إسلام ويب

تفسير سورة الكهف (3)للشيخ : أبوبكر الجزائري

  •  التفريغ النصي الكامل
  • كانت قصة الفتية أصحاب الكهف مما اختبر به مشركو مكة محمداً صلى الله عليه وسلم بإيعاز من يهود يثرب، فأوحى الله إلى نبيه تفاصيل قصتهم، حيث ذكر أنهم فتية ممن آمن بالله عز وجل وحده، ورفضوا ما كان يدعوهم إليه ملك مدينتهم من الكفر بالمسيحية، فآوى الله عز وجل هؤلاء الفتية المؤمنين إلى كهف لينجوا من كيد ذلك الملك الطاغية، وليفروا بدينهم الحق، وضرب على آذنهم فيه فناموا ثلاثمائة وتسع سنين متواصلة.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (نحن نقص عليك نبأهم بالحق إنهم فتية آمنوا بربهم وزدناهم هدى)

    الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.

    أما بعد:

    فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.

    أيها الأبناء والإخوة المستمعون، ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة ندرس كتاب الله عز وجل؛ رجاء أن نفوز بذلكم الموعود على لسان سيد كل مولود، إذ قال صلى الله عليه وسلم: ( ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم؛ إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده ).

    ها نحن الليلة مع سورة الكهف المكية المباركة الميمونة، فهيا بنا نصغي مستمعين إلى تلاوة هذه الآيات، وتلاوتها:

    قال تعالى: نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى * وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا * هَؤُلاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا * وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرفَقًا [الكهف:13-16].

    معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات! قول ربنا جل ذكره: نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ [الكهف:13]، أعيد إلى أذهانكم: أن المشركين في مكة بعثوا وفداً إلى علماء اليهود بالمدينة يسألونهم: هل محمد نبي حقاً ورسول؟ هل هو صادق فيما يدعو إليه ويقول؟ فأنتم أهل علم وأهل كتاب فأعطونا ما ترون، فقال لهم علماء اليهود بالمدينة: اسألوه عن ثلاثة أمور فإن أجاب عنها فهو نبي ورسول، وإن لم يجب وعجز فنظروا رأيكم فيه فإنه كذاب ومدعي فقط.

    وجاء الوفد إلى مكة وقال: يا محمد! أخبرنا عن فتية كانوا في الزمان الأول وكان لهم شأن، وعن رجل ملك الأرض شرقاً وغرباً، وعن الروح ما هي؟ فنزل: وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي [الإسراء:85]، لكن كيف؟ هل هي مستقرة أم ماذا؟ أو كيف تدخل؟ أو كيف تخرج؟ كل هذا من علم الله تعالى، ونزلت سورة الكهف فبين فيها تعالى قصة أصحاب الكهف وذي القرنين، فذو القرنين في آخر السورة وقصة أصحاب الكهف في أول السورة.

    واسمعوا ماذا قال تعالى: نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ [الكهف:13]، أي: نقص عليك نبأ هؤلاء الفتية بالحق، والنبأ هو الخبر العظيم ذو الشأن وذو القيمة، لا مجرد خبر فقط.

    نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ [الكهف:13]، وكيف لا والله خالقهم ومدبر حياتهم؟ فكيف لا يعلمهم؟

    ثم أخذ يبين فقال: إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ [الكهف:13]، وفتية جمع فتى، والفتى هو الشاب لا الكهل ولا الشيخ، فالشاب يطلق عليه لقب الفتى، ويجمع على فتية وفتيان، إِنَّهُمْ [الكهف:13]، أي: أصحاب الكهف الذين أووا إليه ودخلوا فيه، ومكثوا فيه ثلاثمائة سنة وتسع سنين، فِتْيَةٌ آمَنُوا [الكهف:13]، بماذا؟ بِرَبِّهِمْ [الكهف:13]، إذ وجدوا في بمدينة سلطانها كافر، بل وأخذ يكفر المسيحيين، إذ كانوا على دين المسيح، فأخذ يكفر بالقتل والتشريد والسجن، فكان طاغية من طغاة البشر.

    فهاهم هؤلاء الفتية يقول تعالى عنهم: إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ [الكهف:13]، أي: صدقوا بوجود الله رباً وإلهاً، لا رب غيره ولا إله سواه، فيجب أن يعبد ويطاع ولا يعصى، قال تعالى: وَزِدْنَاهُمْ هُدًى [الكهف:13]، إيماناً وهداية كما نقول: الإيمان والتقوى، مع بعضهم البعض، وَزِدْنَاهُمْ هُدًى [الكهف:13]، أي: ومعرفة بربهم فأحبوه وأحبوا ما يحب، وكرهوا ما يكره، وعرفهم بالطريق المنجي المسعد ألا وهو أن يعبدوا الله وحده بما شرع.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (وربطنا على قلوبهم إذ قاموا فقالوا ربنا رب السموات والأرض ...)

    قال تعالى: وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا [الكهف:14].

    وقوله تعالى: وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ [الكهف:14]، إذ هذه الفترة فترة شديدة وقاسية، إذ أكثر أهل البلاد ارتدوا ما أطاقوا العذاب والتنكيل والقتل، فالذين شد الله على قلوبهم ثبتهم ثبتوا، ومن عاداهم هلكوا وارتدوا، فقال تعالى: وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ [الكهف:14]؛ حتى لا يتزعزعوا، وحتى يثبتوا على إيمانهم وتوحيدهم.

    واذكر يا نبينا إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا [الكهف:14]، وهذا في وسط الكفر والظلم والناس يعذبون وينكلون، قاموا وقوفاً وأعلنوها: رَبُّنَا رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا [الكهف:14]، فكفروا بإله ذلك الطاغي وما يدعو إلى عبادته، وهنا كلمة حق عند سلطان جائر، وهذه هي الشهادة، ففي الوقت الذي ينكل بالناس ويعذبون ليحملوا على الكفر والردة والعياذ بالله، يقف هؤلاء الفتية ويعلنونها في وضوح وليكن ما يكن: رَبُّنَا رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ [الكهف:14]، فأحبطوا وأبطلوا كل ربوبية لهذه الأصنام والأحجار والتماثيل، رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ [الكهف:14]، أي: خالقهما ومالكهما ومدبر أمرهما، فلن ندعو من دونه إلهاً أبداً، ولن نعبد إلهاً دون الله عز وجل، وقدِّم الدعاء لأنه مخ العبادة، إذ الدعاء هو العبادة، فمن دعا غير الله فقد عبده بأعظم عبادة، وذلك لأنك لما تقبل عليه تعلن عن فقرك وغناك، وتعلن عن كونه يراك ويسمع دعائك، وتعلن عن كونه يعطيك ما تسأل، وهذا لن يكون والله إلا لله، أما الأصنام والأحجار والتماثيل والبشر والخلق فكلهم لا يملكون من هذا شيئاً، فكيف إذاً يدعون ويعبدون؟! بأي منطق أو حق يعبدون؟ فالذي لا يسمع نداءك ولا يرى مكانك ولا يقوى على قضاء حاجتك تدعوه! تعبث وتلعب؟!

    مثال هذا: تمر برجل أمام خربة من المباني ليس فيها أحد، وهو واقف على بابها: يا أل البيت! يا أهل الدار! إني جائع، إني ظمآن، إني عطشان، أنقذوني، هل يسمع له نداء؟ هل تعرف له حاجة؟ هل تمد له يد؟ هل يعطى شيئاً؟ إن هذا شأن من يدعو غير الله عز وجل، حتى ولو دعا جبريل وميكائيل، بل لو دعا سيد الخلق محمداً صلى الله عليه وسلم، والله لا يسمع ندائه ولا يعطى حاجته، إذ الدعاء يكون لمن يراك ويعرف حالك ويقدر على إعطائك سؤالك، أما الذي لا يراك ولا يسمع بك ولا يقدر فأنت تلعب وتعبث بهذا الدعاء، إذاً مثل من يدعو غير الله كالذي يدعو خربة من المباني يظن أن بها سكان، وأنهم يسمعونه ويعطونه، سواءً بسواء.

    فاسمع ما قال هؤلاء الفتية المباركون: فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا [الكهف:14]، أي: لو دعونا مع الله إلهاً آخر فقد بعدنا عن الحق، وبعدنا عن جادة الصواب، وبعدنا عن الدين، وبعدنا عن كل خير، إذ الذي يدعو صنماً لم يقرب من شيء اسمه خير أو حق، لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا [الكهف:14].

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (هؤلاء قومنا اتخذوا من دونه آلهة...)

    قال تعالى: هَؤُلاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا [الكهف:15].

    أي: ثم قالوا لبعضهم البعض: هَؤُلاءِ قَوْمُنَا [الكهف:15]، أي: جماعتهم من قبيلتهم، أو من يشملهم وطن واحد، هَؤُلاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً [الكهف:15]، وآلهة جمع إله، وإله بمعنى: معبود، فهؤلاء قومنا مع الأسف اتخذوا من دون الله آلهة، لَوْلا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ [الكهف:15]، أي: ما دمتم قلتم: ندعو فلاناً ونذبح له وننذر له وندعوه ونستغيث به، فأعطونا دليل أو سلطان واضح على أنه يستحق ذلك.

    آلله أمركم بذلك؟ وهل الرسل والأنبياء دعوكم إلى ذلك؟ وهل العقول قالت لكم ذلك؟ وهل العقل يسمح لك أن تقف أمام حجر طول النهار تصرخ وأنت ضمآن جائع؟ أي عقل هذا؟

    هَؤُلاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ [الكهف:15]، أي: من دون الله آلهة معبودة، لَوْلا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ [الكهف:15]، أي: حجة قوية ظاهرة، فهل يجدون ذلك؟ من تأتيهم الحجة والبرهان؟ إن العقول تنفي هذا، إذ كيف تدعو ميتاً وتريد أن يستجيب لك ويقضي حاجتك؟!

    فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا [الكهف:15]، أصبح علماء -هداهم الله- ربانيين يقولون؟ لا أحد أظلم ممن افترى على الله الكذب وقال: هذا إله مع الله، أو هذا ابن الله، أو هذا نبي الله، أو هذا ولي الله وهو باطل وكذب، أو قال: هذا شرع الله والله ما شرع، فهذه تأملوها، إذ لا يوجد ظالم أظلم ممن يكذب على الله، فلو تكذب على فلان كذبة واحدة فحرام وتستغفر وتتوب، أما أن تكذب على الله فتقول: له ولد، له زوجة، له كذا، أرسل فلاناً، أوجب كذا، فهذا الذي ما يطاق، فلا يحل لأحدنا أن يقول على الله كلمة ما لم يكن قد علم من طريق كتابه أو رسوله.

    فالذين شرعوا الشرائع وقننوا القوانين كذبوا على الله وافتروا، إذ ما شرع الله هذا ولا قننه، والذين يعبدون مع الله آلهة، سواء كانت من الناس أو من الحيوانات أو من الجمادات، كلهم كذبوا على الله، إذ الله لم يتخذ هذه آلهة، ولم يأمرهم أن يتوسلوا بها إليه، أو يستغيثون بها إليه.

    والمهم أنه لا أحد أظلم، أي: أشد ظلماً وأفظع ممن يكذب على الله أي كذبة، فلهذا إذا سئلت عن ما لا تعلم فقل: الله أعلم، وإياك أن تقول: قال الله، وإن كنت عالماً بقول الله تعالى فقل: قال الله، أما بدون علم فلا يحل لك ذلك أبداً، فإنه ذنب لا ذنب فوقه.

    إذاً: يحكي الله عن الفتية أنهم قالوا: هَؤُلاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا [الكهف:15].

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (وإذ اعتزلتموهم وما يعبدون إلا الله ...)

    قال تعالى: وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرفَقًا [الكهف:16].

    قال: وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ [الكهف:16]، أي: يا أبناءنا! يا إخوتنا! وما يعبدون من دون الله فأووا إلى الكهف، فهؤلاء الفتية يتحدثون فيما بينهم، إذ شردوا وخرجوا من المدينة هاربين، فجلسوا يتحدثون فيما بينهم، وهذا حديثهم أوحاه الله إلى رسوله صلى الله عليه وسلم.

    فماذا قالوا فيما بينهم؟ وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ [الكهف:16]، أي: قومكم في المدينة، وما يعبدون من الآلهة إلا الله، إذاً فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ [الكهف:16]، والكهف فيه غار يقال له بنجلوس، والسلطان الكافر الذي يكفر الناس اسمه دقينوس، ماذا قالوا؟ وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ [الكهف:16]، يا إخواننا! وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ [الكهف:16]، أي: هيا نميل إلى الكهف وندخل في هذا الغار، والله يتولى رزقنا وحفظنا ومناعتنا؛ لأننا فوضنا أمرنا إليه، وهم هاربون شاردون خائفون من القتل والكفر.

    فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ [الكهف:16]، الطعام والشراب والراحة، وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرفَقًا [الكهف:16]، أي: مكاناً ترتفقون فيه وتسعدون به وفيه، فهذه هي كلماتهم التي أوحاها الله إلى رسوله صلى الله عليه وسلم.

    فهيا بنا نعيد تلاوة الآيات وشرحها في الكتاب، يقول الله تعالى: نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى * وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا [الكهف:13-14]، أي: لولا أن الله ربط على قلوبنا ما قالوا هذا الكلام، ولا قاموا أمام سلطان جائر فقالوا: رَبُّنَا رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا * هَؤُلاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا * وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرفَقًا [الكهف:13-16].

    1.   

    قراءة في كتاب أيسر التفاسير

    معنى الآيات

    قال: [ معنى الآيات: بعد أن ذكر تعالى موجز قصة أصحاب الكهف أخذ الآن في تفصيلها ]، فالموجز تقدم في أول السورة، قال: [ فقال: نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ [الكهف:13]، أي: نحن رب العزة والجلال، نقص عليك أيها الرسول خبر أصحاب الكهف بالحق الثابت الذي لا شك فيه، إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ [الكهف:13]، جمع فتى، آمَنُوا بِرَبِّهِمْ [الكهف:13]، أي: صدقوا بوجوده ووجوب عبادته وتوحيده فيها.

    وقوله: وَزِدْنَاهُمْ هُدًى [الكهف:13]، أي: هدايةً إلى معرفة الحق من محاب الله تعالى ومكارهه.

    وقوله تعالى: وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ [الكهف:14]، أي: قوينا عزائمهم بما شددنا على قلوبهم حتى قاموا وقالوا على رءوس الملأ وأمام ملك كافر: رَبُّنَا رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ [الكهف:14]، أي: ليس لنا رب سواه، لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا [الكهف:14]، مهما كان شأنه، إذ لو اعترفنا بعبادة غيره لكنا قد قُلْنَا إِذًا شَطَطًا [الكهف:14]، من القول، وهو الكذب والغلو فيه والعياذ بالله.

    وقوله تعالى: هَؤُلاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً [الكهف:15]، يخبر تعالى عن قيل الفتية لما ربط الله على قلوبهم، إذ قاموا في وجه المشركين الظلمة وقالوا: هَؤُلاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ [الكهف:15]، أي: هلا يأتون عليهم بسلطان بين، أي: بحجة واضحة تثبت عبادة هؤلاء الأصنام من دون الله، ومن أين ذلك والحال أنه لا إله إلا الله؟!

    وقوله تعالى: فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى [الكهف:15]، ينفي الله عز وجل أن يكون هناك، أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا [الكهف:15]، باتخاذ آلهة يعبدها معه باسم التوسل بها، وشعار التشفع والتقرب إلى الله زلفى بواسطتها كما يفعل المشركون.

    وقوله تعالى عن قيل أصحاب الكهف لبعضهم: وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ [الكهف:16]، أي: فصيروا إلى غار الكهف المسمى بنجلوس، يَنشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ [الكهف:16]، أي: يبسط لكم من رحمته بتيسيره لكم المخرج من الأمر الذي رميتم به من الكافر دقيانوس، وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرفَقًا [الكهف:16]، أي: ما ترتفقون به من طعام وشراب وأمن في مأواكم الجديد الذي أويتم إليه فراراً بدينكم واستخفائكم من طالبكم المتعقب لكم ليفتنكم في دينكم أو يقتلكم ].

    هداية الآيات

    قال: [ من هداية الآيات: أولاً: تقرير النبوة المحمدية بذكر قصة أصحاب الكهف ]، تقرير النبوة المحمدية بمعنى: والله إن محمداً لنبي الله ورسوله، فما الدليل؟ كيف يقص هذا القصص ويتكلم به أمام اليهود علماء الكتاب، ولا يستطيع أحد أن يرد عليه كلمة؟ من أين جاءه هذا؟ والله لبوحي الله، قال تعالى: نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ [الكهف:13]، فهذه الجملة من كلام الله تشهد أن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو كيف يقول هذا الكلام؟

    قال: [ ثانياً: تقرير زيادة الإيمان ونقصانه ]، وهذه الحقيقة لا ننساها، إذ الإيمان يزيد حتى يرتفع منسوبه إلى مائة وستين وينقص والله إلى الخمسين والسبعين، وهذا مشاهد، فيوم ترى نفسك مقبلاً على الصالحات متباعد عن المفسدات فاعلم أن إيمانك مرتفع إلى حد عالي، ويوم ما تميل إلى الباطل وتقوله وتفعله فاعلم أن إيمانك هبط، ودائماً نمثل بالطاقة الكهربائية، فتشير العقرب إلى المائة وعشرين، وأحياناً تشير إلى خمسين، فكذلك الإيمان إذا زاد عملك الصالح وبعدك عن العمل الطالح فاعلم أن إيمانك مرتفع ونسبته عالية، ويوم أن تشعر بالضعف في عبادتك أو في صالح أعمالك أو في انغماسك في الباطل فاعلم أن إيمانك قد هبط، فالإيمان يزيد وينقص، ولا التفات إلى من يقول: لا يزيد ولا ينقص.

    قال: [ ثالثاً: فضيلة الجرأة في الحق والتصريح به ولو أدى إلى القتل أو الضرب أو السجن ]، وقد وضع رسول الله صلى الله عليه وسلم لهذا قاعدة فقال: ( سيد الشهداء أو أعظم الشهداء كلمة حق يقولها العبد المؤمن عند سلطان جائر )، أي: كلمة حق يقولها المؤمن عند سلطان الجائر يقتل الناس ويسفك دماءهم.

    قال: [ رابعاً: تقرير التوحيد وأنه لا إله إلا الله، وذلك على لسان أصحاب الكهف ] وفعلاً فقد قرروا هذا وأعلنوه رضوان الله عليهم.

    قال: [ خامساً: بطلان عبادة غير الله لعدم وجود دليل عقلي أو نقلي عليها ]، أي: عبادة غير الله باطلة لأنه لا يوجد دليل عقلي فضلاً عن الدليل الشرعي النقلي، إذ ليس هناك عقل يقول: لا بأس بأن تدعو هذا الصنم أو تعتكف أمام هذا القبر وتستغيث به، والله لا يجيزه عقل أبداً، وهؤلاء الفتية قالوا: لَوْلا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ [الكهف:15]، أي: حجة قوية ظاهرة تقول: يصح أن يُعبد هؤلاء الأصنام بالدعاء والذبح أو بالحلف بها.

    قال: [ سادساً: الشرك ظلم وكذب والمشرك ظالم مفتر كاذب ]، الشرك ظلم، ووجه الظلم أن أخذ العبادة من الخالق وإعطاءها للمخلوق، فأي ظلم أعظم من هذا؟! أو تأخذ ثوب هذا أو عمامته وتعطيها لهذا فقد ظلمته، أو تخرج هذا من سكناه وتسكن هذا فقد ظلمته، فالعبادة حق الله لا تعطيها لغير الله، إذ أي ظلم أفظع من هذا؟! ولهذا قرر أهل العلم بالقرآن الكريم قول الله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ [النساء:48]، لأن الشرك بالله إهانة لله، فأنت تأخذ حقه وتعطيه لغيره بصراحة ووضوح، فلهذا من مات على الشرك لن يغفر له، ولن يدخل الجنة ولو صام ألف عام وصلى.

    فلهذا معاشر المستمعين والمستمعات! إذا قيل لكم: إن هذه الكلمة شرك اتركها، وإذا قيل لك: هذا الموقف لا يصح لأنه شرك فاتركه ولا تتردد، وانج واطلب النجاة لنفسك، إذ كل الذنوب موضوعة تحت مشيئة الله تعالى، إن شاء غفرها وأدخل العبد الجنة، وإن شاء عذبه بها وأدخله النار، إلا ذنب الشرك فقد أخبر تعالى في آيتين من كتابه أنه لا يغفره.

    قال: [ سابعاً: تقرير فرض الهجرة في سبيل الله ]، وأخذنا هذا من هجرة الفتية، إذ إنهم هاجروا وخرجوا من مدينتهم فتركوا آباءهم وأمهاتهم وأموالهم، وذلك لأنهم أرادوا أن يلزموهم بعبادة غير الله، وأن يلزموهم بالفسق والخروج عن طاعة الله، ففروا هاربين مهاجرين.

    ولهذا قررنا في هذا المجلس أن الهجرة باقية ببقاء هذه الدنيا حتى تطلع الشمس من مغربها كالتوبة، إذ التوبة باقية إلى قيام الساعة، وكذلك الهجرة، والهجرة هي ترك بلد أو ترك موطن أو ترك عمل أو ترك مجلس يعبد فيه غير الله أو تُلزم فيه بمعصية الله.

    أعيد هذا فنقول: إن الهجرة فريضة الله تعالى، والله يقول: وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا [النساء:100] ومعنى هذا: أن قريتك أو مدينتك في إقليم قومك إن كنت لا تستطيع أن تعبد الله في هذه القرية، كأن تجد نفسك مضطراً إلى أن ترتكب الآثام، إما بترك واجب أو بفعل حرام، فيجب عليك أن تهجر هذه القرية وترحل منها، أو كنت في عمارة ووجدت نفسك في هذه العمارة لا تقيم الصلاة، أو لا تمنع عينيك من النظر إلى ما حرم الله، فيجب عليك أن تخرج من هذه العمارة وترحل منها، أو وجدت نفسك في عمل تعمله تعصي فيه الله عز وجل يومياً، والله ما جاز أن تبقى في هذا العمل، واطلب عمل آخر ولو كناس في الشوارع، أو وجدت نفسك مع جماعة كلما جالستهم والعياذ بالله سمعت الباطل والشر وشاركتهم فيه، فيجب عليك أن تهجر هذا المجلس، إذ والله لا يحل لك البقاء فيه أبداً؛ لأن الهجرة فريضة الله على كل مؤمن ومؤمنة إلا من عجز وأمره إلى الله ما دام أنه عاجز عن الهجرة غير قادر عليها أمره، واسمعوا هذه الآية الكريمة: إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ [النساء:97]، من هم؟ ظلموا أنفسهم فلطخوها بأوضار الذنوب والآثام، وارتكبوا الجرائم وتركوا الواجبات، فاسمع هذا الخبر الإلهي: إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ [النساء:97]، من القائل؟ الملك أو الملائكة، تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ [النساء:97] في المراحيض؟ في الحشش؟ ما هذه الظلمة؟ ما هذا النتن؟ ما هذا العفن؟ فيم كنتم حتى أصبحت أرواحكم خبيثة منتنة؟ فقالوا معتذرين: كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ [النساء:97]، أي: ما استطعنا نزكي أنفسنا لأنا مقهورين مغلوبين، لم ما تهاجرون؟ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا [النساء:97]، أو ضاقت الأرض بكم؟ ما وجدتم مكاناً في جبل ولا في وادي ولا في سهل؟ فهذا رد الملائكة عليهم، فاعتذروا فقالوا: كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ [النساء:97].

    فقالت الملائكة: أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا [النساء:97]، اللهم إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان الصغار لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا * فَأُوْلَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ [النساء:98-99] أيضاً، فهم تحت الرجاء، وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا [النساء:99].

    فهل عرفتم الهجرة؟ إنها فريضة على كل مؤمن ومؤمنة، فلا نقيم في بلد ولا في قرية ولا في عمل نعصي الله تعالى فيه أبداً، وإنما اهجر واترك ذلك البلد.

    قال: [ ثامناً وأخيراً: فضيلة الالتجاء إلى الله تعالى، وطلب حمايته لعبده، وكفاية الله من لجأ إليه في صدق ]، أما قالوا: فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرفَقًا [الكهف:16]؟ والله تعالى أسأل أن يجعلنا من محبيهم.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    الأكثر استماعا لهذا الشهر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    755999674