إسلام ويب

تفسير سورة الغاشية (1)للشيخ : أبوبكر الجزائري

  •  التفريغ النصي الكامل
  • الغاشية اسم من أسماء يوم القيامة، سمّي بهذا الاسم لأنه يغشى الناس جميعاً، وفي هذا اليوم ينقسم الناس إلى قسمين: أصحاب وجوه ذليلة ناصبة، وهؤلاء مصيرهم نار جهنم، وأصحاب وجوه ناعمة، وهؤلاء مصيرهم الجنة، وقد اشتملت آيات سورة الغاشية على ألوان من العذاب الأليم، والعياذ بالله.

    1.   

    بين يدي سورة الغاشية

    الحمد لله، نحمده تعالى، ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئاً.

    أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.

    أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إن سورتنا لسورة مباركة ميمونة، إنها سورة الغاشية.

    وتلاوة هذه السورة المباركة بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم: هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ * وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ * عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ * تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً * تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ * لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ * لا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ * وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاعِمَةٌ * لِسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ * فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ * لا تَسْمَعُ فِيهَا لاغِيَةً * فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ * فِيهَا سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ * وَأَكْوَابٌ مَوْضُوعَةٌ * وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ * وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ * أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ * وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ * وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ * وَإِلَى الأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ * فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ * لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ * إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ * فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الأَكْبَرَ * إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ [الغاشية:1-26].

    معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! الدارسين لكتاب الله! هذه السورة مكية، وقد عرفتم عن السور المكية أنها تعالج العقيدة؛ إما بإيجادها إن كانت معدومة، أو بتصحيحها إن كانت فاسدة، أو بتقويتها إن كانت ضعيفة.

    وقد علمتم أن العقيدة بمثابة الطاقة الدافعة، فقوي العقيدة يقدر على أن يصوم ويصلي، ويرابط ويجاهد، ويحسن ولا يسيء، ويطيع ولا يعصي، ويعطي ولا يمنع؛ لقدرته على ذلك بعقيدته الإيمانية الصحيحة. ومن ضعفت عقيدته فإنه يأخذ مرة ويعطي.. يتوب ويعود.. يحسن ويسيء، فشأنه شأن المريض. وأما من لا عقيدة له أو له عقيدة فاسدة فهو لاصق بالأرض، لا يرجى منه خير؛ لأنه ميت. والميت لا يرجى فيه شيء.

    وما علينا إلا أن ندعو البشرية إلى العقيدة الإسلامية، فإن قالوا: عجزنا يا شيخ. فما علينا إذاً إلا أن نصبر.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (هل أتاك حديث الغاشية)

    هيا بنا إلى قوله تعالى: هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ [الغاشية:1] من الذي يقول هذا لرسولنا صلى الله عليه وسلم؟ إنه الله. فالله يتكلم وهذا كلامه؟!

    لكن سبحان الله! كيف ينكره الملاحدة ما دام موجوداً بدليل وجود كلامه وكتابه ورسوله وخلقه؟!

    الجواب: لأنهم لا يريدون أن يصلوا، ولا يريدون أن يستقيموا على منهج الحق والعدل.

    فكيف يتخلصون من نظام الله؟ يتخلصون بالكفر؛ اكفر وارقص وغني!

    وليس من حق أحد أن يقول: لا تفعل. وهذا هو سر القضية؛ لأن فطرة الإنسان تصرخ بأعلى صوتها: أنا عبد.. أنا مربوب.. أنا مخلوق، والله ربي.. والله خالقي.. والله مولاي، ولكن الملاحدة لا يريدون أن يسمعوا صوتها ولا صوت غيرها.

    يروى أن طبيباً بريطانياً بارعاً في علم التشريح أصيب بالبلشفة الحمراء، أي: بالإلحاد، فجلست طفلته بين يديه، فأخذ يمعن النظر إليها، وهو عليم بأجزاء الإنسان، وبعد لحظة قال لها: اذهبي وابعدي عني. فقد خاف أن يدخل الإيمان في قلبه؛ لأنه أخذ يفكر في آلة السمع وأجزائها ومركباتها، وكيف يسمع الإنسان بهذه الأذن، فمن انبهاره بذلك خاف أن يؤمن بالله؛ لأن الإيمان هاجمه، فطرد ابنته من بين يديه.

    ونحن عرفنا هذه الحقيقة وعرفها عجائزنا، لأن الله قال: بَلْ يُرِيدُ الإِنسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ [القيامة:5] فليس هناك أبداً ما يجعله لا يؤمن بالله ولقاء الله، ولا يؤمن برسول الله ولا بكتاب الله، وأولئك لا سبب عندهم في عدم الإيمان بالله إلا أنهم يريدون أن يواصلوا الفجور، فلا يريدون قيداً ولا انضباطاً ولا عقلاً ولا ديناً ولا .. ولا .. بل يريدون أن يأكلوا ويشربوا وينكحوا كالبهائم، ولا يريدون أن يقلقهم ويزعجهم أحد بقول: هذا حرام وهذا حلال.

    فإن قيل: كيف تقولون هذا عنهم؟

    نقول: ليس هناك إلا هذا فقط، ولا مجال أبداً للبحث.

    إذاً: قوله: هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ [الغاشية:1] هذا الاستفهام للتهويل، ولإعداد السامع ليقبل على ما يسمع، و(هل) هنا بمعنى: (قد) التي تفيد التأكيد والتقرير، أي: قد أتاك حديث الغاشية، وحديثها هو الكلام الذي يتصل بها، ويعرّف بها، ويكشف عنها.

    والغاشية: علم بالغلبة على يوم القيامة، وقد عرفتم يا أهل القرآن! أن اسم القيامة ذكرت في القرآن باسم: الغاشية، والحاقة، والطامة، والصاخة، والقارعة، والواقعة وغير ذلك.

    أما معنى الغاشية فهي التي تغشى الكون وتغطيه بفزعها وأهوالها، وهي الانقلاب الكوني، بحيث يتبخر كل موجود ويتحلل ويذهب سدى، بل يذهب سديماً وبخاراً.

    قال تعالى: إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ * لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ [الواقعة:1-2] اسمع: خَافِضَةٌ [الواقعة:3] لأقوام رَافِعَةٌ [الواقعة:3] لآخرين. متى؟ إِذَا رُجَّتِ الأَرْضُ رَجًّا * وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا * فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثًّا [الواقعة:4-6].

    وقال: فَإِذَا جَاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى * يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الإِنسَانُ مَا سَعَى * وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرَى [النازعات:34-36].

    وقال: فَإِذَا جَاءَتِ الصَّاخَّةُ * يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ [عبس:33-36].

    وقال: الْقَارِعَةُ * مَا الْقَارِعَةُ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ * يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ [القارعة:1-4] فلا عقل ولا حلم ولا بصيرة ولا إرادة، بل كالفراش المنتشر وَتَكُونُ الْجِبَالُ [القارعة:5] على عظمتها ورسوخها كَالْعِهْنِ الْمَنفُوشِ [القارعة:5].

    إذاً: الواقعة والحاقة والقيامة لا بد منها طال الزمان أو قصر، وعلماء الكون مع كفرهم يشهدون فيقولون: إن المادة تتحلل، ولا بد وأن تفنى. ونحن قلنا: سبحان الله! هذا عرفناه بالقرآن وبأخبار النبي عليه الصلاة والسلام، ولا نحتاج إلى تحليل الكون، فإن المادة تتبخر من نفسها وتتلاشى، ولا بد وأن تنتهي؛ لأنها مخلوقة على حال قابلة للفناء، وأما يوم القيامة أو في الحياة الثانية فإن الله يخلقها على صورة لا تقبل الفناء أبداً، فبطبعها لا تقبل الفناء لتخلد الحياة أبداً.

    وأما في هذه الحياة الدنيا فلأجل المحنة والامتحان والاختبار فإن مدتها محدودة ومنتهية، فإذا انتهى وقت العمل قال تعالى لخلقه: أيها الخلق خذوا أجوركم، أما سمعتم الله يقول: كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ [آل عمران:185] أي: يوم ينتهي العمل.

    فلا يصح أن تطالبوا في الدنيا بأجور صلاتكم وجهادكم، لأن هذا اليوم ليس يوم أخذ الأجور، بل يوم عمل من صيام وقيام ورباط، فلا تقل: رب أعطني ثوابي، لا. فأنت من أول يوم تعمل لتلقى جزاءك بعد نهاية العمل وليس في نفس اليوم.

    ولهذا تجد العبد يصوم ويصلي دهراً وهو فقير، ولا يصح أن تقول: لم ما أغناه، فهل هو صلى ليغنيه؟

    كذلك قد تجده مريضاً طول عمره، ولا يصح أن تقول: لم؟ أين صلاته وأين صيامه؟ لأنه ما صام وصلى لصحته، بل هو يعمل لثواب الدار الآخرة، الخالدة الباقية.

    وكذلك ترى المجرم الفاسق لا ينكسر له عظم ولا تصاب له سن ولا ولا.. ولا يصح أن تقول: أين جزاء فسقه وفجوره؟ لأن هذه الدار ليست دار جزاء يا عبد الله! قال تعالى: وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ [آل عمران:185] متى؟ يَوْمَ الْقِيَامَةِ [آل عمران:185].

    فإن قيل: قد وجدنا عبداً صالحاً مستقيماً، وصحته طيبة، وعقله وذكاؤه في خير ونعمة وعافية، فكيف هذا؟

    الجواب: هذا من يمن وبركة الصالحات فقط. وكذلك إن وجدت عبداً جانياً ظالماً مجرماً يتحطم كل يوم ويتكسر ومن سجن إلى آخر وفي بلاء. فنقول: هذا من شؤم السيئات، فللحسنات يمن وبركة، وللسيئات شؤم ونحس والعياذ بالله، أما الجزاء فليس هنا، إنما هذه الدنيا دار عمل متواصل ليل نهار.

    وقد روي ( أن النبي صلى الله عليه وسلم سمع قارئاً يقرأ هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ [الغاشية:1] فقال: نعم، أتاني ).

    وكذلك سمع قارئاً يقرأ هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ [البروج:17] فقال: ( نعم أتاني ).

    إذاً الغاشية: هي الحال التي تغشى الكون بأهوال وبلاء تؤدي إلى تحلل الكون وذوبانه.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (وجوه يومئذ خاشعة)

    ثم قال تعالى في بيان الحال: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ [الغاشية:2].

    وُجُوهٌ جمع وجه، والوجه ما يواجه به الناس.

    يَوْمَئِذٍ أي: يومئذ تغشى الغاشية، وتقوم القيامة وتقرع القارعة.

    خَاشِعَةٌ أي: ذليلة، منكسرة، محطمة، فلا ترفع رأسها ولا تبتسم.. ولا حمرة في الوجه ولا بياض، بل اسوداد وكآبة وحزن وألم وذل.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (عاملة ناصبة * تصلى ناراً حامية)

    ثم قال تعالى: عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ [الغاشية:3] هنا اللفظ القرآني يفسر بوجهين، ويتحملهما معاً، ولا بأس أن ننظر إلى الوجهين، وكلاهما حق، والقرآن حمال وجوه؛ لأنه كتاب هداية.

    الوجه الأول: وجوه يومئذ عاملة اليوم، ناصبة اليوم، أي: تعبة خاشعة عاملة، تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً [الغاشية:4].

    وهذه الوجوه هي:

    أولاً: وجوه العصاة.. الفسقة.. الظلمة.. المجرمين. وأنتم تعرفون أن المجرمين والعصاة والفسقة في تعب متواصل، فالطائع يسهر ساعة فقط ليدرس آية ثم يتعب، أما العاصي فقد يسهر عشر ساعات، وكذلك الطائع تجده ينفق ألف ريال ويشعر بفراغ جيبه، أما العاصي فينفق في ليلة واحدة عشرين ألف ريال في سكرة واحدة.

    إذاً الفاسقون الظالمون المجرمون يبذلون طاقات وأموال وجهود وحياة وأوقات لا ينفقها المستقيمون أبداً. فوجوههم عاملة ناصبة الآن بالمعاصي، شقية بأتعابها في فسقها وفجورها تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً [الغاشية:4]، وهذا الوجه سليم.

    ووجه آخر في قوله: عاملة ناصبة أنها وجوه من يعبدون الله بدون علم، فتجدهم يسهرون طول الليل يقولون: هو حي.. هو حي، ولا يثابون على ذلك ولا حسنة واحدة؛ لأنهم يعبدون الله بدون علم، ولا تنتج لهم تلك العبادات التي أرهقتهم وأتعبتهم الحسنات، ولا تطيب نفوسهم ولا تزكو.

    وهذا الأمر ينبغي أن يعلمه المؤمنون والمؤمنات، أما سمعتم رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( إياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة ). فالذي يحج ولا يحسن حجه يكون قد أنفق المال والطاقة وما استفاد حسنة واحدة، والذي ينفق مالاً عظيماً ويداخله الرياء والشك والاضطراب لا يستفيد من عمله، والذي يصلي ولا يحسن صلاته ويتعب في الوضوء والغسل لا يجد ولا حسنة واحدة، فهذا تعب ونصب بلا شيء من الحسنات.

    وكذلك النصارى ينقطعون في الأديرة والصوامع، وينقطون عن النساء والمال والدنيا، فهم منقطعون إلى العبادة، ولا حسنة واحدة تنتج من تلك العبادة، وقد روى أهل التفسير عن عمر رضي الله عنه أنه مر أثناء غزو الشام بنصراني في صومعته، فأطل الصليبي على عمر فوجده عمر شاحباً خاشعاً، قد تعب من السهر والانقطاع، فبكى عمر واستمر في البكاء، فقيل له: ما يبكيك يا أمير المؤمنين؟ قال: أبكاني هذا؛ فقد قال تعالى: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ * عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ * تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً [الغاشية:2-4].

    وهؤلاء هم الضالون الذين قال تعالى فيهم من أجل تربيتنا .. وهدايتنا.. وتوجيهنا.. وتعليمنا: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ [الفاتحة:6-7]. أي: اهدنا صراط الذين أنعمت عليهم لا الذين غضبت عليهم ولا صراط الضالين، فالمغضوب عليهم هم اليهود ومن على شاكلتهم ممن عرف الحق ثم سخر منه وعلا فوقه، فعرف الحلال والحرام وأبى إلا الحرام، وآثر الدنيا على الآخرة، وآثر شهواته على عبادة ربه. فاليهود مثل سوء في هذا الباب، وهكذا كل واحد منا يؤثر الدنيا على الأخرى فيعرف الحق ويصد عنه وينصرف، جرياً وراء دنياه وشهواته فإنه يكون ممن غضب الله عليه.

    إذاً الضالون يبذلون ويسهرون وينفقون، ولا شيء من الحسنات لهم؛ لأن تلك الأعمال ما شرعها الله لتنتج الحسنات وتولد الأنوار الروحية، فهم يشقون فقط، ولهذا استعيذوا بالله من الضلال.

    إذاً هذه الآية فسرت بوجهين:

    الوجه الأول: أن النصب والتعب للمجرمين الذين يعيشون عليه ثم يدخلون النار، وهو كذلك للذين يعملون بدون علم الله وبيان رسوله، فيعبدون الله بالبدع والضلالات والأديان المنسوخة الباطلة، ولا ينتج لهم ذلك حسنات، بل مع التعب والنصب والبلاء: تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً [الغاشية:4].

    والوجه الثاني: وجوه خاشعة ذليلة عاملة أعمالاً لا تتصورونها، وحسبك أن سلسلة تدخل من فيه، وتخرج من دبره ذرعها سبعون ذراعاً، ويكلفون صعود جبال من النار، ويسبحون في الحميم، والسلاسل والأغلال! فأي نصب وأي تعب أعظم من هذا؟ ناصبة عاملة تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً [الغاشية:4] أي: تحترق بهذه النار الحامية.

    ثانياً: إذا دخلت النار واصطلت بها تحتاج إلى الشراب، وما يبرد الظمأ.. وما يطفئ العطش؟ كما سيأتي بيانه.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (تسقى من عين آنية)

    ثم قال: تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ [الغاشية:5] أي: غلت وارتفعت درجة الحرارة، وبلغت مستوى لا تزيد بعدها الحرارة، فـ(الآن) معناه غليان الماء وارتفاع درجته إلى مائة وتسعين ألف كذا، وبعد ذلك يقف وليس هناك زيادة.

    إذاً آنية أي: انتهت إلى مستوى لا تزيد فوقه.

    من عين آنية هذا هو الشراب الذي يطفئ العطش، بل يزيد في العطش، كما قال تعالى: وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ [محمد:15] فالأمعاء: جمع معى، فهذا الماء الحار يقطع تلك الأمعاء ويمزقها، وهذه الحرارة تحتاج إلى ماء يصب من أعلى، كما قال تعالى: ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الْحَمِيمِ [الدخان:48] فيصب فوق رءوسهم من عذاب الحميم، ليس الذي يشربونه فقط، ويصبون عليهم ذلك الماء الحار المنتهي في الحرارة، ويتحملون، وتتهرى لحومهم وتتساقط، ولكن كلما نضجت جلودهم بدلهم الله جلوداً أخرى ليذوقوا العذاب؛ لأنها حياة غير قابلة للفناء، ولا تقبل الفناء لذاتها.

    ثم قال: ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ [الدخان:49] هذه الكلمة تلذعه في قلبه وتمزقه؛ لأنه يصب عليه الحميم ويقدم له الطعام الزقوم، ويقال: ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ [الدخان:49] لأنه كان يباهي الناس ويفاخر ويقول: أنا العزيز أنا الكريم، فتفضل إذن.

    معاشر المستمعين! بالله الذي لا إله غيره إن هذا الذي تسمعون لواقع مفروغ منه، كما قال تعالى: وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا [الذاريات:1] اسمع الله يحلف فَالْحَامِلاتِ وِقْرًا * فَالْجَارِيَاتِ يُسْرًا * فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْرًا * إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ * وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ [الذاريات:2-6] أي: أن الجزاء واقع، فما خلق الله الكون عبثاً.

    فقوله: إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ [الذاريات:5] فوعد الله وعد صادق، والجزاء على الكسب والعمل خيره وشره واقع.

    فالله يحلف من أجلنا؛ حتى نطمئن إلى الخبر، وتسكن نفوسنا، ونصدق، وحتى نعمل لننجو ونسلم، فالحمد لله.

    وفي قوله تعالى: تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ [الغاشية:5] قال: تُسْقَى ولم يقل: تشرب؟ لأنه لا يستطيع أن يشرب، بل يفتح فمه؛ فما إن يدنو الإناء من فمه أو يقرب إدناؤه من وجهه حتى تتهرى هذه البشرة وتتساقط، وحينئذ فإنه لا يشرب، بل يسقى.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (ليس لهم طعام إلا من ضريع)

    ثم قال تعالى: لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ [الغاشية:6] أي: ليس لهم طعام من لحم مشوي، أو بقلاوة، أو حلوى، أو خبز ناعم، أو رز، أو دجاج، أو بيض، وغير ذلك، بل لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ [الغاشية:6].

    والضريع يعرفه أهل البادية عندنا في الحجاز، يقال له: شبرق، فإذا يبس أصبح ضريعاً بشوكه، وإذا أكلته البهائم تصاب بالإسهال وتموت، فهو أخطر مادة عشبية. فهذا الضريع هو الذي يقتات به أهل النار؛ ليتعذبوا به، لا ليحيوا وتدوم حياتهم، فهم أحياء ويموتون، ولو لم يطعموه ولو لم يشربوا، بخلاف أهل الجنة -جعلنا الله وإياكم من أهلها- فإنهم يأكلون ويشربون لا من أجل البقاء على حياتهم، ولكن من باب التفكه، فطعام أهل الجنة فاكهة كفاكهتنا نحن الآن، فيأكلون الرز والدجاج واللحم والتفاح والبرتقال والتين ليس لأجل أن تحفظ حياتهم، لكن من أجل التفكه، ولهذا تجد في القرآن: وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ [الواقعة:20] فطعامهم تفكه فقط؛ لأن الغذاء يحفظ حياة الإنسان، ولو لم يتغذ الآدمي الآن فإنه يموت؛ لأن هذه الدنيا فيها الحياة والموت، وأهلها قابلون للفناء حسب خلق الله لهم، أما أهل دار السلام في الجنة أو دار البلاء في سجين فلا يقبلون الفناء لذاتهم، ولا يموتون، ولو لم يأكلوا أو يشربوا ملايين السنين فوالله ما ماتوا.

    إذاً: ليس أكل أهل الجنة وشربهم لأجل البقاء على الحياة إنما لأجل التلذذ والتفكه.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (لا يسمن ولا يغني من جوع)

    ثم قال تعالى: لا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ [الغاشية:7] أي: لا يسمن أجسامهم، لما فيه من الفيتامينات الزائدة، ولا يغني من جوع، فدائماً الخوى يمزقهم ولو أكلوا خمسين طناً، فهذا الطعام لا يسمن ولا يغني من جوع.

    1.   

    أوجه التشابه بين سورتي الغاشية والحاقة

    ورد في سورة الحاقة ما يوافق سورة الغاشية، وهذا دليل على أن السورتين من فصيلة واحدة.

    قال تعالى في سورة الحاقة: وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ * وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ * يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ * مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ * هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ [الحاقة:25-29] يندب، هل استجيب له؟ اسمع الجواب: خُذُوهُ فَغُلُّوهُ * ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ [الحاقة:30-31] لا إله إلا الله! هؤلاء هم الزبانية. هل سمعتم هذا الكلام؟ هل هذا الكلام يقوله بشر؟ هل هذا من كلام الناس؟ أنى للعقول البشرية أن ترقى إلى هذه المستويات في كلام الله!

    خُذُوهُ فَغُلُّوهُ [الحاقة:30] معنى غلوه: اجعلوا الأغلال في عنقه ويديه، واسحبوه.

    ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ * ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ [الحاقة:31-32] هل هذا ذراع السلطان: نصف متر؟ لا، إن حلقة السلسلة -والسلسلة حلقات- كما بين السماء والأرض.

    فإن قيل: ما هذا التهويل؟

    قلنا: أما بلغك أن ضرس الكافر يوم القيامة كجبل أحد؟ والذي ضرسه كجبل أحد كم يكون جسمه؟!

    وأما بلغك أن ما بين كتفي الكافر في جهنم كما بين مكة وقديد، أي: مائة وخمسة وثلاثين كيلو متراً!

    وأما بلغك أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: ( أذن لي -أي: أعطيت رخصة- أن أتكلم عن غيب وهو: أن ملكاً من الملائكة في صورة ديك -ذكر الدجاج- عنقه ملوية تحت العرش ورجلاه في تخوم الأرض السابعة ) ولو فكرنا في وضعنا لوجدنا أنفسنا أقل من القملة، أي: إذا قسناه بذلك الخلق العظيم.

    أما صح عندكم يقيناً أن جبريل عليه السلام لما ظهر لرسول الله صلى الله عليه وسلم في مكة كان قد غطى الأفق كله بستمائة جناح، فأين نحن؟

    إذاً قوله: سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ [الحاقة:32] أي: أدخلوه فيها، فتدخل من فمه وتخرج من دبره!

    لكن لماذا هذا العذاب يا رب؟ وما فعل هذا المخلوق الذي أوتي كتابه بشماله، ويمكن أن يكون اسمه إبراهيم أو عيسى أو محمد؟ وما ذنبه؟

    اسمع الآية المحكمة تقول: إِنَّهُ كَانَ لا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ [الحاقة:33] كان كافراً.. علمانياً.. بلشفياً.. لا يؤمن بالله ولا بلقاء الله. وكان يقول: لا إله والحياة مادة.

    إن أربعة أخماس البشرية الآن من هذا النوع؛ لأن بني عمنا -عليهم لعائن الله- استطاعوا أن يصيبوا البشرية بالإلحاد، لغرض في نفوسهم، والبشرية إذا كانت تدين بدين فإنهم لا يستطيعون السيطرة عليها، فإذا مسخوها بهائم وحيوانات ينزو بعضها على بعض فحينئذٍ امرأة يهودية واحدة تسوق أمة، فعلماء اليهود ضربوا العالم بالبلشفية، ثم لما ما راجت في بلاد المسلمين حولوها إلى اشتراكية، ولما تحطمت الاشتراكية صبغوها بصبغة جديدة هي العلمانية، وممكن يزيدون أخرى، والبشرية لما بعدت عن نور الله، ولما حرمت من كتاب الله، أصابها الذي أصابها.

    ضرورة العودة إلى كتاب الله

    فإذا قلنا لهم: هيا بنا نعود. قالوا: لا نستطيع.

    نحن لا نقول: أنفقوا أموالكم، ولا عطلوا مصانعكم، ولا دمروا مزارعكم، ولا أغلقوا أبواب متاجركم، ولا أغلقوا مدارسكم وجامعاتكم، ولا ولا، لا. ما قلنا هذا أبداً، والله ما نطالب بهذا، بل افعلوه وزيدوا في نشاطكم، وإنما نطالب -والله يشهد- أن تصدقوا الله في أنكم مؤمنون به، وتصدقوا رسول الله في إيمانكم به، وتصدقوا عقيدتكم بالبعث الآخر والجزاء على الكسب الدنيوي، ثم توسعون مسجد الحي أو مسجد القرية، ولو بجريد النخل، ولا نحتاج إلى حديد ولا إسمنت أبداً، فقط ما يكننا عن الحر والبرد، فإذا وسع المسجد وأصبح يتسع لأهل الحي وتعدادهم خمسة آلاف نسمة أو أربعة آلاف، والتزمنا لله بألا يتخلف منا رجل ولا امرأة ولا ولد إلا ذو عذر قاهر كمرض، وأن نحضر كلنا إلى ذلك الجامع الذي يجمعنا، ونصلي المغرب، ونجلس هذا المجلس، ويجلس لنا عالم رباني، يأخذ في تذكيرنا.. في تعليمنا.. في توجيهنا.. في ترشيدنا.. في تهذيب أخلاقنا.. في تزكية أنفسنا.. فيغذينا ساعة ونصف، ثم نصلي العشاء وننصرف زاهدين في الحطام، وراغبين في دار السلام، ونجلس في بيوتنا ذاكرين، وننام شاكرين، ونستيقظ آخر الليل للقيام، ثم نصلي الصبح، ثم ننطلق في مزارعنا ومصانعنا ومتاجرنا نشتغل حتى نروي الدنيا بأعمالنا فقط، وهكذا كل يوم وطول العام وطول الحياة.

    فإذا غابت الشمس دخلت المدينة ما وجدت أحداً، فالناس في بيوت الله، يريدون منه أن يرحمهم، يستمطرون رحماته، ويطلبون حبه وولاءه ليكملهم ويسعدهم.

    والآن أقول للسياسيين والفلاسفة والاجتماعيين وغيرهم: إذا استمرت الحياة في القرية على هذا المنوال؛ أن يجتمعوا كل ليلة طول العام يبكون بين يدي الله؛ فهل يزني بعضهم بنساء بعض؟

    هل يمكن أن يقوم أحدهم بالليل يسرق الثاني؟

    هل يمكن لأحدهم أن يحسد مؤمناً أخاه قد أعطاه الله ولداً أو مالاً؟ هل.. هل.. هل..؟

    لا يمكن أن يكون إلا النور الإلهي، ولهذا جاء القرآن وبعث الله محمداً.

    ومن هنا قلنا لهم: بالله الذي لا إله غيره! لن تستطيعوا أبداً أن توجدوا منهجاً إصلاحياً تربوياً ينقذ هذه الأمة مما هي فيه إلا هذا المنهج؟ خذوه وإلا امرحوا حتى يأتي الوعد.

    هل يظنون أن قائل هذا جاهل متخبط حيران؟ وأن هذا كلام تمليه الشياطين.

    كلا، نحن نقول قال الله وقال رسوله، وليست خيالات ولا ضلالات، ولو بلغ هذا الكلام العلماء والحكماء والحكام لنفذوه.

    والله لا نجاة إلا هذا السبيل، إذ سلكه رسول الله والمؤمنون.

    أما أهل قرية أو أهل مدينة لا يعرفون الله؛ فكيف يحبونه؟! ولا يعرفون الله؛ فكيف يخافونه؟ ولا يعرفون عذاب الله فكيف يخشونه؟ لا بد من علم.

    فإن قيل: يا شيخ! عندنا علم وعلماء ومدارس وكليات وجامعات ما أنتجت، أين النتاج الطيب؟

    اسألوا السجون كم فيها، واستقصوا الجرائم التي تتم كم تعدادها كل يوم؟ أين العلم؟

    الجواب: هذه المدارس بنيت للدنيا، هي تخدم الدنيا، نعم. أما أن تريد السماء والملكوت الأعلى فلا بد من دراسة خاصة.

    أما سمعتم من يقرر هذه الحقيقة؟

    إنهما إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام كانا يبنيان الكعبة في بداية أمرها ويقولان: رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ [البقرة:129] هل إبراهيم لا يعرف أم هذا ليس من العالم؟ هو لم يطالب ببناء الكليات والجامعات؟ بل قال: يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ [البقرة:129] فقط تقرأ عليهم ينجذبون ويطيبون ويطهرون، وقد فعل الله عز وجل، واستجاب لدعوة الخليل، وبعث خاتم الأنبياء وإمام المرسلين محمداً صلى الله عليه وسلم، وفعل الذي طلب إبراهيم.

    واسمع الله يمن علينا: هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ [الجمعة:2].

    كيف كان الرسول يعمل؟ هل أمر الناس بفتح المدارس والكليات والجامعات؟ لا.

    كان يجمعهم هكذا ويتلو عليهم الآيات، ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم، ثم بعد ذلك ينطلقون لدنياهم، فهذا يصنع الزجاج، وهذا يخيط كذا، وهذا يحرث الأرض.

    سبب عذاب جهنم وبعض مظاهره

    ونعود إلى السياق الكريم، حيث قال تعالى في بيان هذا الحكم: إِنَّهُ كَانَ لا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ [الحاقة:33] أولاً، وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ [الحاقة:34] ثانياً. وهذه السورة مكية، فمكة يومئذ ما فيها صلاة ولا صيام، بل فيها النفقة على الفقراء والمساكين والضيوف والحجاج والإيمان، لكن هذا الكافر كان لا يؤمن بالله العظيم، وما دام لا يؤمن بالله لا يعبده، لا يوحده، لا يطيع أمره ولا أمر رسوله، ويكفي العلة هذه: وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ [الحاقة:34].

    فهل نحن حضضنا على طعام المسكين؟ قالوا: لا نستطيع ولا نقدر.

    وإننا لو رجعنا وعدنا إلى المسجد والله لنستطيع بكل يسر وسهولة، فأهل الحي أو القرية لا يجوع فيهم جائع، ولا يوجد فيهم مسكين أبداً، ولا من لا مأوى له؛ إذ يتعاونون، وهم مستعدون أن يبذلوا أقواتهم، فقد عرفوا الطريق.

    أما الآن تعطي من وتترك من؟ ولا تصدق حتى الذي يطلب. فكم من واحد يقول: أنا محتاج وهو غير محتاج، لا تثق به.

    لكن إذا كنا في القرية أو في الحي فنحن نعرف بعضنا بعضاً، ونجد لذة في النفقة ما طعمناها ولا عرفناها، بدليل: لو تعلم أن زيداً حقاً جائع والله لتعطيه عشاءك لتتلذذ بالجوع ويشبع هو، بالله العظيم، لكن ما دمت لا تدري؛ لأننا كذبة، فلا آداب ولا أخلاق ولا..، فما أصبح بعضنا يعرف بعضا.

    فإن قالوا: كيف نعود؟ قلنا: عن طريق المسجد، قلنا: لا. في المسجد تحبسنا!

    إذاً: كيف تطلعون إلى السماء؟ طيروا.

    لا ينفع، لا بد من المسجد، فهناك تتولد الطاقة النورانية.

    قال تعالى: فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ [الحاقة:35] أي: لا ابن عم ولا ابن القبيلة يدافع عنه.

    وَلا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ [الحاقة:36] غسلين من الغَسل، وعندما تغسل المرأة الطبق أو القصعة تسميها الغُسالة، وغسلين على وزن فعلين.

    فالغسلين: هو تجمع من دماء وقيوح وأوساخ الزناة والفجرة أهل النار، وتصبح كتلاً وأطناناً، ثم تكون منعطفات، وهذا هو الطعام. وهذا لأهل دركة؛ لأن النار سبع دركات: أولى... ثانية.. ثالثة.. رابعة..، وهكذا.

    والنار لها سبعة أبواب كما قال تعالى: لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِكُلِّ بَابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ [الحجر:44] فكل أهل طبقة لهم طعام خاص كما نحن، وهؤلاء ما لهم إلا غسلين، وأولئك ما لهم إلا الضريع، وآخرون ما لهم إلا الزقوم فقط.

    فاستعيذوا بالله من النار.. استعيذوا بالله من النار!

    إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمنا رحمة بنا فيقول: ( إذا انصرفت من صلاة المغرب - يا عبد الله! يا أمة الله!- فقل: اللهم أجرني من النار، سبع مرات، فإنك إذا قلت ذلك ثم مت في ليلتك كتب لك جوار منها، وإذا صليت الصبح فقل كذلك فإنك إن مت في يومك كتب لك جوار منها ).

    وقال صلى الله عليه وسلم: ( ما من عبد يستعيذ بالله من النار ثلاث مرات إلا قالت النار: اللهم أجره مني ).

    فإذا صليت الصبح فقل هذا الدعاء، وقله كذلك أول الليل وأول النهار، فإن مت من يومك أو ليلتك إن شاء فلن تكون من أهل النار.

    هذا والله تعالى أسأل أن ينفعنا دائماً بما نقول ونسمع. وبلغوا دعوة الله يا عباد الله!

    وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين..

    مواد ذات صلة

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    755962635