فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
تعرضنا لصفات الذات لربنا تبارك وتعالى، ويقاس عليه ما لم نذكر، ويفهم مما ذكرنا المراد، فتعرضنا لذكر الساق واليد والعين والقدم وغيرها، وما لم نذكره يقاس على ما ذكرناه، بحيث يفهم أن المؤمن لا بد أن يؤمن بصفات المولى تبارك وتعالى الذاتية الخبرية دون خوض في كيفيتها.
وإذا قلنا: إن الصفات نوعان: صفات ذات وصفات فعل، فقد ذكرنا من صفات الذات ما يغني عن تكراره، ويقاس عليه ما لم نذكر.
وأما صفات الفعل: فهي ما يتعلق بأفعال الله تبارك وتعالى، وأفعاله لا منتهى لها، لأنه يفعل ما يشاء في أي وقت شاء وفي أي مكان شاء؛ ولذلك عبر المولى تبارك وتعالى عن مشيئته المطلقة في كتابه الكريم فيما يتعلق بأفعاله، فقال سبحانه: فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ
[البروج:16]،
إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ
[الحج:18].
فأفعاله متعلقة بمشيئته وإرادته، والله تبارك وتعالى لا يسأل عما فعل، فلا يقال لأفعاله: لم فعل؟ ولا كيف فعل؟ لأنه يفعل ما يشاء ولا يسأل عما يفعل، بخلاف الخلق فإنهم يسألون عما يفعلون.
فأفعال الله عز وجل كالمجيء والإتيان والنزول والاستواء وغيرها من الأفعال تقول عنها: هذه صفة فعل لا صفة ذات، فاستواؤه تبارك وتعالى فعل، ومجيئه تبارك وتعالى يوم القيامة والملك صفاً صفاً فعل، ونزوله إلى السماء الدنيا في الثلث الأخير من الليل فعل، وغير ذلك مما يطلق عليه أفعال لا صفات ذات.
فإذا كنا تكلمنا عن بعض صفات الذات وقلنا بوجوب الإيمان بها وإمرارها كما جاءت دون الخوض في كيفيتها، ونثبتها لله تبارك وتعالى بلا تمثيل، وننزهه عن التشبيه بلا تعطيل؛ فكذلك نقول في أفعاله تبارك وتعالى.
فصفة الفعل التي نتعرض لها في هذه الليلة هي نزول المولى تبارك وتعالى، فقد ثبت أنه ينزل في ليلة عرفة، وثبت أنه ينزل ويدنو في النصف من شعبان، وليس هذا يعني أننا نخص ليله بقيام ونهاره بصيام، ولكن المولى تبارك وتعالى ينزل في ليلة النصف من شعبان؛ ليغفر لعباده الصالحين، وينزل تبارك وتعالى في كل ليلة من الليالي إذا بقي ثلث الليل الآخر، فينادي في عباده: (أنا الملك. هل من داع فأجيبه؟ هل من مريض فأعافيه؟ هل من مستغيث فأغيثه؟ هل من مستغفر فأغفر له؟ حتى يطلع الفجر) أي: حتى يظهر الصبح. ينادي المولى تبارك وتعالى ويتودد ويتحنن إلى عباده في هذا الوقت، وهو وقت إجابة الدعوة كما أجمع على ذلك أهل العلم، لكن القضية الآن: هل نزول الله تبارك وتعالى ثابت أم لا؟ والسؤال الثاني: إذا كان ثابتاً بالأدلة فكيف ينزل؟
وأهل العلم بينوا ذلك من أول ما وقعت الفتنة في زمن عثمان وعلي بن أبي طالب ، ولذلك كان ابن سيرين يقول: كنا لا نسأل عن الرجال حتى وقعت الفتن فقلنا: سموا لنا رجالكم. فما سموا لنا من أهل السنة أخذنا بأحاديثهم، وما سموا لنا غيرهم تركناهم.
ويقول ابن المبارك : إن هذا العلم دين، فانظروا عمن تأخذون دينكم. أي: عن أهل الأهواء والبدع، أم عن أهل السنة والجماعة، ولذلك معظم الفرق التي انحرفت وضلت إنما كان انحرافها في عقيدتها في ربها تبارك وتعالى.
هذا مذهب الخوارج والجهمية ومعظم المعتزلة أنهم أنكروا ورود هذه الأحاديث رغم وجودها في الصحيحين.
وافترى بعضهم على شيخ الإسلام ابن تيمية عليه رحمة الله تعالى أنه قال على منبر المسجد الكبير في الشام: إن الله تبارك وتعالى ينزل كنزولي هذا، ونزل درجتين ثم صعد.
وهذا في حق شيخ الإسلام ابن تيمية الذي له رسالة في شرح أحاديث النزول من أمتع ما يمكن أن تقرأ وتسمع، والذي يذكر فيها مذاهب الفرق جميعاً في معنى نزول ربنا تبارك وتعالى، ثم يذهب في معنى النزول إلى ما قاله مالك : النزول معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة.
ولذلك اعتقاد أهل السنة والجماعة في جميع صفات المولى تبارك وتعالى الذاتية والفعلية قولهم هذا: الصفة معلومة، وكيفيتها مجهولة، والإيمان بها واجب، والسؤال عنها بدعة.
إذاً: فكيف يقال: إن شيخ الإسلام يقول: إن ربنا ينزل كنزولي هذا وينزل درجتين ثم يصعد المنبر مرة أخرى. هذا كذب وافتراء على شيخ الإسلام ابن تيمية ، ولكن على أية حال! طار بهذا الخبر وبهذا النقل الكاذب أصحاب الأهواء والبدع الذين يبغضون شيخ الإسلام ابن تيمية ، بل ويبغضون السنة وحامليها، طاروا بهذا الخبر فرحاً وقالوا: هذا في حكم شيخ الإسلام ابن تيمية ، فإن كفرتم بعض المتعنتين الغالين من الفرق الضالة فيلزمكم أن تكفروا شيخكم شيخ الإسلام ابن تيمية .
و شيخ الإسلام لم يصدر عنه هذا، بل صدر عنه غيره، وكلامه مسطور مكتوب، فضلاً عن أن شيخ الإسلام ابن تيمية عليه رحمة الله لم يكن خطيباً قط، وهذا الخبر نقل أنه كان يخطب الجمعة فقال هذا، وشيخ الإسلام ابن تيمية لا يعلم من حياته قط أنه كان خطيباً. وهذا وجه ثان للرد على هؤلاء الكذبة الذين افتروا على شيخ الإسلام ابن تيمية .
الوجه الثالث: أن هذا العام الذي نقل ابن بطوطة في رحلته، وذكر السنة التي فعل فيها شيخ الإسلام ابن تيمية هذا لم يكن شيخ الإسلام ابن تيمية حراً، بل كان مقيداً بالسلاسل في السجن. وهو الوجه الثالث في إثبات بطلان هذا الكلام ونسبته إلى شيخ الإسلام عليه رحمة الله.
إذاً: للفرق الضالة رأيان: الرأي الأول: رد النصوص وبالتالي عدم التعرض للكيفية، لأن المسألة غير ثابتة.
الرأي الثاني: ثبوت النصوص وتأويلها بما يتفق مع نزول المخلوقين، وهذا غلو في التشبيه، وأنهم لا يفهمون من صفات الخالق إلا ما يفهمونه من صفاتهم إذا اتحدت الصفة في الاسم. ولعلكم تذكرون تلك القاعدة التي ركزنا عليها أيما تركيز في أول شرح هذه الأصول وقلنا: (ما من شيئين إلا وبينهما اتفاق وافتراق)، ما من شيئين إلا وبينهما اتفاق في الاسم وافتراق في المسمى، وافتراق في الحقيقة، فنزول الرب تبارك وتعالى يستوي مع نزولي في الاسم فقط، فأنا أنزل والرب تبارك وتعالى ينزل، فالنزول له ثابت والنزول لي كمخلوق ثابت، ولكن مسمى وحقيقة النزول لله تبارك وتعالى تختلف عن حقيقة النزول بالنسبة لي، ولذلك هذه القاعدة ركزنا عليها أيما تركيز وقلنا: ما من شيئين إلا وبينهما اتفاق وافتراق، فمن نفى القدر المشترك فقد مثل وقال: إن الله تعالى كذاتي وصفاته كصفاتي وأفعاله كأفعالي. ومن نفى القدر الفارق فقد عطل.
إذاً: إذا قال النبي عليه الصلاة والسلام: (إن الله خلق آدم على صورته) لو افترضنا أن الضمير في صورته يعود على آدم، لو افترضنا ذلك جدلاً فهل صورة الرحمن تبارك وتعالى كصورة آدم تماماً بتمام؟ لا. لماذا؟ لأن آدم خلقه الله تعالى على صورة، والله تبارك وتعالى له ذات بكيفية وصورة تليق بجلاله.
إذاً: فأنا أثبت لله تبارك وتعالى أنه على صورة، وأنه على هيئة، وأنه على كيفية لا يعلمها إلا هو سبحانه، وليست صورته كصورة آدم، فصورة آدم صورة مخلوق، وصورة الله تبارك صورة الخالق، فالله تعالى له صورة وآدم له صورة.
إذاً: الاتفاق بين آدم وبين الله تبارك وتعالى في الاسم، والمسمى يختلف؛ لأن الله تعالى واحد في صورته. أي: لا يشبه في صورته أحداً من خلقه، ولا أحداً من خلقه يشبهه في الصورة، فالذات تختلف عن الذات، والصورة صفة لله عز وجل تختلف عن صورة المخلوق، فالنزول ثابت لله عز وجل، لكن لا نذهب فيه مذهب الذين لا يفهمون من النزول إلا ما يفهمونه من نزولهم هم، وإنما يقول: إن ربنا تبارك وتعالى ينزل نزولاً يليق بجلاله، فلو أني صعدت على هذا المنبر وجلست عليه لقال الناظر لي: إن فلاناً قد استوى على الكرسي. أي: قعد وتمكن من الجلوس على الكرسي. فلا نقول هذا في استواء المولى تبارك وتعالى، وإنما نقول: استوى حقيقة استواءً يليق بجلاله وكماله. فاستوائي على الكرسي ليس كاستواء ربنا تبارك وتعالى على العرش؛ لأنني -كمخلوق- أستوي استواءً يليق بمقام العاجز الضعيف، والمولى تبارك وتعالى له استواء لا يعلم كيفيته إلا هو سبحانه وتعالى، فما الذي يمنعني مع هذا الاعتقاد أن أقول: إن الله تبارك وتعالى ينزل حيث أخبر بذلك وأخبر به رسوله عليه الصلاة والسلام نزولاً يليق بجلاله؟ لأن القاعدة الأصيلة التي لا مفر من الإيمان بها والتسليم لها: أن الذات إذا خفيت علي فلا بد أن تخفى الصفات، ومنها الأفعال.
فإذا كنت لا تعلم كنه الله عز وجل ولا كيفية الله عز وجل ولا صورته فكيف تقول: إنه ينزل نزولاً كنزولك؟! فإذا كنت تجهل الذات فلا بد أن تسلم أن الصفات مجهولة من جهة الكيفية لديك، ومنها نزوله تبارك وتعالى.
فنحن نعتقد أن الله تبارك وتعالى استوى على الكرسي، واستوى على العرش، وهو مع خلقه يدنو منهم وينزل وهو مستو على العرش تبارك وتعالى، لا يخلو منه العرش، بل هذا كلام حادث أحدثه أهل البدع لا نحب أن نخوض فيه، ولكنني ذكرت ذلك على سبيل الإجمال وعلى وجه السرعة؛ لأنه ربما خطر ببالك كما خطر ببال بعض السلفيين في هذا الزمان أنهم خاضوا في هذه القضية، وعيب عليهم أن يخوضوا فيها وإن كانوا علماء؛ لأنه يجب عليهم أن يسلموا لله عز وجل ويؤمنوا إيماناً مطلقاً جازماً بكل ما أثبته الله تعالى لنفسه وما أثبته له رسوله من غير تكييف ولا تحريف، ومن غير خوض ولا تكلف تأويل، ولكنهم مع هذه القواعد الثابتة المستقرة في قلوبهم خاضوا في كيفية النزول لله عز وجل، وقالوا: هل يخلو منه العرش أم لا؟ وهذه مرحلة أخشى أن تؤدي بعد ذلك إلى القول بخلو العرش حقيقة ويقيناً عندهم، فيقعوا فيما وقع فيه أهل البدع.
الوجه الأول: إن قولك: إن الله لا ينزل وإنما الذي ينزل رحمته وأمره. فيه رد للنصوص الصحيحة الصريحة بغير حجة ولا برهان.
الوجه الثاني: إن رحمة الله تبارك وتعالى تنزل بالليل والنهار، لا تحتاج إلى نزول في الثلث الأخير من الليل، وليست محدودة بزمان ولا مكان.
الوجه الثالث: أن الحديث يقول: (ينزل ربنا تبارك وتعالى إذا بقي الثلث الليل الآخر فيقول: أنا الملك! من يدعوني فأستجيب له). فقوله: (أنا الملك) وقوله: (ينزل ربنا) صريح في أن الذي ينزل هو الله عز وجل، فهل يمكن أن يتصور صرف لفظ: (الرب) ولفظ: (أنا الملك) إلى الأمر والنعمة والرحمة؟ لا يمكن. هذا كلام لا تحتمله اللغة، بل العقل كذلك يرده، وهو تعطيل للإيمان بصريح النصوص، وقد وقع في هذا التأويل كثير من أهل العلم الذين نعتمد كلامهم وأخبارهم.
وعلى أية حال: الحق لا يعرف من خلالهم، وإنما الحق يعرف بالكتاب والسنة وبالأدلة البينة الواضحة، والأدلة ترد عليهم.
فما هي تلك الأدلة التي أثبتت نزول الله تبارك وتعالى؟ إن كنت أتكلم في هذه القضية كلاماً عاماً مجملاً بعد بيان عرض معتقدات أهل الملة في نزول المولى تبارك وتعالى -فإنني ألزمكم إلزاماً بقراءة رسالة عظيمة جداً لشيخ الإسلام ابن تيمية يفسر فيها حديث النزول، وهي مطبوعة في الهند، وطبعت هنا في الريان، وهي مأخوذة من المجلد الخامس من فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية ، فمن لم يتمكن من شراء الرسالة على انفراد تمكن من قراءة هذه الرسالة في المجلد الخامس من مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية ، كتاب عظيم جداً بلغ حوالي مائتين صفحة.
فرواية أبي هريرة التي هي من طريق الزهري قال: [أخبرني أبو سلمة والأغر - سلمان صاحب أبي هريرة - أن أبا هريرة أخبرهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ينزل ربنا تبارك وتعالى كل ليلة حين يبقى ثلث الليل الآخر إلى سماء الدنيا)] فالنزول ليس إلى الأرض وإنما إلى السماء الدنيا. أي: السماء التي تلي الأرض ينزل إليها ربنا تبارك وتعالى. والزمن: حين يبقى ثلث الليل الآخر.
وهناك روايات قد وردت أنه ينزل إذا انصرم الثلث الأول من الليل، أو إذا مضى الثلث الأول من الليل. ورواية: أو شطر الليل، ينزل ربنا تبارك وتعالى إذا انتصف الليل إلى سماء الدنيا، وإن كانت كل هذه أحاديث صحيحة في الجملة، إلا أن اتفاق أهل العلم على أن أصح الروايات في نزول المولى تبارك وتعالى حديث أبي هريرة الذي هو من طريق الزهري لا من طريق غيره، وأن نزول المولى تبارك وتعالى حين يبقى ثلث الليل الآخر. يعني: ينزل في آخر الليل وهو الوقت المشهود، الوقت الذي يستجيب الرب تبارك وتعالى فيه دعاء العباد.
قال: [(ينزل الله عز وجل كل ليلة حين يبقى ثلث الليل الآخر إلى سماء الدنيا فيقول: من يدعوني فأستجيب له؟ من يستغفرني فأغفر له؟ من يسألني فأعطيه)] إلى آخر الحديث.
وقد روي هذا الحديث من طريق أبي سعيد الخدري ، ومن طريق علي بن أبي طالب وأبي بكر الصديق رضي الله عنه وجابر بن عبد الله الأنصاري ورفاعة الجهني ، ومن طريق أبي الدرداء وعبد الله بن مسعود وجبير بن مطعم وأبي ثعلبة الخشني وعقبة بن عامر الجهني ، كلهم وغيرهم يروي هذا الحديث، كما روي في مرسلات علي وعائشة رضي الله عنهما وعبد الله بن مسعود. كل هذا يثبت أن الله تبارك وتعالى ينزل وإن اختلفت المناسبة، فينزل ليلة عرفة -أي: يوم عرفة- حتى يدنو من العباد فيقول: (ألا هل من داع؟ ألا هل من مستغفر؟ ألا هل من تائب؟) .
ويدنو في ليلة النصف من شعبان، وينزل في الثلث الأخير من الليل كما جاء عن أم سلمة كذلك.
قال: [عن عبد العزيز بن أبي رواد قال: كان عطاء إذا ذكر عنده ليلة النصف من شعبان وما يقال فيها فيقول: إني لأرجو أن يكون ذلك في كل ليلة]. أي: أن يغفر الله عز وجل للعباد في كل ليلة؛ وذلك لأنه يؤمن أن الله تعالى ينزل في الثلث الأخير من كل ليلة، فليلة النصف من شعبان كبقية الليالي. فـعطاء كان يرجو أن يغفر الله عز وجل لكل أحد في كل ليلة. وهذا ثابت كذلك عن عمر ومحمد بن كعب القرظي وغيرهم.
قال مكحول الشامي : [يطلع الله تبارك وتعالى على خلقه ليلة النصف من شعبان، فيغفر للمستغفرين، ويتوب على التائبين، ويدع أهل الحقد بحقدهم، فيغفر إلا لمشرك أو مشاحن].
وقال الفضيل بن فضالة: [إن الله يهبط إلى سماء الدنيا -يهبط بمعنى: ينزل- ليلة النصف من شعبان، فيعطي رغاباً، ويفك رقاباً، ويفخم عقاباً]. وهو دليل على المغفرة.
وذكر أحمد بن علي الأبار أن عبد الله بن طاهر - وهو أمير خراسان - قال لـإسحاق بن راهويه : يا أبا يعقوب ! ما هذه الأحاديث التي تحدثون بها، إن الله ينزل إلى السماء الدنيا؟ أهو ينزل ويصعد؟ فقال له إسحاق : تقول: إن الله يقدر على أن ينزل ويصعد ولا يتحرك؟ قال: نعم. قال: فلم تنكر إذاً؟
يعني: هل أنت تعتقد أن الله تبارك وتعالى قادر على أن ينزل وأن يصعد دون أن يتحرك، وأنه مستو على العرش؟ قال: نعم. لأنه يفعل ما يشاء سبحانه وتعالى، فنزولي أنا يحتاج إلى انتقال وحركة، لكن لا يلزم من نزول الله عز وجل إذا أراد أن ينزل وأن يصعد أن يخلو منه العرش ولا أن يتحرك ولا أن ينتقل، بل هو مستو على عرشه كذلك.
فقال: أتقول: إن الله تعالى قادر على ذلك؟ قال: نعم. قال: فلم تنكر إذاً أنه ينزل؟
كلام جميل! كلام أهل العلم، إذ إن القضية كلها أن تصدق أن القياس بينك وبين الخالق قياس مع الفارق، قياس غير صحيح ألبتة لا في الذات ولا في الأسماء ولا في الصفات ولا في الأفعال.
وقد سبق أن بينا القاعدة الأولى: وهي وحدانية الله تبارك وتعالى. أي: واحد في ذاته، ولا يمكن أبداً لأي ذات من الذوات أن تشبه ذات الإله، ولا الأسماء ولا الصفات ولا الأفعال، فأنا لما أنزل هذا فعل، وربنا ينزل أيضاً فهذا كذلك فعل، لكن فعلي له مثيل فنزول محمد كنزول زيد، لكن ليس نزوله كنزول الله عز وجل؛ لأنه سبحانه واحد في أفعاله، ونزوله من أفعاله.
إذاً: نزوله سبحانه نزول تفرد، فلا يمكن أبداً أن يشبه نزول أحد من خلقه، فلا بد أن أؤمن بوحدانية الله عز وجل في أفعاله.
إن الجهمي يقول: أحاديث النزول غير صحيحة، بل هي كاذبة وباطلة، ولا يوجد شيء اسمه نزول وصعود؛ لذلك قال: [قال الفضيل بن عياض: إذا قال لك الجهمي: أنا أكفر برب ينزل ويصعد فقل: وأنا أومن برب يفعل ما يشاء]. فيا له من كلام جميل! لا تتكلف التأويل والأخذ والرد، وإقامة الحجة عليه، فهؤلاء مجرمون، لا يسلمون لك بحجة، ولو أثبت الصفة من السنة قال لك: لا. لا بد من القرآن، وهو قبل قليل أنكر صفة كان دليلها القرآن.
فهو لا يمكن أن يثبت معك على حال قط، وهو ليس محتاجاً إلى بينة أو دليل، إنما الذي دعاه إلى الإنكار هو كفره وجحوده بالله عز وجل، وقياسه الفاسد بين الخالق والمخلوق، وأنه لا يفهم من صفات الخالق إلا ما يقيسه هو من صفات الخالق على صفات ذاته.
قال يحيى بن معين: [إذا سمعت الجهمي يقول: أنا كفرت برب ينزل. فقل: أنا أومن برب يفعل ما يريد].
وقال حنبل بن إسحاق -ابن أخي أحمد بن حنبل-: [سألت أبا عبد الله أحمد بن حنبل عن الأحاديث التي تروى عن النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله ينزل إلى السماء الدنيا) فقال أبو عبد الله: نؤمن بها، ونصدق بها، ولا نرد شيئاً منها إذا كانت أسانيد صحاحاً، ولا نرد على رسول الله عليه الصلاة والسلام قوله، ونعلم أن ما جاء به الرسول حق. حتى قلت لـأبي عبد الله : ينزل الله إلى سماء الدنيا؟ قال: نعم. قلت: نزوله بعلمه أم بماذا؟ فقال لي: اسكت عن هذا]. يعني: لا تخض في ذلك، أثبت لله ما أثبته لنفسه وما أثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم دون خوض، وآمن به كما جاء وصدق به كما جاء، ولا ترد شيئاً مما صح في أخباره وصفاته وأفعاله، على الوجه اللائق.
قال: [فقال: اسكت عن هذا، مالك ولهذا؟ أمض الحديث على ما روي بلا كيف ولا حد، إنما جاءت به الآثار وبما جاء به الكتاب قال الله عز وجل: فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الأَمْثَالَ
[النحل:74] ينزل كيف يشاء بعلمه وقدرته وعظمته، أحاط بكل شيء علماً، لا يبلغ قدره واصف، ولا ينأى عنه هرب هارب]. يعني: لا مفر من أن تؤمن بهذا، فنزول الله عز وجل ثابت يقيناً، وأدلته ظاهرة وواضحة، بل هي متواترة.
فقال السائل: أثبته. يعني: ناقشني على اعتبار أنني مصدق ومؤمن بأن الله تعالى استوى على العرش. فقال إسحاق : قال الله تعالى: وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا
[الفجر:22] تلا إسحاق هذه الآية؛ لأن استقامة الأمير استقامة الرعية وفساده فساد الرعية، فلما سمع الأمير هذه الآية قال لـإسحاق: هذا يوم القيامة. فقال إسحاق : أعز الله الأمير! ومن يأتي يوم القيامة من يمنعه أن يأتي اليوم؟ فبهت الأمير. وهذا ذكاء إسحاق بن راهويه. أجاب إجابة لا تناسب إجابة السائل حتى يسكت الأمير.
أما الأدلة فهي ما جاء عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ينزل ربنا عز وجل كل ليلة إذا مضى ثلث الليل الأول -وفي رواية: حين يبقى ثلث الليل الأخير- فيقول: أنا الملك! من ذا الذي يسألني فأعطيه؟ من ذا الذي يدعوني فأستجيب له؟ من ذا الذي يستغفرني فأغفر له؟ فلا يزال كذلك). قال الذهبي : رواه أحمد وإسناده قوي. وهو من طريق آخر عند البخاري ومسلم .
وفي رواية أخرى: (ينزل ربنا تبارك وتعالى كل ليلة إلى سماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الأخير فيقول: من يدعوني) إلى آخره.
ثم قال ابن عبد البر : وأما قوله عليه الصلاة والسلام: (ينزل ربنا تبارك وتعالى إلى سماء الدنيا) فقد أكثر الناس التنازع فيه، والذي عليه جمهور أئمة أهل السنة أنهم يقولون: ينزل كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويصدقون بهذا الحديث ولا يكيفون، والقول في كيفية النزول كالقول في كيفية الاستواء والمجيء، والحجة في ذلك واحدة. وقد قال قوم من أهل الأثر أيضاً: إنه ينزل أمره وتنزل رحمته. وروي ذلك عن حبيب كاتب الملك. هو أبو محمد المصري ، وهو كذاب، وأخباره منكرة باتفاق أهل العلم.
فأحدها: أنه ينزل بذاته. قال شيخنا - يعني: شيخ الإسلام ابن تيمية - وهذا قول طوائف من أهل الحديث والسنة والصوفية والمتكلمين.
وقالت طائفة ثانية: لا ينزل بذاته.
وقالت طائفة أخرى: نقول: ينزل لا نقول بذاته ولا بغير ذاته، بل نطلق اللفظ كما أطلقه النبي صلى الله عليه وسلم ونسكت عما سكت عنه، وهذا ما يفهم من كلام الأوزاعي وحماد بن زيد وإسحاق بن راهويه .
وقد سئل أحمد بن حنبل فقيل له: يا أبا عبد الله ! أينزل إلى السماء الدنيا؟ قال: نعم. فقال السائل: نزوله بعلمه أم بماذا؟ فقال الإمام: اسكت عن هذا. فغضب غضباً شديداً ثم قال: أمض الحديث على ما روي. يعني: آمن به كما جاء ولا تخض في الكيفية.
ومن أقوال هؤلاء الأئمة ومواقفهم يتضح جلياً موقف السلف الصالح من هذه الصفة وغيرها من جميع الصفات الإلهية، وهو الاكتفاء بفهم المعاني العامة للصفات، والإمساك عن الخوض فيما وراء ذلك، فهم لا يبالغون في الإثبات إلى حد التشبيه والتجسيم، كما لا يبالغون في النفي إلى حد التعطيل، بل يقفون مع ظاهر النصوص ولا يتجاوزونها.
يعني: يثبتون بلا تمثيل، وينفون بلا تعطيل.
قال: وعلى تصديقها والإيمان بها أدركنا أهل الفقه والبصر من مشايخنا، لا ينكرها منهم أحد ولا يمتنع من روايتها. لأن بعض أهل العلم كانوا يتحرجون من رواية أحاديث الصفات بالذات، ومنهم من كان ينكرها بقلبه ويكره روايتها للناس.
قال: (نشهد شهادة مقر بلسانه مصدق بقلبه مستيقن بما في هذه الأخبار من ذكر نزول الرب تبارك وتعالى من غير أن نصف الكيفية؛ لأن نبينا المصطفى صلى الله عليه وسلم لم يصف لنا كيفيه نزول خالقنا إلى سماء الدنيا، وأعلمنا أنه ينزل، فنزوله لدينا معلوم والكيفية مجهولة، لأنها لم توصف).
قال: (والله جل وعلا لم يترك -وكذا نبيه- بيان ما بالمسلمين الحاجة إليه من أمر دينهم. فنحن قائلون مصدقون بما في هذه الأخبار من ذكر النزول، غير متكلفين القول بصفته أو بصفة الكيفية، إذ النبي صلى الله عليه وسلم لم يصف لنا كيفية النزول). فإذا كان النبي الذي هو أعلم الخلق بالله عز وجل لم يتعرض للكيفية فلم نتعرض نحن لها؟
قال: (وفي هذه الأخبار ما بان وثبت وصح: أن الله جل وعلا فوق سماء الدنيا الذي أخبرنا نبينا صلى الله عليه وسلم أنه ينزل إليه، إذ محال في لغة العرب أن يقول: نزل من أسفل إلى أعلى). فالذي ينزل ينزل من أعلى إلى أسفل.
قال: (ومفهوم في الخطاب أن النزول من أعلى إلى أسفل).
قال: (حتى يقال: ذلك يستلزم تفريغ مكان وشغل آخر). يقصد بذلك: أن نزول الله تبارك وتعالى بخلاف نزولنا، فالنزول يستلزم تفريغ المكان الذي كنت مستوياً عليه، بخلاف نزول المولى تبارك وتعالى فإنه لا يستلزم ذلك؛ لأن نزول المخلوق غير نزول الخالق، فلا نخوض فيما لم يخض فيها السلف رضي الله عنهم أجمعين.
وذكر مرعي الكرمي مذاهب أهل العلم التي ذكرناها واختلافهم في نزول المولى تبارك وتعالى، وسرد ذلك كله البيهقي . قال البيهقي : وأسلمها - أي أسلم هذه المذاهب - الإيمان بلا كيف، والسكوت عن المراد إلا أن يرد ذلك عن الصادق صلى الله عليه وسلم فيصار إليه. قال: ومن الدليل على ذلك: اتفاقهم على أن التأويل المعين غير واجب فحينئذ التفويض أسلم. وهذا مذهب السلف الذي أقول به وأدين الله تعالى، وأسأله سبحانه الموت عليه مع حسن الخاتمة في خير وعافية.
قال: وكلام السلف في هذا الباب يدل على إثبات المعنى المتنازع فيه، كما قال الأوزاعي لما سئل عن حديث النزول قال: أنا أومن برب يفعل ما يشاء. وقال حماد بن زيد : يدنو من خلقه كيف يشاء.
قال: وهو الذي حكاه الأشعري - أي أبو الحسن - عن أهل السنة والأثر. وقال الفضيل بن عياض : إذا قال لك الجهمي: أنا أكفر برب يزول عن مكانه، فقل: أنا أومن برب يفعل ما يشاء.
وقال أبو الطيب : حضرت عند أبي جعفر الترمذي -وهو من كبار فقهاء الشافعية، أثنى عليه الدارقطني وغيره- فسأله سائل عن حديث: (إن الله ينزل إلى سماء الدنيا) قال له: فالنزول كيف يكون، يبقى فوقه علو؟!
فقال أبو جعفر الترمذي : النزول معقول، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة. كما أجاب مالك في الاستواء وأم سلمة وغيرهما، وهو قول أهل السنة في سائر الصفات.
وقال أبو عبد الله الرباطي : حضرت مجلس الأمير عبد الله بن طاهر وحضر إسحاق بن راهويه فسئل عن حديث النزول: أصحيح هو؟ قال: نعم. فقال له بعض قواد الأمير: يا أبا يعقوب ! أتزعم أن الله ينزل كل ليلة؟ قال: نعم. قال: كيف ينزل؟ قال له إسحاق : أثبت أنت الحديث حتى أصف لك النزول. فقال له الرجل: أثبته . فقال له إسحاق : قال الله تعالى: وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا
[الفجر:22] فقال الأمير عبد الله بن طاهر : يا أبا يعقوب ، هذا يوم القيامة. فقال إسحاق : أعز الله الأمير، ومن يجيء يوم القيامة من يمنعه اليوم؟
وقال حرب بن إسماعيل : سمعت إسحاق بن إبراهيم يقول: ليس في النزول وصف. يعني: لا يحل لأحد أن يصف نزول الرب تبارك وتعالى.
قال: وقال إسحاق : لا يجوز الخوض في أمر الله كما يجوز الخوض في أمر المخلوقين. أي: إذا كنت تريد أن تصف شيئاً فصف أفعال المخلوقين، أما أفعال الخالق فلا، لأن الله تعالى قال: لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ
[الأنبياء:23] .
قال: ولا يجوز أن يتوهم على الله بصفاته وأفعاله بفهم ما يجوز التفكر والنظر في أمر المخلوقين. يعني: يحرم عليك أن تفكر أو يجول في ذهنك أن الله ينزل كنزولك أو يستوي كاستوائك أو يأتي كإتيانك أو يجيء كمجيئك.
قال: وذلك أنه يمكن أن يكون الله موصوفاً بالنزول كل ليلة إذا مضى ثلثها إلى السماء الدنيا كما شاء، ولا يسأل كيف نزوله؛ لأن الخالق يصنع ما يشاء كما شاء.
قال: ونحن قطعاً لا نعقل من الحياة والسمع والبصر والعلم إلا أعراضاً تقوم بجوارحنا، فكما يقولون: حياته تعالى وعلمه وسمعه وبصره ليست بأعراض.
فأنت تثبت أن لله تبارك وتعالى عينين، لكن هل هما جارحتان؟ لا، وكذلك اليد والساق وغيرهما من صفات الذات لله تبارك وتعالى.
قال: فكما يقولون: حياته تعالى وعلمه وسمعه وبصره ليست بأعراض بل هي صفات كما تليق به. أي: صفات كمال لا أعرف كيفيتها، لكنني أعلم علماً يقينياً أن الله تعالى حي بحياة، سميع بسمع، بصير ببصر، فأنا لا أعرف الشيء إلا من خلال أمرين:
الأمر الأول: أن أراه هو. فهل رأيت الله عز وجل؟ وهل لله مثيل؟ لا. ليس له مثيل لا في ذاته ولا في صفاته، فإذا كنت أجهل كيفية الذات سأجهل كيفية الصفات، لأنني لم أر ذات المولى تبارك وتعالى، فلا يمكن أبداً أن أمثل صفات الخالق بصفات المخلوقين.
قال: بل هي صفات كمال كما تليق به لا كما تليق بنا، ومثل ذلك بعينه: فوقيته واستواؤه ونزوله ونحو ذلك، نقول فيه بأن الكيف مجهول.
قال: وكل ذلك ثابت معلوم غير مكيف بحركة أو انتقال يليق بالمخلوق، بل كما يليق بعظمته وجلاله، فإن صفاته معلومة من حيث الجملة والثبوت، غير معقولة من حيث التكييف والتحديد، ولا فرق بين الاستواء والنزول والسمع والبصر، الكل ورد في النص.
فإن قالوا في الاستواء والنزول: شبهتم. يعني: إن قالوا لنا: أنتم تثبتون الاستواء والنزول؟ نقول: نعم. فيقولون لنا: شبهتم. فنقول لهم: في السمع والبصر شبهتم أنتم؛ لأنكم أصلاً لا تثبتون النزول ولا تثبتون الاستواء، إنما تثبتون السمع والبصر، فإذا كنتم تدعون أننا مشبهة لأننا نثبت الاستواء والنزول، فأنتم أيضاً مشبهة؛ لأنكم أثبتم السمع والبصر؛ لأنه لا فرق بين الاستواء والنزول والسمع والبصر، كلها صفات لله عز وجل.
قال: قلنا لهم: شبهتم كما شبهنا، ووصفتم ربكم بالعرض. فإن قالوا: لا نثبت له عرضاً، بل كما يليق به تعالى في السمع والبصر. قلنا كذلك: ونحن نثبت له الاستواء والنزول كما يليق به تبارك وتعالى.
فجميع ما يلزموننا به في الاستواء والنزول واليد والوجه والقدم والضحك والتعجب من التشبيه، نلزمهم به في الحياة والسمع والبصر والعلم، فكما هم لا يجعلونها أعراضاً كذلك نحن لا نجعلها جوارح، ولا أعراضاً ولا ما يوصف به المخلوق.
وليس من الإنصاف أن يفهموا في الاستواء والنزول والوجه واليد صفات المخلوقين، فيحتاجون إلى التأويل والتحريف، ونفهم ذلك في الصفات السبع. وهم السبعية من الأشاعرة.
قال: وحيث نزهوا ربهم في الصفات السبع مع إثباتها فكذلك يقال في غيرها، فإن صفات الرب تبارك وتعالى كلها جاءت في موضع واحد وهو الكتاب والسنة. فإذا أثبتنا تلك بلا تأويل وأولنا هذه وحرفناها كنا كمن آمن ببعض الكتاب وكفر ببعض، وفي هذا بلاغ وكفاية. انتهى كلام والد إمام الحرمين الإمام الجويني عليه رحمة الله.
قال: (وقسمان يقولون على خلاف ظواهرها). يعني: يؤولونها ويحرفونها.
قال: (وقسمان يسكتون. وما أحسن ما قال بعضهم: إذا قال لك الجهمي: كيف استوى؟ أو كيف ينزل إلى السماء الدنيا ونحو ذلك، فقل له: كيف هو؟ هل رأيته؟ فيقول: لا. فقل: وأنا كذلك لم أر نزوله، فإذا كنت أنت لا تستطيع أن تكيف ذات الإله فأنا لا أستطيع أن أكيف أفعال الإله. فإذا قال: لا يعلم ما هو إلا هو وكنه الباري غير معلوم للبشر، فقل له: فالعلم بكيفية الصفة يستلزم العلم بكيفية الموصوف، فكيف يمكن أن تعلم كيفية الموصوف وأنت لم تعلم كيفية ا لصفة؟ وإنما تعلم الذات والصفات من حيث الجملة على الوجه الذي ينبغي له، بل هذه الروح علم العاقل اضطراب النفس فيها. فهذه الروح مخلوقة واختلف الناس فيها لعدم رؤيتهم لها، فأنت لا تستطيع أن تصف الروح مع أنها مخلوقة، وهي معك إذا نمت وإذا قمت، بل في كل أحوالك هي معك، فمن باب أولى أن تعجز عن وصف الخالق وصفات الخالق وأفعال الخالق.
قال: (والصواب في كثير من آيات الصفات وأحاديثها القطع بالطريقة الثانية، وهي طريقة إمرارها على ظاهرها والإيمان بها كما جاءت).
وابن الجوزي قال كلاماً طيباً في كتاب (صيد الخاطر) مع أنه أشعري المعتقد إلا أنه أحياناً ينطق بكلام السلف، فيقول: من أضر الأشياء على العوام: كلام المتأولين والنفاة للصفات والإضافات، فإن الأنبياء عليهم السلام بالغوا في الإثبات ليقرروا في أنفس العوام وجود الخالق، فإن النفوس تأنس بالإثبات؛ فإذا سمع العامي ما يوجب النفي طرد عن قلبه الإثبات، فكان من أعظم الضرر عليه، وكان هذا المنزه من العلماء على زعمه مقاوماً لإثبات الأنبياء بالمحو، وشارعاً في إبطال ما بعثوا به.
قال: (وبيان هذا أن الله تعالى أخبر باستوائه على العرش، فأنست النفوس بإثبات الإله ووجوده، وقال: وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ
[الرحمن:27] ، وقال تعالى:
بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ
[المائدة:64]، وقال:
غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ
[المجادلة:14] وقال:
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ
[المجادلة:22] .
وأخبر الرسول أنه ينزل إلى السماء الدنيا فقال: (قلوب العباد بين إصبعين من أصابع الرحمن) .
وقال: (وكتب التوراة بيده) .
وقال: (كتب كتاباً فهو عنده فوق العرش) إلى غير ذلك مما يطول ذكره.
فإذا امتلأ العامي والصبي من الإثبات وكاد يأنس من الأوصاف بما يفهمه الحس؛ قيل له: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ
[الشورى:11] فمحا من قلبه ما نقشه، وتبقى ألفاظ الإثبات متمكنة؛ ولهذا أقر الشارع على مثل هذا، فسمع منشداً يقول:
وإن العرش فوق الماء طاف وفوق العرش رب العالمينا
فضحك.
وقال له آخر: (أويضحك ربنا؟ فقال: نعم. وقال: إنه على عرشه هكذا وأشار بيده مثل القبة) كل هذا ليقرر الإثبات في النفوس. وهو حديث ضعيف.
وعلى أية حال! كلام ابن الجوزي يحتاج إلى حذر شديد جداً؛ لأنه يضع السم في العسل فيما يتعلق بالاعتقاد، ولا يفعل ذلك ليفسد اعتقاد الأمة، وإنما أمور العقيدة عنده لم تنضبط، ولذلك خلط بينها كما خلط النووي وغيره بين الغث والسمين.
الجواب: لا يصح له ذلك، وكل من دخل المسجد ووجد الجماعة قائمة وجب عليه أن يصلي معهم وإن كان ذلك قبل التسليم مباشرة، فقد دخل رجل المسجد فجلس ولم يصل، (فلما فرغ النبي عليه الصلاة والسلام من صلاته قال: أقبل. فأقبل. قال: ما منعك أن تصلي معنا؟ قال: إني صليت يا رسول الله!) قد يكون صلى في بيته، أو صلى في جماعة أخرى وأتى إلى المسجد فوجدهم يصلون، فاجتهد أنه قد صلى فلم يصل معهم.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا دخلت المسجد فوجدت الناس يصلون فصل معهم وعدها نافلة). لكن يحظر عليك أن تدخل المسجد فتصلي صلاة غير صلاة الإمام؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام يقول: (إذا أقيمت الصلاة فلا صلاة إلا المكتوبة).
إذا دخلت المسجد وشرعت في صلاة السنة وسمعت المؤذن يقيم الصلاة فسلم من صلاتك والحق بالجماعة، وإذا دخلت المسجد ورأيت الناس يصلون وإن كنت قد صليت في الخارج فالحق بهم وصل بصلاتهم وعدها نافلة، كما أنه يحظر عليك أن تجلس بلا صلاة، فإن هذا يطرق للإمام أنك تكره الصلاة خلفه، وفي هذا من الفتن ما الله تعالى به عليم.
الجواب: لا شك أن العالم أفضل من العابد، وإن كانت الأحاديث التي تدل على الأفضلية لا يصح فيها دليل، فقوله: (عالم خير من ألف عابد) لا يصح به دليل، ولكن الله تبارك وتعالى أثنى على أهل العلم وجعلهم في مرتبة فوق مرتبة العباد ومرتبة عامة الناس، قال تبارك وتعالى: قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ
[الزمر:9]، فأهل العلم منزلتهم لا يمكن لأحد أن يدانيهم فيها ولا أن يساويهم، فهم ورثة الأنبياء، ولا شك أن ورثة الأنبياء خير ممن لم يرث الأنبياء كالعباد وغيرهم.
الجواب: لا شك أن كاتم العلم عند الحاجة إليه آثم، فإن قام به غيره ولم يحتج إليه فلا إثم عليه، لأن نشر العلم فرض كفاية، ولذلك قال النبي عليه الصلاة والسلام: (من كتم علماً ألجم بلجام من نار يوم القيامة) هذا لمن احتيج إلى علمه، فإن لم يحتج إلى علمه فلا شيء عليه.
الجواب: على أية حال! ابن باز كغيره من الناس، ولد لا يعلم شيئاً ولا يستطيع أن يجلب لنفسه نفعاً ولا ضراً وغيره كذلك من أهل العلم، يقول يحيى بن أبي كثير اليماني الإمام: لا ينال العلم براحة الجسد. وهو مخرج في صحيح مسلم .
هؤلاء سهروا الليالي، واصلوا الليل بالنهار وزاحموا العلماء بركبهم، وتواضعوا وتأدبوا وحصلوا وذاكروا، وسامروا وناقشوا وتعلموا من كل علم قدراً وحظاً عظيماً جداً حتى يسر الله تبارك وتعالى لهم البحث والنظر في جميع العلوم الشرعية، ولا غرو أبداً إذا سلكت مسلكهم وهممت ونشطت في طلب العلم أن يوفقك الله عز وجل، وليس ذلك عليه بعزيز.
الجواب: نعم. من دخل المسجد ولم يجد مكاناً في الصف فله أن يصلي وحده، فإن وجد فرجة في الصف فليلحق بها، وإن كان بإمكانه أن يلحق بالصف أو أحد الصفوف ولكنه آثر أن يصلي في صف وحده فصلاته باطلة، (والنبي عليه الصلاة والسلام رأى رجلاً يصلي وحده فقال: أعد صلاتك) ولو كانت صحيحة ما قال له هذا.
الجواب: الحجاب حجاب واحد لله عز وجل، تقدم قبل ذلك الدليل في سنة النبي عليه الصلاة والسلام كما روى ذلك مسلم . قال: (حجابه النور أو النار، لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه) قال: حجابه، ولم يقل: حجبه، فالحديث السابق لا يمكن أن يعارض هذا الحديث الصحيح.
الجواب: هذه المسألة يعلمها الله عز وجل، وإن كان بعض أهل العلم تكلموا فيها، وإذا كنت تثبت القدرة المطلقة لله عز وجل فما المانع أن يزن الله تبارك وتعالى الحسنات والسيئات بغير أن يجعلها أجساماً وأعراضاً. أنا أؤمن بذلك كما آمن النبي عليه الصلاة والسلام وأبو بكر وعمر : أن الله تعالى قادر على كل شيء ويفعل ما يشاء، فإذا أراد أن يزن الأعمال خيرها وشرها دون أن تكون أعراضاً محسوسة أو ملموسة فهو قادر على ذلك، وهو قادر على أن يجعل هذه الحسنات والسيئات والأعمال أعراضاً، له هذا وله ذاك، وهو سبحانه على ما يشاء قدير.
الجواب: أهل العلم يفرقون بين نسيان الزمن الطويل والزمن القصير، بأن كان لا يزال في مكانه الذي صلى فيه أو قريباً منه وتذكر وجب عليه أن يسجد للسهو حتى وإن كان هناك بعض الوقت بين تسليمه وبين تذكره، وإن طال الوقت فلا يجب عليه حينئذ، لكن إن شاء فعل وإن شاء ترك.
الجواب: نعم. يرثون -تحت باب الوصية الواجبة- حظ أمهم، والوصية الواجبة هي أن يموت الفرع بوجود الأصل، ولهذا الفرع أحفاد، فهم يرثون في تركة جدهم حظهم منه من باب الوصية الواجبة.
الجواب: لا يجوز، لا يجوز فعل ذلك.
الجواب: صلاة الجمعة لا مفر من الإتيان إلى مسجد الإمام والصلاة خلفه، لكن إذا منع من ذلك مانع مع تحسر وتفطر قلب العبد وأن العذر قد منعه تماماً كالمريض والمسافر والعبد والمرأة كان معذوراً عند الله كعذر هؤلاء، وكذلك المحبوس لا جمعة عليه، فإذا كان عذره بلغ هذا المبلغ بحيث صار معذوراً عند الله عز وجل فلا جمعة عليه حينئذ ويصلي الظهر، والله أعلم.
الجواب: على أية حال، هذه المسائل اختلف فيها أهل العلم. قيل لـعبد الله بن المبارك : إني اغتبتك فسامحني. قال: لا أحب أن أسامحك في شيء حرمه الله عليك.
وقيل لـمحمد بن سيرين : سامحني فإني قد اغتبتك. قال: إني تصدقت بعرضي عليك فقل فيه ما شئت كل صباح ومساء. وقول ابن سيرين أحب إلي من قول ابن المبارك .
الجواب: فيه خلاف بين أهل العلم، فالشافعية يقولون بوجوب القنوت، ولكن الراجح من مذاهب الفقهاء: أنه لا قنوت خاص بصلاة الفجر ولا بأي صلاة من الصلوات الخمس، وإنما القنوت عند النوازل في الصلوات الخمس لا في صلاة دون صلاة، وهو المذهب الراجح. فإن قيل: هل أقنت خلف إمام يقنت أو أفارقه؟ الجواب: تقنت خلفه رفعاً ودرءاً للفتنة والشقاق الذي يمكن أن يحدث ولا تقل شيئاً، بل ارفع يديك خلفه ولا تنزل يديك إلا عند نزول الإمام أو عند إنزال المصلين أيديهم لا لأنه دين، ولكن لأن الدين رفع الفتن عن المسلمين، ولو صح حديث أنس بن مالك : (لم يزل النبي صلى الله عليه وسلم يقنت حتى قبض) لزال الإشكال، ولكنه حديث صحيح عند الشافعية، منكر عند جمهور أهل العلم، والصواب: أنه منكر.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر