إسلام ويب

تفسير سورة المؤمنون (13)للشيخ : أبوبكر الجزائري

  •  التفريغ النصي الكامل
  • إن أهل الكفر والضلال لا تحل مداهنتهم ولا التنزل على مطالبهم ورغباتهم؛ لأن فطرهم منكوسة، وبصائرهم مطموسة، فإن جاءهم من الله فضل حسبوا أنهم له مستحقون، وبما أنعم الله به عليهم جديرون، فإذا أخذهم العذاب الشديد إذا هم يبلسون، فلا خير منهم يرتجى، ولا صحبتهم في الدنيا تبتغى، فهم شؤم على المؤمنين، وعدو لله رب العالمين.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السموات والأرض...)

    الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.

    أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.

    أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذا اليوم ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نظفر بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله؛ يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ).

    وها نحن مع سورة المؤمنون المكية فهيا بنا مع تلاوة هذه الآيات ثم نتدارسها إن شاء الله تعالى.

    قال تعالى: وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ * أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجًا فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ * وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * وَإِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ عَنِ الصِّرَاطِ لَنَاكِبُونَ * وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ * وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ * حَتَّى إِذَا فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا ذَا عَذَابٍ شَدِيدٍ إِذَا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ [المؤمنون:71-77].

    معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! قول ربنا جل ذكره: وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ [المؤمنون:71]، هذا خبر، فمن المخبر؟ الله جل جلاله وعظم سلطانه، فما هذا الخبر؟ هو قوله تعالى: وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ [المؤمنون:71]، أي: من المشركين والمعاندين والمكابرين وعلى رأسهم أبو جهل وعقبة بن أبي معيط وابن أبي وغيرهم، والحق هو الله والذي جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم.

    وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ [المؤمنون:71]، وما تميل إليه نفوسهم، وما يشتهون وما يرغبون، وما هم يفعلون من الباطل والشر والفساد، لَفَسَدَتِ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ [المؤمنون:71]، فمن المخبر؟ أليس الله؟ بلى، فهو يخبر أنه لو اتبع أهواء هؤلاء المعاندين المشركين الكافرين، وأُعطوا كل ما يطلبون، لفسدت السموات والأرض ومن فيهن، ومن فسادها أن يؤله الملائكة ويعبدون مع الله في السماء، وهذا تنديد شديد بأن القوم هلكوا بسبب اتباعهم لأهوائهم، فما يريدون الحق ولا البصيرة ولا المعرفة ولا استعمال العقل أبداً، وإنما الهواء والشهوة وما تريده أنفسهم.

    إذاً: فكيف يعطيهم الله عز وجل ما يريدونه وما يشتهون؟ لو أعطاهم ما يشتهون لخرب العالم علويه وسفليه، وذلك لعنادهم وكفرهم، وشهواتهم وأطماعهم وفسادهم الذي يعيشون عليه.

    فقوله تعال: وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ [المؤمنون:71]، أي: الذي جئت به يا رسولنا! وَلَوِ اتَّبَعَ [المؤمنون:71]، الله وهو الحق عز وجل أهواءهم واستجاب لهم، لَفَسَدَتِ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ [المؤمنون:71]، من الملائكة، ومن الإنس والجن، وما عدا ذلك فهو تابع لهم.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (بل أتيناهم بذكرهم فهم عن ذكرهم معرضون)

    ثم بعد ذلك أضرب تعالى عن هذا فقال: بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ [المؤمنون:71]، أي: جئناهم بشرفهم وكمالهم، وما يرفع قيمتهم ويعلي درجتهم، ألا وهو القرآن الكريم، قال تعالى: لَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ [الأنبياء:10]، والشرف والكمال في هذا القرآن، لكن مع هذا أعرضوا عنه.

    بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ [المؤمنون:71]، أي: ما يذكرون به الله تعالى وما عنده وما لديه، وذلك حتى يعبدوه ويوحدوه ويطيعوه ويتبعوا رسوله، وفيه ذكرهم وشرفهم وكمالهم، فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ [المؤمنون:71]، أي: عن هذا القرآن الكريم الذي يحوي الهدى والنور والسعادة، مُعْرِضُونَ [المؤمنون:71]، فلا يريدون أن يسمعوا أبداً، بل أصدروا أمراً: لا يسمح لمواطن أن يسمع لقراءة محمد حول الكعبة، وإذا سمعتموه يقرأ فأدخلوا أصابعكم في آذانكم حتى لا تسمعوا، وكل ذلك خشية أن يتسرب النور إلى قلوبهم فيرجعون عن باطلهم وشركهم وكفرهم، بل أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ [المؤمنون:71]، والإعراض هو أن يعطي ظهره ولا يلتفت إلى من يكلمه أو يدعوه.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (أم تسألهم خرجاً فخراج ربك خير وهو خير الرازقين)

    ثم قال تعالى: أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجًا [المؤمنون:72]، أي: على هذه الدعوة، فتقول: أعطونا خراجاً أو مالاً أو راتباً أو وظيفة حتى نبلغكم دعوة الله تعالى، فلو سألت هذا لكانوا محقين، إذ ما هم مستعدون ليعطوك المال حتى يتبعوك، لكن والله ما سأل منهم درهماً ولا حفنة طعام.

    مرة أخرى: لو كان يطالبهم بالمال فقال لهم: تريدون أن تسلموا وأن تسعدوا وأن تكملوا؟ أعطونا مبلغاً شهرياً أو سنوياً وامشوا وراءنا وستسعدوا وتكملوا، وعند ذلك قد يقولون: مع الأسف ما عندنا، أو يقولون: إن هذا الرجل يريد المال فقط، إذ لا هم له إلا هذا، فيصبحون معذورين، لكن في الواقع ما سألهم ولا درهماً واحداً.

    أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجًا [المؤمنون:72]، أي: رزقاً، فَخَرَاجُ رَبِّكَ [المؤمنون:72]، أي: رزق ربك، خَيْرٌ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ [المؤمنون:72]، فلهذا عاش ثلاث عشرة سنة في مكة ما طلب درهماً على دعوته، فَخَرَاجُ رَبِّكَ [المؤمنون:72]، والخراج هو المال الذي يرزق به الإنسان، خَيْرٌ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ [المؤمنون:72]، فمن هو خير الرازقين؟ الله عز وجل، إذ خير من يرزق هو الله تعالى، ولست في حاجة إليهم حتى يقولوا كذا وكذا.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (إنك لتدعوهم إلى صراط مستقيم)

    قال تعالى: وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [المؤمنون:73].

    وَإِنَّكَ [المؤمنون:73]، أي: يا رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم! لَتَدْعُوهُمْ [المؤمنون:73]، أي: لتدعو هؤلاء المشركين الضلال العميان التائهين في الضلالات، تدعوهم، إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [المؤمنون:73]، والصراط المستقيم هو الإسلام والله العظيم، فلم يسمى الإسلام بالصراط؟ الصراط هو الطريق الموصل إلى الهدف والغاية المطلوبة، وقد مثلنا لذلك فقلنا: الطريق مستقيم نهايته باب الجنة، فالماشي يمشي وسط الطريق وعن يمينه الواجبات التي يجب أن ينهض بها ويؤديها كما هي، وعن شماله المنهيات والمحرمات التي يجب أن يتركها، ونور الإيمان ونور العلم بين يديه وهو يمشي حتى يصل إلى الجنة، وفي سورة الفاتحة نقرأ: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ [الفاتحة:6]، ألا وهو الإسلام، فالرسول ما كان يدعوهم للمال ولا للدولة ولا للسلطان، وإنما كان يدعوهم إلى الإسلام فقط، وذلك بلا مال ولا عوض ولا راتب ولا خراج.

    وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [المؤمنون:73]، ألا وهو الإسلام، إذ الإسلام طريق السعادة وسبيل النجاة، فامش يا عبد الله! ونور العلم بين يديك، وأنت حي بإيمانك، وعن يمينك الواجبات فلا تفرط فيها، وعن شمالك المحرمات فلا تغش واحدة منها، واصبر في طريقك حتى تلفظ أنفاسك الأخيرة، ومن ثم والله إلى الجنة دار السلام، ومن أصبح يخرج عن يمينه وعن شماله فيترك الواجبات ويفعل المحرمات ويتخبط فإنه لن يصل، إذ المسلك الحقيقي هو أن يمشي في وسط الطريق، فهذا واجب ينهض به، وهذا محرم يتركه، وذلك إلى ساعة وفاته، ومن ثم ما إن يلفظ أنفاسه الأخيرة إلا والروح في الملكوت الأعلى في الجنة.

    وَإِنَّكَ [المؤمنون:73]، يا رسولنا! لَتَدْعُوهُمْ [المؤمنون:73]، أي: هؤلاء المشركين المعاندين المكابرين المحاربين لك، تدعوهم، إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [المؤمنون:73]، ألا وهو الإسلام.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (وإن الذين لا يؤمنون بالآخرة عن الصراط لناكبون)

    وقوله تعالى: وَإِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ عَنِ الصِّرَاطِ لَنَاكِبُونَ [المؤمنون:74]، فمن المخبر بهذا الخبر؟ الله الخلاق العليم، إذ يخبر تعالى بخبر والله إنه لحق ويقين، فيقول: وَإِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ [المؤمنون:74]، بالدار الآخرة، وبالبعث الآخر، وبالجزاء فيه بالنعيم المقيم، أو بالعذاب والجحيم، فهؤلاء، عَنِ الصِّرَاطِ لَنَاكِبُونَ [المؤمنون:74]، أي: منصرفون مبعدون، وهو الواقع، بل إلى الآن وإلى يوم القيامة، فالذي ما يستقر في نفسه الإيمان الصادق الجازم اليقيني بأنه سيبعث في يوم من الأيام حياً وسيسأل عن عمله ويجزى به، وخلا قلبه من هذا المعتقد، والله ما يعرف الحق ولا يُقبل عليه، ولا يعول عليه في شيء، ولا يؤمن في شيء، وهذه هي الحقيقة إلى الآن، فإذا كان الرجل أبيض أو أصفر لا يؤمن بالدار الآخرة وما يجري فيها وما يتم فيها من جزاء، لا يمكنه أن يستقيم في الأرض، بل لابد من الانحراف والباطل والخبث والشر والفساد، ولا يعول عليه ولا يوثق فيه أبداً، ومن عول أو وثق في شخص كهذا فوالله إنه لمخطئ، وسوف تنزل به النقمة، إذ إن هذا خبر الله تعالى.

    وَإِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ عَنِ الصِّرَاطِ لَنَاكِبُونَ [المؤمنون:74]، فيعطيه المنكب ولا يلتفت إليه، يقال: نكب ينكب إذا أقبل عن منكبه فلم يلتفت إليه، ومعنى هذا: هيا نحقق إيمانا بلقاء ربنا، فإذا آمنا بأنا ملاقو ربنا، وأنه سائلنا، وأنه مجزينا بعد حسابنا، فحال ما نتمكن معها أن نفجر أو نظلم أو نفسق أو نخرج عن طاعة الله أو ننحرف عن دينه، والله ما كان أبداً، والذين ما صدقوا تصديقاً كاملاً يقولون: نحن نؤمن بالدار الآخرة، ونؤمن باليوم الآخر، لكن ما سألوا عنه كيف هو؟ ومتى يتم؟ وماذا فيه؟ إذ ما عرفوا أنه ركن العقيدة الإسلامية، وما قرءوا القرآن وما عرفوه كم آية تتكلم عن اليوم الآخر؟ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ [الطلاق:2]، وقال: إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ [النساء:59]، فالذي لا يؤمن بالله علماني ملحد لا يوثق فيه ولا ينظر إلى وجهه، والذي يؤمن بالله ولكن لا يؤمن بلقائه والدار الآخرة فمثله بل أقبح منه.

    وَإِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ عَنِ الصِّرَاطِ [المؤمنون:74]، أي: عن الإسلام، لَنَاكِبُونَ [المؤمنون:74]، أي: منصرفون لا يقبلون عليه ولا يدخلون فيه، وعلتهم هي عدم إيمانهم بلقاء الله والجزاء يوم القيامة، والذين تراهم أو تسمع بهم أو تسمع عنهم، وهم منغمسون في الزنا واللواط والخمر والربا والكذب والغش والخدع والمنكر، سلهم والله ما آمنوا بالدار الآخرة، وإنما هي مجرد كلمة يقولونها، إذ ما عرفوا ولا آمنوا، إذ كيف يعرف أنه سيوقف وسيسأل وسيجزى بالعذاب الأبدي أو بالنعيم المقيم ثم يصر على قضاء شهواته والمحرمات؟ والعلة الأخرى: الجهل، إذ ما عرفوا وما درسوا، بل وما جلسوا في حجور الصالحين، وما درسوا كتاب الله تعالى، فكيف تحملهم على أن يؤمنوا إيماناً يقيناً وهم ما سمعوا من يقول: آمنا بالله واليوم الآخر؟!

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (ولو رحمناهم وكشفنا ما بهم من ضر للجوا في طغيانهم يعمهون)

    ثم قال تعالى: وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ [المؤمنون:75]، أيضاً، لماذا؟ لأنهم عميان لا بصيرة لهم، وهذا هو شأن الكافر بالله ولقائه، ولو أن الله عز وجل كشف عنهم ذلك القحط والجدب الذي أصابهم سبع سنوات حتى أكلوا الميتة والكلاب والجيف، بل جمعوا الوبر والصوف وغمسوها في الدماء وطبخوها وأكلوها، لعادوا إلى كفرهم وغيهم والعياذ بالله.

    ويروى أن أبا سفيان رضي الله عنه -وكان زعيم الكافرين ورئيسهم- قال للرسول صلى الله عليه وسلم: أنت تزعم أنك مبعوث بالرحمة الإلهية؟ قال: بلى، قال: وما هذا القحط والجدب الذي أصابنا؟ فنزل قوله تعالى: وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ [المؤمنون:75]، وهذا هو شأن الفسقة والفجرة والظلمة والمبعدين عن الله ولقائه، بل وإلى الآن في أي بلد، فإذا أصابهم جوع أو بلاء لا يرجعون أبداً؛ لأن الرجوع يكون بسلامة القلب وصحته بنور الإيمان، والذي لا إيمان له كيف يرجع؟

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (ولقد أخذناهم بالعذاب فما استكانوا لربهم وما يتضرعون)

    ثم قال تعالى: وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ [المؤمنون:76]، وبالفعل فقد أصابهم بهزيمة بدر، وهي هزيمة نكراء، إذ مات رؤساؤهم وزعماؤهم، وأصابهم كذلك بالقحط والجدب سبع سنوات، فهل استكانوا ولانوا وانكسروا بين يدي الله وسألوه واطرحوا بين يديه وتضرعوا؟ لا أبداً، لم؟ لأنهم أموات، إذ إن الذي يتضرع ويستكين ويبكي بين يدي الله لما تزل قدمه هو المؤمن العارف، أما الذي لا إيمان له ولا معرفة له بالله، ولا ما عند الله تعالى، فإنه لا يستفيد أبداً، بل ولا يتضرع ولا يستكين ولا يذل لله تعالى، وإنما يزداد والعياذ بالله قساوة وضلالة.

    وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ [المؤمنون:76]، أي: عذاب القحط والجدب، وعذاب القتل ببدر، فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ [المؤمنون:76]، أي: ما لانوا ولا ذلوا بين يدي الله وقالوا: آمنا بالله! آمنا بالله، وأطاعوا الله وأطاعوا رسوله، لا أبداً، ولذلك فالمؤمن الصادق عندما يصاب بنكبة فإنه يفزع إلى الله عز وجل، فيبكي بين يدي الله في الليل والنهار حتى يفرج الله ما به، والذي لا إيمان له، أو إيمان صوري لا حقيقة له فالمرض أو الجوع يهزه، ولا يفكر في الله ولا يسأل عنه، وإنما يفكر كيف يشبع فقط؟ أو كيف يشفى من مرضه؟ فلا يتضرع إلى الله تعالى؛ لأنه ما عرف الله حتى يتضرع إليه، ولذا يجب أن نعلم أمتنا نساءً ورجالاً، وبدون علم لن نستقيم أبداً، بل ولن نعرف الطريق إلى الله تعالى.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (حتى إذا فتحنا عليهم باباً ذا عذاب شديد إذا هم فيه مبلسون)

    ثم قال تعالى: حَتَّى إِذَا فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا ذَا عَذَابٍ شَدِيدٍ إِذَا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ [المؤمنون:77]، هذا الذي أقوله والله تعالى أسأل ألا يؤاخذني إن لم أصب، وقد كررت القول فقلت: إن أمة الإسلام تحت النظارة، إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ [الفجر:14]، فإما أن تتحد كلمتهم، وترتفع رايتهم، ويجتمعون على دين الله تعالى فيطبقونه وينفذونه وينشرونه في الأرض لهداية البشرية، وإلا سوف تنزل بهم النوازل أعظم من نوازل الاستعمار الذي أصابهم من الشرق إلى الغرب، إذ إنه قد أذلهم وأهانهم، وقد قلت هذا وما زلت، ومن يعش يسمع ويرى، فما المانع أن يطبق شرع الله تعالى؟ العلم منتشر، ووسائل العلم فوق العادة، يجتمعون في الروضة في يوم واحد من أقصى الشرق إلى أقصى الغرب، ويأخذون بالدستور في أربعين يوماً فقط يطبقونه بالحرف الواحد من الشرطي إلى الرئيس، وبذلك يكملون ويسعدون وينقذون البشرية مما هي فيه، أما مع هذا الإصرار على ما هم عليه فلنقرأ هذه الآية: حَتَّى إِذَا فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا ذَا عَذَابٍ شَدِيدٍ إِذَا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ [المؤمنون:77]، أي: آيسون قانطون والعياذ بالله، فهذا هو كتاب الله تعالى، وهذا هو القرآن العظيم، وهذا هو الذكر الحكيم، فيه ذكرنا وشرفنا، ولكنا أعرضنا عنه ولم نلتفت إليه إلا من رحم الله من عباده.

    1.   

    ملخص لما جاء في تفسير الآيات

    يقول تعالى: وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ [المؤمنون:71]. من يقول: لا. والله الخالق لكل شيء، وبيده كل شيء؟

    بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ [المؤمنون:71]، فالمسلمون اليوم معرضون عن كتاب الله وسنة رسوله، وذلك من الشرق إلى الغرب، وهو إعراض كامل إلا من رحم الله.

    أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجًا فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ [المؤمنون:72]، وحاشا رسول الله أن قال: أعطوني ديناراً أو درهماً.

    وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [المؤمنون:73]، ألا وهو الإسلام المسعد للمسلمين، المكمل لهم والرافع لهم في الدنيا والآخرة.

    وَإِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ عَنِ الصِّرَاطِ لَنَاكِبُونَ [المؤمنون:74]، فتأمل عبد الله هذه، فضعف الإيمان بيوم القيامة، وعدم يقينك فيه هو الذي يسبب لك الفساد والشر.

    وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ [المؤمنون:75]، للضلال الذي هو مهيمن على قلوبهم؛ لأنهم لا يعبدون الله ولا يوحدونه ولا يعرفونه.

    وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ [المؤمنون:76]، له، حَتَّى إِذَا فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا ذَا عَذَابٍ شَدِيدٍ إِذَا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ [المؤمنون:77]، أي: آيسون قانطون والعياذ بالله، فنبرأ إلى الله من الكفر والكافرين.

    1.   

    قراءة في كتاب أيسر التفاسير

    معنى الآيات

    قال: [ معنى الآيات:

    ما زال السياق الكريم في دعوة المشركين إلى التوحيد والإيمان بالبعث والجزاء، فقوله تعالى: وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ [المؤمنون:71]، هذا كلام مستأنف لبيان حقائق أخرى، منها: أن هؤلاء المشركين لو اتبع الحق النازل من عند الله والذي يمثله القرآن، وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ [المؤمنون:71]، أي: ما يهوونه ويشتهونه فكان يوافقهم عليه لأدى ذلك إلى فساد الكون كله علويه وسفليه، وذلك لأنهم أهل باطل لا يرون إلا الباطل، ويصبح سيرهم معاكساً للحق فيؤدي حتماً إلى خراب الكون.

    وقوله تعالى: بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ [المؤمنون:71]، أي: جئناهم بذكرهم الذي هو القرآن الكريم، إذ به يذكرون وبه يذكرون؛ لأنه سبب شرفهم.

    وقوله: فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ [المؤمنون:71]، فهم لسوء حالهم وفساد قلوبهم معرضون عما به يذكرون ]، أي: القرآن الكريم.

    قال: [ وقوله تعالى: أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجًا [المؤمنون:72]، أي: أجراً ومالاً، فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ [المؤمنون:72]، أي: ثواب ربك الذي يثيبك به خير، وهو تعالى خير الرازقين، وحاشا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يسألهم عن التبليغ أجراً ]، ولو ديناراً أو درهماً.

    قال: [ وقوله تعالى: وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [المؤمنون:73]، أي: إلى الإسلام طريق السعادة والكمال في الدنيا والآخرة معاً.

    وقوله تعالى: وَإِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ عَنِ الصِّرَاطِ لَنَاكِبُونَ [المؤمنون:74]، أي: علة تنكبهم، أي: ابتعادهم عن الإسلام هو عدم إيمانهم بالآخرة، وهو كذلك، فالقلب الذي لا يعمره الإيمان بلقاء الله والجزاء يوم القيامة صاحبه ضد كل خير ومعروف ولا يؤمل منه ذلك؛ لعلة كفره ]. والعياذ بالله.

    قال: [ وقوله تعالى: وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ [المؤمنون:75]، يخبر تعالى أنه لو رحم أولئك المشركين المكذبين بالآخرة، وكشف ما بهم من ضر أصابهم من قحط وجدب وجوع ومرض لا يشكرون الله، بل يتمادون في عتوهم وضلالهم وظلمهم يعمهون حيارى يترددون.

    وقوله تعالى: وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ [المؤمنون:76]، وهي سنوات الجدب والقحط بدعوة الرسول صلى الله عليه وسلم، وما أصابهم من قتل وجراحات وهزائم في بدر.

    وقوله تعالى: فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ [المؤمنون:76]، فما ذلوا لربهم وما دعوه ولا تضرعوا إليه، بل بقوا على طغيانهم في ضلالهم، ومرد هذا ظلمة النفوس الناتجة عن الشرك والمعاصي ]، والعياذ بالله.

    قال: [ وقوله تعالى: حَتَّى إِذَا فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا ذَا عَذَابٍ [المؤمنون:77]، وهو معركة بدر وما أصاب المشركين من القتل، إِذَا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ [المؤمنون:77]، آيسون من كل خير، حزينون قانطون؛ وذلك لظلمة نفوسهم بالشرك والمعاصي ]، والعياذ بالله، نسأل الله العافية والمعافاة، وأن يزكي نفوسنا ويطهر أرواحنا، وأن يبعدنا عن كل شر ومشرك والعياذ بالله.

    هداية الآيات

    قال المؤلف: [ من هداية الآيات:

    أولاً: خطر اتباع الهوى وما يفضي إليه من الهلاك والخسران ]. يا معشر المستمعين والمستمعات! لا تتبعوا أهواءكم وما تمليه نفوسكم، ولكن اتبعوا نبيكم وامشوا وراءه في كل شئون حياتكم، سواء في الأكل والشرب واللباس والمشي والقعود والرحيل والنزول، ودائماً الرسول بين يدينا نتبعه، أما أن نتبع الهوى وميل النفس والله لترمي بنا في الضلال البعيد، فلا تتبع هواك وما تمليه نفسك، وإنما اتبع ما جاء عن رسول الله في كتاب الله تعالى.

    قال: [ ثانياً: الصراط المستقيم الموصل إلى السعادة والكمال هو الإسلام لا غير ]. وليس في ذلك شك أبداً، والصراط المستقيم الذي ذكره تعالى في هذه الآية وفي سورة الفاتحة وفي غيرها هو الإسلام، والصراط هو الطريق المستقيم الذي يصل بالسالكين إلى النعيم المقيم إلى الجنة دار النعيم، وقد بينت لكم هذا فقلت: الطريق هكذا، أي: امش ولا تمل يميناً ولا شمالاً، فعن يمينك الواجبات انهض بها وأدها، وعن شمالك المحرمات اتركها وابتعد عنها، وواصل سيرك ونور العلم أمامك ونور الإيمان فوقك إلى أن تلفظ آخر نفس، مع أن الكمال الدنيوي والله لموجود، إذ المستقيمون في مشيتهم في هذا الصراط لا خوف ولا حزن ولا كرب ولا هم ولا خبث؛ لأن الصراط نقي.

    [ ثالثاً: التكذيب بيوم القيامة وما يتم فيه من حساب وجزاء هو الباعث على كل شر والمانع من كل خير ]. وهذه هي الحقيقة التي ينبغي أن نتناقلها. أي: عدم الإيمان بيوم القيامة، وعدم الإيمان بالبعث والجزاء، وعدم الإيمان بالدار الآخرة هو سبب كل خبث وظلم وشر وفساد، والذين لا يؤمنون بيوم القيامة ولا باليوم الآخر لا يرجى منهم خير ولا يعول عليهم في شيء أبداً، ومن الخطأ أن تلين لهم أو تريد أن تفهم عنهم، إذ لا خير فيهم بالمرة، سواء كانوا بيضاً أو صفراً، عرباً أو عجماً، فإذا خلا القلب من الإيمان بلقاء الله والوقوف بين يديه والجزاء على الكسب والعمل في هذه الدنيا، فصاحبه لا خير فيه ولا يعول عليه في شيء، وإنما يجب أن يهجر.

    [ رابعاً: من آثار ظلمة النفس نتيجة الكفر اليأس والقنوط والتمادي في الشر والفساد ]، النفس إذا أصيبت بالظلمة فمن أين تأتيها هذه الظلمة؟ من الشرك والكفر والهوى والشياطين، وذلك لأنها مبعدة عن نور الله وعن كتاب الله وعن هدي رسوله وعن مجالسة الصالحين، وهذه النفس لا يرجى هدايتها أبداً والعياذ بالله، وذلك لما اعتراها من الظلمة.

    وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756002979