إسلام ويب

تفسير سورة النساء (2)للشيخ : أبوبكر الجزائري

  •  التفريغ النصي الكامل
  • خلق الله عز وجل آدم عليه السلام وأكرمه بإسجاد الملائكة المقربين له، وخلق له زوجاً من نفسه، ورزقه منها ذرية كثيرة من الرجال والنساء، فاستحق سبحانه أن يتقى، بفعل أمره وصرف العبادات له سبحانه، وبترك نهيه واجتناب معاصيه، فهو سبحانه الرقيب على خلقه، المحيط بهم والمدبر لأحوالهم، العالم بما يصلحهم وما تقوم به حياتهم.

    1.   

    تابع تفسير قوله تعالى: (يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة)

    الحمد لله؛ نحمده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.

    وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعص الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه ولا يضر الله شيئاً.

    أما بعد:

    فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.

    ثم أما بعد:

    أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا على سالف عهدنا في مثل هذه الليلة ندرس كتاب الله عز وجل، وقد انتهى بنا الدرس إلى هذه الآية الكريمة من فاتحة سورة النساء، وتلاوتها بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم:

    يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء:1].

    التقوى .. معناها والطرق المؤدية إليها

    معاشر المستمعين والمستمعات من المؤمنين والمؤمنات!

    هذا نداء الرحمن جل جلاله وعظم سلطانه، هذا نداء الخالق الرازق المدبر، مالك الكل، والذي بيده كل شيء، وإليه مصير ومرجع كل شيء، ينادينا نحن .. أبيضنا وأحمرنا .. موجودنا ومن سبق ومن يأتي ويلحق، فهو نداء عام ولا معنى لتخصيصه بأهل مكة، فالسورة مدنية وليست مكية، ولا معنى لتخصيصه بأولاد قحطان ولا أولاد عدنان كل هذا تكبر، وإنما هذا نداء عام يشمل كل إنسان؛ إذ كل إنسان عليه أن يتقي ربه، وهل هناك جنس من البشر لا يلزمهم تقوى الله؟ أو هناك أجناس فوق تقوى الله؟

    الجواب: كل مربوب مخلوق لله يجب أن يتقي الله، حتى وإن رضي بالخذلان والخسران والشقاء الأبدي ولوى رأسه، ويقول: لا أتقي.

    ولا تفهمن يا عبد الله! ولا تفهمين يا أمة الله! أن الله إذا أمر بأن يعبد بأن يطاع بأن يتقى أن هذا لصالحه، لحاجته إلى ذلك، تعالى الله عن ذلك كله، واسمعوا نداءه الكريم: يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ [فاطر:15].

    إذاً: فما سر تكليفنا؟

    الجواب هو: أن نكمل ونسعد .. من أجل كمالنا وسعادتنا وضع الله هذه القوانين، وشرع هذه التشريعات لا لينتفع هو بها؛ فإنه غني، ولكن هي طريق سعادتنا وكمالنا.

    ومن الآداب البشرية، والأخلاق الإنسانية: أن الذي يملكك ويملك ما تملك، والذي مصيرك إليه أحببت أم كرهت، والذي لو يتركك لحظة لتمزقت وتلاشيت، هذا الذي يغذوك بالطعام والشراب، أليس من المنطق والعقل والذوق والفهم أن تحبه، وتفرح بأمره إذا أمرك، وينشرح صدرك إذا نهاك؟

    فإن قلنا هذا هو الصحيح؛ فما سبب إعراض البشرية عنه؟

    الجواب: الجهل، ما عرفوا الله، ما عرفوه حتى يحبوه ويرغبوه، هم في حاجة إلى من يعرفهم بالله، والله عز وجل ما من أمة إلا وبعث فيها نذيراً بشيراً هادياً معلماً، ولكن الشياطين أولاد إبليس وهو على رأسهم - أبو مرة - هم الذين عزموا على أن لا يسعد آدمي، وأن لا ينجو من عذاب الله الأبدي إنسان، فهم الذين يصرفون البشرية أفرادها وجماعاتها عن سبيل سعادتها وكمالها، فيرمونه في أودية الضلال والجهل، يعرف عن الدنيا كثيراً، ولا يعرف عن الآخرة إلا قليلاً، يعرف كيف يتأدب مع أبيه وأمه، ولا يعرف كيف يتأدب مع مالك أمره وخالقه وواهبه حياته.

    يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ [النساء:1]، أكرر القول: وهو أن تقوى الله عز وجل لا تتم بغير طاعته وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم، وذلك بفعل ما أمر بفعله على سبيل الإيجاب والإلزام، وبترك ما نهيا عنه مما هو محرم، ومكروه لله مبغوض.

    أما أن نتقي الله بالجرأة على المعاصي، بالفساد في الأرض، بالهروب في رءوس الجبال، بالجيوش الجرارة ... لا يعقل أن نتقي غضب الله وعذابه بهذه الماديات أبداً؛ لأن الله كما جاء عنه في سورة الزمر قوله تعالى: وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ [الزمر:67]، إي والله ما قدرناك حق قدرك، ولا نستطيع ذلك، ولا نقدر عليه، وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ [الزمر:67].

    ويقول يومها: أنا الملك أين الملوك؟ العوالم كلها في يده، فلهذا كيف نقدر الله؟ لو نذوب حباً فيه أو خوفاً منه فنتحول إلى دماء تسيل ما أدينا حقه، ولكن من رحمته ولطفه وإحسانه لم يكلفنا بما لا نطيق: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا [البقرة:286]، إلا القدر الذي نتسع له، ونقوى على قوله أو فعله.

    إذاً: معاشر المستمعين والمستمعات! هل عرفتم بم يتقى الله؟

    يتقى الله بطاعته وطاعة رسوله فقط، والطاعة تكون بالأمر والنهي، ما أمرك بفعله أو اعتقاده أو قوله أو التزيي به فافعل، وما نهاك عنه من ذلك فاترك تنجو وتسلم.

    وعندي سؤال: أين الأذكياء الأبرار؟

    قل يا شيخ: كلنا بر وذكي!

    هل يتأتى لرجل أو امرأة أن يتقي الله بفعل ما أمر وترك ما نهى وهو لم يعرف أوامر الله ولا نواهيه، ماذا تقولون؟

    الجواب على لسانكم نبلغه: لا يتأتى أبداً لرجل ولا امرأة أن يطيع الله فيما أمر وفيما نهى، بأن يفعل المأمور ويترك المنهي إلا إذا علم أوامر الله ما هي، ونواهيه كذلك، ومن هنا وجدتنا أمام واقع، وهو: يجب أن نتعلم.

    فإن قيل لنا: إن بالصين رجلاً يعرف كل محاب الله ومساخطه؛ فيجب أن نرحل إليه، على أقدامنا أو على سفننا أو طائراتنا، لم هذا يا شيخ؟ لأننا ما نستطيع أن نقي أنفسنا ونحفظها من العذاب إذا أراده بدون ما نطيع الله، فهل نرضى أن نتمزق ونتلاشى ونخفي كل شيء حتى أنفسنا؟ ما نرضى بهذا.

    الحمد لله، كتاب الله في صدورنا .. في سطورنا، العالمون به متواجدون هنا وهناك، العالمون بالمحاب والمكاره .. في كل قرية فيها من يعلم وفي كل حي، وأما من لم يتعلم فالشيطان هو الذي كممه وألجمه وقاده بعيداً عن طلب العلم، وإلا اسمع هداية الله، يقول تعالى في آيتين اثنتين من كتابه العزيز: الأولى من سورة الأنبياء، والثانية من سورة النحل، يقول: فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [النحل:43]، من هم أهل الذكر؟ أهل القرآن، والسنة شارحة ومبينة.

    إذاً: ما بقي عذر لرجل ولا امرأة، أردت أن تتكلم وتتحدث اقرع باب العالم، وقل له: ما الذي يجوز لي أن أقوله في حديثي؟ وما الذي لا يسمح لي بقوله إذا تحدثت؟ يقول لك: يسمح أن تقول الخير، كلما رأيت شيئاً فيه خير قل فيه، وينهاك ويمنعك عن كل قول فيه أذى وشر.

    وهذا الحبيب صلى الله عليه وسلم يقول: ( من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت )، من يحفظ هذا الحديث؟ ما نستطيع يا شيخ؟ لم أغاني العواهر نحفظها؟!

    ( من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت )، متى؟ طول حياته، جالسه واجلس معه وتنقل لن تسمع منه كلمة سوء، ولكن تسمع كلمة الخير، لم؟ أخذ بتعليم رسول الله، واليوم الآخر إما خسران أبدي أو سعادة أبدية، من كان يؤمن حق الإيمان والله ما يقول إلا خيراً، ما هناك خير ما يتكلم، ( من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل )، إن أراد أن يقول ( خيراً أو ليصمت ).

    إن شاء الله أخذنا هذه اللؤلؤة الغالية والجوهرة النفيسة، ما ننساها! ولعلنا نجربكم نجلس جلسة ونرى أنفسنا من يتكلم بالخير ومن يصمت عن الشر، هيا فقط نراقب الله، إن مولانا عز وجل والله ليسمع كل كلمة نقولها، ويسألنا عنها، فمن هنا نراقب الله، لا نراقب غيره، إذا كانت الكلمة نافعة فيها خير للحاضر والماضي والغائب قلناها، وإن كانت تحمل شؤماً وسوءاً وأذى تركناها متنزهين عنها.

    فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [النحل:43]، هذا أمر الله، اسمع يا عبد الله! أنت ما درست ولا تعلمت، عليك أن لا تقول ولا تعمل ولا تشتري ولا تبيع ولا تتزوج ولا تطلق حتى تأتي عالماً بالكتاب وتسأله، فما يقول لك افعله. تفعله، وما يقول لك عنه: اتركه!تتركه، وبهذا تعلو وترتفع ولا تلبث طويلاً إلا وقد عرفت محاب الله ومكارهه، وطبقتها وفعلتها، واضح هذا المعنى؟ لا بد من العلم وإلا لا؟ لا بد من العلم، لم؟ لأن العلم معناه معرفة ما يحب مالكنا وما يكره، والذي يحبه تكون له هيئات خاصة، أزمنة معينة، كميات محدودة يجب أن نعرفها وإلا لا؟ عرفنا الصلاة لكن ما هي أوقاتها؟ كيف تصلي؟ لا بد من معرفة هذا وإلا لا؟ وهذا كله يفرض علينا أن نتعلم، وأن نسأل أهل العلم، وإذا علمنا سمونا وارتفعنا وفزنا بولاية الله.

    معنى كلمة الرب وصفاته عز وجل

    يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ [النساء:1]، لو سئلت عن كلمة ربكم ما معناها؟ قل: مالكنا، سيدنا، الرب المالك وإلا لا؟ من رب السيارة البيضاء؟ فلان، أي: مالكها، الخالق خالقنا هو ربنا، ورب كل شيء، وخالق كل شيء، ومالك كل شيء، ما صفاته؟ صفاته: العليم الحكيم اللطيف الخبير القوي العزيز الجبار القهار الغفار الحكيم، مائة اسم إلا اسم، وكل اسم يحمل صفة من صفات الجلال والكمال.

    تريد أن تعرف الله إجمالاً؟ ذا القدرة الذي أوجد هذه العوالم هو الله .. الذي وهبك عقلك وسمعك وبصرك ولسانك، هذا الواهب، هذا المعطي، هذا المحسن اسمه: الله.

    وبيّن تعالى فقال: الَّذِي خَلَقَكُمْ [النساء:1]، أيها المخلوقون! ومن قال: لا. لا. أنا ما خلقني خالق، يرفع يده، ويخرج إلى الشارع ينادي: أنا غير مخلوق، أنا ما خلقني خالق. يضحك عليه النساء والرجال والأطفال والبهائم. مجنون هذا! قال: إنه غير مخلوق!

    إذاً: ربكم من هو؟ الذي خلقكم.

    معنى قوله تعالى: (الذي خلقكم من نفس واحدة)

    قال الله تعالى: مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ [النساء:1]، هذا علم سامي ورفيع وعالي، وتخبط فيه العلماء وتاهوا متاهات لا أراكموها الله.

    خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ [النساء:1]، هذا رسول الله يجلس بين أصحابه ثلاثاً وعشرين سنة وهو يعلم، ما يقول لهم: هذه النفس هي أم عدنان أو أم قحطان ، هذه النفس إن لم تكن آدم فمن هي؟

    خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ [النساء:1]، والله إنها لآدم، آدم من آدم هذا؟ هذا أبو البشر، عندنا علم به أكثر من علمنا بالناس الذين معنا وبين أيدينا، والذي بين لنا هذا خالقه: هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا [الإنسان:1]، أي نعم، أربعين سنة وآم طيناً مجندلاً، كيف صنعه الله؟ صنعه بيديه، ويدا الرب إياك أن تسمح لنفسك أن تشبهها بالأيدي وتقول: كأيدي فلان، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً، مستحيل أن يكون الخالق كمخلوقه.

    ولهذا تفكر في آيات الله في الكون وفي الخلائق لكن لا تتفكر في ذات الله؛ فإنك تتمزق وتهلك، أنى لك أن تدرك ذات الله، ما أنت؟ ومن أنت؟ أنت في نفسك ما أدركت نفسك ما هي، فكيف تعرف ذات الله؟!

    إذاً: الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ [النساء:1]، هي آدم، واقرءوا آيات الله: خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ [الرحمن:14]، أين أصحاب الفخار يا شيخ سليمان ؟ ماتوا. الآن النايل وإلا ما يسمونه يصنعون منه، الفخار طين أحمر ممتاز يوقد عليه النار ويدفأ حتى يتحول ويصبح له صلصلة وصوت، ونحن في الحقيقة شبيهون بالفخار.

    وآدم قيل له: آدم لأدمته، وهي حمرة بين سواد وبياض، مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ [الرحمن:14].

    إذاً: ولما صنعه كان طوله ستون ذراعاً، ثلاثون متراً، من أخبر بهذا؟

    لو أخبرت الدنيا كلها بدون رسول الله ما صدقنا؛ ما عندهم علم، لكن أخبر بهذا رسول الله الذي يتلقى المعارف والعلوم مباشرة من الله عز وجل.

    ثم بعد أربعين سنة نفخ فيه من روحه؛ فحيي فعطس، فقالت الملائكة له: يرحمك الله، وألهمه الله أن يقول: الحمد لله.

    وتقول الأخبار الصادقة: أنه لما سرت به الروح قبل أن تكتمل في بدنه كاملاً حاول أن يقوم، فلهذا قيل فيه: عجول، وَكَانَ الإِنسَانُ عَجُولًا [الإسراء:11]، اهدأ حتى تتم الروح في كل جسدك، هذا آدم لما خلقه تعالى أمر الملائكة أن تسجد له،لم أمرهم أن يبجلوه ويعظموه ويعلو من شأنه؟ لأن له شأناً عظيماً، هذا سيخرج منه مليارات الآدميين يعبدون الله عز وجل، فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ [الحجر:30]، تأكيد مرتين، إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ [الحجر:31].

    هل تعرفون أو تدرون ما علة عدم سجوده؟ إنها الكبر، أصفح عن ذلك فقال: قَالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا [الإسراء:61]، يستفهم منكراً، أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا [الإسراء:61]، كيف أسجد له؟ أنا مخلوق من النار وشرارها، وهذا من طين، فاستكبر، وقاس قياساً فاسداً، ليس بسليم ولا صحيح، لم؟ أيهما أفضل: الطين أم النار؟ يا عباد الله! يا تجار! ماذا تقولون؟

    أما الطين فينبت البر والبطيخ والتمر، والنار تنبت ماذا؟ بل تحرق الأجسام والمواد؛ فهل تقاس النار على التراب؟ كيف نقول النار أفضل من الطين؟! قالوا: قاس وفسد قياسه. الكبر منعه من أن يسجد لآدم.

    وسجود الملائكة لآدم لا تفهموا منه أنه سجود عبادة، وأن الله قال لهم: اعبدوه. تعالى الله عن ذلك، بل قال لهم: حيوه بالسجود؛ فسجودهم لآدم طاعة لله، عبادة لله، وإجلال وتعظيم لآدم عليه السلام.

    من شرط قبول العبادات الإتيان بها على وجهها الشرعي دون زيادة أو نقصان

    وأضرب لكم صورة مثل هذه خذوها: إذا طاف أحدنا ببيت ربنا في مكة سبعاً، هل يزيد واحداً أو ينقص واحداً؟ إن زاد متعمداً أو نقص بطل طوافه.

    إسماعيل قف! ما معنى بطلان طوافه؟

    مداخلة: أي: لا يزكي النفس.

    الشيخ: ما شاء الله، أبشر.

    فهمتم هذه المسألة؟ ملايين الفقهاء ما يفقهونها، بطلان طوافه معناه: أنه لا يزكي نفسه، لا يوجد له تلك المادة النورانية، المعبر عنها بالحسنات، التي تزكو على النفس البشرية، إذ هذا الطواف لله ينتج هذه المادة النورانية؛ فإذا فسد بطل ما أنتج، أعد طوافك يا شيخ! كذا تقول له وإلا لا؟ أنا طفت، أعد طوافك باطل، أنت طفت ثمانية أشواط زدت شوطاً متعمداً ما ينفع هذا، كالذي يصلي المغرب أربع ركعات، أيش فيه؟ لماذا ما نصلي أربعاً لله تعالى؟ ماذا يقول الفقيه؟ صلاتك باطلة أعدها! لم؟ باطلة.

    ونحن نقول: لا تزكي نفسك، ما ولدت لك النور المطلوب الذي نعبر عنه بالحسنات، أعد! فهمتم هذه؟

    أنا أعني ضيوفنا، أما أهل الحلقة فزادهم الله نوراً، امتحنّاهم نجحوا، هذا إسماعيل .

    لما نطوف وننهي الطواف سبعة أشواط ماذا نفعل؟ نصلي ركعتين خلف مقام إبراهيم، لا بد وإلا لا؟ إذ قال تعالى وقوله الحق: وَاتَّخِذُوا ، وفي قراءة سبعية: واتخَذوا من مقام إبراهيم مصلى [البقرة:125]، وهي قراءة نافع بصيغة الماضي، وَاتَّخِذُوا [البقرة:125]، يا عباد الله! مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى [البقرة:125]، مقام إبراهيم ما هذا المقام؟ المكان الذي قام فيه أو عليه أو دونه إنه الحجر، الصخرة التي قدمت جميلاً لله فاعترف الله بجميلها فكافأها بأحسن المكافئة؛ فلهذا اعلم أن الله لا يضيع المعروف عنده.

    هذا المقام حجر من جبل أبي قبيس لما كان الخليل يبني البيت مع ولده إسماعيل وليس معهما ثالث إلا الله في ذلك الوادي الأمين.

    إذاً: إسماعيل يعطي الصخرة أو الحجرة وإبراهيم يضعها، ويضع الطين فوقها، ويضع الثانية وهكذا، فلما ارتفع البناء إسماعيل ما يستطيع يعطي إبراهيم بيده الحجرة، فقال له: ابحث لنا عن صخرة نقوم عليها ونواصل البناء، فجيء بهذه الصخرة والتي تسمى: مقام إبراهيم، مقام اسم مكان الموضع إذ كان يقوم عليها ويواصل البناء، فلما انتهى البناء بقيت الصخرة بين الباب والركن الشامي لاصقة مع الجدار، وتمضي القرون والأيام وتأتي السيول فتزحزحها وتبعدها فكانت في مكانها الذي هو الآن.

    هذا الحجر لما ساعد على بناء البيت عرف الله له ذلك فجعل أفضل عبادة تؤدى عنده: وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى [البقرة:125]، تصلون فيه لله، الصلاة لله، والشرف لمن؟ للحجر.

    سجود الملائكة لآدم تكريماً له ورفض إبليس لذلك

    إذاً: آدم أبو البشر أسجد الله له الملائكة، السجود لمن؟ لله، والتعظيم لآدم عليه السلام، إبليس - عليه لعائن الله - قبل أن يبلس ما زال في صفوف الجن، وعالم الجن وعالم الملائكة متحدان تقريباً، لم؟ لأن عالم الملائكة مادة خلقه النور، وعالم الجن مادة خلقه النار، هل بين النور والنار تجانس أم لا؟

    إي والله، إلا أن النور بارد والنار حارة ودافئة، من علمنا هذا العلم؟ أهذا يقال بالعقل؟ بالفلسفة؟ من أين هذا؟ قولوا؟ قال الله وقال رسوله! ما عندنا علم نثق فيه ونجاهر به وكلنا يقين إلا ما كان من قال الله وقال رسوله؛ إذ الحبيب صلى الله عليه وسلم قال: إن الله خلق آدم من طين، وخلق الجان من نار، وخلق الملائكة من نور، وعلم هذا أصحابه.

    إذاً: فإبليس أبى أن يسجد فأبلسه الله، ما معنى أبلسه؟ معناه: أيأسه من الخير، وقطع كل أمل أن يكون فيه خير أو يلقى خيراً، كأنه مسحه مسحاً من مادة الخير، فهو مبلس، وطرده من الجنة دار السلام، ما أصبح أهلاً لأن يدخلها.

    ومع هذا استطاع أن يتصل بآدم وحواء من طريق اللاسلكيات؛ إذ ما منا يا أرباب القلوب إلا وعنده جهاز للتلقي والإرسال، وإن كنا بالآلات ما نكتسبه، كالملائكة معنا لكن لا بالآلة ولا بالسحر نستطيع أن نلمس ملكاً الآن وهو والله معنا، فهذا الجهاز يتلقى به العبد والرسل، فآدم له قلبه وإلا لا؟ وحواء امرأته كذلك؛ فوسوس لهما الشيطان: هل أدلكما على شجرة إذا أكلتما منها خلدتما؟ فزين لهما أكل الشجرة وقد نهاهما الله تعالى عنها، أذن لهما أن يأكلا من كل ما في الجنة إلا هذه الشجرة: وَلا تَقْرَبَا [البقرة:35] فاستطاع العدو الماكر الحسود أن يوقعهما.

    وما إن أكلا منها حتى انكشفت سوءتهما، كانا عراة، لا إله إلا الله! آمنا بالله! اسمع. لولا أن الله تعالى غرز فيهما وعلمهما العورة ما عرفا العورة، العورة كالوجه، هل هناك من يستحي من وجهه؟لا. كذا وإلا لا؟ إذاً فالقبل والدبر ما الفرق بينها وبين الأنف العين والرجل؟ لا شيء، إلا أن الله جعل هذا الأمر وأوجده.

    فَأَكَلا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ [طه:121]، إذاً لستما بأهل للبقاء في هذه الدار اهبطوا، ومرة أخرى تعودون إن شاء الله، أما هذه المرة فلا، واهبطوا مع عدوكم. هذا آدم.

    معنى قوله تعالى: (وخلق منها زوجها ...)

    قال الله تعالى: مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا [النساء:1].

    كلمة الزوج تطلق على الزوج الرجل، وعلى الزوج المرأة، إلا أن الفقهاء -ونحن إن شاء الله منهم- نقول للرجل زوج وللمرأة زوجة، حتى يفهم من لا يفهم، لو تقول له: هذا زوجك؟ تقول: نعم، تقول له: هذه زوجك؟ كيف زوجي؟ هذه زوجتي ويجادلك.

    إذاً: فالزوج ما زاوج فرداً، إصبع واحد وأزاوجه بآخر، العمود هذا زوج وإلا فرد؟ بهذا الآخر أصبح زوجاً، هذا زوج وهذا زوج، فالرجل زوج والمرأة زوج أيضاً، من باب رفع اللبس والتوضيح قل: زوجة. بهاء التأنيث، الفطرة تقول هذا وتعرفه، ما قال: وخلق منها زوجتها أو زوجته، قال: زوجها.

    من تلك النفس نفس آدم خلق منها زوجها وهي حواء، من علمنا أنها حواء؟ لولا أن الرسول أخبر لا نصدق يهودي ولا صليبي ولا فلسفي ولا كاذب، نحن الآن موقنون أن اسمها حواء أم البشر، كيف خلقها الله؟ قرأنا للمتخبطين من الفلاسفة والشاطحين، أنهم قالوا: ممكن خلقها من طين كما خلق آدم، لم هذا كله؟ لم هذه الحيرة؟ والرسول المبلغ المعلم الذي يوحى إليه ويكلم يقول: ( لقد خلق الله حواء من ضلع آدم الأيسر )، قال لها: كوني واخرجي فكانت، نظر وإذا بامرأة إلى جنبه، أو هذا أمر يعجز الله؟ آمنا بالله، أما قال: إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [يس:82] على الفور؟ الذي خلق العوالم كلها أيعجزه أن يقول لامرأة كوني فكانت.

    والرسول يقول: ( إن النساء خلقن من ضلع أعوج، فإذا ذهبت تقومه كسرته )، اتركه كما هو أحسن على عوجه، هذه التعليمة المحمدية عند العلماء والعارفين ما يقع بينه وبين أزواجه من نزاع ولا خصومة ولا سب ولا شتم ولا طلاق ولا أذى، عارف أنها عوجاء وإلا لا؟ ما يستطيع يقومها إلا بالكلمة الطيبة والابتسامة والكلمة الهادئة، حتى تلين وتستقيم، أما افعلي كذا، كما هو واقعنا .. الطلاق .. علي الطلاق .. بالطلاق .. بالثلاث .. أنت حرام .. أنت كذا، لا إله إلا الله! كيف يجوز هذا؟ من علم الناس؟ ما العلة يا أهل الدرس؟ الجهل ما عرفوا، ما ربوا في حجور الصالحين، الولد يسمع أباه يلعن امرأته، ويسمعه وهو يقول: بالحرام ويفعل، حينها يتعلم الولد ذلك أيضاً.

    حواء عليها ألف سلام هبطت إلى الأرض، وآدم كذلك هبط لكن في مكان آخر، والتقيا بعرفة، وهذا أحسن ما تقول في تسمية عرفات بعرفة، تعارفا هناك، الأخبار تقول: حواء نزلت بالهند، وجاءت تمشي والعالم ما فيه إلا هي، إذاً وتعارفت مع زوجها في عرفة، والبيت لمن بني؟ لهما؛ لما حصل ما حصل من الشوق والوحشة، كانا في أنس .. كانا عند الله في الملكوت الأعلى، كيف يعيشان في هذه الغربة البعيدة، والأوضاع المتنافية؟ فبنى الله لآدم بواسطة ملائكته بيتاً إذا احتاج إلى ربه يقرع بابه ويأتيه ويطلب حاجته، يطوف به ويستأنس ويجده حامياً وأنساً؛ لأنه بين يدي بيت ربه. هذا سر بناء البيت، وإلى الآن من منكم يجد الوحشة إذا طاف بالبيت؟ إذا كنت تطوف ذاكراً في البيت تنسى كل شيء، إلا إذا كان العدو ملازمك شيء ثاني.

    وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا [النساء:1].

    بث نشر، والبث النشر.

    رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً [النساء:1].

    ثم بعد ذلك كل رجل مع امرأة أنجب، وانتشرت البشرية، فآدم كان يزوج بنته التي ولدت له هذا العام بابنه الذي ولد قبلها، وكانت حواء أيضاً أكثر ما تلد توأمين، وأذن له أن يزوج من ولد في هذا العام بالبطن الثاني في العام الثاني، ففي فترة من الزمن انتشر كثير من الرجال والنساء، وبعد ذلك أصبح أيضاً الرجال والنساء يتناسلون ويتوالدون.

    فقوله: وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا [النساء:1] أي: من آدم وحواء، ومنهما أي: من الذكر والأنثى بعد ذلك إلى أمي وأبي، وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً [النساء:1].

    إذاً: وَاتَّقُوا اللَّهَ [النساء:1].

    مرة ثانية، هذا بيت القصيد، لما عرفنا بجلاله وكماله وإفضاله وإنعامه وإحسانه قال إذاً: وَاتَّقُوا اللَّهَ [النساء:1]، أول قال: اتَّقُوا رَبَّكُمُ [النساء:1] كذا وإلا لا؟ والآن عرفناه باسمه.

    معنى قوله تعالى: (واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام ...)

    وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ [النساء:1].

    تساءلون الأصل تتساءلون، يسأل بعضكم بعضاً بالله، أسألك بالله يا فلان إلا أن تعطيني كذا، أسألك بالله إذا ما جئتنا، كان العرب في هذه الديار يعيشون على هذه المسألة، إيمانهم بالله وهم جهال، وفي جاهلية ومع هذا هؤلاء أحفاد إسماعيل كانوا يتساءلون بالله، أسألك بالذي بنى هذا البيت، أو بالذي، خلقك أو بالذي رفع السماء أن تعطيني كذا وكذا، ما داموا يتساءلون به يعرفونه وإلا لا؟ لم لا يتقونه؟ كيف يتقونه؟

    يعبدونه وحده ويتخلون عن عبادة الأصنام والأوثان والأحجار، يؤمنون بوحيه على رسوله بكتابه وما أنزل فيه، يؤمنون بلقائه، اتقوه بعبادته دون عبادة سواه، أنتم تتساءلون به ولا تعبدونه أو تعبدون معه آلهة أخرى؟

    والسؤال الآن: هل يجوز لنا أن نتساءل بغير الله؟ أسألك بجاه سيدي رسول الله أن تعطيني كذا. يجوز؟ والله ما يجوز، أسألك بالملح الذي بيننا. وهذه مقولة العامة عندنا، يعني: أكل في بيته طعاماً.

    الجواب: لا يصح لمؤمن ولا مؤمنة أن يسأل بغير الله تعالى، عرفتم؟

    وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ [النساء:1] أي: يسأل بعضكم بعضاً حاجته بالله عز وجل، كأن تقول: أسألك بالله إذا ما حملتني أو أعطيتني، أما أن نسأل الله بنبي أو ملك أو سيد أو شريف أو غني أو وزير، هذا الباب مغلق ولا ينفتح، أغلق عندما قلت: لا إله إلا الله، لا معبود إلا الله.

    واتقوا الأرحام أيضاً، نتقي الله بم؟ بطاعته، وألا نتعدى حدوده، وأن نقف عند أمره ونهيه.

    والأرحام نتقيها بعدم قطعها، بعدم أذاها، بعدم هجرانها، بعدم إضاعة حقوقها، وهذا معناه: أن المجتمع الرباني الإيماني كما يعبد الله ليكمل ويسعد يجب أن يتواصل ولا ينقطع، لاسيما مع الأرحام، من أرحامك؟ كل من تجمعك به رحم واحدة فهو رحمك، سواء كان من المحارم أو من غيرها، ومن قرأ: (والأرحامِ) قراءة باطلة، تقول: (والله الذي تساءلون به والأرحامِ) إذ يتساءلون بالأرحام: والرحم التي بيننا وبينك. خطأ، قراءة لا تقبل، فالأرحام مفعول به منصوب مثل الله: اتقوا الله الذي تساءلون به واتقوا الأرحام، نتقيها لا نتعدى حدود الله فيها، نصل ولا نقطع، نبر ولا نؤذي.. وهكذا.

    وأخيراً قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء:1].

    لا تفهموا أنكم أحرار منطلقون في فيافي الحياة، بل اعلموا أن الله عليكم ينظر إليكم من فوق، رقيب عليكم، فيعرف حركاتنا وسكناتنا، بل ويعرف ميول نفوسنا وقلوبنا.

    إذاً: فلنتق الله في هذا الأمر .. نتقي الله بفعل ما أمر وترك ما نهى، ونتقي أرحامنا فلا نقطعها ولا نبترها ولا نعادي ولا نجفو أبداً؛ فإن الله رقيب ويجزي الموفين بعهودهم القائمين بحدود الله، كما يجزي الآخرين الأولون بالنعيم والآخرين بالعذاب.

    هذا والله تعالى أسأل أن ينفعنا وإياكم بما ندرس ونسمع، آمين.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756279997