إسلام ويب

تفسير سورة يس (9)للشيخ : أبوبكر الجزائري

  •  التفريغ النصي الكامل
  • أهل الإيمان والتقوى هم الذين صدقوا رسل الله صلى الله عليهم وسلم وآزروهم ونصروهم، وآمنوا بما جاءوهم به من النور والهدى، فيجازيهم الله عز وجل بإيمانهم، ويرفع درجتهم عنده، ويدخلهم جنته، لهم فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، فينعم الله عليهم بنعمه، ويغيظ بذلك المجرمين والمكذبين، الذين كانوا في الدنيا يستكبرون، ومن عباد الله المؤمنين يسخرون.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (إن أصحاب الجنة اليوم في شغل فاكهون)

    الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.

    وها نحن ما زلنا مع سورة يس المكية، فهيا بنا نتدارس هذه الآيات المباركة ونتأمل ونتدبر معانيها، والله تعالى نسأل أن ينفعنا بما ندرس وما نسمع.

    بسم الله الرحمن الرحيم: إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ * هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلالٍ عَلَى الأَرَائِكِ مُتَّكِئُونَ * لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ * سَلامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ * وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ [يس:55-59].

    معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! قال ربنا جل ذكره: إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ [يس:55]، وهذا يكون بعد أن ينفخ إسرافيل النفخة التي يفيق فيها المصعوقون فإذا هم قيام ينظرون؛ إذ تقدم لنا قول ربنا عز وجل: وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ الأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنسِلُونَ * قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ * إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ [يس:51-53]، فها هم بين يدي الله محضرون لم يتخلف أحد، إنسهم وجنهم، مؤمنهم وكافرهم، صالحهم وفاسدهم.

    ثم يقول تعالى: فَالْيَوْمَ لا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَلا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ [يس:54]، فيؤمر بأصحاب النار يساقون إلى جهنم يلجونها؛ ليخلدوا فيها، فإن كانوا موحدين فخلودهم مؤقت ومحدد بزمن عند الله، ثم يخرجهم من النار وينبتون كما ينبت الزرع فيدخلون الجنة، وأما أهل الشرك والكفر فإن حياتهم في جهنم أبدية، وبقاءهم لا نهاية له في عالم الشقاء، وهو النار -والعياذ بالله تعالى-.

    قال تعالى: إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ [يس:55] وهم قطعاً المؤمنون الموحدون العاملون للصالحات، المبتعدون كل البعد عن الذنوب والآثام والموبقات، وهؤلاء هم أهل الجنة، وهم أصحابها لا يفارقونها أبداً ولا يخرجون منها، ولا يصابون فيها بمرض ولا هرم ولا كبر، ولا.. ولا..، كما هم أبد الآبدين، وسبحان الله رب العالمين الذي خلق هذه العوالم -كما تشاهدونها-، فخلق العالم العلوي الجنة، ويدخل أولياءه فيها ولا يمسهم سوء أبداً، فلا كرب ولا هم ولا حزن ولا مرض ولا موت، بل خالدين أبداً.

    إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ [يس:55] أي: أهلها الْيَوْمَ [يس:55] وهم في الجنة، فعندما أحضر الجبار عبيده في ساحة واحدة، قال لأهل الجنة: ادخلوا الجنة، ولأهل النار: ادخلوا النار، فسيقوا إلى جهنم، فأهل الجنة يعبرون الصراط كالبرق الخاطف، فيدخلون أبواب الجنة، وبعد دخولهم يكونون: فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ [يس:55]، والشغل لا يشغلهم عن الدنيا وما فيها، ولا يشغلهم عن التفكر فيمن مات ودخل النار، بل: فَاكِهُونَ [يس:55] متفكهون بأنواع الطعام والشراب، وروي عن كثيرين من السلف وصح عن أبي القاسم ما رواه مسلم : ( أنهم مشغولون بافتضاض العذارى الأبكار من الحور العين، يضم أحدهم الحوراء إلى صدره سبعين سنة لا يفقدها ولا تفقده )، فالحور العين كلهن أبكار عذارى ليس بينهن ثيب، فهم مشغولون بهن.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (هم وأزواجهم في ظلال على الأرائك متكئون)

    قال تعالى: هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ [يس:56] أي: من الحور العين فِي ظِلالٍ عَلَى الأَرَائِكِ مُتَّكِئُونَ [يس:56] إذ لا شمس في الجنة تحرق، والـ(ظلال): جمع ظل.

    عَلَى الأَرَائِكِ [يس:56] (الأرائك) جمع أريكة، وهي الأسرّة التي توضع عليها الحجلة، والحجلة هي قبة من حرير، ولذلك يقال للنساء: ربات الحجال.

    مُتَّكِئُونَ [يس:56] أي: يجلسون وينامون على هذه الأسرّة، وهم مسرورون فرحون بالنعيم الذي هم فيه، فلا يمرضون ولا يجوعون ولا يخافون ولا يكربون ولا يحزنون ولا يموتون، فاللهم! اجعلنا منهم.. اللهم! اجعلنا منهم، واحشرنا في زمرتهم، وارض عنا كما رضيت عنهم.

    إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ [يس:55]، أي: مشغولون بذلك النعيم لا يفكرون في آباء ولا أبناء ولا أصحاب ولا أحد كما في الدنيا، بل فاكهون متفكهون مسرورون فرحون بما يشاهدونه، وبما يأكلون ويشربون، وكذلك مشغولون بافتضاض العذارى الأبكار.

    هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ [يس:56] أي: الرجال الذكور وأزواجهم الحور العين، فزوجتك في الدنيا إن مت وهي تحتك ولم تتزوج بعدك ودخلتم الجنة تكون لك وتتحول إلى حوراء تساوي نساء الدنيا بكاملها، وهؤلاء الحور لو أطلت واحدة من الجنة لأطفأت ضوء النهار ونور الشمس، فنور وجهها أقوى من نور الشمس، وقد شاهد هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم في اليقظة لا في المنام، عندما عرج به إلى الملكوت الأعلى ودخل الجنة، وشاهد قصورها وحورها وأنهارها.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (لهم فيها فاكهة ولهم ما يدعون)

    وهذه أخبار الله تعالى عن أصحاب الجنة: إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ * هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلالٍ عَلَى الأَرَائِكِ مُتَّكِئُونَ * لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ [يس:55-57] أي: لهم في الجنة دار النعيم فاكهة، والفواكه من كل صنف نوعان، ومن كل زوج زوجان.

    وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ [يس:57] ما ادعى داعي وطلب شيء إلا حصل، المهم أن ترغب وتطلب، كما جاء في سورة يونس: دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ [يونس:10]، فإذا أردت أن تطلب طعاماً أو شراباً فقل: سبحانك اللهم! يحضر بين يديك؛ وإذ الخدم لا حد لهم ولا حصر -وهذه مهمتهم-، كاللؤلؤ المنثور في الجنة يخدمون أهل الجنة، وإن أردت ماءً أو عسلاً أو لبناً أو كذا فقط قل: سبحانك اللهم! سيحضر بين يديك الذي تريد، قال تعالى: دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلامٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [يونس:10].

    فقوله تعالى: لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ [يس:57] لا يقدر على وصفها إلا الله، وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ [يس:57] ويطلبونه ويسألونه، ولكن لا يسألون بكلمة: ناولني ماء، أو أعطني ماء يا ملك! بل فقط بقولهم: سبحانك اللهم! فيحضر بين يديه، وآخر دعواهم: الحمد لله رب العالمين، فيجب علينا إذا أكلنا أن نقول: الحمد لله رب العالمين، فهذا دعاء أهل الجنة في الجنة إذا أكلوا أو شربوا، أو شبعوا وارتووا، ويقولون: الحمد لله رب العالمين، فترفع الصحون والأكواب من بين أيديهم.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (سلام قولاً من رب رحيم)

    قال تعالى: سَلامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ [يس:58]، ورد وصح عن أبي القاسم صلى الله عليه وسلم الحديث الذي رواه مسلم في كتابه قال: لقد روى البغوي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( بينما أهل الجنة في نعيمهم يتنعمون، إذ يسطع لهم نور -من فوقهم- فرفعوا رءوسهم ينظرون، فإذا الرب عز وجل قد أشرف عليهم من فوقهم: السلام عليكم يا أهل الجنة، سَلامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ [يس:58] ).

    فذلك قوله تعالى: سَلامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ [يس:58] فينظر تعالى إلى أهل الجنة وينظرون إليه، فلا يلتفتون إلى شيء من النعيم أبداً، همهم فقط النظر إلى وجه الله الكريم، ما داموا ينظرون إليه، حتى يحتجب عنهم فيبقى نوره وبركته عليهم، وهؤلاء هم أهل الإيمان والتقوى، وأهل الإيمان والعمل الصالح.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (وامتازوا اليوم أيها المجرمون)

    قال تعالى عن المجرمين: وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ [يس:59] (امتازوا) أي: تميزوا وابتعدوا؛ لأنهم كانوا في ساحة واحدة، فأهل الجنة دخلوا أولاً، وامتازوا أيها المجرمون، وورد أن النصارى مع النصارى، واليهود مع اليهود، والصابئة مع الصابئة، والمجوس مع المجوس، والمشركين مع المشركين.. يتميز بعضهم بعضاً.

    فقوله تعالى: وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ [يس:59] أي: الذين أجرموا على أنفسهم فخبثوها ونتنوها، وعفنوها بمواد التعفين والتخبيث والتلويث، ألا وهي الشرك بالله بعد الكفر به، ألا وهو اقتراف الذنوب والآثام، وارتكاب الجرائم، وغشيان الذنوب، والموت على ذلك والعياذ بالله تعالى.

    المجرم: الذي أفسد نفسه، وأجرم عليها أي أفسدها بما صب عليها يومياً من أطنان الذنوب والآثام.

    ومعنى هذا معشر المستمعين والمستمعات! ألا نقارف ذنباً وإن زلت القدم وقارفت هذا الذنب يجب أن نتوب على الفور، فالندم والاستغفار والعزم الأكيد على ألا نعود لهذا الذنب ما حيينا، فالذنوب في ترك الواجبات وترك فرائض الله، أو ترك واجب من الواجبات التي أوجبها الله، فمن أذنب وأجرم ولطخ نفسه بالظلم والإجرام، والمنهيات أي: ما نهى الله عنه من اعتقاد أو قول أو عمل، وكل ما نهى الله عنه وحرمه في كتابه أو على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم من قول أو عمل أو اعتقاد إلا وهو -والعياذ بالله تعالى- إجرام على النفس وإفساد لها، فيجب ترك ذلك والبعد عنه، ومن زلت قدمه ووقع في معصية من هذه المعاصي فباب الله مفتوح ليلاً ونهاراً، فقل: أستغفر الله. وأنت تبكي، واعزم ألا تعود واندم على ما فعلت؛ حتى تموت ونفسك زكية طاهرة نقية، ولا ننسى حكم الله في هذه القضية، فقد قال: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا [الشمس:9-10]، وهذا حكم الله الذي حلف عليه بأيمان ما حلف على غيره، فقال: وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا * وَالْقَمَرِ إِذَا تَلاهَا * وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا * وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا * وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا * وَالأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا * وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا [الشمس:1-8]، وهذه ثمانية أيمان يحلف بها على هذا الحكم، وهو بمعنى: قد أفلح من زكى نفسه، وقد خاب وخسر من دسا نفسه، والنفس تزكو بالإيمان الصحيح، والعمل الصالح، وتخبث النفس بمادتين: الشرك، والذنوب والمعاصي.

    والله تعالى نسأل أن يبعدنا من ساحة الفاسقين والمجرمين والكاذبين، وأن يثبتنا على عبادته صالحين حتى نلقاه طاهرين طيبين.

    1.   

    قراءة في كتاب أيسر التفاسير

    هداية الآيات

    من هداية هذه الآيات: [أولاً: تقرير المعاد].

    أولاً: تقرير المعاد، فقد علمتم -زادكم الله علماً- أن الاعتقاد بالبعث الآخر والموت والحياة الآخرة اعتقاد حق، والذي يفقده فقد كل خير، ولا يستطيع أن يتباعد عن الفساد والشر أبداً، فلا بد من أن تعتقد أنك ميت ومبعوث في يوم بين يدي الله وتحضر، ويقول لك: ادخل الجنة أو ادخل النار، وهذه السور المكية كلها تعمل على تحقيق هذا المعتقد وهو: الإيمان بيوم القيامة، والإيمان بالساعة، والإيمان بنهاية هذه الحياة.

    [ثانياً: بيان نعيم الجنة].

    الجنة كلها نعيم ففيها: الفواكه، الأطعمة، اللحوم، الشراب.. وقل ما شئت، فكل الموجود في الدنيا اسم فقط، أما ما في الآخرة فهو شيء لا يقادر قدره ولا يعرفه إلا الله.. من أنواع الطعام والشراب واللباس، نعيم عام.

    [وأخيراً: سلام الله تعالى على أهل الجنة ونظرهم إلى وجهه الكريم].

    نعمة النظر إلى وجه الله سبحانه وتعالى أكبر نعمة في الجنة، بل وأعظمها أن يكشف الحجاب عن نفسه ويري عباده وجهه ويسلم عليهم، فعندما ينظرون إلى وجهه ويسلم عليهم يستغنون عن كل تلك النعم ولا يبالون بها، قال تعالى: سَلامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ [يس:58]، اللهم! اجعلنا منهم واحشرنا في زمرتهم.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    755974817