ثم تبقى أشياء أحلها لقوم وحرمها على آخرين، أو أن أقواماً فرض عليهم كذا، وفرض على أقوام أخرى، وهذا يعود إلى تربيته لعباده، فهو يشرع لهم ما يصلحهم وينفعهم، فيحل ما يزيد في كمالهم، ويحرم ما يؤذيهم ويضر بهم.

أما الملة التي هي أن يعبد الله وحده فهي واحدة، واقرءوا هذه الآية الكريمة: إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ [الأنبياء:92]. وأمتكم بمعنى: ملتكم ملة واحدة، ألا وهي الإسلام.

وقد عرفنا الإسلام، فهو: إسلام القلب والوجه لله، أي: أن تسلم قلبك لله، فلا يتقلب إلا في طلب رضا الله، وتسلم وجهك له، فلا تلتفت إلى غير الله، ويتبع ذلك أعضائك، فسمعك وبصرك ويدك ورجلك تكون كلك لله.

ثم يقول تعالى: وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ [الأنبياء:92]، أي: خالقكم ورازقكم ومربيكم، وليس لكم خالق ولا رازق ولا مربٍ غيري، إذاً: فاعبدوني، أي: أطيعوني فيما آمركم به وأنهاكم عنه؛ إذ العبادة هي: الطاعة مقرونة بالخشوع والخضوع، أي: أن تذل لله وتعبده في ذلة وخشوع. فتلكم هي العبادة.

وقد عرفنا أن سر العبادة هو أن نكمل ونسعد في الحياتين في الدنيا والآخرة. فسر العبادة وعلتها هي أن نكمل ونسعد في الحياة الدنيا وفي الحياة الآخرة التي لا محال من إتيانها.

فهكذا يقول تعالى هنا يعلمنا، فهو فيقول: اعلموا إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ [الأنبياء:92]. آمنا بالله ولقائه.

قال:[ بعد ذكر أولئك الأنبياء ] وما أكثرهم [ وما أكرمهم الله تعالى به من إفضالات، وما كانوا عليه من كمالات قال تعالى مخاطباً الناس كلهم: إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ [الأنبياء:92]، أي: ملتكم أُمَّةً وَاحِدَةً [الأنبياء:92]، أي: ملة واحد من عهد أول الرسل إلى خاتمهم، وهو الإسلام القائم على الإخلاص لله في العبادة، والخلوص من الشرك ] فالإسلام قائم على الإخلاص لله في العبادة، والخلوص من الشرك؛ لأنه إسلام القلب والوجه لله، لا لغيره.

[ وقوله تعالى: وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ [الأنبياء:93] ينعى تعالى على الناس تقطيعهم الإسلام إلى ملل شتى، كاليهودية والنصرانية وغيرهما، وتمزيقه إلى طوائف ونحل ] والعياذ بالله تعالى.

وقوله: كُلٌّ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ [الأنبياء:93] إخبار منه تعالى أنهم راجعون إليه لا محالة بعد موتهم، وسوف يجزيهم بما كانوا يكسبون، ومن ذلك تقطيعهم للدين الإسلامي، وتمزيقهم له، فذهبت كل فرقة بقطعة منه.

وقوله تعالى: فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ [الأنبياء:94] والحال أنه مؤمن، والمراد من الصالحات: ما شرعه الله تعالى من عبادات قلبية وقولية وفعلية. فَلا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ [الأنبياء:94]، أي: لعمله، فلا يجحد ولا ينكر، بل يراه ويجزي به كاملاً.

وقوله تعالى: وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ [الأنبياء:94] يريد أن الملائكة تكتب أعماله الصالحة بأمرنا، ونجزيه بها أيضاً أحسن جزاء. وهذا وعد من الله تعالى لأهل الإيمان والعمل الصالح. جعلنا الله منهم، وحشرنا في زمرتهم ] آمين.

[ وقوله تعالى: وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ [الأنبياء:95]، يخبر تعالى أنه ممتنع امتناعاً كاملاً أن يهلك أمة بذنوبها في الدنيا ثم يردها إلى الحياة في الدنيا. وهذا بناء على أن ( لا ) ] هنا [ مزيدة؛ لتقوية الكلام. ويحتمل الكلام معنى آخر: وهي ممتنع على أهل قرية قضى الله تعالى بعذابهم في الدنيا أو في الآخرة أنهم يرجعون إلى الإيمان والطاعة والتوبة الصادقة ] ولن يكون هذا [ وذلك بعد أن كذبوا وعاندوا، وظلموا وفسقوا، فطبع على قلوبهم، فهم لا يرجعون إلى التوبة بحال ] لأن الله قضى بعذابهم.

[ ومعنى ثالث: وهو حرام على أهل قرية أهلكهم الله بذنوبهم فأبادهم أنهم لا يرجعون إلى الله تعالى يوم القيامة، بل يرجعون للحساب والجزاء. فهذه المعاني كلها صحيحة. والمعنى الأخير ] الذي سمعتموه [ لا تكلف فيه بكون (لا) صلة، بل نافية ] وقوله تعالى: وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ [الأنبياء:95]، المراد من القرية: أهلها، والقرية: المدينة، وليست القرى في اصطلاح الجغرافيين.

[ ويرجح المعنى الأخير قوله تعالى: حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ [الأنبياء:96]. فهو بيان لطريق رجوعهم إلى الله تعالى، وذلك يوم القيامة، وبدايته تظهر علاماته الكبرى، ومنها انكسار سد يأجوج ومأجوج وتدفقهم في الأرض، يخربون ويدمرون. وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ [الأنبياء:96] وصوب يَنسِلُونَ [الأنبياء:96]. مسرعين.

وقوله تعالى: وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ [الأنبياء:97] وهو يوم الدين والحساب والجزاء.

وقوله: فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا [الأنبياء:97]، وذلك بعد قيامهم من قبورهم، وحشرهم إلى أرض المحشر، وهم يقولون في تأسف وتحسر: يَا وَيْلَنَا [الأنبياء:97]! أي: يا هلاكنا! قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ [الأنبياء:97]، أي: في دار الدنيا، بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ [الأنبياء:97]. فاعترفوا بذنبهم حيث لا ينفعهم الاعتراف؛ إذ لا توبة تقبل يومئذ ].

أولاً: وحدة الدين، وكون الإسلام هو دين البشرية كافة؛ لأنه قائم على أساس توحيد الله تعالى في عبادته التي شرعها؛ ليعبد بها ] فالدين واحد، ألا وهو دين الله الذي تعبد به البشرية. وليس هناك فرق بين ما كان عليه إبراهيم إلى عيسى .. إلى محمد صلى الله عليه وسلم، إذ معناه: أن يعبد الله بما شرع وحده، العبادة هي: الطاعة للتعاليم التي يأمر الله بها عباده. ولكنهم مع الأسف مزقوه وفرقوه، فأصبحوا طوائف وفرقاً؛ بسبب عمل الشيطان والنفوس الفاسدة.

[ ثانياً: بيان ما حدث للبشرية من تمزيق الدين بينها ] وتشتيته وتفريقه [ بحسب الأهواء والأطماع والأغراض ] والنزغات الشيطانية.

[ ثالثاً: وعد الله لأهل الإيمان ] الصحيح [ والعمل الصالح ] الخالص لله، الخالي من الشرك [ بالجزاء الحسن، وهو الجنة ] دار السلام.

[ رابعاً ] وأخيراً: [ تقرير حقيقة، وهي: إذا قضي بهلاك أمة تعذرت عليها التوبة، وأن أمة يهلكها الله تعالى لا تعود إلى الحياة الدنيا بحال، وأن البشرية عائدة إلى ربها، فممتنع عدم عودة الناس إلى ربهم؛ وذلك لحسابهم وجزائهم يوم القيامة ] فهكذا أخبر تعالى، أنه ما من أمة كتب الله هلاكها والقضاء عليها لا تتوب ولا ترجع، بل تستمر حتى يهلكها، ثم إذا هلكت لا يمكن أن تحيا من جديد وتعبد الله وترجع، ثم إذا ماتوا لقوا العذاب في جهنم، والعياذ بالله تعالى.

معاشر الإخوان! أحد إخوانكم جاء يشكو، ويقول: أولاده مرضى، فادعوا الله لهم بالشفاء.

اللهم يا حي يا قيوم! يا بديع السموات والأرض! يا ذا الجلال والإكرام! هذه أكفنا قد رفعناها إليك سائلين ضارعين فاكشف ضر هؤلاء المؤمنين، واكشف ضر كل مؤمن ومؤمنة يا رب العالمين! اللهم اشف صدورنا، وطهر قلوبنا، وزكي أرواحنا، واجمعنا على الحق يا رب العالمين! وتوفنا وأنت راضٍ عنا، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.

يا حي يا قيوم! اكشف ضر هؤلاء المرضى، واشف كل مؤمن ومؤمنة يا رب العالمين! إنك ولي ذلك والقادر عليه، وتوفنا وأنت راضٍ عنا، وأدخلنا برحمتك في عبادك الصالحين.

وصل اللهم على نبينا محمد، وآله وصحبه أجمعين.