أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
ثم أما بعد: فلا يزال الكلام موصولاً عن صفات الله عز وجل الذاتية الخبرية، ومنها: صفة الساق، وهذه الصفة قد ثبتت لله عز وجل بآية وبحديث.
قال: (فيلحق كل قوم بما كانوا يعبدون، ويبقى الناس على حالهم. فيأتيهم -أي: ربنا- فيقول: ما بال الناس ذهبوا وأنتم هاهنا؟ فيقولون: ننتظر إلهنا الذي كنا نعبده. فيقول: هل تعرفونه؟ فيقولون: إذا تعرف إلينا). أي: إذا أتانا في صورته التي عرفنا بها في حياتنا الدنيا عرفناه.
قال: (فيكشف لهم عن ساقه). فوردت (الساق) هنا مضافة إلى الله عز وجل، ولم يقل: فيكشف لهم عن ساق. قال: (فيكشف -أي: الله عز وجل- لهم عن ساقه فيقعون سجوداً، وذلك قول الله تعالى: يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ
[القلم:42]. ويبقى كل منافق لا يستطيع أن يسجد، ثم يقودهم إلى الجنة).
وفي حديث أبي سعيد : (يوم يكشف ربنا عن ساقه). وهذا تصريح ثان.
فهذا الحديث بشواهده قد رفع الإشكال الوارد في الآية.
وقامت الحرب بنا على ساق
أي: إذا اشتدت الحرب بنا.
وقال آخرون:
إذا شمرت عن ساقها الحرب شمرا
وقال ابن قتيبة : وأصل هذا: أن الرجل إذا وقع في أمر عظيم يحتاج إلى الجد فيه شمر عن ساقه، فاستعيرت الساق في موضع الشدة. وبهذا قال الفراء وأبو عبيد وثعلب واللغويون.
فإذا كانت الساق في اللغة العربية تعني الشدة في أحد وجوهها، فلا تفسر هنا على أن الساق الواردة في حق الله عز وجل بمعنى الشدة؛ لأن هذا سيكون حتماً تحريفاً للكلم عن مواضعه، وصرفاً للفظ عن ظاهره إذا احتملت اللغة للمصطلح وجهاً، لكنها وردت في سياق لا تحتمل هذا الوجه اللغوي، وعليه فلا يمكن حمل هذا اللفظ على الوجه اللغوي أبداً، وإلا فاليد أحد وجوهها في اللغة: النعمة، والقوة، فهل يمكن أن نحمل قوله تعالى: يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ
[الفتح:10] على أن نعمته فوق نعمتهم، أو أن قوته فوق قوتهم؟ الجواب: لا. لكن إذا عبرنا عن اليد بالقوة فهذا أمر جائز في اللغة، لكنه في الاصطلاح وفي سياق الآية لا يجوز لنا أن نحمل اليد على القوة أو القدرة أو النعمة مع عدم إثبات اليد الحقيقية لله عز وجل على المعنى اللائق، فإذا أردنا أن نثبت هذا وذاك، أو أن نثبت الوجه اللغوي، فلابد أولاً من إثبات الوجه الشرعي، ثم نثبت بعد ذلك الوجه اللغوي؛ لأن أهل البدع المتأولون يعتقدون صرف النص عن ظاهره إلى معناه المجازي أو معناه اللغوي دون إثبات حقيقته لله عز وجل.
أما أهل العلم من السلف فإنهم يثبتون الصفة لله عز وجل ولازمها بعد ذلك، فيثبتون اليد أولاً، ثم يثبتون لازم هذه اليد، بخلاف المتأولة فإنهم يثبتون اللازم ولا يثبتون الصفة الحقيقية لله عز وجل.
فإذا قلنا هنا: إن الساق في اللغة لها وجه بمعنى: الشدة، فإننا لابد وأن نثبت أولاً لله عز وجل الساق، ثم نثبت لازم ذلك وهو الشدة والقوة، أما تحريف هذه الكلمة عن ظاهرها، وإثبات الشدة للساق دون إثبات الساق لله عز وجل، فهذا صرف للنص عن ظاهره دون مسوغ شرعي.
قال ابن الجوزي : وقد ذهب القاضي أبو يعلى : إلى أن الساق صفة ذاتية، وقال مثله في: (يضع قدمه في النار). فـابن الجوزي ينكر على أبي يعلى الفراء إثبات أن الساق والقدم صفة ذاتية لله عز وجل.
ويقول ابن الجوزي : إثبات الساق مع القدم لابد وأنه يستدعي تشبيه الخالق بالمخلوق!
والجواب عليه من وجهين:
الأول: أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد بلغ البلاغ المبين، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وليس هناك شيء العناية بتبيينه أعظم من العناية ببيان أسماء الله وصفاته، ومن ثم كان بيان هذا الباب أعظم من بيان الأحكام؛ لأن البيان في باب الاعتقاد أولى منه في باب الأحكام والحلال والحرام، ولأن معرفة الله تعالى بأسمائه وصفاته هي أساس الإيمان، وقد كان النبي عليه الصلاة والسلام يبين هذا الباب بياناً عاماً، فعلمه الخاص والعام، وعلمه العالم والجاهل، والبدوي والحضري، ولم يستنكر أحد منهم شيئاً في هذا الباب قط، ولم يقع في أذهانهم ولا في ذهن واحد منهم أن إثبات صفات الرب جل وعلا تقتضي مماثلة الخالق بالمخلوق، أو تشبيه الخالق بالمخلوق، وإنما آمنوا بها إجمالاً على الوجه اللائق بالله عز وجل، وإنما وقع هذا الفهم الفاسد في قلوب الجهمية وأضرابهم من أهل الإفك والضلال والتنطع في دين الله جل وعلا، وتعالى الله عن أن تكون صفاته مثل صفات خلقه، فإذا كان المخلوق له يد والله تعالى له يد، فلابد وأننا نثبت اليد الحقيقية لله عز وجل على ما يليق بجلال ذاته وعظمته، بخلاف المخلوق، فهي شبيهة وشريكة ليد الله عز جل في الاسم دون المسمى؛ لأنها يد ويد الله تعالى يد، فهما متماثلتان ومتشابهتان في الاسم فقط دون المسمى ودون الحقيقة، فحقيقة يد المخلوق تختلف تماماً عن حقيقة يد الخالق تبارك وتعالى، ولا يعلم حقيقتها ولا كيفيتها إلا الله عز وجل، فكيف نقول بالمماثلة والمشابهة بين صفات الخالق وصفات المخلوق؟! لكن أهل البدع لا يفهمون من صفات الخالق إلا ما فهموه من صفات المخلوق، فقالوا: إن الله تعالى قد خاطبنا بأن له يد، ونحن نعلم ما هي اليد؟ بدليل أننا نراها، والله تبارك وتعالى لما أخبر أن له يداً، وأنا أعلم سلفاً يدي وكيفية يدي، فلابد وأن يكون الله تعالى قد خاطبني بما أفهم، وخرجوا من ذلك بأن يد الله تبارك وتعالى كيد خلقه؛ لأن الله تعالى لابد وأنه قد خاطبنا بما نفهم.
والجواب عليهم: أن الله تبارك وتعالى له ذات، وهم يؤمنون بذلك، فهل ذات الله كذات المخلوق؟! لا. فذات الله ليست كذات المخلوق، وأقصى ما يمكن أن يقوله: إن ذات الله تبارك وتعالى لا يعلمها إلا هو. فنقول: وكذلك الكلام في الذات كالكلام في الصفات، فكما أن ذاته خفية وغيبية عنا، ولا يعلم كيفيتها أحد من الخلق، فكذلك صفاته -ومنها: الساق- لا يعلم كيفيتها إلا هو سبحانه، وعليه لما اختلفت الذات لابد أن تختلف الصفات.
ومن هنا نحن نثبت الصفات لله عز وجل على الوجه الحقيقي اللائق به، ولا يعلم كيفية الذات ولا كيفية الصفات إلا هو سبحانه وتعالى، ولم يطلع على ذلك ملك مقرب ولا رسول مرسل، ولا نبي تنبأ.
وعليه فقولهم: إن إثبات الصفات لله عز وجل تقتضي المماثلة بينها وبين صفات المخلوق عجز وضعف عقلي عندهم؛ لأنهم لا يفهمون من صفات الخالق إلا ما يفهمونه من صفاتهم هم، مع أن هذا ليس بلازم، بدليل: أن الله تبارك وتعالى خلق خلقاً عظيماً كثيراً، وجعل لكل مخلوق من مخلوقاته يداً وساقاً وعيناً وقدماً، وغير ذلك من الجوارح، فهل يقول ذلك المتأول: إن ساق الله تبارك وتعالى كساقي فنقول له: إن الله عز وجل قد خلق خلقاً كثيراً غيرك، سواء من الحيوان، أو الدواب، أو الطير، أو الإنس، أو الجن، أو غيرها، فلم لا تقول: إن الله تعالى له ساق كساق الجن، أو كساق الملائكة، وهم أعظم وأشرف خلقاً من العصاة. سيرد قائلاً: لأن الله تعالى خاطبني أنا بذلك. فهذه الحجة مردودة؛ لأن الله تبارك وتعالى قد بعث نبيه أيضاً للجن، فإذا كنت تقول: إن ساق الله كساقك أنت، فلم لا يكون ساقه كساق الجن، وهم مكلفون مخاطبون بأوامر الشرع أمراً ونهياً؟ لابد وأنه ستسقط حجته، ويسلم في نهاية الأمر بإثبات الساق لله عز وجل التي تختلف عن جميع سوق المخلوقات من الإنس والجن والطير والدواب والهوام والحشرات وغير ذلك، لابد وأنه سيصل في النهاية إلى الإقرار والاعتراف بهذا.
وقد اتفق علماء السلف على إثبات ما أثبته الله لنفسه، أو أثبته له رسوله محمد صلى الله عليه وسلم، إثباتاً بلا تمثيل ولا مشابهة بينه وبين خلقه، وتنزيهاً بلا تعطيل. أي: ننزه الله تبارك وتعالى أن تكون صفاته كصفاتنا، وفي الوقت ذاته نثبتها لله عز وجل، فنحن نثبت بلا تمثيل، وننزه بلا تعطيل -كما هو معتقد ودين الجهمية- لقوله تعالى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ
[الشورى:11]، فنفى المثلية بينه وبين خلقه في الذات والصفات، وأثبت بعدها الصفات فقال:
وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ
[الشورى:11]، حتى لا تعتقد أن هذه الآية إنما وردت في نفي المثلية، بل أثبت الله تبارك وتعالى فيها صفاته بلا تعطيل فقال:
وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ
.
وكما أن لا إله إلا الله نفي وإثبات، نفي لجميع الآلهة وإثبات لإله واحد، فهذه الآية: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ
نفي لجميع ما يمكن أن يشتبه أو يلتبس أو يتماثل في ذهن أو في عقول المخلوقات، وإثبات لصفة السمع والبصر، فهو سميع بسمع، بصير ببصر سبحانه وتعالى.
ومن شبه الله بخلقه فهو كافر، ومن جحد ما وصف الله به نفسه أو وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم فهو كافر أيضاً.
ومما لا نزاع فيه بين علماء السلف: أنه ليس في إثبات الصفات لله جل وعلا تشبيه ولا تمثيل، وإنما التمثيل والتشبيه يقع ممن نفى عن الله عز وجل ما وصف به نفسه، أو وصفه به رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم.
وقد دلت سنة النبي عليه الصلاة والسلام الصحيحة التي لا معارض لها ولا مضاد على أن الساق ثابت لله تعالى، وكما أننا نثبت لله تعالى ذاتاً لا تشبه الذوات، فكذلك نقول في صفات الله تعالى كالساق وغيرها: إنها لا تشبه صفات المخلوقين؛ لأن الله جل وعلا ليس كمثله شيء، لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله، فنثبت لله تعالى الصفات وننفي عنه مماثلة المخلوقات، وهذا هو حقيقة الإيمان. أي: أن نسلم لله عز وجل بما أمرك ونهاك، ونبرأ من أهل التحريف والبطلان، فلا ننفي عن الله تعالى صفة صحت بها النصوص كالساق وغيرها، من أجل دعوى المعطلين أن هذا يقتضي تشبيهاً، بل نثبت لله تعالى الصفات على ما جاءت في الكتاب والسنة، وننكر عليهم ونجهلهم ونضللهم لمخالفتهم لكتاب ربهم وسنة نبيهم صلى الله عليه وسلم.
قال تعالى: يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ
[القلم:42]، أي: يكشف الله عز وجل عن ساقه. وهذا مذهب جمهور السلف في تفسير هذه الآية، وإذا كان الفعل: (يُكْشَفُ) مبني للمجهول لما لم يسم فاعله، فإن الحديث قد سمى صاحب الساق، وهو الله تبارك وتعالى، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: (يوم يكشف ربنا عن ساقه)، فالذي أخفته الآية بينه الحديث.
وما روي عن ابن عباس فيها طار به أهل البدع فرحاً؛ لأنهم نسبوا التأويل للسلف، ولم يقولوا: إن هذه زلة لـابن عباس مثلاً، مع أنها ليست بزلة؛ لأنه لم يثبت عنه هذا الكلام، وعلى فرض ثبوته -وهذا يعني على أضعف الإيمان وأقل الأقوال- فإن ابن عباس قد قال: إن قاتل النفس لا توبة له. كما قال: إنه ليس هناك رباً إلا ربا النسيئة المذكور في القرآن، ولم يقل بربا الفضل، بل قد زل ابن عباس في أكثر من سبع مسائل خالفه فيها جمهور الصحابة رضي الله تعالى عنهم، وهنا في هذه الصفة قد خالفه الصحابة وعلى رأسهم: عبد الله بن مسعود وقال: الساق صفة ذاتية لله عز وجل. لذا فلو ثبت هذا عن ابن عباس فنحن نعلم أن إثبات لازم الصفة عند السلف يستلزم إثبات الصفة أولاً، وهذه قاعدة عند السلف، بخلاف المتأولة الذين يثبتون لازم الصفة دون الصفة.
فإذا كان هذا معلوماً من مذهب ابن عباس في صفات الله تبارك وتعالى كلها، فلم يثبت المبتدعة هنا لازم الصفة وينفون أصل الصفة الذي هو من معتقد ابن عباس في جميع صفات الله تبارك وتعالى؟ وفي هذه الحالة لابد -وهذا على فرض صحة وثبوت هذا الكلام عنه- من إثبات الصفة ولازمها.
ومن أمثل الأسانيد التي جاءت عن ابن عباس في ذلك: ما رواه الفراء في كتابه (معاني القرآن). قال: حدثني سفيان عن عمرو بن دينار عن ابن عباس أنه قرأ: يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ
[القلم:42]. أي: يريد القيامة والساعة لشدتها.
وهذا التفسير من ابن عباس للآية لا تقوم به حجة. نعم ابن عباس ترجمان القرآن، والنبي عليه الصلاة والسلام قد دعا له، وكان من أحبار هذه الأمة، لكن هل يستلزم هذا بالضرورة ألا يخطئ ابن عباس ؟ إنه إذا لم يكن معصوماً فالخطأ جائز عليه حينئذ، وإذا جاز الخطأ عليه فنرده بقول بعض أصحابه له، ولذلك نحن دائماً نقول: إن إجماع الصحابة حجة بلا خلاف، لكن على فرض أن هذا تأويل ابن عباس ، فتأويل هذه الصفة من ابن عباس هل عليه إجماع الصحابة؟ لا. فلا أقل من أن نقول: إن هذه الصفة محل خلاف عند السلف، لكن هذا الخلاف لابد من فصل النزاع فيه، فنقول: إن حديث: (يوم يكشف ربنا عن ساقه)، لم يصل ابن عباس ، وإذا كان هذا الحديث لم يصل ابن عباس وقال بغيره، فهو مجتهد مأجور أجراً واحداً لأن الصحابة قد خالفوه بإثبات الساق الحقيقية لله عز وجل، وفي هذه الحالة لابد من رد كلام ابن عباس ، أو حمله على أحسن المحامل، ورده أولى، وعليه فهذا التفسير للآية من ابن عباس لا تقوم به الحجة؛ لثبوت النص عن النبي صلى الله عليه وسلم في تفسير الآية.
بل الحديث صريح في إثبات صفة الساق لله تعالى، وإبطال سائر التأويلات التي قيلت في الآية، فقوله: (فيكشف لهم عن ساقه)، صريح في إثبات الساق لله تعالى؛ لأنه لا يجوز أن يكون المراد هنا بالساق: الشدة قطعاً.
وقوله: وذلك قول الله تعالى: يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ
[القلم:42]، ظاهر في أن المراد بالآية: إثبات الساق لله تعالى.
ويؤيده ما رواه الدارمي في كتابه: الرد على الجهمية -وهو كتاب من أمتع الكتب، وهناك أيضاً كتابين بهذا العنوان: الرد على الجهمية للإمام أحمد، والرد على الجهمية لـابن منده ، وكلها كتب لثلاثة من أئمة السلف للرد على الجهمية المعطلة بعنوان واحد- فقد روى الدارمي من طريق أبي عوانة عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ
[القلم:42]، قال: يكشف الله عز وجل عن ساقه). وفي حديث آخر: (يوم يكشف ربنا).
فهذا التفسير من النبي صلى الله عليه وسلم لمعنى الآية يبطل جميع الأقوال المخالفة لهذا القول، ويدل دلالة صريحة على أن الآية من آيات الصفات، وليس المقصود بالساق هنا: الشدة.
وأن المراد منها -أي من الآية-: إثبات الساق كصفة ذاتية لله تبارك وتعالى، وقد جاءت الأحاديث مؤيدة لهذا القول، ودالة على إثبات الساق لله تعالى.
قال: حدثنا آدم ، حدثنا الليث ، عن خالد بن يزيد ، عن سعيد بن أبي هلال ، عن زيد بن أسلم ، عن عطاء ، عن أبي سعيد رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (يكشف ربنا عن ساقه، فيسجد له كل مؤمن ومؤمنة، ويبقى من كان يسجد في الدنيا رئاء وسمعة، فيذهب ليسجد فيعود ظهره طبقاً واحداً). أي: أن الله تبارك وتعالى يوم يكشف عن ساقه لأهل الإيمان وللمنافقين -أي: في المحشر- فإن كل مؤمن عندما يرى الله عز وجل ويعرف أن الله عز وجل هو هذا بساقه التي عرفهم بها في الدنيا، يقع كل مؤمن ومؤمنة ساجداً لله عز وجل؛ لأنهم يعرفون الله تعالى بهذه الصورة التي عرفهم بها في حياتهم الدنيا، ويذهب كل منافق ومعاند وجاحد ليسجد كما رأى أهل الإيمان يسجدون، والمنافقون الذين ما كانوا يصلون ولا يصومون إلا رياء وسمعة يذهبون ليسجدون، فيجعل الله تبارك وتعالى ظهورهم قطعة واحدة لا مقاطع ولا مفاصل فيها، فلا يتمكنون من السجود لله عز وجل، إذ السجود في هذا اليوم شرف عظيم، وبيان وتمييز لأهل الإيمان من أهل النفاق، فإنه لا يتمكن من السجود في ذلك اليوم إلا كل مؤمن ومؤمنة.
كما روى الإمام مسلم هذا الحديث، وكذلك أحمد في كتاب السنة من طريق عبد الله بن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (يجمع الله الأولين والآخرين -أي: جميع الخلق- لميقات يوم معلوم قياماً أربعين سنة). أي: يقفون أربعين سنة في الموقف.
قال: (شاخصة أبصارهم إلى السماء، ينتظرون فصل القضاء). فانظر إلى هذا الحديث! إنه من أمتع ما يمكن أن تسمعه أذنك، فالله عز وجل يجمع الأولين والآخرين في الموقف لمدة أربعين سنة، وكل واحد منهم يشخص ببصره إلى السماء. أي: ينظر إلى جهة العلو والفوقية لله عز وجل، ينتظرون من الله عز وجل أن يفصل وأن يقضي بين العباد.
قال: (فينزل الله عز وجل في ظلل من الغمام). ينزل ربنا تبارك وتعالى في ظلل من الغمام من العرش إلى الكرسي، وهذا يعني أن العرش فوق الكرسي.
قال: (ثم ينادي مناد: أيها الناس! ألم ترضوا من ربكم الذي خلقكم ورزقكم وأمركم أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئاً أن يولي كل إنسان منكم ما كان يتولى ويعبد في الدنيا؟). أي: ألا ترضون من الله عز وجل أن يلحق كل واحد منكم بمعبوده وإلهه الذي كان يعبده في الدنيا؟
قال: (أليس ذلك عدلاً من ربكم؟ قالوا: بلى. قال: فلينطلق كل قوم إلى ما كان يعبدون ويتولون في الدنيا. قال: فينطلقون، ويمثل لهم أشباه ما كانوا يعبدون، فمنهم من ينطلق إلى الشمس، ومنهم من ينطلق إلى القمر وإلى الأوثان والحجارة، وأشباه ما كانوا يعبدون). أي: أن الله تبارك وتعالى يجعل كل معبود في الدنيا عبد من دون الله يمثله على نفس الهيئة والشكل التي كان عليها في الدنيا، حتى يتعرف عليه كل مخلوق كان يعبده، فالذي كان يعبد الشمس يمثل الله تبارك وتعالى له الشمس، فيذهب إليها ليعبدها في ذلك، والقمر والأوثان والأصنام والحجارة والمقابر وغير ذلك فإن كل معبود يتبعه عابدوه في هذا اليوم ولا شك.
قال: (ويمثل لمن كان يعبد عيسى شيطان عيسى). أي: ما من نبي إلا وله شيطان، لكن النبي صلى الله عليه وسلم تغلب على شيطانه فآمن، ولم يثبت أن شيطان عيسى آمن، والذي كان يعبد عيسى بن مريم عليه السلام من دون الله عز وجل يتمثل له شيطان عيسى في صورة عيسى حتى يذهب إليه من كان يعبد عيسى فيعبد هذا الشيطان؛ لأن عيسى لا يرضى بذلك، بل قد تبرأ من عبادة النصارى له ولأمه، والله تبارك وتعالى قد أكرمه بأنه لا يعبد أمام عينه في هذا الموقف العصيب الرهيب، لكنه سبحانه مثل الشيطان في صورة عيسى، ولذا لما كان عيسى يعبد في الدنيا من دون الله عز وجل كان من العدل أن يلحق الله عز وجل من كان يعبد عيسى بشيطان عيسى حتى يقيم كل واحد منهم الحجة على نفسه.
قال: (ويمثل لمن كان يعبد عيسى شيطان عيسى، ويمثل لمن كان يعبد عزيراً شيطان عزير، ويبقى محمد صلى الله عليه وسلم وأمته، فيتمثل الرب جل وعز فيأتيهم فيقول لهم: ما لكم لا تنطلقون كما انطلق الناس؟ فيقولون: إن لنا إلهاً). أي: نحن لم نكن نعبد أحداً إلا الله عز وجل، (فيقول: وهل تعرفونه إن رأيتموه؟). ومن المعلوم أننا لا نعرف الله عز وجل، ويوم القيامة سيظهر لنا، فكيف نعرفه؟ باختلاف ذاته وصفاته عن ذوات جميع المخلوقات التي رأيناها.
لكن المسيح الدجال يقول: أنا ربكم. لكنه أعور، وربنا ليس بأعور، وكذلك يأتي من الآيات ما يثبت صحة هذا القول في الظاهر، فيأتي بأشياء لا يمكن أن يفعلها إلا إله قادر، فيحضر رجلاً من أهل المدينة فيشقه نصفين حتى يلقي بشقيه على الأرض ويمشي بين الشقين ذهاباً وإياباً، ثم يشير إليه بالسبابة: قم فيقوم، فهل يستطيع أحد أن يعمل هذه الأشياء غير إله؟ أثبت الله تبارك وتعالى بقدرته أن بعض خلقه يفعل ذلك كعيسى بن مريم، وهذه كرامة ومعجزة له خارقة للعادة، ولا بأس أبداً أن تكون لآحاد الخلق غير عيسى عليه السلام، وذلك إمعاناً في الابتلاء والاختبار والامتحان؛ لأن المسيح الدجال لا يتبعه إلا المنافقون، أو من كان على غير هدي الكتاب والسنة، فهو أولى بأن يكون ضالاً في الدنيا والآخرة في أول حياته وفي آخرته.
وهذا الرجل الذي شقه نصفين يناديه ويقول له: ألست بإلهك؟ فيقول: لا والله، بل أنت المسيح الدجال ، وما ازددت فيك إلا بصيرة. لأن عنده من الإيمان والعلم سلفاً من النبي عليه الصلاة والسلام بأنه سيفعل به هكذا وزيادة، وعليه فإذا كان النص يثبت هذا، وأن هذا وإن كان لا يجوز إلا على الله عز وجل، لكن الله تعالى منح ذلك لأحد خلقه، فلم يكون اللبس إذاً؟
وشيطان عيسى يتمثل لهم في صورة عيسى، فيذهب من كان يعبده لعبادة ذلك الشيطان، ويتصور أنه يعبد عيسى، وعيسى وأمه براء من ذلك.
قال: (ولا يبقى في الموقف إلا محمد عليه الصلاة والسلام وأمته، فيأتيهم ربنا تبارك وتعالى فيقول: ما لكم لا تنطلقون كما انطلق الناس). أي: إلى معبوداتهم. (فيقولون: إن لنا إلهاً). أي: ننتظره هنا. (فيقول: وهل تعرفونه إن رأيتموه؟ فيقولون: بيننا وبينه علامة). أي: أن هناك علامة معينة سننظر إليها نعرفه من خلالها، فإذا رأيناها فهو إلهنا، وإذا لم نرها فليس إلهنا.
قال: (فيقول: ما هي؟ يقولون: يكشف عن ساقه). فهل من الممكن أن تكون الساق هنا بمعنى: الشدة؟ سيكون الكلام سذاجة وسمجاً إذا كان معنى الساق الشدة؛ لأن هذا محمد وأمته المرحومة.
قال: (فعند ذلك يكشف الله عن ساقه، فيخر كل من كان بظهره طبق، ويبقى قوم ظهورهم كصياصي البقر، يدعون إلى السجود فلا يستطيعون، وقد كانوا يدعون إلى السجود وهم سالمون)، قال: بعض أهل العلم: وهذا في تارك الصلاة، فإنه كان يدعى وهو سالم في الدنيا فيأبى ويمتنع ألا يسجد وألا يصلي، فإذا رأى الله عز وجل على هذا النحو في الآخرة فيهوي لأن يسجد لله فيمنع؛ لأنه لم يكن من أهل السجود في الدنيا.
قال الذهبي في كتابه (العلو) إسناد هذا الحديث حسن. وصححه الحاكم والإمام أحمد بن حنبل وغيرهم.
وقال المنذري في كتابه (الترغيب والترهيب) حديث صحيح. بعد أن عزاه لـابن أبي الدنيا والطبراني .
روى ابن خزيمة في كتابه (التوحيد) من طريق أبي الزعراء قال: ذكروا الدجال عند عبد الله بن مسعود فقال: (تفترقون أيها الناس! عند خروجه ثلاث فرق). أي: سيفترق المسلمون ثلاث فرق عند ظهور الدجال ، وذكر الحديث بطوله ثم قال: (ثم يتمثل الله عز وجل للخلق). أي: يأتي الخلق في صورة يرتضيها الله عز وجل لنفسه.
قال: (فيلقى اليهود. فيقول لهم: من تعبدون؟ فيقولون: نعبد الله لا نشرك به شيئاً). انظر إلى الكذابين! (فيقول: هل تعرفون ربكم؟ فيقولون: إذا اعترف لنا عرفناه). أي: إذا أتانا في صورته التي نعرفه بها عرفناه. (فعند ذلك يكشف عن ساق، فلا يبقى مؤمن ولا مؤمنة إلا خر لله سجداً). وهذا موقوف حسن على عبد الله بن مسعود، وقد تقدم مرفوعاً.
والحاصل: أن إثبات صفة الساق لله تعالى أمر مقطوع به؛ لثبوت النصوص الصريحة الصحيحة في ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن جماعة من الصحابة، والله أعلم.
وعليه؛ فإذا كانت الآية مطلقة وعامة فلابد من حملها على الحديث المقيد، وأن هذه الساق التي وردت منكرة غير مضافة إلى الله عز وجل قد وردت في الحديث مضافة وثابتة، وصريحة في إثباتها الساق لله عز وجل. وفي هذه الحالة سأقول له: أنت أيها الجمهور! قد خالفك رجل واحد في الأمة، والدليل معه، فضلاً أن يكون هذا الرجل هو عبد الله بن مسعود ، أو هو النبي عليه الصلاة والسلام؛ لأنه هو الذي أثبت، وإذا كنا نعتقد أنه أعلم الخلق بالله عز وجل فلابد وأننا نقول: بأن حديثه مقدم على مذهب الجمهور.
ثم لو افترضنا مثلاً صحة ما نقله ابن الجوزي عن الجمهور، فلا يدل ذلك على صحة قولهم وبطلان ما عداه، إذ ليس كل قول يذهب إليه الجمهور يكون صواباً، فإن الحق لا يعرف بالكثرة، وإنما يعرف بالأدلة والبراهين والتحقيق، وقد أوردنا فيما تقدم أدلة صحيحة لا معارض لها تدل على إثبات صفة الساق لله تعالى.
ثم إنه يقال أيضاً: لو صح ما زعمه ابن الجوزي ، فلا يدل أيضاً على نفي الجمهور لصفة الساق لله عز وجل. أي: على فرض أن الجمهور قالوا: إن الساق بمعنى الشدة، فإننا نقول: لا ينفي ذلك من ثبوت أصل الصفة، ثم نثبت الشدة وهي لازم الساق؛ لأن الجمهور عندما قالوا: الساق بمعنى الشدة لم يصرحوا بنفي الصفة عن الله عز وجل خاصة وأن الجمهور هم جمهور الصحابة، ومعلوم عن الصحابة أنهم لم يقعوا في التأويل قط، فقد كانوا أبعد الناس عن التأويل، وما ثبت أن صحابياً سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن صفة من الصفات الخبرية الذاتية أو الفعلية، وفي هذه الحالة نقول: إن الصحابة والتابعين وأتباعهم ما تعرضوا قط للتأويل ولا قالوا به، بل ولا عرفوه؛ لأنه عندهم منكر من القول وزوراً.
وعليه فلا يدل على نفي الجمهور صفة الساق لله عز وجل، وإنما هو أمر ظهر لهم في معنى الآية، بخلاف أهل البدع فلا يثبتون لله تعالى صفة الساق مطلقاً لا من الكتاب ولا من السنة، ولغة القوم في مثل ذلك أن يقال: كشفت الشدة، وذلك لو كنا نتكلم عن اللغة، وأنتم تقولون: إن الساق هي الشدة.
إذاً: هذا الكلام لغة غير مستقيم مع الآية؛ لأنه لو كان الساق بمعنى الشدة فسنقول: كشفت الشدة، والشدة لا تكشف وإنما تُكشَف، والعذاب والشدة هو المكشوف لا المكشوف عنه.
وعلى كل قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في نقض أساس التقديس: إن هؤلاء يتأولون كشفه عن الساق بأنه إظهار الشدة -انظر هذا الكلام الجميل- وفي نفس هذه الأحاديث أنه إذا أتاهم في الصورة التي يعرفونه، فيكشف لهم عن ساقه فيسجدون له، فإذا تأولوا مجيئه في الصورة التي يعرفون على إظهار رحمته وكرامته، كان هذا من التحريف والتناقض في تفسير الكتاب والسنة. فهو يريد أن يقول: في قول الله عز وجل: وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا
[الفجر:22]، أن المتأولة يقولون: إن الله تبارك وتعالى لا يأتي ولا يجيء ولا يذهب ولا يرضى ولا يسخط ولا يفرح ولا..، ينفون كل هذه عن الله عز وجل، فيقولون في تفسير قوله تعالى:
وَجَاءَ رَبُّكَ
، أي: وجاء أمر ربك، أو رحمة ربك، أو رضا ربك، والمهم أن الرب تبارك وتعالى عندهم لا يأتي، وعليه فإذا كنتم تفسرون مجيء وإتيان الله عز وجل بإتيان الرحمة، وأنتم الذين تقولون: لو ظهر لنا بما نعرفه لعرفناه، لكن هو سيعرف لكم بالساق مثلما أبنتم ذلك، فإذا كانت الساق هي الشدة فهل تسجدون لها؟ الجواب: لا. فإذا قلتم: إن الإتيان والمجيء لله عز وجل هو إتيان الرحمة، فلا يتصور أنك إذا رأيت رحمة ربك سجدت في هذا الموقف.
واعلم أن هناك أصلاً مهماً جداً لابد وأن تعض عليه بالنواجذ خاصة فيما يتعلق بصفات المولى عز وجل، وهو: (حمل الألفاظ على ظاهرها دون تحريف، أو تأويل، أو تمثيل، أو تكييف، أو تشبيه)؛ لأن الأصل في الألفاظ أن تحمل على الحقيقة حتى يرد ما يخرجها عن ذلك. يعني: إذا كانت الآية تقول: يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ
[القلم:42]. إذاً هي ساق، حتى لو لم نكن متصورين صفة الساق، ولا نصرف هذه الساق عن ظاهرها كما يفعل المبتدعة؛ لأنه لابد أن يكون معك صارف لها أو قرينة على الصرف؛ ولأن الأصل في الألفاظ أنها تحمل على الحقيقة لا على المجاز، سواء المجاز الشرعي أو المجاز اللغوي أو المجاز العقلي.
فقوله: يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ
[القلم:42]، أثبتت الآية أن هناك ساقاً، ولا أستطيع أن أقول: بأنها الشدة؛ لأنه لابد من صارف أو قرينة صارفة، واللغة ليست صارفة إلا بشرط: استحالة حمل اللفظ على ظاهره، واللفظ الذي معي أحمله على معناه الاصطلاحي الشرعي، فإن كان محالاً أحمله على الحقيقة اللغوية، وإن كانت الحقيقة اللغوية محالة فأحمله على الحقيقة العرفية، وهذا ترتيب أهل العلم في صرف النص عن ظاهره.
لكن في هذه الحالة عندما يثبت ربنا سبحانه لنفسه الساق، فإننا نحمل هذا اللفظ على حقيقته الشرعية، ولا يمكن أن نتعدى ذلك إلى غيره لأنها خطوات وضعها أهل العلم وأمرونا باتباعها، ولو تخطينا الحقيقة الشرعية في صفة الساق فلابد وأن نتخطاها في جميع الصفات الذاتية لله عز وجل.
وبهذه المناسبة أذكركم بقاعدة قد مرت وهي: (أن الكلام في صفة واحدة كالكلام في جميع الصفات)، فإذا تخطينا الحقيقة الشرعية في الساق فيلزمنا أن نتخطاها في جميع الصفات.
إذاً: مذهب السلف هو إثبات الألفاظ على حقيقتها وعدم صرفها عن ظاهرها إلا بنص أو قرينة.
وعندما أريد صرف الساق عن ظاهرها، فهل أبحث لها عن صارف؟ لو قلت: نعم. فلن أجد لها صارف في اللغة، وبعد أن أصرفها عن ظاهرها إلى معناها اللغوي سأجد الحديث قد صرح بأن الساق ساق لله عز وجل، إلا إذا كنت سأصرف لفظ الله أو الرب عن ظاهره فأقول: الله هذا، أو الرب هذا مخلوق من المخلوقات! ألا يمكن أن يقول أحد بذلك؛ لأن الحديث: (يوم يكشف الله عز وجل عن ساقه)، فهل أستطيع أن أتصرف في هذا اللفظ؟ بمعنى أن أقول: ليس المقصود هنا بالله عز وجل: (الإله المعبود). إن من يقول بذلك سيكون مجنوناً بلا شك، ولو قلت: إن الله عز وجل ليس المقصود به: الإله المعبود! سأنظر وأجد الحديث الثاني يقول: (يوم يكشف ربنا عن ساقه). فلا يجتمع في مخلوق قط لفظ الرب مع لفظ الله، ممكن أن يكون رب البيت، رب الدار، رب الغنم، رب البقر، لكن الرب -بالتعريف- لا يطلق إلا على الله عز وجل، ولفظ الجلالة: (الله) عز وجل لا يطلق على أحد إلا الله، يعني: لا يمكن أن يكون هناك مصطلح عرف بين الناس بأن فلاناً هذا (الله) لهذه القرية، ومثله عمدة القرية. ولا أستطيع أن أقول: (إله) القرية؛ لأنه ليس هناك إله بحق إلا الله عز وجل.
فالأصل في الألفاظ أن تحمل على الحقيقة حتى يرد ما يخرجها عن ذلك، فقوله جل وعلا: يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ
[القلم:42] دليل على إثبات الساق لله تعالى إثباتاً بلا تمثيل، وتنزيهاً بلا تعطيل؛ لأن الله جل وعلا:
لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ
[الشورى:11]. وليس عند أهل البدع من الأدلة سوى دعوى مشابهة المخلوق للخالق، ولو عقلوا لعلموا أن قولهم هو التشبيه بعينه.
إذاً: قول ابن الجوزي في الحديث: (إن الله عز وجل يكشف عن ساقه). أي: عن شدته، قول مردود مخالف لمذهب السلف، وتحريف للكلم عن مواضعه.
والحديث على ظاهره فيه إثبات الساق لله تعالى، فيجب إثباته كإثبات سائر صفاته دون تحريف أو تعطيل، أو تكييف أو تمثيل، وهذه -كما قلنا- حقيقة الإيمان، وهي: إثبات ما أثبته الله لنفسه، أو ما أثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم.
والذي وقع فيه ابن الجوزي وقع فيه النووي ، لكن على أي حال فالله سبحانه وتعالى يسخر في الأمة من يبين خطأ بعض أهل العلم.
والإمام النووي قد نقل كلاماً عظيماً جداً عن كثير من أهل العلم القائلين بأن الساق تعني الشدة، وهذا على عادة الإمام النووي ، فإذا كان مضطرباً في مسألة ما فإنه ينقل أقوال أهل العلم دون أن يرجح، وفي ترجمة الإمام النووي التي ذكرناها من قبل: أنه لم يتمكن من دراسة علم العقيدة، مع أن علم العقيدة متعلق بذات الله تبارك وتعالى، فأنت الآن عندما تدرس كل العلوم الشرعية ولست متمكناً من العقيدة فسيخرج لك صبي في الكتاب يعدل عليك، لكن في الفقه عندما تخطئ أو تتبنى مذهباً شاذاً لا يكون لذلك تأثير، أو غير ذلك. يعني: نحن مثلاً: عندما نعيب على ابن حزم ، أو نعيب على أحد من أهل العلم مذهباً قد ذهب إليه في مسائل الفروع في الفقه، فلا يكون لذلك تأثير، لكن عندما نقول: فلان هذا جهمي، رغم أنه فقيه، فلان هذا معطل، رغم أنه محدث، فلان هذا قدري، رغم أنه كذا كذا، فلان هذا شيعي، رغم أنه كذا وكذا، فسيكون ذلك أمراً شنيعاً جداً؛ لأن الخطأ في العقيدة ليس كأي خطأ قط، ولذلك ينبغي أن تتنبه إلى أن دراسة علم الاعتقاد والتمكن منه على مذهب السلف ومعرفة أصولهم التي أصلوها وساروا عليها، أهم شيء في حياة العبد المسلم.
ولذلك يقول أهل العلم: وهذا من العلم الذي لا يسع المسلم جهله، إذ إن من العلوم ما يمكن أن يسعك جهله، ومنها ما لا يمكن أن يسعك جهله، وعلى رأس ذلك: علم الاعتقاد والتوحيد فلا يسعك جهله.
وعلم العقيدة لا يتوقف على أنك تذهب لتتزوج فيأتون لك بالبنت من أجل أن تراها، وتقول لها: أين الله؟ فتقول لك: في السماء. فتقول: يكفي. هذه البنت سلفية (100%). هذه خيبة! إذ إنه لم يثبت أن واحداً من السلف تقدم لخطبة امرأة واختبرها، بل كان يتلصص إلى أن يرى جزءاً من بدنها، فينظر ما يعجبه ويسره فيتقدم لها، لذا فلا يصح أن يتقدم شخص لفتاة فيخرج هذه الورقة من جيبه ويسأل هذه الأسئلة.
ورحم الله الشوكاني فإنه قال في تفسير سورة القلم: وقد أغنانا الله سبحانه وتعالى في تفسير هذه الآية: يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ
[القلم:42] بما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم، وذلك لا يستلزم تجسيماً ولا تشبيهاً، فليس كمثله شيء. فانظر إلى هذا الكلام الجميل، فالحديث يبين الآية، وقد بين أن المقصود من الساق في الآية هي ساق الله عز وجل، فنثبتها من غير تجسيم ولا تمثيل مثل بقية الصفات، ولا يصح أن نخصها بكلام بمفردها، فهي مثل العين واليد، والقدم والأصابع والكف والأنامل وغيرها، فنقول فيها كما نقول في بقية الصفات.
والحق أن تفسير ابن عباس للساق الذي ورد في الآية الكريمة ليس من تأويل الأشاعرة؛ لأنه ليس منهج ابن عباس ، بل هو رأي رآه، وهذا على فرض ثبوت هذا التأويل عنه، وهو غير ثابت.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية : وأما الذي أقوله الآن وأكتبه، وإن كنت لم أكتبه في ما تقدم من أجوبتي، وإنما أقوله في كثير من المجالس -هذا كلام شيخ الإسلام ابن تيمية - أن جميع ما في القرآن من آيات الصفات ليس عن الصحابة اختلاف في تأويلها، وقد طالعت التفاسير المنقولة عن الصحابة وما رووه من الحديث، ووقفت من ذلك على ما شاء الله تعالى من الكتب الكبار والصغار أكثر من مائة تفسير فلم أجد إلى ساعتي هذه عن أحد من الصحابة أنه تأول شيئاً من آيات الصفات أو أحاديث الصفات بخلاف مقتضاها المفهوم المعروف، بل عنهم من تقرير ذلك وتثبيته وبيان أن ذلك من صفات الله ما يخالف كلام المتأولين ما لا يحصيه إلا الله، وكذلك فيما يذكرونه آثرين وذاكرين عنهم شيء كثير.
وتمام هذا أني لم أجدهم تنازعوا إلا في مثل قوله تعالى: يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ
[القلم:42] -أي: يريد أن يقول: إن هذا ليس كلام الصحابة، بل لم يختلفوا إلا في تفسير هذه الصفة- فروي عن ابن عباس -صيغة التمريض- وطائفة أن المراد به الشدة، أن الله يكشف عن الشدة في الآخرة.
وعن أبي سعيد وطائفة: عدوها في الصفات؛ للحديث الذي رواه أبو سعيد في الصحيحين. اهـ.
وقال ابن القيم: و(الصحابة متنازعون في تفسير الآية، هل المراد الكشف عن الشدة، أو المراد بها أن الرب يكشف عن ساقه؟ ولا يحفظ عن الصحابة والتابعين نزاع فيما يذكر أنه من الصفات أم لا في غير هذا الموضع) اهـ.
لكن هنا جملة أمور وحقائق لا يجوز لأحد أن يتعداها، أو أن يغض نظره عنها، وهي أن الخلاف وقع بين الصحابة إلا أنه في هذه الصفة فقط؛ لأن التأويل ليس مذهبهم بتأويل الساق بالشدة.
وابن القيم يريد أن ينصحنا بنصائح، وكأنه يقول: رغم وقوع النزاع في هذه الصفة إلا أن هناك عدة نصائح أريد أن أنصحكم بها، وهي: أن تفسير بعض التابعين أو ابن عباس من الصحابة -على فرض صحته عنهم- لقوله تعالى: يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ
[القلم:42] بالشدة في الآخرة ليس من التأويل الذي فيه صرف للآية عن ظاهرها.
أي: أنه ليس تأويل الأشاعرة، ولا فيه تعطيل لصفة من صفات الله جل وعلا، بل إنهم يثبتون هذه الصفة بالأحاديث الأخرى الصحيحة، فشتان بين قولهم وبين تعطيل وتأويل الأشاعرة.
كما يقول شيخ الإسلام ابن تيمية : ولا ريب أن ظاهر القرآن لا يدل على أن هذه من الصفات. أي: أنه يريد أن يقول: إن الآية ليست صريحة في إثبات أن أن الساق صفة لله عز وجل، وإنما أتى التصريح في الحديث.
ثم قال: ولا ريب -أي: ولا شك- أن ظاهر القرآن لا يدل على أن هذه من الصفات، فإنه قال: يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ
[القلم:42] نكرة في الإثبات لم يضفها إلى الله، ولم يقل (عن ساقه)، فمع عدم التعريف بالإضافة لا يظهر أنها من الصفات إلا بدليل آخر، ومثل هذا ليس بتأويل، إذ إن التأويل صرف الآية عن مدلولها ومفهومها ومعناها المعروف، لكن كثيراً من هؤلاء يجعلون اللفظ على ما ليس مدلولاً له، كاليد على القدرة والنعمة، والعين على الإحاطة والرعاية، ثم يريدون صرفه عنه ويجعلون هذا تأويلاً، وهذا خطأ من وجهين.
وقد سبقه أبو يعلى الفراء فحمل تأويل ابن عباس على قول أهل اللغة، وليس على التأويل الفاسد الذي هو مذهب الأشاعرة.
وأما ما روي عن ابن عباس في تأويل الساق فقد خالفه ابن مسعود ، ولا أقل من أن يقال: إن الصحابة اختلفوا في هذه، وليس قول أحدهم بحجة على قول الآخر إلا بدليل أو بنص، والنص مع ابن مسعود لا مع ابن عباس رضي الله عنه الله عنهما، وعليه فلا إشكال إذاً.
وأظن بذلك الكفاية والغنية، وقد اتضح أن لله تبارك وتعالى ساقاً ليست كساق المخلوق، وأنها ساق حقيقية لله عز وجل يتعرف بها إلى خلقه في الموقف، وأن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قد أخطأ في صرف هذه الصفة إلى المعنى اللغوي، وهذا إن صح عنه ذلك، وإن لم يصح فقد أغنانا ضعف الإسناد إليه عن نسبة التأويل له رضي الله تبارك وتعالى عنه.
وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر