، كما في لغة القرآن، لكن أخذوا من ذلك الزردة مكان الازدراد، فيزدردون الطعام.

    إذاً: فالذين تعودوا على هذه الزرد لا يريدون أن يتركوا ليلة النصف من شعبان؛ لأن فيها الأكل والطعام والشاي والقصائد والمدائح، وأمتنا هبطت من علياء سمائها منذ أكثر من ثمانية قرون، فلا لوم.

    نزلنا من علياء السماء، كنا كالمصابيح التي تنير الكون فأصبحنا كالحشرات في الأرض!

    لا تغضبوا! أنا أشد حساسية وألماً منكم، ولكن الواقع هو هذا.

    ما الدليل؟ الدليل إعراض المسلمين عن كتاب ربهم وسنة نبيهم.

    أما أذلتهم حفنة من شذاذ الآفاق من اليهود وكسرت أنوفهم وحطمت كراماتهم؟ بلى.

    إذاً: لا تحزنوا.

    الشاهد عندنا: في هذه الليلة ليلة هي ليلة القدر التي قال فيها نبي الله صلى الله عليه وسلم: ( التمسوها -أي: اطلبوها- في العشر الأواخر من رمضان، أو في الوتر من العشر الأواخر من رمضان ). ولا مانع أن يكون لفظ القدر أيضاً: ذات الشأن العظيم والقدر الكبير، والقرآن حمال أوجه.

    إذاً: إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ [القدر:1] في هذا رد على الذين يزعمون أن الرسول صلى الله عليه وسلم ما أوحي إليه، ولا نزل عليه كتاب، وما يقوله إنما هو ينقله من أخبار الأولين ويقصه بعض الأشخاص كما رموا بذلك صهيباً وفلاناً وفلاناً.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (وما أدراك ما ليلة القدر * ليلة القدر خير من ألف شهر)

    ثم قال تعالى: وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ * لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ [القدر:2-3].

    قد يقول قائل: هذه مبالغة. فنقول: اتق الله يا عبد الله! أتدري من القائل؟ إنه الله.

    خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ [القدر:3] أي: خير من ثلاثة وثمانين عاماً وأربعة أشهر.

    وقال أهل العلم ونقلوا وصح النقل: أن النبي صلى الله عليه وسلم نظر إلى أعمار الأمم السابقة فوجد منهم من يعيش ألف سنة.. من يعيش ثمانمائة سنة.. خمسمائة سنة.. مائتي سنة.. مائة وخمسين، ونظر إلى أعمار هذه الأمة، فإذا هي ما بين الثمانين والستين في الغالب، فكأنما تقالّ أعمار أمته، والعمر القليل حصيلته طبعاً قليلة، فالذي يعيش ثلاثمائة عام كم يصوم فيها من شهر، كم وكم يذكر الله، وكم يتصدق، والذي يعيش خمسين سنة فإن حصيلته تكون محدودة.

    فلما تقالّ أعمار أمته، ولعله شعر بالألم أو الأسى أو الأسف أكرمه الله عز وجل ومسح دموعه -كما تقول العامة- وأعطاه ليلة القدر التي تعدل عمراً كاملاً، ثلاثة وثمانين سنة وأربعة أشهر، وليست ليلة واحدة، فالحمد لله! قد حصلنا عليها ستين مرة، واضرب ستين ليلة في ألف شهر يصير أكثر من عمر نوح.

    أقول هذا؛ لأن الذين يقومون رمضان مع الإمام لصلاة التراويح أو نظيرها لهم هذه الليلة، أحبوا أم كرهوا، بل مالك يروي في الموطأ: أن من حضر صلاة العشاء يأخذ نصيبه من ليلة القدر. وأنتم والحمد لله ما تركتم القيام والتراويح منذ بلغتم، هذا عمره خمسون وهذا ستون وهذا.. كم ليلة إذاً أخذتم؟ ليالي. والمحرومون من حرمهم الله، أصحاب المقاهي والملاهي محرومون، لكن الباب مفتوح فليتوبوا، العام المقبل يزحزحون أنفسهم عن المقاهي وينقلونها إلى المساجد.

    إذاً: لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ [القدر:3] أي: العبادة فيها من الصيام والصلاة وتلاوة القرآن والصدقات والذكر والتسبيح والدعاء في هذه الليلة يعدل ألف ليلة، ألف ليلة خارج ليلة القدر، خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ [القدر:3]. ما سمعت أحداً قال: الحمد لله، فالحمد لله.

    أيّ غفلة هذه؟ تبجحنا وقلنا: أدركناها خمسين مرة، وما قلنا: الحمد لله، ولولا فضل الله لا ندركها؟ لولا الله لا نشهد هذا المجلس؟ لولا الله لا نصوم ونقوم، فالمنة له سبحانه. إذاً: فالحمد لله ملء السماوات وملء الأرض.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (تنزل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم من كل أمر)

    قال تعالى: تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ [القدر:4] الأصل: تتنزل، وحذفت إحدى التاءين تخفيفاً؛ لييسر الله القرآن للذكر، لو قرأ: (تتنزل) فيها كلفة، فحذفت التاء الأولى فصارت: تنزل.

    تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ [القدر:4]، وكلمة (تَنَزَّلُ) أي: فوجاً بعد فوج، موكباً بعد موكب من غروب الشمس إلى طلوع الفجر.

    ما شأن هذه الملائكة في هذه الليلة؟

    إنها ليلة الاحتفال بذكرى نزول القرآن، ملائكة السماء تتنزل أفواجاً طوال الليل وتستغفر للمصلين، وتترحم على المؤمنين، وتبارك مجالسهم وأذكارهم وعباداتهم.

    من معاني الروح

    وفوق هذا الروح الأمين: وَالرُّوحُ [القدر:4].

    وقد عرفتم أن الروح روح الإنسان، قال تعالى: وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي [الإسراء:85].

    وعرفتم أن الروح هو القرآن، وهذا الذي نريد أن تذكروه وإن كنتم غير مبلغين، القرآن روح، بلغوا العالم بأن الحياة لن تكون إلا بالروح القرآني، ومن لم يؤمن بهذا القرآن ويتلوه ويعمل بما فيه ميت في عداد الموتى، ولا عجب ولا غرابة.

    هل تكون الحياة بدون روح؟ هل هناك عصفور أو دجاجة بغير روح؟

    هل يوجد حيوان حي بدون روح؟!

    الجواب: لا. إذاً: الآدمي إذا لم يؤمن بهذا القرآن ويتعلمه ويقرءه ويعمل بما فيه ميت.

    والروح هو جبريل عليه السلام، جبريل هو الذي تمثل لـمريم البتول، وقالت: إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنتَ تَقِيًّا [مريم:18]، كانت في عصر هبوط.

    إن كنت تقياً فأعوذ بالرحمن منك، وتقواك لله تصرفك عني ولا تؤذيني، لكن إذا كان فاجراً من فجار المقاهي والحشائش فالأمر يختلف. قالت: إِنْ كُنتَ تَقِيًّا * قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلامًا زَكِيًّا [مريم:18-19] وفي قراءة: (ليهب لك غلاماً زكياً).

    قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا [مريم:20]. البغي، أي: عاهرة، والعياذ بالله.

    قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ [مريم:21] ما هو شأني أنا ولا شأنك أنت، ربك قال: يكون، فنفخ في كم درعها، فسرت النفخة إلى جسمها، فكان عيسى في ساعة، ما شعرت إلا وقد دفعها المخاض إلى جذع النخلة فَحَمَلَتْهُ فَانتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا * فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ [مريم:22-23].

    إذاً: إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [آل عمران:59]، كذلك عيسى.

    إذاً: الروح جبريل، وتعرفون أنه المكلف بنبيكم، لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج الشيخان، رجلا الدولة: أبو بكر وعمر رضي الله عنهما وعمن ترضى عنهما، ولعن من لعنهما إلى يوم الدين، وإن غضبت يا ابن عمي! اسأل أعلمك، لعلك مغرور مخدوع ضللوك، فأنا أعلمك: أن الشيخين: أبا بكر وعمر ، أفضل من على هذه الأرض ممن بعدهم.

    إذاً: خرجا يزوران بركة أم أيمن مولاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، يزوران عجوزاً كان الرسول يكرمها، فلما دخلا عليها بكت وبكيا. قالت: ذكرت انقطاع الوحي الذي كان ينزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ما أصبح جبريل يتردد علينا كما كان يتردد على رسول الله أيام حياته.

    فضل مجالس الذكر

    الروح ينزل في ليلة القدر، ولا مانع، الآن نزلت الملائكة علينا ولا ندري كم عددها، ولكني أعلم أنهم يطوفون بالحلقة ويحفونها، والله الذي لا إله غيره! إذ قال عليه الصلاة والسلام: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله، يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم ) كحالنا.. كشأننا ( إلا نزلت عليهم السكينة ). اسمع! فهل تسمع ضجيجاً.. صوتاً.. كلاماً.. ضحكاً؟ من فعل بنا هذا؟ الله. إنها السكينة ( وغشيتهم الرحمة ) لا عذاب عندنا أبداً ( وحفتهم الملائكة ) أحاطت بهم ودارت احتفاءً، ويسمعون الذكر ( وذكرهم الله فيمن عنده ) هذه الجائزة التي لا تعادلها جائزة، وإن كنا عنها غافلين.

    من نحن وما نحن حتى يتحدث الله بنا وعنا في الملكوت الأعلى؟!

    لو أردنا أن نأخذ هذا بالمال وأنفقنا ما على الأرض ما نظفر به، والآن فزنا به، الله يباهي بنا الملائكة: انظر إلى عبيدي في بيتي يتلون كتابي ويتدارسونه بينهم، ماذا يريدون؟ يريدون الجنة والنجاة من النار.

    قال بعض الملائكة: يا رب! إن بينهم من ليس منهم، جاء لحاجة، يريد من عدنان كذا.. قال: وإن كان ( هم القوم لا يشقى بهم جليسهم ) هذه جائزة أخرى، ولو جئت للدنيا تأخذ مع الآخذين.

    تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا [القدر:4] أي: في تلك الليلة.

    بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ [القدر:4] أولاً: إذا لم يأذن الله لملك لا يتحرك، ولو لم يأذن الله للملائكة لم تنزل، ولو لم يأذن للروح ما ينزل.

    إذاً: بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ [القدر:4] لك أن تقول: بكل أمر، وقد قدمنا أن أحداث العام كلها تتم في هذه الليلة، وتحرر وتعلم وتنفذ حسب إرادة الله ومن وكل إليهم تنفيذها.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (سلام هي حتى مطلع الفجر)

    قال تعالى: سَلامٌ هِيَ [القدر:5] لو قال: هي سلام، لكن: سَلامٌ هِيَ [القدر:5]، هذا تعجيل البشرى.. قدم الخبر، مثل: حي أخوك. أنت كنت تظن أنه مات. فلو قال: أخوك حي؟ بعدت المسافة. ولكن: حي أخوك.

    سَلامٌ هِيَ [القدر:5] هي سلام، ولكن سلام بشرى عاجلة، سلام. والسلام الأمان، السلام النجاة من المخوف والمرعوب، ما في تلك الليلة أذى للراكعين والساجدين والعابدين من أولياء الله.

    حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ [القدر:5] من غروب الشمس إلى طلوع الفجر، فإذا طلع الفجر عرجت الملائكة، انتهت الحفلة وموعدكم رمضان المقبل، فلهذا كان عليه الصلاة والسلام يخطب أول يوم من رمضان ويقول: أبشروا، جاءكم شهر رمضان المبارك، فيه تصفد الشياطين، وفيه كذا.. وفيه ليلة خير من ألف شهر.

    1.   

    تحديد ليلة القدر والاختلاف الوارد في ذلك

    في هذه الليلة اختلف أهل العلم في ضبطها وتحديدها، وأول ما يقال: هل توجد في غير رمضان؟

    الذي عليه أكثر أهل العلم أنها لا تكون إلا في رمضان، وهذا الذي ينبغي أن نعتقده، ولا نلتفت إلى كل خلاف.

    ثانياً: هل هي محصورة في العشر الأواخر أو يمكن أن تكون في رمضان؟

    من الجائز أن تكون في العشر الأول في عام من الأعوام، وتكون في العشر الوسط في عام آخر، وتكون في العشر الأواخر، فبالنسبة إلى النبي صلى الله عليه وسلم طلبها في العشر الوسط فقيل له: إنها أمامك. وفي العام المقبل طلبها في العشر الأواخر، وأراه الله إياها رؤيا، وتجلت كما هي، ثم قال لأصحابه: ( التمسوها في الوتر من العشر الأواخر ).

    تأملوا هذه الصيغة: ( اطلبوها في العشر الأواخر ). إذ هذا الغالب أنها في الوتر في العشر الأواخر، لكن من الجائز أن تكون بعد عشرين عام بعد مائة سنة تأتي في أول رمضان وفي آخره ووسطه، واعترافك بهذا ما يجعلك كالشحاذ ما تنقل الزنبيل إلا في آخر رمضان، بل تواصل صيامك واعتكافك وذكرك وعبادتك طول رمضان؛ لأن الجماعة -كما تعرفونهم- حصروها في السابع والعشرين، القضاة والرؤساء و.. و.. ما أعني بلدنا هذا، أعني بلادنا الأخرى، الوزراء ورجال الدولة يحتفلون بليلة القدر في المسجد الجامع في ليلة سبع وعشرين، البقلاوة والحلوى والشاي والقصائد.. فزنا بليلة القدر.

    من أين لهم هذا؟ كيف يتم هذا؟ رمضان كاملاً لا تقومونه، ولا تجتهدون في العبادة، ولا ولا.. فقط ليلة سبع وعشرين؟ هذا خطأ.

    قد يقول لك العالم: ليس هناك شيء على الأقل ليلة، فاتركهم على الأقل يحضرون ليلة أفضل ممن لا يحضرون أبداً، لكن ما ينفع هذا.

    وعندنا مثال حي وهو: خمس أصابع، هل تعرفون خمس أصابع؟ إذا خاف الرجل من معيان من إخوانه، قال له: خمسة في عينيك. أي: خمسة أصابع.

    والقضية أن إبليس -عليه لعائن الله- قال لهم: احتفلوا بسبع وعشرين؛ حتى يحرمهم من قيام رمضان، وهو الذي علم الناس خمسة، والسبب: أن الله تعالى أنزل سورة الفلق ذات خمس آيات، ونزلت من أجل الدفع بها في عين الحسود وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ [الفلق:5] ما تعوذ متعوذ بخير من الفلق والناس، فكان المؤمنون في الزمن الأول إذا رأى من يؤثر بعينه، وهم معروفون عندنا في القرية، أهل القرى يعرفون هذا، عندنا شخصان في القرية إياك أن تمر بغنمك وإلا بكذا أمامه، تبيت في المقبرة. عجب!

    إذاً: فإذا واجهته اقرأ الخمس الآيات: قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ [الفلق:1] يدفع الله به عنك، أصبح المسلمون يقرءون هذه السورة ويتبركون بها ويدفعون بها عيون الحسدة، ومضى قرن أو أكثر أو أقل تعبوا، وبدل ما يقرأ: قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ * مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ [الفلق:1-2] يقول: خمسة. أي: خمس آيات في عينيك، فآيات سورة الفلق خمس، ومضى قرن.. قرنان ونسوا أنها الآيات وفهموا أنها الأصابع في عينيك، ومضى قرن وأفلسوا، يتعب يرفع يديه ويشير بها، ارسمها فقط في الورقة، اجعلها على باب الدار، باب البستان، والآن أنتم تجعلونها في السيارة وقد رأيتموها في مؤخرة السيارة أو في مقدمتها.. خمس أصابع، بدل ما ترفع يديك تعب هذا، خلها هي مرسومة فقط.. فانظر! من القراءة إلى رفع اليد إلى الصورة.

    من فعل بنا هذا؟ أبو مرة، عدو أبينا وأمنا، الذي صيرنا لاجئين في الأرض.

    إذاً: هو الذي جعلهم يحتفلون بليلة القدر ليلة السابع والعشرين، ولا يحضرون صلاة العشاء ولا التراويح طول رمضان.

    إذاً: هذه الليلة تلتمس، تطلب، وكان الحبيب صلى الله عليه وسلم إذا دخلت العشر الأواخر شد مئزره، وأيقظ أهله، وأصبح لا ينام، واعتكف، واعتكفت نساؤه عدة مرات، لأنها فرصة ذهبية لا تعوض، ومن تأمل السورة وقرأها وفهم هش لذلك ورغب إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ [القدر:1] ما هذا الذي أنزله؟ القرآن العظيم وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ * لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ * تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ * سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ [القدر:2-5].

    هذا والله تعالى أسأل أن ينفعنا دائماً وإياكم بما نقرأ ونقول ونسمع.

    مواد ذات صلة

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718659

    عدد مرات الحفظ

    755797317