إسلام ويب

نداءات الرحمن لأهل الإيمان 40للشيخ : أبوبكر الجزائري

  •  التفريغ النصي الكامل
  • إن الله عز وجل مولى المؤمنين، فهو لا يرضى بتعاطي ما يفسد قلوبهم، ويدمر أرواحهم، ويهوي بهم إلى أسفل سافلين، ولذلك فهو يناديهم ويرشدهم إلى ما يصلح أحوالهم، ويحميهم من الخسران والضياع، ومن ذلك إرشادهم إلى خطورة تعاطي الخمر والميسر والأنصاب والأزلام، فبين سبحانه أنها رجس من عمل الشيطان، يتخذها أداة لغواية العباد وصدّهم عن سبيل الله، والعاقل من ترك الشيطان وحزبه، وأقبل على الرحمن وكان من حزبه.

    1.   

    حكم الإحداث في مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم

    الحمد لله، نحمده تعالى، ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أرسله بالحق بشيراً ونذيراً بين يدي الساعة، من يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعصِ الله ورسوله فلا يضر إلا نفسه، ولا يضر الله شيئاً.

    أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.

    ثم أما بعد: أيها الأبناء والإخوة المستمعون! ويا أيتها المؤمنات المستمعات! إننا ما زلنا مع نداءات الرحمن لأهل الإيمان، جعلنا الله وإياكم منهم، وحشرنا في زمرتهم، ورضي عنا كما رضي عنهم. اللهم آمين.

    هذه النداءات احتوت على علوم ومعارف لا توجد إلا في كتاب الله، وما من مؤمن ولا مؤمنة يحفظها ويفهمها ويعمل بما فيها وفي حدود طاقته إلا أصبح من أهل العلم أولياء لله تعالى، وهي لا تكلف عناءً ولا مشقة، ففي ثلاثة أشهر تلم بها كاملة؛ إذ هي تسعون نداء، فلا تمضي ثلاثة أشهر إلا وقد ختمتها حفظهاً وفهماً وعملاً، وتصبح سيد أهل هذه الدنيا اليوم، وتطهر كامل الطهر، وتنجو مما وقع فيه إخوانك من المزالق والمهالك والفتن والمحن والأباطيل، التي نسأل الله السلامة والعافية منها.

    وهناك مجلات وجرائد يشتكي طلاب العلم من بائعيها ومورديها، وهم يبيعونها في دكاكين المدينة، ومنها دكان تحت المسجد، وهم بهذا يتحدون رسول الله صلى الله عليه وسلم لو كان حياً، وقد كان رسول الله يغضب للصورة والخلاعة، ونحن نبيعها في مدينته، هذا لسان حالهم، وأما أن يقولوا هكذا فحاشا فهم لا يستطيعون، ولكن لسان الحال أبلغ من لسان القال. والرسول صلى الله عليه وسلم قال في مدينته: ( المدينة حرام من عير إلى ثور، من أحدث فيها حدثاً أو آوى محدثاً )، أي: نصره وأيده وحماه وهو محدث ( فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل منه صرفاً ولا عدلاً )، أي: لا فرضاً ولا نفلاً. ولا أحد يقوى على أن يقدم على مثل هذا إلا عبداً لم يعرف هذا، ولا بلغه ولا سمع به، وأما إذا علم المؤمن هذا فإنه لا يحدث في مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم حدثاً تقشعر له الجلود.

    وإن نشر صور الخلاعة معناه: الدعوة إلى الدعارة وإلى الخبث، وإلى فساد الأمة وهبوطها؛ إذ ليس هناك أية فوائد يستفيدونها من هذا، وليس أكثر من أن يأكلوا ويشربوا، ويخروا ويبولوا، ولا يوجد أرباح تتعدى هذا. ولا شك أنهم ما سمعوا كلامنا هذا، ولا بلغهم ولا عرفوا، وإلا لرضي العبد أن يرحل من المدينة ويسكن في أي بلد آخر، ولا يدخل على مدينة الرسول شيئاً يغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم ويحزنه ويؤلمه.

    وهذا نتيجة الجهل، فهيا بنا نتعلم، ولا سبيل إلى نجاة أمة الإسلام إلا بالكتاب والحكمة، وقد جربنا هذا ولمسناه وعرفناه، وعرفنا أن أعلمنا أتقانا، وأتقانا أبرنا وأصدقنا، وقل ما شئت فيه من الصفات؛ لأن النفس البشرية إذا زكت طابت وطهرت، وأصبحت جوارحها كلها مستنيرة، السمع كالبصر كاللسان كاليد كالرجل كالبطن كالفرج؛ إذ الكل يديرها القلب، ( ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، ألا وهي القلب ). فهو محط التلقي والإرسال، فهذا الجهاز الدقيق إذا صفا وطاب وطهر فقل لصاحبه: أبشر، وقل لأمة الله: أسعدي.

    ومما يذكر هنا: أن إحدى المؤمنات بعثت لنا بحوالي خمسة آلاف ريال، وقالت: إنها تريد أن تسهم في طبع هذا الكتاب، وأخرى اليوم بعثت أيضاً بثلاثة آلاف إلا خمسين، وقالت لي: أعلن حتى تفهم المؤمنات أن الأمانة وصلت، ولقد وصلت، وهي محفوظة، وستسهم في طباعة هذا الكتاب.

    1.   

    تحريم الخمر والميسر والأنصاب الأزلام

    ها نحن مع [ النداء الثامن والثلاثون: في تحريم الخمر والميسر والأنصاب الأزلام ] فهذا النداء مهمته تحريم أربعة أشياء، أي: منعها على المؤمنين والمؤمنات؛ لأنها تفسد قلوبهم، وتدمر أرواحهم، وتهوي بهم إلى أسفل سافلين.

    وبما أن الله مولاهم ووليهم لا يرضى لهم الخسران، ولا يريد لهم أبداً الضياع والشقاء الأبدي فها هو يناديهم ليعلمهم وليرشدهم؛ ليهذبهم وليأمرهم، ولينهاهم وليبشرهم، والحمد لله على أن كنا منهم، فاللهم لك الحمد على أن جعلتنا عبادك المؤمنين، تنادينا وتعلمنا وتبشرنا فتسعدنا، ربنا لك الحمد ملء السماوات وملء الأرض.

    هيا بنا نتغنى بهذا النداء.

    [ الآيتان (90،91) من سورة المائدة

    أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنتَهُونَ [المائدة:90-91] ] انتهينا ربنا! ونحن ما شربنا ولا لعبنا، والحمد لله لك يا ربنا! والذين شربوا ولعبوا الليل لا يقولون: انتهينا ربنا! والحمد لله الذي حمانا، والحمد لله الذي وقانا، والحمد لله الذي حفظنا، والحمد لله الذي هدانا، فاحمدوه الليل والنهار على ما أولاكم، وأنعم به عليكم، وهو أهل الحمد والثناء.

    التدرج في تحريم الخمر

    عمر كما سيأتي كان متحيراً؛ لأنه نزلت أربع آيات، آية في سورة النحل تمن على المؤمنين بعصير العنب، وهي قوله تعالى: وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا [النحل:67].

    ثم جاءت آية البقرة، وهي قوله تعالى: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا [البقرة:219]. وكثرت التساؤلات، واضطربت نفوس المؤمنين والمؤمنات.

    ثم جاءت آية النساء: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ [النساء:43]. وكانت النفوس الطاهرة تتطلع حتى نزلت هذه الآية. وما إن سمعها عمر حتى رفع صوته: انتهينا يا ربنا! انتهينا يا ربنا!

    سرعة استجابة المؤمنين لأمر الله سبحانه وتعالى فيما يتعلق بتحريم الخمر وغيره

    ما إن نزلت هذه الآية حتى أريقت دنان الخمر وبراميله في أزقة المدينة حتى جرت كما تجري السيول؛ لأنهم كانوا يحتفظون بالقديم منها المعتق للضيوف والمناسبات، فلما حرمت كانوا يريقونها من عند عتبة الباب، وإذا بالأزقة تمشي بالخمر. وهذا هو الإيمان، واليوم كم من مؤمن يقول لي: يا شيخ! ما إن سمعت تحريم السجائر حتى دست العلبة عند باب المسجد برجلي. وهذا ليس بعيداً. وقد نظر الحبيب صلى الله عليه وسلم إلى صحابي وفي إصبعه خاتم من ذهب - كخواتم الضائعين من أبنائكم وإخوانكم- وقال: (أيعمد أحدكم إلى جمرة من النار فيضعها في إصبعه؟ ثم نزع الرسول صلى الله عليه وسلم الخاتم من إصبع الرجل ورماه في الأرض. فقيل لصاحبه بعد ما ذهب رسول الله صلى الله عليه وسلم: خذ خاتمك، انتفع به). وأعطه لزوجتك .. لأمك، أو بعه. ( فقال: والله ما كنت لآخذه وقد رماه رسول الله صلى الله عليه وسلم). فهذه مظاهر الإيمان تتجلى في مواقف عجيبة، وهذا كله عائد إلى الإيمان الحق الذي صاحبه يناديه الرحمن عز وجل، وأما الإيمان المهلهل المريض كإيمان المنافقين فإنه لا يتحرك، فلهذا نحتاج إلى تجديد الطاقة دائماً، فجددوا طاقة إيمانكم وقووه.

    ولا يعقل يا أبنائي! أن مؤمناً يحفظ هذا النداء على ظهر قلب ويفهم مراد الله منه ثم يقدم على أن يفعل واحدة من هذه الأربع، ووالله ما يستطيع، ولا يقدم على هذا إلا من لم يعرف هذا ولا سمعه ولا آمن به، أو من سمعه ولم يثق فيمن قاله له، أو من إيمانه إيمان صوري لا حقيقة له، أو من ورث كلمة مؤمن أو مسلم فقط، ولم يعرف الله بجلاله وجماله وكماله، ولا عرف ما عند الله، وما لديه الله، ولا عرف محبته، ولا عرف منازل أهل السماء في جنات عدن. هذا هو الذي يتخبط.

    طريق المسلمين للنجاة

    عدنا من حيث بدأنا، فبلغوا أن لا نجاة إلا بالعودة إلى الكتاب والحكمة، وحتى نعود لسنا في حاجة إلى أن تبنى المدارس ويعلى بناؤها، فبيوت الرب موجودة، وإن كانت من خشب أو من طين أو من حديد، فيجتمع فيها المؤمنون بالله والمؤمنات بنسائهم وأولادهم من المغرب إلى العشاء كل ليلة وطول العمر والحياة يتعلمون، فيتعلمون قال الله وقال رسوله، لا مذهبية ولا حزبية، ولا وطنية ولا عنصرية، ولا إقليمية ولا غير ذلك. فأهل القرية المسلمون يجتمعون في بيت ربهم، ويدرسون كتاب الله وهدي نبيه صلى الله عليه وسلم، فيعرفون الله وما يحب، ويقبلون على طاعته، فيعليهم ويرفعهم، ويبلغ بهم الكمال الذي لم يبلغه أحد سواهم، وهم في دنياهم - كما تعرفون- يحرثون ويحصدون، ويبنون ويهدمون، وينشئون ويصنعون، ولا شأن للمسجد بهذا، ومع هذا تعود عوائد هذا للمسجد، وينتهي الغش والخداع والكذب والإسراف والعدوان، فكل مظاهر الباطل والشر تنمحي باجتماع الأمة على كتاب الله وحكمة رسوله، ومن شك فليجرب، وأنا أقول دائماً: في كل قرية وكل مدينة أعلمهم بالله أتقاهم، وابحث حتى لا تشك في هذا، فأعرفنا بالله أتقانا له، كما قال تعالى: إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ [فاطر:28].

    وأنتم جهلتم الأمة ولم تعلموها، ثم تريدون أن تعلو وتسمو وترتفع، وينتهي الخبث والتلصص والإجرام، ووالله لا ينتهي ولو أكثرتم من الشرط والبوليس وحتى السحر على كل فرد، فلو كانت القلوب مريضة والنفوس ميتة فوالله ما ينفع، وأقسم بالله. فهيا للعودة يا مسلمين! ومن الليلة لا يتخلف رجل ولا امرأة في قريتنا عن شهود صلاة المغرب والعشاء، وإذا تمرد واحد أو اثنان ولم يحضرا يؤدبونهما، أو يخرجونهما من قريتهم، ويقولون لهم: لستما منا، ولا تجلسا معنا، وارحلا من قريتنا. هذا إن فرضنا وقوع هذا. وحينئذٍ لا تسمع في القرية حتى صوت عالٍ، ولا تشاهد منكراً ولا باطلاً لا في سوق ولا في دكان ولا في شارع أبداً، وتصبح الأمة كأنها الملائكة في السماء. وهذا يتحقق؛ لأنها سنة الله عز وجل، فالطعام يشبع، والماء يروي، والحديد يقطع، والكتاب والسنة يطهران، فهذه السنة والله لا تتعطل، وسنن الله لا تتبدل ولا تتخلف، ولكننا نحن رضينا بالجهل والضلال، وبحثنا عنهما، ولم نجد إلا البلاء في الصور والخلاعة والمجلات، والإسراف والتكالب على الدنيا. وأعوذ بالله من حالنا.

    ونحن نبكي هذا البكاء منذ سنة ونصف، ولم يبلغنا إلى الآن أن عالماً قام بهذا الواجب أبداً، ولا أن أهل الحي الفلاني اجتمعوا بنسائهم وأطفالهم ورجالهم كل ليلة. فهيا نمشي ندعوهم.

    وقلت: لو كان هناك شيء خارج المملكة في اليابان فإننا نسافر إن شاء الله، ونزورهم ونهنئهم، وهذا حال الأموات، ووالله لا سبيل إلى النجاة بهذا، ويصفون الإسلاميين بالمتنطعين، وغير ذلك من الهراء، وليس هناك طريق إلا هذا الطريق الذي سلكه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونحن لا نريده، إذاً: فلنهبط إلى الحضيض.

    الإيمان بمثابة الروح للإنسان

    هيا بنا ندخل هذه الروضة في هذا النداء [ الشرح ]: قال: [ لا تنسَ أيها القارئ الكريم! أن الإيمان بمثابة الروح للإنسان ] أي: كالروح، فالروح بها الحياة، والإيمان به الحياة أيضاً سواء بسواء [ فمن آمن وصح إيمانه فقد حيا، وأصبح أهلاً لأن يؤمر فيمتثل ويفعل، وينهى فيمتثل وينتهي؛ وذلك لكمال حياته ] فهو حي حياة كاملة [ وإن الكافر كالميت لا يسمع ولا يبصر، ولا يفهم ولا يعقل، ولذا لا يكلف ] لا بصيام ولا صلاة ولا جهاد ولا غير ذلك؛ لأن الميت لا يكلف [ إلا بعد حياته بالإيمان بالله ولقائه وكتابه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم. فاذكر هذا ولا تنسه ] فاذكر أن الكافر ميت، فلا تقل له: صلّ ولا صم، وإذا قلت له ذلك فإنك تعبث؛ لأنك تأمر ميتاً بالصلاة، وأنت لا تقول للميت الذي على النعش: قم واذكر الله؛ لأن هذا ليس معقولاً.

    والآن تجلت لكم هذه الحقيقة، وهي: أن الإيمان روح ولا حياة بدونه، ومن فقد الإيمان فقد مات، ولهذا أهل الذمة الذين تحت راية المسلمين لا يأمرهم المسلمون بصلاة ولا بصيام، ولا بزكاة ولا بحج، ولا بجهاد، ولا يقبلون في الجيوش الإسلامية؛ لأنهم أموات، والميت لا ينفع، ومن قال: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله فقد حيي، وأصبح يسمع ويبصر، ويعي ويفهم، ويقدر على أن يفعل أو يترك. فليفهم المسلمون هذا الكلام، و(95%) منهم ما سمعوا هذا ولا بلغهم؛ لأنهم لا يجتمعون على كتاب الله، فهم لن يعلموا، بل يضحكون من هذا الكلام إذا سمعوه، وهؤلاء مساكين. فاذكر هذا ولا تنسه.

    معنى قوله تعالى: (إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس)

    قال: [ واعلم أن هذا النداء الإلهي الثامن والثلاثين من نداءات الرحمن لأوليائه المؤمنين المتقين يحمل لهم تحريمه تعالى عنهم أربعة أشياء، وهي: الخمر، والميسر، والأنصاب، والأزلام ] وستشرح لنا بإذن ربنا عما قريب [ إذ قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلامُ رِجْسٌ [المائدة:90] أي: وسخ ونجس، وكلمة رجس هذه يتقزز منها ذو الفطرة السليمة [ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ [المائدة:90] أيضاً. وبول الحمار أو البقرة هين، ولكن بول الشيطان ليس هيناً [ فَاجْتَنِبُوه [المائدة:90] ] أي: اتركوه جانباً ولا تلتفتوا إليه [ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [المائدة:90] ] ولعل هذه هي الإعدادية، أي: ليعدكم للفلاح. وهذا الفلاح ليس هو جائزة نوبل ، وليس مزرعة ولا مصنع ولا وظيفة سامية، وإنما هذا الفلاح - وكذلك كل فلاح يقول تعالى دائماً عنه: لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [المائدة:90]- معناه: الفوز بالنجاة من النار ودخول الجنة، كما قال تعالى: فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ [آل عمران:185]. هذا حكم الله. وإليكم الآية بكاملها: قال تعالى: كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ [آل عمران:185]. ونوع الأجر: فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ [آل عمران:185]. وقال تعالى: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا [الشمس:9-10]. هذا حكم العلي الكبير، وهذا الحكم صارم في أنه قد أفلح يقيناً عبد زكى نفسه، وخاب آخر دساها وخبثها ولوثها بأوضار الذنوب والآثام.

    معنى الخمر

    شرح الكلمات: [ فالخمر ] ليست عجوزاً ولا شاباً، وإنما [ هي كل ما خامر العقل ] وغطاه [ أي: ستره ] فهو مشتق من الخمار الذي تتخمر به المرأة وتغطي به وجهها، فيقال: تخمرت، وكذلك كل شيء يغطي العقل حتى يصبح لا يعي ولا يفهم هو خمر [ فأصبح صاحبه يهذر في كلامه ولا يعي ما يقول، حتى إنه قد ينطق بالسوء، أو يأتي منكراً من الفعل ] فكل ما خامر العقل وغطاه وغشاه حتى أصبح لا يعي فهو الخمر، سواء من عنب أو من تمر أو من الهيدروجين.

    وقد اشتكت مؤمنة وقالت: بعلها يأتي سكران، فقلت لها: اهربي منه، ولا تمكنيه من نفسك وهو سكران، فقد يفعل الباطل والشر، وقد يخنقك، واطرديه حتى يصحو، وأدبيه وعلميه وذكريه ولا تنسيه أبداً؛ لعل الله أن يتوب عليه. اللهم تب عليه.

    حكم البيرة

    الخمر ليس الويسكي، ولا هذا الذي يشتريه الأطفال، والذي نددنا به وقالوا: حلال، بل هو البيرة، وهو خمر عالمي، وقد عرفنا هذا منذ الصبا، وقد جاء الشيطان لإخواننا بمدينة الرسول صلى الله عليه وسلم ودولة القرآن فأصدروا فتاوى وقالوا: هذه لا تسكر، وليس فيها مسكر، وأنها مصنوعة من الشعير. وقد صرخنا منذ أربعين سنة وقلنا: والله إن هذه لحيلة، وما دامت جاهزة فالمورد يورد سيارة كاملة من الشام أو من الأردن ويجعل فيها عشرين قارورة من الويسكي؛ حتى يهرب الويسكي. هذا هو السر فاعرفوه. وقد انتصرت الهيئة، وضربت من يشربها ومنعتها، ولكن إذا كان الشعب هابطاً فلا ينفع لا الحكومة ولا الهيئة، وسيهربوه حتى في بطونهم، فقلنا لهم: اسمعوا، أولاً: هذه البلاد الطاهرة تظللها راية لا إله إلا الله محمداً رسول الله، وتساس بشرع الله، وممنوع فيها صنع الخمر، وممنوع فيها توريد الخمر رسمياً، وبلادنا الأخرى يصنع فيها، وتورد إليها، وفي بلادنا ممنوع شربها، ويجلد شاربها ثمانين جلدة أمام المسجد. فإذا جاء الزائر أو الحاج ورأى بيرة يقول: هؤلاء يبيعون الخمر ويشربونه، وهم دولة قرآنية، فتصبح تهمة وعاراً على الدولة والأمة لا ينمحي أبداً. والذي جر هذه الفتنة هؤلاء الماديون الهابطون، الذين لا يجلسون في حلق العلم ولا يتبصرون، بل من أجل ريال وسخ يحطمون دولة كاملة، ولو كانوا ذي مروءة وشرف فالكلام الذي يأتي بعار أو بسب لدولة القرآن لم يقبلوه أبداً، بل يموتون دونه.

    ثانياً: علمناهم في الفقه وأصوله: أن الذي يتناول كأس اللبن أو العسل على هيئة شرب المحرمات ويتلذذ بكيفية تناوله يكون في حقه حراماً، كأن يضع أمامه الطاولة ويشرب ولكن بهيئة خاصة، كأن يدخن السيجارة، ويضع يده على السيارة كأنها يد يهودي أو نصراني، كما حفظها وشاهدها في التلفاز أو في غيره.

    يقول علماء الأصول: الذي يتناول الكأس على هيئة يتناول عليها أهل الشرب يصبح ذلك الشراب الحلال في حقه حراماً، وينقلب في حقه حراماً. وهذه ليست فتيا، وإنما هي أصول. وهنا شبيبة ضائعون في المدينة وفي غيرها، يتلذذون بكلمة بيرة، ولو تلذذوا بالعسل بلفظ البيرة فهو حرام كالخمر.

    وهم يوردون البيرة مع الباخرة فقط. فهذه أربعة عيوب تجعل هذه البيرة محرمة، وإن كانت عسلاً، لكن الذين ما عرفوا الله ولا خافوه ولا رهبوه يقولون: هذا الكلام هراء، وليس هناك شيء في بيع البيرة، ويصدرونها ويبيعونها، وقد قاومتهم الهيئة، ولا أدري ما تفعل الآن.

    معنى الميسر

    قال: [ والميسر أصله باللعب بالقداح للقمار ] والقداح جمع قدح، وهو آلة الجاهلية، والآن الميسر أنواع [ وأصبح يطلق الميسر على القمار، فكل لعب يقامر به هو ميسر ] وهو مأخوذ من اليسر، لأنه يربح على الطاولة بدون تعب، ومنه الكيرم، والشطرنج، وغير ذلك من المسميات، ويجدون علماء يفتونهم بذلك، وهذا ليس فيه فائدة، فوالله لا يحل استعمالها ولا لمسها، ولا شراؤها ولا صنعها.

    معنى الأنصاب

    قال: [ والأنصاب جمع نصب، وهو ما ينصب من الأحجار والتماثيل والصور للعبادة بأي صورة من صور العبادة كالتعظيم والتمسح والعكوف حولها، والحلف بها، والنذر لها ] فكل ما ينصب من التماثيل والصور للتبرك أو لغيره فهو من الأنصاب، لا يحل شراؤها ولا صنعها ولا توريدها ولا استعمالها. والغافلون يضعون النصب في سياراتهم، وأما في داخل البيت فلا تسأل.

    وقد دخلت قبل يومين أو ثلاثة مكاناً، فوجدت بعض الأشياء، فقلت: انظر إلى الغفلة، فأهل هذه في أوروبا وفي أمريكا وفي بلاد الكفار يضعونها عندهم، ولا يفكرون في هذا ولا يذكرون، ويتمتعون بالنظر إلى هذه الصور وهذه الأشياء التافهة. وأما أهل لا إله إلا الله الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ [آل عمران:191]، والذين لا يفترون عن ذكر الله فليس في قلوبهم كرب ولا حزن حتى يشاهدوا صوراً تهدئ لهم أنفسهم، فهؤلاء يعيشون مع الله، فلا يوضع لهم هذا في بيوتهم ودكاكينهم للنظر إليها؛ لأن مشاهدتها تؤدي إلى الغفلة عن ذكر الله، ووالله إنها لصارفة عن ذكر الله، وليست داعية لذكر الله أبداً. وممكن أن تكتب آية فيها ذكر الله في الجدار، وتنظر إليها وتذكر، وأما هذه الصور والتماثيل الباطلة فإنها تلهي عن ذكر الله وتنسي. وأهل الكفر لا نلومهم؛ فقلوبهم ميتة، ولذلك يشاهدون هذه، وإنما نلوم الذين هم مع الله، كما قال الله: ( أنا عند عبدي ما ذكرني وتحركت بي شفتاه ). وقال: وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ [الأحزاب:35].

    معنى الأزلام

    قال: [ والأزلام جمع زلم، وهي سهام ] وعيدان [ يستقسمون بها في الجاهلية، وهي عبارة عن ثلاثة سهام، كُتب على أحدها: أمرني ربي، وعلى الثاني: نهاني ربي، والثالث مهمل لم يكتب عليه شيء، فإذا أراد الرجل أن يسافر أو يتزوج أو ... ] كأن يبني، ولا يعرف الخير أين [ يأتي إلى صاحب الأزلام ] فهي مهمته التي يعيش عليها، ويجلس عند الكعبة [ فيطلب منه بيان قسمته وحظه، فيدخل العيدان ] الثلاثة [ في خريطة - كيس- ويميلها فيها، ثم يخرج واحداً من الثلاثة، فإذا خرج أمرني ] ربي [ مضى في عمله ] وطريقه، سواء زواج أو بناء أو زرع [ وإن خرج نهاني ترك العمل ] ولو إلى أعوام [ وإن خرج ] الثالث [ المهمل ] الذي ليس فيه شيء [ أعاد الاستقسام ] مرة ثانية، فيدخل الأزلام ويخلطها ويخرج [ حتى يخرج أمرني أو نهاني ] والعجيب أنهم كانوا يكتبون عليها: أمرني ربي، ونهاني ربي، وهم جهال كفار.

    حكم الاستقسام بالأزلام والمسبحة وحكم خط الرمل وقرعة الأنبياء

    قال: [ فجاء الإسلام فحرم هذا الاستقسام، كما حرم ما يعرف بخط الرمل ] ولو ذهبت إلى باريس لوجدت شارعاً خاصاً فيه أناس واضعين رملاً بين أيديهم من المسلمين ويُدَجِلون بالفلوس، ويخرج شيئاً أو يتجلى له شيء، مثل تزوج وإلا طلق [ وقرعة الأنبياء ] هذه معروفة يبيعونها [ والاستقسام بالمسبحة] فيأخذ حبات السبحة فإذا جاءت بالأفراد فهذا لا ينفع، وإذا جاءت بالأزواج تزوج أو طلق [ والشوافات من النساء ] وهذه موجودة في عدن، وقد مررنا بهن من سبعين سنة في عدن، والشوافة امرأة تجلس وتقول: إنها تشوف الغيب وتطلع عليه [ إلى غير ذلك من أنواع الضلالات التي جاء الإسلام بتحريمها، وقال الله تبارك وتعالى فيها: رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ [المائدة:90]. والرجس: النجس المستقذر حساً أو معنى، والمحرمات كلها خبيثة وإن لم تكن مستقذرة، وكونها من عمل الشيطان هي أشد رجساً وقذارة؛ لأن الشيطان لا يزين إلا ما كان خبيثاً نجساً حساً أو معنىً؛ لذا أمر تعالى باجتنابه بقوله: فَاجْتَنِبُوهُ [المائدة:90]. ورجّانا تعالى وطمعنا بالفلاح إذا نحن اجتنبنا هذه القاذورات من الخمر والميسر، والأنصاب، والأزلام فقال: لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [المائدة:90]. والفلاح: الفوز بالنجاة من النار ودخول الجنة. كانت تلك هداية الآية الأولى ].

    علة تزيين الشيطان للخمر والميسر والأنصاب والأزلام

    [ أما الآية الثانية وهي قوله تعالى: إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنتَهُونَ [المائدة:91] فقد أخبرنا تعالى عن علة تزيين الشيطان للرجس الذي هو مجموع المحرمات الأربع، وأنها إيقاع العداوة والبغضاء بيننا ] وكم نرى من جماعة يلعبون وفجأة يتضاربون والله العظيم، وأما السبت والشتم والتقبيح فلا تسأل [ وصدنا عن ذكر الله وعن الصلاة. فهذه العظائم الأربع هي علة تزيين الشيطان لتلك الخبائث الأربع، التي هي: الخمر، والميسر، والأنصاب، والأزلام.

    ألا فلنعرف هذا أيها القارئ الكريم! ولنلعن الشيطان ونخيبه في دعوته باجتنابنا التام للخمر، فلا نشربها، ولا ننتجها، ولا نبيعها، ولا للميسر، فلا نلعبه وأياً كانت آلاته نرداً أو شطرنجاً، أو كعاباً أو غيرها كالكيرم والدمينو وغيرها؛ إذ الكل مما حرم الله جل جلاله وعظم سلطانه، وبذلك ننجو من فتنة الشيطان، فتدوم محبتنا لبعضنا وولاؤنا، ولا نفتر ذاكرين لله، مقيمين للصلاة التي هي عمود ديننا، ومركز قوتنا، ومنارة هدايتنا، وسلم رقينا ونجاتنا من الوقوع في الفحشاء والمنكر، إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ [العنكبوت:45].

    ولنذكر ما ختم الله تعالى به هذا التوجيه الإلهي لنا، وهو قوله: فَهَلْ أَنْتُمْ مُنتَهُونَ [المائدة:91]، لنقول: انتهينا ربنا! كما قال عمر رضي الله عنه، لما كان يقول: اللهم بين لنا في الخمر بياناً شافياً، حتى نزلت هذه الآية فقال: انتهينا ربنا! ونحن نقول: لا نقارف هذه الخبائث، ولا نرضى بها، فثبتنا ربنا! فإنك ولينا، ولا وليّ لنا سواك، ولك الحمد على ما أوليت، ولك الشكر على ما أعطيت. وسلام على عبادك الصالحين، والحمد لله رب العالمين ].

    حكم من يروج بضاعته بالجوائز

    أقول: الذي يروج بضاعته بالجوائز هذا حسود، يريد أن يأخذ كل شيء، وهذا فاقد الروح الإيمانية الحقة. وقبل أربعين أو خمسين سنة في المدينة كان الرجل يفتح دكانه فيأتي الزبون ويشتري شيئاً زيتاً أو سكراً أو بناً، والدكان الثاني لا يقف عليه أحد، فإذا أتى واحد آخر يقول له: امش إلى الدكان الآخر؛ فأنا ليس عندي. والآن يريدون أن يستولوا على كل شيء، ولو يعلم أنه لم يبقَ أحد يشتري من عند آخر إلا هو والله لرضي، والعلة هي أننا هبطنا، وما عرفنا الطريق إلى ربنا، فلا لوم ولا عتاب.

    وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718659

    عدد مرات الحفظ

    755819105