إسلام ويب

تفسير سورة الأعراف (38)للشيخ : أبوبكر الجزائري

  •  التفريغ النصي الكامل
  • إن التعليل الصحيح لكل انحراف وفساد وظلم وشر وقع في الأرض ويقع إلى نهاية هذه الحياة هو التكذيب بآيات الله والغفلة عنها، سواء كان الحامل على التكذيب الكبر أو الظلم أو التقليد أو العناد، إلا أن الكبر هو أقوى هذه العوامل التي تصرف عن آيات الله، ومن صرفه الله عن آياته فإنه لا يقبل ولا يرجع ولا يهتدي سبيلاً.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (سأصرف عن آياتي الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق ...)

    الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.

    وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.

    أما بعد:

    فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة.

    ثم أما بعد:

    أيها الأبناء والإخوة المستمعون.. ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة -ليلة الأربعاء من يوم الثلاثاء- ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نفوز بذالكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم؛ إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ).

    وها نحن ما زلنا مع سورة الأعراف المكية المباركة الميمونة، وها نحن مع هذه الآيات المباركة فلنصغ إليها مستمعين لتلاوتها مجودة مرتلة ثم نأخذ في تدارسها.

    أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم. سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ * وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاءِ الآخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [الأعراف:146-147].

    معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! قول ربنا جل ذكره: سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ [الأعراف:146]، هذا وعد أو وعيد؟ هذا وعيد شديد، مؤكد بحرف التوكيد، سَأَصْرِفُ [الأعراف:146]، والصرف معروف، أن تلتفت إلى غير ما تريد، أن تبتعد عما لك إليه حاجة، صرفه عن كذا: أبعده وحال بينه وبين ما يريد.

    أنواع الآيات

    يقول عز وجل: سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ [الأعراف:146]، وهنا ثلاث آيات:

    الأولى: المعجزات التي يؤيد الله بها أنبياءه ورسله، كعصا موسى، وانفلاق البحر، وتلك الآيات التي تقدم بيانها، وانفلاق القمر فلقتين في مكة، هذه الآيات الدالة دلالة قطعية واضحة على أنه: لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم.

    ثانياً: الآيات الكونية، يعيش الكافر المشرك سبعين سنة ما يفكر يوماً لماذا خلق، ينظر إلى الكون حوله، لا يقول: من خلق هذا الكوكب، من أوجد هذه الشمس، من أوجد هذا العالم، من أوجد هذا الإنسان، من فرق بينه وبين بعضه وميز بين كل إنسان وآخر؟ خمسين سنة لا يفكر من أين الماء، كيف يذهب الماء العطش، من أين الطعام؟ كيف هذا الطعام يذهب الجوع؟ وكأنه حجر أو بهيمة، لا يفكر في آيات الله التي هي هذا الكون كله، كل ذرة به تدل على وجود موجدها وعلى قدرته، لولا قدرته ما كانت، وتدل على علمه وحكمته، ولولا ذلك ما كانت، ولولا رحمته ما بقيت، آيات الكون، إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الأَلْبَابِ [آل عمران:190].

    الآية الثالثة: آيات القرآن الكريم، آيات التوراة، كل آية من القرآن تقول: لا إله إلا الله محمد رسول الله، وأن دار الجنة كدار النار حقيقتان موجودتان الآن وينتقل إليهما أصحابهما من أهل الإيمان والتوحيد، وأهل الشرك والكفر.

    هذه الآيات إذا عمي عنها العبد يصرفه الله عنها ولا يرجع أبداً، وهذا وعيد: سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ [الأعراف:146] من أصرف؟ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ [الأعراف:146].

    خطر الكبر وضرره

    معاشر المستمعين والمستمعات! أمر الكبر هذا أمر عظيم، نسمع عن رسولنا صلى الله عليه وسلم يقول: ( لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر )؛ لأن المتكبر انتزع صفة الرب واتخذها له ولبسها كثوب، نازع الرب تبارك وتعالى في كبريائه، في عظمته، فالتكبر داء من أبشع الأدواء وأضرها، ما من إعراض وصدود عن الحق ودلائله وبراهينه إلا والكبر هو السبب لذلك والمانع منه.

    يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ [الأعراف:146] ومن له حق في أن يتكبر؟ من له الحق في أن يتكبر من بني آدم؟ نسي هذا المتكبر أن أصله، منشأه، مادة خلقه نطفة قذرة، وأنه يحمل العذرة -البول والخرء- في بطنه، يمشي وهما في كيس بطنه، ونهايته جيفة منتنة مذرة، فهل هذا يتكبر عن الحق؟ تدعوه إليه فيلوي رأسه ويتكبر، ومن أصيب بداء الكبر أصبح من أظلم الخلق، ظلم ربه فكيف بالناس؟ يهتك أعراضهم ويأكل أموالهم ويعذب أبدانهم لكبريائه، الكبر داء من أخطر الأدواء، ومن أراد أن يعالجه إن شعر به فعلاجه أن يذكر أصل نشأته ومنتهى حياته وما يعيش فيه فيستحي أن يتكبر.

    إذا عطش فلو يعطى كأس ماء بكل ما يملك لتفضل به مقتنعاً فرحاً ليحيا، حياتك بيد من أيها الإنسان؟ أليست بيد الله عز وجل؟

    معنى قوله تعالى: (وإن يروا كل آية لا يؤمنوا بها)

    إذاً: اسمع ما يقول الحق تعالى: سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِهَا [الأعراف:146] هذا شأن المتكبرين، لو يشاهدوا آلاف الآيات ما يؤمنون بها، قل له: ارفع رأسك إلى السماء وقل: من سمكها؟ من رفعها؟ هذه الأرض من بسطها؟ هذه الجبال من نصبها؟ هذه الحيوانات من أوجدها؟ هذه البشرية من خالقها وموجدها؟ ليس من جواب إلا: الله.

    وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِهَا [الأعراف:146] وقد شاهد فرعون وملؤه ورجاله تسع آيات وما آمنوا بها، من صرفهم؟ الله؛ لأصل كبرهم وعنادهم وتكبرهم حرموا هداية الله عز وجل، وهذه سنة بشرية ثابتة، إذا العبد أصر على الذنب وواصل فعله واقترافه يوماً بعد آخر وعاماً بعد آخر يتأصل فيه ذلك المرض ويصبح لا يقبل موعظة ولا اتجاهاً ولا تأييداً، وكثيراً ما أقول للمستمعين والمستمعات: احذر يا عبد الله أن توالي الذنب، أذنبت ذنباً فعجل بالتوبة والاستغفار والندم، أما أنك تعيد الذنب وتكرره عاماً بعد عام فيتأصل فيك ويصبح غريزة من غرائزك وطبيعة من طبائعك، ما ترجع أبداً عنه، تموت على ذلك، أرشدنا الله تعالى إلى هذا في قوله: إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ [النساء:17] لمن؟ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ [النساء:17] أولاً بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ [النساء:17] ثانياً.

    إنما التوبة الواجبة على الله لأوليائه وعباده هي لمن يعمل السوء بجهالة، وقد فسرنا للجهالة ألواناً، من الجهالة أنه لا يدري هل هو جائز أو ممنوع وتبين أنه حرام وتاب، من الجهالة أنه يقول: سوف أتوب من هذا الذنب، أفعله وأتوب، من الجهالة أن يقول: لو كان هذا حراماً ما فعله الشيخ الفلاني، أو يقول: لو كان هذا مغضباً لله فلم فعله الناس وتركهم بلا تعذيب؟ هذه أنواع الجهالات، بخلاف العالم المتعمد، فهذا لن يهدى ولن تقبل له توبة ولن يتوب.

    إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ [النساء:17] ونقول: الأطباء الذين عالجوا البشرية وعرفوا أدواءها وعلاجها يقولون: هناك أمراض إذا مرضها العبد ولم تعالج منه وتأخر العلاج يقال لصاحبها: لتيأس من حياتك، لم؟ لانتشار هذا الداء وانتشاره في جسمه، ما يعالج، وهذا معروف عند الناس، فلهذا الذي يعمل السوء بجهالة ثم يتوب من قريب يتوب الله عليه أبداً ولا يتركه، وأما من واصل الجريمة -والعياذ بالله- مع الكبر فلن يتوب الله عليه، ما أصبح أهلاً لأن يتوب الله تعالى عليه.

    معنى قوله تعالى: (وإن يروا سبيل الرشد لا يتخذوه سبيلاً وإن يروا سبيل الغي يتخذوه سبيلاً)

    ثم قال تعالى: وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا [الأعراف:146] إن رأوا سبيل الرشاد ما يمشون معه أبداً، لا يتخذونه طريقاً في حياتهم، سبيل الرشد في التجارات معروف، في الفلاحة معروف، في المؤاخاة معروف، في المواطنة، سبل الرشد كثيرة، يعرف أن هذا السبيل سبيل رشد ولا يسلكه ويسلك سبيل الغي، والغي ضد الرشد، وعلة هذا: الكبر الذي في نفوسهم، في قلوبهم.

    وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا [الأعراف:146]، هيا نجلس ساعة في المسجد النبوي نتعلم الهدى، فيقول: لا، إلى المقهى والملعب. هيا نذكر الله عز وجل، ندرس آية من كتابه في مجلسنا هذا، فما يستطيع، يريد أن يسمع الأغاني أو يلعب الكيرم والورق، هيا نقض عطلتنا في مكة أو في المدينة النبوية، لا، يقضيها في أوروبا وأمريكا، هذه أمثلة لسبيل الرشد والغي، إن يروا سبيل الرشد ما يمشون معه، لا يتخذونه طريقاً أبداً يسلكونه، وإن يروا سبيل الغي والوسخ والمرض النفسي يتخذوه سبيلاً، هذه إخبارات الله عز وجل خالقهم.

    علة إعراض المتكبرين عن سبيل الرشد

    وعلل تعالى ذلك بقوله: ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ [الأعراف:146] هذه هي العلة، ذلك الإعراض عن الرشد وطرقه والإقبال على الغي وسبله سببه تكذيبهم بآيات الله، ما آمنوا بها، إذ لو آمنوا بها لطلبوها وفهموها وعملوا بها، لكن ما داموا ما آمنوا ولا يقرأ آية ولا يريد أن يسمع ما فيها، كذبوا أولاً، ثم كانوا عنها غافلين. الآيات تتلى في الإذاعة وتسمع في الشرق والغرب والمؤمنون يصغون ويستمعون وهؤلاء المرضى يعرضون ولا يسمعون أبداً، تحمل أنواع الهدايات، أنواع الرشد، ولا يبالون بذلك ولا يلتفتون إليه، ويسمعون الأغاني والمزامير واللهو والباطل.

    هذا تعليل ربنا عز وجل، ذلك الإعراض عن سبل الرشد والانغماس في سبل الخبث والشرك والكفر بسبب أنهم كذبوا بآياتنا القرآنية التي أوحاها الله إلى رسوله وألهم المؤمنين حفظها وهي في صدورهم، والقرآن ماذا يحمل؟ والله! إنه ليحمل كل خير، لا يمكن أن تفتقر أمة القرآن إلى شيء لا يوجد في القرآن، في السياسة الخاصة والعامة، في الاقتصاد كما يقولون، في الجهاد، في البطولات، في الحروب، في كل شيء في الحياة؛ القرآن مملوء به، يقول تعالى: مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ [الأنعام:38]، وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ [النحل:44].

    لكن انظر وفكر: هل أمة الإسلام مقبلة على القرآن تدرسه وتفهم ما فيه؟ هل جاءك مؤمن قال: علمني معنى آية؟ اقرأ علي آية ترقق بها قلبي ونسمعها؟ هل جلس إنسان تحت ظل شجرة وقال لمن مر به: تعال من فضلك أسمعني آية، أو جلس على كرسيه في دائرة عمله وقال: تعال يا فلان اقرأ علي شيئاً من القرآن؟ هل أهل البيت يجتمعون عليه ويتدبرون ما فيه ويبكون فترق قلوبهم وتزكو أنفسهم؟ ما إيماننا بالقرآن إذاً؟ لا نقرؤه ولا نستمع إليه ولا نفهم ما فيه ولا نطالب بفهمه والعمل به، أهذا إيمان؟ ما معنى الإيمان هذا؟ آمنا بأنه قرآن، فهل يكفي هذا؟

    أنت جائع وعطشان والماء في إناء وقصعة الطعام أمامك، وتقول: آمنت أنه طعام وماء، فهل تستطيع أن تبقى هكذا أم تقبل عليه تشرب وتأكل؟ أنت عطشان والماء أمامك وتقول: آمنت به ماء ولم تذهب لتشرب منه؟ هل ستصدق بأنك تؤمن بأنه ماء؟ أو جائع والطعام أمامك وتقول: آمنت بأنه طعام ثم لا تأكل منه؟ يعقل هذا الكلام؟ ما يعقل.

    فلو آمنا بأنه كلام الله لتعرفنا عليه وأحببناه واجتمعنا عليه ليل نهار لنعرف كلام ربنا، قرابة الألف سنة وثلاثة أرباع الأمة الإسلامية معرضون عن القرآن، ونستثني أنهم يجتمعون عليه عند الموت، سبع ليال ثلاث ليال بحسب غنى الميت وفقره، يسمعونه فقط، والذين يقرءون القرآن يضحكون أيضاً، ومنهم من يدخن أيضاً، هذه هي أمة القرآن.

    ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ [الأعراف:146] لا يذكرونها ولا يفكرون فيها ولا يهتمون لها.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (والذين كذبوا بآياتنا ولقاء الآخرة حبطت أعمالهم ...)

    ثم قال تعالى: وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاءِ الآخِرَةِ [الأعراف:147] ما لقاء الآخرة؟ مع من اللقاء؟ مع الله جل جلاله وعظم سلطانه، لقاء العبيد مع إلههم وسيدهم للحساب الدقيق والجزاء الوافي الكامل، هؤلاء الذين كذبوا بآياتنا أولاً وبلقاء الآخرة ثانياً، وأنتم تعرفون أن الإيمان بالكتب كالإيمان باليوم الآخر من أركان الإيمان، فأركان الإيمان ستة: الإيمان بالله وملائكته وكتبه وهي الآيات، ورسله من أنزلت عليهم، واليوم الآخر وهو آخر يوم في هذه الحياة ثم الدخول في الحياة الآخرة التي لا نهاية لها.

    وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاءِ الآخِرَةِ [الأعراف:147] ما لهم؟ أخبر عنهم فقال: حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ [الأعراف:147] سواء بنوا القصور أو شادوا العمارات أو غرسوا المزارع أو ألفوا أو فعلوا، قل ما شئت، هؤلاء حبطت أعمالهم، لا يعطون عليها أجراً ولا ترفع لهم بها درجة ولا يثابون عليها بحسنة، كلها هبطت وحبطت؛ لأنها قامت على أساس الشرك والكفر، حتى لو عتقوا العبيد، لو بنوا مثلاً الدور، لو عبدوا الطرق، لو بنوا المستشفيات، لو عالجوا المرضى، والله! لكل ذلك حابط هابط باطل، ما داموا غير مؤمنين وغير موحدين، والله يقول لرسوله صلى الله عليه وسلم في القرآن: وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ [الزمر:65] يعني: من الأنبياء والرسل، ماذا؟ لَئِنْ أَشْرَكْتَ [الزمر:65] أي: وعزتنا وجلالنا! لئن أشركت بنا في عبادتنا، في ربوبيتنا، في أسمائنا وصفاتنا، في حبنا وولائنا؛ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ [الزمر:65] حبوط العمل ليس هبوطه، ولكن بطلانه لا يبقى له أثر ولا وجود، كالذي يحترق ما يبقى منه شيء ولا رماد أيضاً.

    فأعمال الكافرين، أعمال المكذبين، أعمال سالكي سبل الغي والتاركين لسبل الرشد؛ أعمالهم مهما عظمت وجلت فإن نهايتها البطلان الكامل، هذا معنى قوله تعالى: حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ [الأعراف:147] من هم؟ وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاءِ الآخِرَةِ [الأعراف:147] ما قال: ولقائنا، وَلِقَاءِ الآخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ [الأعراف:147] ثم قال: هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [الأعراف:147] لا والله ما يجزون إلا ما كانوا يعملون: مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا [الأنعام:160] فالذين آمنوا وعملوا الصالحات وتبرءوا من الشرك والكفر يجزيهم الله على إيمانهم وصالح أعمالهم الحسنة بعشر أمثالها ليؤهلهم للدخول إلى دار السلام والحياة الأبدية، والذين كفروا بالله، كذبوا بآياته، أعرضوا عن كتابه وهدي رسوله وانغمسوا في أنواع الأوساخ من الفجور والربا والزنا والباطل والمنكر هؤلاء أيضاً سيجزيهم بما كانوا يعملون، والله أعدل العادلين وأرحم الراحمين.

    1.   

    ملخص لما جاء في تفسير الآيات

    اسمعوا الآيات مرة ثانية وتأملوا:

    يقول تعالى: سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ [الأعراف:146] هل بقي في نفس أحدنا كبر؟ لا كبر أبداً وإنما التواضع واللين والاعتراف بالضعف والعجز، أما الانتفاش والانتفاخ والتعالي فليس من شأن أهل الإيمان والتوحيد.

    إذاً: سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ [الأعراف:146] وهل هناك كبر بحق؟ لا. لكن لو فرضنا أن هناك حقاً وتكبرت به فلا بأس، مثاله: أنت مؤمن طاهر، دعيت إلى أن تجلس مجلس خبث وشياطين ومفسدين وتكبرت عن هذا المجلس وأبيت، نفسك أبت أن تجلس فيه، فهذا حق، ولو قدم لك طعام خبيث كخمر، لحم خنزير، فتقززت نفسك وأبت أن تأكل، فهذا التكبر محمود أم لا؟ محمود؛ لأنه بحق، لأن الله حرم هذا الأكل وحرم هذا المجلس وسماع هذا القول، فلهذا قال: سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا [الأعراف:146] ما علة ذلك؟ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا [الأعراف:146] هذه العلة، هذا المرض، لو آمنوا بآيات الله لقرءوها وفهموها وعملوا بها وما وقعوا في هذا الباطل، كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ [الأعراف:146] لا يبالون بها ولا يبحثون عنها ولا يفكرون فيها.

    وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاءِ الآخِرَةِ [الأعراف:147] ماذا لهم؟ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ [الأعراف:147] أي: بطلت، لا يعطون عليها حسنة واحدة أبداً، لا يثابون عليها بخير بحال.

    ثم قال تعالى: هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [الأعراف:147] الجواب: لا والله، لا يجزون إلا ما كانوا يعملون؛ لأن الله غني غنى مطلقاً، فلهذا لا يظلم أحداً أبداً، لا يأخذ حسنة ويغطيها ويقول: ما عندك إلا هذا، أو يضيف إليه سيئة ما عملها ولا شارك فيها ويقول: هذا من عملك، فهذا تنزه عنه الله جل جلاله وعظم سلطانه، وإنما العدل: سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ [الأنعام:139].

    1.   

    قراءة في كتاب أيسر التفاسير

    معنى الآيات

    والآن اسمعوا الآيات مشروحة مبينة في الكتاب.

    قال المؤلف غفر الله له ولكم ورحمه وإياكم وسائر المؤمنين:

    [ معنى الآيتين الكريمتين.

    هاتان الآيتان تحملان تعليلاً صحيحاً صائباً لكل انحراف وفساد وظلم وشر وقع في الأرض ويقع إلى نهاية هذه الحياة، وهذا التعليل الصحيح هو التكذيب بآيات الله والغفلة عنها، وسواء كان الحامل على التكذيب الكبر أو الظلم، أو التقليد أو العناد، إلا أن الكبر أقوى عوامل الصرف عن آيات الله تعالى ]، وذلك [ لقوله عز وجل في مطلع الآية الأولى: سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ [الأعراف:146]، ومن صرفه الله حسب سنته في صرف العباد لا يقبل ولا يرجع أبداً ]، لا يقبل على الله والخير ولا يرجع أبداً.

    [ وقوله: وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا [الأعراف:146] هذا بيان لعامل من عوامل الصرف عن آيات الله ]، هذا بيان لعامل من عوامل الصرف والبعد عن آيات الله، [ وهو أن يعرض على العبد ] يعرض عليه ليأخذ أو يترك، [ أن يعرض على العبد سبيل الرشد فيرفضه، ويرى سبيل الغي فيتبعه ويتخذه سبيلاً.

    وقوله تعالى: ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا [الأعراف:146] التي جاءت بها رسلنا ] كما قدمنا: التوراة والإنجيل وصحف إبراهيم وموسى، والقرآن العظيم هو المقصود، ذلك الإعراض سببه ماذا؟ [ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا [الأعراف:146] التي جاءت بها رسلنا، وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ [الأعراف:146] غير مبالين بها ولا ملتفتين إليها. هذا هو التعليل الصحيح الذي نبهنا إليه فليتأمل.

    وقوله تعالى في الآية الثانية: وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاءِ الآخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ [الأعراف:147] هذا تقرير المراد به تأكيد خسران أولئك المصروفين عن آيات الله تعالى، إذ أعمالهم لم تقم على أساس العدل والحق، بل قامت على أساس الظلم والباطل، فلذا هي باطلة من جهة فلا تكسبهم خيراً، ومن جهة أخرى فهي أعمال سوء سوف يجزون بها سوءاً في دار الجزاء وهو عذاب الجحيم ] والعياذ بالله. [ ولذا قال تعالى: هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [الأعراف:147] أي: ما يجزون إلا ما كانوا يعملون من السوء، وعدالة الله تعالى أن من جاء بالسيئة فلا يجزى إلا مثلها ] فقط بلا زيادة [ وهم لا يظلمون ]، ومن جاء بالحسنة فله عشر أمثالها.

    فإن شاء الله نكون قد أبعدنا عن أنفسنا مرض الكبر، لا تتكبر أبداً، عفر وجهك في التراب ساجداً راكعاً ولا تبال، احشر نفسك في زمرة الفقراء والمؤمنين ولا تتكبر، اعرض حاجتك على ربك وضعفك فاطرح بين يديه وتمسكن، أما التعالي والانتفاخ والانتفاش من أجل المال أو السلطة فهذا هو المرض الخطير.

    ثانياً: لا إعراض عن كتاب الله، يجب أن نقرأه، أن نجتمع عليه، أن نتدبره، أن نسأل عنه أهله، كيف نحفظ، كيف نعمل، كيف نفهم، كيف نطبق؟

    هداية الآيات

    قال المؤلف غفر الله له ولكم ورحمه وإياكم والمؤمنين:

    [ هداية الآيات:

    من هداية الآيات:

    أولاً: بيان سنة الله تعالى في صرف العباد عن آيات الله حتى يهلكوا كما هلك فرعون وآله ]، كيف صرف الله العباد؟ الذين استكبروا وتكبروا وكذبوا وأعرضوا لا يهديهم الله، يصرفهم عن الحق، وضربنا لهذا مثلاً: إذا استشرى الداء في الجسم لا يعالج.

    إذاً: [ بيان سنة الله في صرف العباد عن آيات حتى يهلكوا كما هلك فرعون وآله.

    ثانياً: من أقوى عوامل الصرف عن آيات الله الكبر ]، صاحب الكبر يعيش خمسين سنة في المدينة والله ما يجلس في حلقة، يتقزز أن يجلس مع الفقراء أو يسمع كلام الله، هذا المثال في العالم بأسره، ويجلس في مجالس الباطل وهو فرح مسرور، ما سبب هذا؟ الكبر، هل عرف أنه متكبر؟ ما عرف، ما سمع بالكبر، لكنها غريزة تغرزت وخليقة تخلقت فيه ولم يعالج، ما ذهب إلى الأطباء ولا عرض نفسه.

    [ من أقوى عوامل الصرف عن آيات الله الكبر ]، وهناك عوامل أخرى: حب الذات، حب الدنيا، الرغبة في الشهوات، هذا كله يصرف، لكن أعظمها الكبر.

    [ ثالثاً: التكذيب بآيات الله والغفلة عنها هما سبب كل ضلال وشر وظلم وفساد في الأرض ]، التكذيب بآيات الله والغفلة عنها؛ لأنه لو كذب فقال: ما نصدق أن هذا كلام الله، ثم ما غفل فأخذ يتتبعها ويدرسها فوالله! لعاد إلى الله ورجع إلى الحق، لكن كذب وأعطى ظهره، فكيف يرجع؟

    [ رابعاً: بطلان كل عمل لم يسلك فيه صاحبه سبيل الرشد التي هي سبيل الله التي تحدد الآيات القرآنية وتبين معالمها، وترفع أعلامها ].

    قال: [ بطلان كل عمل لم يسلك فيه صاحبه سبيل الرشد ]، هذا يدخل فيه كل بدعة، كل بدعة دينية يبتدعها الناس ويعبدون الله بها باطلة، وهي سبيل غي ليست بسبيل رشد، لن يكون السبيل سبيل رشد إلا إذا كان سبيل الله، هو الذي وضعه وبينه وأرسل رسله وعلم الناس إياه، وإلا فالسبل لا حد لها، فسبيل الله ذاك الذي شرعه: كيف تؤمن، كيف تعبد، كيف تصوم وتصلي.

    [ رابعاً: بطلان كل عمل لم يسلك فيه صاحبه سبيل الرشد ]، كالوضوء، أنت تغسل وجهك أولاً ورجليك وتترك مسح رأسك، فهل يقبل هذا الوضوء؟ ما سلكت فيه سبيل الرشد، ومن سبيل الرشد الصلاة، فأنت ما تسلكه، ما تصلي، أو تصلي كما تحب، تصلي ركعتين وتسلم، أو تصلي ثلاثاً وتقوم لحاجتك، فسبيل الرشد حولته إلى سبيل غي.

    والله تعالى أسأل أن ينجينا وإياكم من داء الكبر والغفلة والنسيان، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    755952931