ثم قال تعالى: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ [الشورى:33] إن في هذه الآيات الدالة على علم الله وقدرته وألوهيته وربوبيته، هذه السفن التي على البحار كالجبال العالية تسكن إذا انتهى الريح وتتحرك إذا عصفت العواصف، في هذا آيات لمن؟ أللكافرين المشركين الهابطين الذين ما يشاهدون شيئاً وهم عميان؟ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ [الشورى:33] من هو الصبّار؟ كثير الصبر، ما يجزع ولا يغضب ولا يسخط على الله أبداً، سواء أمرضه، أفقره، أعزه، أذله، ابتلاه، لا يعرف الجزع أبداً ولا الغضب، فهو دائماً صبّار.

ثانياً: شكور، كثير الشكر لا ينتهي شكره أبداً، ما ينزل به من بلاء إلا وهو يقول في قلبه ولسانه: الحمد لله.. الحمد لله، وما من نعمة تخطر بقلبه إلا قال: الشكر لله.. الشكر لله.. الشكر لله.

فقوله تعالى: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ [الشورى:33]، فالجزعون الساخطون الكافرون الملحدون ما يشاهدون هذه الآيات ولا يعرفونها أبداً، يأكل كالبهيمة وما يقول: من أين هذا الطعام؟ من أين هذا الشراب؟ من أوجدني؟ كيف نمضغ؟ كالبهائم.

وأرباب العقول، أرباب النهى، أرباب البصائر العارفون بربهم حين ينظر أحدهم النظرة يعرف أنها بالله، لولا الله ما نظر ولا استطاع أن ينظر، لولا الله ما مشى خطوة واحدة، لولا الله ما وجد ولا كان أبداً في الكون.

فلهذا أدعو الصالحين والصالحات إلى الاتصاف بهاتين الصفتين: الأولى: الصبر، فما نجزع ولا نسخط ولا نغضب على ربنا، يبتلينا بما شاء فنصبر لذلك صبراً أبدياً، لا جزع ولا غضب ولا سخط، تقول له: كيف حالك؟ فيقول: الحمد لله، كيف أنت؟ الحمد لله، دائماً وأبداً.

والصبر على عبادة الله، ما نتخلى عن نافلة نتنفلها، عن فريضة نؤديها، عن واجب نقوم به، عن إحسان نعمله، نصبر على ذلك حتى نلقى الله عز وجل.

والشكر أولاً: أن تعرف النعمة بقلبك، من أنعم بهذه النعمة؟ الله، ثم قل بلسانك: الحمد لله. والنعم -معشر الأبناء- ما أكثرها: (( وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا ))[إبراهيم:34]، إي والله، لو نعد نعم الله علينا فما نقدر على إحصائها أبداً، نظرة بعينك نعمة، فكيف نظرت؟ سمعت بأذنك كلمة، فكيف سمعت؟ وهكذا تنفسك كيف تنفست؟ (( وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا ))[إبراهيم:34]. وقد تقول: كيف الشكر؟ فاعلموا أن الشكر أولاً: الاعتراف بالنعمة لله بالقلب، أن تعترف بقلبك أن هذه نعمة الله علي، سواء كان سمعك أو بصرك، لسانك، طعامك، شرابك، مركوبك، امرأتك، أولادك، تقول في قلبك: هذه نعمة الله علي، هذه الخطوة الأولى: الاعتراف بالنعمة، ما نعيش كالبهائم ما نفرق وما نقول: من أين؟ ولا لماذا؟ فنحن أحياء والكافرون أموات، نحن بصراء والكافرون عميان، نحن مهتدون والكافرين ضلال، والحمد لله على نعمة الإسلام. فالخطوة الأولى: الاعتراف بالقلب، فأظافرك إذا أنت أخذتها تقول: هذه نعمة الله علي، أعانني ووفقني فأزلت أظافري، فالاعتراف بالقلب بأن هذه نعمة الله علي. ثانياً: حمد الله عز وجل على تلك النعمة بكلمة: الحمد لله.. الحمد لله.. الحمد لله، أكلنا فقلنا: الحمد لله، شربنا فقلنا: الحمد لله، ركبنا فقلنا: الحمد لله، نزلنا فقلنا: الحمد لله، شفينا من مرض فقلنا: الحمد لله، لا يفارق ألسنتنا حمد الله، فهل في هذا صعوبة؟ فالغافلون الهابطون الماديون أعداء الله ما يعرفون هذا أبداً، فهم كالبهائم، بل هم شر من البهائم. واسمع قول الله فيهم: (( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُوْلَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ ))[البينة:6] ما البرية؟ الخليقة، المبروءة المخلوقة، والله هو البارئ الخالق، فمن شر البرية؟ من شر الخليقة؟ اليهود والنصارى والمشركون والكافرون من علمانيين وشيوعيين وغيرهم، والله! إنهم لشر الخلق، وإن كذبت هذا كفرت، فهذا خالقهم يقول: هم شر الخلق، وأنت تقول: لا؟ أيخلقك ربك ويرزقك، ويهبك سمعك وبصرك، ويرسل إليك رسوله وينزل عليك كتابه ثم لا تعرفه ولا تعبده ولا تسأل عنه ولا تؤمن به؟! لو كان عندك في بيتك إنسان تطعمه، تسقيه، تكسوه، تحفظه، ترعاه من أي مصيبة تصيبه معك في البيت، ثم لا يقول في يوم من الأيام: جزاك الله خيراً، أترضى عن هذا المخلوق؟ هذا شر الخلق، ولا تنظر حتى في وجهه. إذاً: الخطوة الثالثة للشكر: أن تصرف النعمة فيما من أجله أنعم الله بها عليك، فهيا نبدأ بالجوارح: فهذا البصر أنعم الله به علينا، فلا يحل لي أن أنظر إلى امرأة أجنبية متعمداً النظر إليها قط، وإلا كفرت هذه النعمة. هذه الأذن السماعة من وهبنيها؟ من أعطانيها؟ أليس الله؟ لم وهبنيها؟ لنسمع الحق والخير ولا نسمع الباطل والشر، فكل ما يكرهه الله ما نسمعه أبداً؛ شكراً لهذه النعمة نعمة الأذن. وهذا اللسان من أكبر النعم وأجلها، تنطق وتفصح وتطلب حاجاتك وتبين آلامك، هذا اللسان يجب ألا تنطق به إلا في رضا الله، أما فيما يغضب الله ويسخط عليك فلا، فلا تكذب ولا تنطق ولا تسب ولا تشتم بلسانك؛ إذ هو نعمة الله عليك، فاصرفها حيث يشاء الله ويحب الله. ويدك لا تتناول بها، ولا تأخذ ولا تعطي إلا ما أذن الله لك بأخذه أو إعطائه، ورجلك لا تمش بها خطوة إلا في رضا الله، لا تمش خطوة إلى مزناة أو مخمرة أو فساد أبداً، لا تمش إلا في مرضات الله عز وجل. والمال من النعم الظاهرة، فيا من أعطاه الله مالاً! لا يحل لك أن تنفقه في معصية الله، وإلا كنت كافراً للنعمة غير شاكر لها. يا من آتاه الله طعاماً أو شراباً أو كساء أو مركوباً أو مالاً! أنفقه حيث أذن الله لك فيه، فالذي ينفق ذاك الدينار أو الدرهم الذي وهبه الله في معصية الله كفر النعمة، وما شكر الله عليها. فنواصل الصبر ليلاً ونهاراً طول العمر، وكذلك الشكر حتى نوصف إن شاء الله بأننا من الصبّارين الشكورين. هكذا يقول تعالى، فمن هم الذين يتعظون وينتفعون بالكائنات وبالموجودات حتى بالسفينة في البحر؟ من هم؟ أهل الصبر والشكر، أما الأموات فكالأبقار والحيوانات ما يعرفون شيئاً، يركب الطائرة فما يقول: الحمد لله، ولا سبحان الله، ولا سبحان الذي سخر لنا هذا، بل يشربون الخمر ويغنون في الطائرة! أتركب طائرة وما تقول: الحمد لله، سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين وإنا إلى ربنا لمنقلبون، الله أكبر.. الله أكبر؟ إننا ما نركب السيارة إلا ونحن نسبح الله ونذكر حتى ننزل، لا نغني ونسمع الأغاني والأباطيل.

والعجيب أن جهال المسلمين -وما أكثرهم، ويا للعجب- إذا أصيب أحدهم بمصيبة قال: يا سيدي فلان، يا فلان، يا كذا.. يا رجال البلاد.

وعندنا لطيفة للشيخ رشيد رضا تغمده الله برحمته في تفسير المنار، قال: كان شيخه محمد عبده في سفينة حجاج تأخذ الحجاج من الموانئ، قال: وجاءت عواصف وتحركت السفينة واضطربت في ذلك الوقت، فأخذ الحجاج يقولون: يا رسول الله.. يا فاطمة ، يا حسين ، يا مولاي إدريس يا سيدي فلان، وكان هناك رجل قائم وحده، فرفع يديه وقال: يا رب! أهلكهم فإنهم ما عرفوك! كيف يدعون عبد القادر وفلاناً وينسون الله؟! والمشركون الكافرون أخبر تعالى عنهم أنهم يدعون الله مخلصين له الدين في حال الشدة والخوف، والمسلمون يدعون الأموات من عباد الله!

إذا كنت مع سائق سيارة إلى جنبه، ومالت السيارة تسمعه يقول: يا رسول الله .. يا رسول الله! فهل يجوز هذا؟ هل يستطيع رسول الله أن يمد يده إليك؟ من هو الذي ينقذك؟ من الذي ينجيك؟ ننسى الله رب العالمين الذي بيده كل شيء وهو على كل شيء قدير، وهو معنا أين ما كنا، ونقول: يا رسول الله! أين رسول الله وبينك وبينه عشرة آلاف كيلو؟

ومعنى هذا يا أبناء الإسلام أن الجهل وظلمته هما اللذان هبطا بنا هذا الهبوط، فكيف النجاة؟

نعود إلى كتاب الله وهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم في صدق، والطريقة التي نكرر القول فيها: يا أهل القرية! يا أهل الحي في المدينة! اجتمعوا بنسائكم وأطفالكم ورجالكم كل ليلة، صلوا المغرب في بيت ربكم واجلسوا ساعة تتعلمون كتاب الله وسنة رسوله، وذلك طول العام، طول الحياة، بدون هذا الطريق والله! لن يسود العلم ولن ينتشر أبداً، وإن ساد علم فهو علم مادي للوظيفة والعمل ليس لله تعالى، هذا العلم الذي كان الرسول صلى الله عليه وسلم يعلمه.

فإذا دقت الساعة السادسة فأغلق دكانك يا صاحب الدكان، الق مسحاتك يا فلاح، أغلق باب مقهاك، وتوضئوا بسرعة واذهبوا إلى بيت ربكم في قريتكم أو في حيكم من أحياء المدينة، لا يتخلف رجل ولا امرأة إلا مريض أو ممرض، ويجلسون كجلوسنا هذا، فليلة آية وليلة حديث من أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم، فنحفظ ونعلم ونعمل، فما تمضي سنة إلا وأهل القرية كالملائكة، والله! لو سألوا الله أن يزيل الجبال لأزالها.

هذا الطريق أعرضوا عنه إعراضاً كاملاً، لفساد الجهل والكفر والفسق والفجور والعياذ بالله تعالى، ونشكو من الظلم والفساد، لا بد أن نعمل على إصلاح أنفسنا.

والآن مع هداية الآيات.

قال المؤلف غفر الله له ولكم ورحمه وإياكم والمؤمنين:

[ أولاً: مظاهر ربوبية الله وألوهيته على خلقه ].

من هداية هذه الآيات التي تدارسناها، أول هداية: مظاهر ربوبية الله وقدرته على الخلق، وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ [الروم:22]، وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِ فِي الْبَحْرِ [الشورى:32] هذه من الآيات -أي: العلامات- الدالة على وجود الله رباً وإلهاً لا رب غيره ولا إله سواه.

[ ثانياً: فضل الصبر والشكر وفضيلة الصابرين الشاكرين ].

ولقد دعوتكم معشر الأبناء أن تكونوا من الصابرين الشاكرين، ما نسخط على الله ولا نجزع أبداً، فإن كنت مريضاً، عاجزاً، جائعاً فقل: الحمد لله.. الحمد لله، هذا الصبر.

وإذا أنعم عليك بأية نعمة كخطوات تمشيها إلى المسجد، فقل بلسانك كلمة حق وخير، أو تصدق بدينار أو درهم إذا جاءتك يد من يطلب منك الصدقة، وهكذا تكون من الصابرين الشاكرين.

[ ثالثاً: تقرير قاعدة: ما من مصيبة إلا بذنب مع عفو الله عن كثير ].

من هداية هذه الآيات: تقرير قاعدة علمتموها، وهي: ما من مصيبة إلا بذنب، لا توجد مصيبة في قرية، في مدينة، في أمة، في فرد إلا بذنب ارتكبه، سواء علم ذلك أو جهله، ما من مصيبة إلا بذنب؛ لأن الله تعالى قال: وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ [الشورى:30].

[ رابعاً: عند معاينة العذاب يعرف الإنسان ربه ولا يعرف غيره ]، وهذه سنة الله، عند معاينة العذاب يعرف الإنسان ربه ولا يعرف غيره، لكن هذا متى؟ أيام كانوا مشركين كافرين، أما الآن فكما علمتم، يقول: يا سيدي فلان! يا فاطمة! يا حسين! يا رسول الله! كأنهم ما عرفوا الله أبداً، والمشركون إذا أصابتهم شدة يفزعون إلى الله فقط.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.