فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.
أما بعد:
فمع الباب الرابع من كتاب القسامة: (باب الصائل على نفس الإنسان أو عضوه إذا دفعه المصول عليه فأتلف نفسه أو عضوه لا ضمان عليه).
أي: دفع الظالم أو الباغي المعتدي بغير حق على الآخرين، وهو المعروف بالصائل؛ لأن الصائل هو الظالم. ولو أن واحداً اعتدى عليك في نفسك، أو مالك، أو عرضك، فدفعته فمات من هذه الدفعة، أو أتلفت عضواً من أعضائه، فهل تضمن أنت هذا التلف؟
هذا التلف إما أن يكون حدث في النفس. بمعنى: أنك لو دفعته قتل من هذه الدفعة. أو مات من هذه الدفعة، أو كان لا يمكن دفعه إلا بالقتل؛ لأن العلماء مجمعون على أن الصائل لا يدفع بأكثر من الوسيلة المطلوبة في دفعه، فلو أن واحداً اعتدى عليك فدفعته بيدك فاندفع فلا يجوز دفعه بالسوط، وإذا كان يمكن دفعه بالسوط فدفعته بعصا فهذا لا يشرع لك ولا يحل، وإذا كان يمكن الفرار منه بعدم الإتلاف أو بعدم تمكنه من الظلم بأن هربت منه فلا يجوز لك أن تتعرض له؛ لأنك لو عرضت نفسك له فإنما أوقعت نفسك في التهلكة.
فالشاهد من هذا: أن الإسلام يدعو إلى الحفاظ على النفس، والعرض، والمال بأي وسيلة مشروعة متاحة كانت، فلو أن ظالماً أو معتدياً أو صائلاً سطا أو ظلم وبغى على النفس أو المال أو العرض فيجب دفعه بالوسيلة المتاحة التي يمكن بها دفعه، نبدأ بالأقل، ثم الأكثر، ثم الزيادة، ولا يمكن قط أن يأذن الشرع لمن وقع عليه الضرر -أي: للمصول عليه- أن يدفع الصائل بوسيلة هي أعظم من مجرد جرم هذا الصائل، فلو أن واحداً سطا عليك في بيتك في الليل أو في النهار فكان يمكن أن يدفع هذا الصائل بمجرد التخويف فلا يجوز دفعه بالضرب، وإذا كان لا يندفع إلا بالضرب فلا يجوز القتل وغير ذلك.
أما أن يفكر المصول عليه في قتل الصائل أولاً وابتداءً فهذا يجب عليه أن يضمن ما أتلف، سواء أتلف النفس، أو المال، أو أتلف عضواً من أعضائه فإنما لا يضمنه إذا كان لا يمكن الدفع إلا بالقتل، أو ليس بين يدي المصول عليه إلا وسيلة يقتل بها، أو غلب على ظن المصول عليه أنه لا يمكن دفع هذا إلا بالقتل أو الجرح، أو قطع عضو من أعضاء الصائل فإنه حينئذ لا ضمان عليه، لأن هذا الصائل لا يدفع إلا بهذه الوسيلة، وهي المتاحة، ولذلك بوب النووي هنا وقال: (باب الصائل على نفس الإنسان أو عضوه).
فلو أن شخصاً شهر سيفه وغلب على ظنك أنه لا بد أن يقتلك فلا شك حينئذ أنك لو قتلته فإن قتله غير مضمون عليك. بمعنى: أنك لا تكلف به قصاصاً، ولا دية، لأنه لا يمكن والحالة هذه دفعه إلا بالقتل، إما إذا كان بإمكانك أن تدفعه بغير القتل وهذا معلوم من ظروف وملابسات الواقعة؛ فإنك تضمنه إذا أتلفت روحه.
وكذلك لو قال لك إنسان: مد إلي يدك لأقطع كفك، لا سبيل لك إلا ذلك، فابتدرته لما علمت أنه فاعل ما يهدد به فقطعت يده التي يهدد بها؛ فإن لم يمكنك قطع يده إلا أن تقطع رقبته فلا حرج عليك حينئذ ولا تضمن.
أما إذا صال عليك صائل، وبغى عليك ظالم ثم بمجرد التهديد أو التخويف أو علمه أنك في البيت، بأن سمع صوتك، أو أنك تنحنحت، أو تكلمت، فعلم أن في البيت رجل يكف عن هذه الصيالة فحينئذ اندفع وهرب فلا يجوز لك أن تعدو خلفه فتقتله؛ فإن قتلته فأنت ضامن، لأنه اندفع بأقل من ذلك، واندفع بالفعل، فلم تعديت أنت حد الصيالة حينئذ؟!
وهكذا يقول الإمام النووي: (باب الصائل على نفس الإنسان أو عضوه) ولو أن ظالماً ظلمك في نفسك أو في أحد أعضائك إذا دفعه المصول عليه فأتلف نفسه أو عضوه لا ضمان عليه.
منية هي أم يعلى ، وأمية هو أبو يعلى ، فيصح أن يقال فلان بن فلانة، أو فلان بن فلان، أما في الآخرة فإنه لا يدعى إلا فلان بن فلان باسم أبيه. وما ورد عند الطبراني وغيره: (أن المرء في يوم القيامة ينادى باسم أمه) فهذا غير صحيح، بل هو حديث باطل.
قال: [(قاتل وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ
[المائدة:45]. وهذا الذي نزع يده من فم العاض إنما أسقط ثنيتيه، ومع هذا لم يحكم النبي عليه الصلاة والسلام بالقصاص، ولا بالدية، لأن الذي عض ابتدأ الظلم، وهو في حكم الصائل. أي: الظالم المعتدي بغير حق.
وحدثنا أبو غسان المسمعي -واسمه عبد الواحد- حدثنا معاذ -وهو ابن هشام بن أبي عبد الله الدستوائي- قال: حدثني أبي عن قتادة عن زرارة بن أوفى عن عمران بن حصين : (أن رجلاً عض ذراع رجل فجذبه -أي: فجذب ذراعه من فمه- فسقطت ثنيته فرفع إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأبطله)] يعني: جعله هدراً لا قصاص ولا دية. [(وقال: أردت أن تأكل لحمه؟!)]. أي: أردت أيها العاض أن تأكل لحم أخيك؟ كأنه يوبخه ويقول له: أتريد أن أقضي لك وأنت قد أردت ابتداءً أن تأكل لحم أخيك فماذا أقضي لك ؟ وكيف تأمرني أن أقضي لك ؟ فأبطل حقه عند صاحبه.
قال: [وحدثنا أبو غسان المسمعي حدثنا معاذ بن هشام حدثني أبي عن قتادة عن بديل -وهو ابن ورقاء- عن عطاء بن أبي رباح عن صفوان بن يعلى (أن أجيراً لـ
[حدثنا أحمد بن عثمان النوفلي حدثنا قريش بن أنس عن ابن عون عن محمد بن سيرين عن عمران بن حصين : (أن رجلاً عض يد رجل فانتزع يده فسقطت ثنيته أو ثناياه فاستعدى رسول الله صلى الله عليه وسلم)].
يعني: طلب منه أن يكون بجواره، وهذا من سوء الأدب أن يذهب أحد الخصوم إلى حاكم أو قاض في غير مجلس القضاء والخصومة، وأن يحكي له الحكاية حتى يستعديه على الطرف الآخر بغير أن يسمع القاضي من الطرف الآخر، فهذا من سوء الأدب في القضاء ابتداءً، بل هذا لا يصح في الأذهان أن يذهب أحد الخصوم لمن يظن أنه يقضي له، أو يستميل قلبه ليتألب على الطرف الآخر ويكون رأياً قبل سماع الطرف الآخر.
فاستعدى رسول الله صلى الله عليه وسلم أي: فطلب منه أن يعادي الآخر، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: (ما تأمرني؟) كلام للتوبيخ والتقريع. [(ما تأمرني؟! تأمرني أن آمره أن يدع يده في فيك تقضمها كما يقضم الفحل)].
أي: أنت ماذا تتصور؟ وأنت ماذا تريد مني ؟
أتريد مني أن أقضي لك أن يبقي خصمك يده في فمك تأكل لحمه وعظمه؟ [(قال: ادفع يدك حتى يعضها ثم انتزعها)] إذا كنت متصور أنني سأقضي لك فإنما أقضي لك بنحو أن يقع عليك منه كما وقع عليه منك، فاذهب فضع يدك في فمه ومكنه أن يقضمها كما قضمت يده فحينئذ لا قصاص ولا دية، أما أن تتصور أنني أحكم لك مع أنك الباغي، والصائل، والمتعدي، والظالم فهذا لا يصح لا شرعاً ولا عقلاً.
قال: [(ما تأمرني؟ تأمرني أن آمره أن يدع يده في فيك - أي: في فمك - تقضمها - أي: تعضها - كما يقضم الفحل ادفع يدك حتى يعضها ثم انتزعها) ]أي: ثم انتزعها أنت من فمه حتى تسقط أسنانه فحينئذ يكون السن بالسن، والعضة بالعضة، إذا كنت تريد عدلاً فهو هذا، وهذا الكلام بلا شك خرج مخرج التقريع وليس المراد بتمكينه يده ليعضها وإنما معناه الإنكار عليه. أي: أنك لا تدع يدك في فيه يعضها فكيف تنكر أن ينتزع يده من فيك وتطالبه بما جنا في جذبه بذلك.
قال: [حدثنا شيبان بن فروخ حدثنا همام -وهو ابن يحيى بن دينار- حدثنا عطاء وهو ابن أبي رباح عن صفوان بن يعلى بن منية عن أبيه قال: (أتى النبي صلى الله عليه وسلم رجل وقد عض يد رجل فانتزع يده فسقطت ثنيتاه قال: فأبطلها النبي صلى الله عليه وسلم وقال: أردت أن تقضمه كما يقضم الفحل) .
حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا أبو أسامة حماد بن أسامة أخبرنا ابن جريج -وهو عبد الملك بن عبد العزيز الأموي- قال: أخبرني عطاء -وهو ابن أبي رباح- أخبرني صفوان بن يعلى بن أمية عن أبيه قال: غزوت مع النبي صلى الله عليه وسلم غزوة تبوك، قال: وكان يعلى يقول: تلك الغزوة أوثق عملي عندي -يعني: أرجى عمل لي عند الله عز وجل- فقال عطاء : قال صفوان : قال يعلى : كان لي أجير فقاتل إنساناً فعض أحدهما يد الآخر، قال: لقد أخبرني صفوان أيهما عض الآخر، فانتزع المعضوض يده من في العاض، فانتزع إحدى ثنيتيه (فأتيا النبي صلى الله عليه وسلم فأهدر ثنيته)] معنى أهدر ثنيته: أنه لم يجعل فيها قصاصاً ولا دية. وعضو هدر. أي: لا دية له ولا قصاص من باب أولى.
قال: [وحدثناه عمرو بن زرارة أخبرنا إسماعيل بن إبراهيم قال: أخبرنا ابن جريج بهذا الإسناد نحوه]. يعني: بهذا الاختلاف العظيم في هذه الرواية.
ولا شك أن أسانيد هذا الباب كلها مضطربة، فمرة يقولون أن المعضوض هو يعلى بن أمية ، ومرة يقولون: المعضوض هو أجير يعلى وليس يعلى نفسه.
فقال الحفاظ : الصحيح المعروف أن المعضوض هو أجير يعلى ، لا يعلى ، ويحتمل أنهما قضيتان:
يعني: قضية عض فيها يعلى ، وقضية أخرى عض فيها أجير يعلى ، وإن كان هذا بعيداً لكن على أية حال هناك اضطراب في الأسانيد وليس في هذا طعن أو مطعن على هذه الروايات، فقد أخرج كذلك البخاري رحمه الله من وجه آخر، وأما مجموع هذه الروايات فيدل على ثبوت هذه القصة.
قال: (وهذا الحديث دلالة لمن قال: إنه إذا عض رجل يد غيره فنزع المعضوض يده فسقطت أسنان العاض أو فك لحيته أو لحييه -أي: فكيه- لا ضمان عليه. وهذا مذهب الشافعي وأبي حنيفة وكثيرين أو الأكثرين رضي الله عنهم. وقال مالك فقال: يضمن). أي: في كل حال. وبلا شك أن الصواب هو مذهب الجماهير.
والقضم إنما يكون بأطراف الأسنان.
الباب الخامس: (باب إثبات القصاص في الأسنان وما في معناها) أي: فيما دق وجل من بدن الإنسان، كل عضو من أعضاء الإنسان ما دام عضواً منفصلاً له اسم ووقع عليه اعتداء أو صيالة، أو بغي فيثبت فيه القصاص.
الأول: أن في رواية مسلم أن الجارحة أخت الرُبيع ، وفي رواية البخاري أنها الرُبيع نفسها.
والاختلاف الثاني: أن في رواية مسلم أن القائل : لا تكسر ثنيتها هي أم الربيع. وفي رواية البخاري أنه أنس بن النضر. ولذلك قال العلماء: المعروف في الروايات رواية البخاري ، وقد ذكرها البخاري من طرق صحيحة كما ذكرنا هنا، وكذا رواه أصحاب كتب السنن.
والإمام النووي يقول كذلك في هذا الباب: إنهما قضيتان لا قضية واحدة:
أما الرُبيع الجارحة في رواية البخاري وأخت الجارحة في رواية مسلم فهي بضم الراء وفتح الباء يعني الرُبَيع. وأما في رواية مسلم فيها الربيع لا الرُبَيع.
وأما قوله عليه الصلاة والسلام: (كتاب الله القصاص) في الرواية الثانية. أي: حكم الله وحكم كتاب الله وجوب القصاص في السن، وهو قوله تعالى: وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ
[المائدة:45]).
فقال هنا: (بل المراد به الرغبة إلى مستحق القصاص أن يعفو وإلى النبي صلى الله عليه وسلم في الشفاعة إليهم في العفو). يعني: نذهب إليه يا رسول الله ونكلمه وتشفع معنا عنده أن يتنازل من القصاص إلى الدية.
(وإنما حلف الحالف ثقة بهم أنهم لا يحنثوه). حلف الحالف وقال: والله لا يقتص من فلانة. أي: بعد شفاعتك يا رسول الله فإنهم لا يردوا هذه الشفاعة، فاذهب معنا لتشفع.
والمعلوم أن الحدود لا شفاعة فيها، فكيف أقسم هؤلاء على النبي عليه الصلاة والسلام أن يشفع لدى أصحاب هذا الذي كسرت ثنيته؟ وما هو وجه الجمع؟
في الحقيقة أنتم تعلمون أن الحد في مثل هذا إما القصاص وإما الدية، فالدية هي الحد، وهؤلاء لم يطالبوا بشفاعة النبي عليه الصلاة والسلام لإلغاء الحد، وإنما لانتقال القصاص إلى البدل، والبدل حد ، فلم يطالبوا بشفاعة النبي عليه الصلاة والسلام لإلغاء الحد كما في قصة أسامة بن زيد رضي الله عنهما، وإنما طالبوا الانتقال من درجة إلى أخرى في ذات الحد، والمعلوم أن الحدود لا شفاعة فيها. أي: لا شفاعة تبطلها، بخلاف التعزير فإن الشفاعة فيه قائمة.
قال: (وإنما حلف ثقة بهم ألا يحنثوه، أو ثقة بفضل الله ولطفه ألا يحنثه بل يلهمهم العفو، ولذلك قال النبي عليه الصلاة والسلام لما قبلوا الدية وتنازلوا عن القصاص قال: (إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبره يعني: من عباد الله عباداً لو أقسموا على الله تعالى لأبر الله تعالى قسمهم، لما لهم من منزلة بحسن تقواهم وعبادتهم لله، وقربهم منه سبحانه وتعالى أنهم لو أقسموا على الله تعالى لأبر الله تعالى وألان قلوب الآخرين لقبول شفاعتهم أو قبول معذرتهم.
والنبي عليه الصلاة والسلام يبين ويبرر هذه القاعدة بحديث آخر، لما رأى رجلاً من أصحاب الوجاهة والسؤدد والسيادة في المجتمع يمر في مجلس المدينة والنبي عليه الصلاة والسلام قائم بين أصحابه قال: (ما تقولون في هذا الرجل؟ قالوا: يا رسول الله والله إنه لحري إذا تكلم أن يسمع له، وإذا نكح أن ينكح). وذلك لأنه وجيه وعظيم في قومه، فإذا تكلم لا بد للناس جمعياً أن يسمعوا له، وإذا ذهب إلى بيت أحد لينكح أي: ليخطب ابنتهم أو يتزوج لحري به أن يقبل طلبه وألا يرد. (ثم مر آخر) وهو من أهل الابتذال والمسكنة والفقر (فقال النبي عليه الصلاة والسلام: ما تقولون في هذا الرجل؟ فقالوا يا رسول الله: والله إنه لحري إذا تكلم ألا يسمع، وإذا نكح ألا ينكح. فقال النبي عليه الصلاة والسلام: أشهد أن هذا خير من ملء الأرض من ذاك).
أي: أشهد أن هذا الفقير المبتذل خير من ملء الأرض من الرجل الأول الذي قلتم عنه إنه لحري إذا تكلم أن يسمع، وإذا نكح أن ينكح؛ لأن المفاضلة بين الخلق في الدنيا والآخرة إنما هي بتقوى الله عز وجل، وكان هذا من عباد الله، بخلاف الأول.
وقد قرر القرآن الكريم هذه القاعدة بقوله سبحانه وتعالى: إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ
[الحجرات:13] لا أوجهكم، ولا أغناكم، ولا أكثركم مالاً، ولا وجاهة ولا حسباً، ولا نسباً، وإنما الخيرية في الدنيا والآخرة متعلقة بتقوى المرء وحسن عبادته، وأن الله تعالى يكرم العباد كما قال عليه الصلاة والسلام والحديث في الصحيحين كذلك: (رب رجل أشعث أغبر مدفوع بالأبواب لو أقسم على الله لأبره) .
أي: رب رجل أشعث أغبر لو أنه ذهب إلى قوم لدفعوه عن بابهم، وعن بيتهم، لا يريدونه؛ لأنه معرة بالنسبة لهم. أيقال: فلان المبتذل الفقير دخل عند فلان؟ هذا العبد عنده بين جنباته من الإيمان والتقوى ما يزن الجبال، ولذلك فضله الله تعالى على كثير، وجعل له كرامة وعلامة تدل على تقواه وهي: (أنه لو أقسم على الله لأبره) .
وهذا أمر لا يحتاج إلى تجربة وإن كان مجرباً: يوم ما كنا في الأردن كان معنا شخص اسمه شريف السبع من دمياط وكان رجلاً حقيقة أشعث أغبر لكنه كان من أهل التقوى، يعرفها في وجهه من نظر إليه، وأقسم بالله أني كنت ألجأ إلى هذا وأطلب منه أن يدعو بكشف الضر والكرب إذا نزل فما أن أذهب إلى بيتي إلا ويكشف بإذن الله تعالى، فلما علم إخواني حسن علاقتي وتقديري واحترامي لهذا الشخص عابوا علي ذلك، فذكرتهم بحديث النبي عليه الصلاة والسلام: (رب رجل أشعث أغبر مدفوع بالأبواب لو أقسم على الله لأبره) وكان معظم جلوسي ووقت راحتي إنما هو مع هذا الشخص، وكنت إذا نظرت إليه ازداد إيماني. فالناس ليسوا بهيئاتهم، ولا بمناظرهم، ولذلك أخرج مسلم في صحيحه أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (إن الله لا ينظر إلى صوركم ولا إلى أجسامكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم). وأنتم تعلمون أن اليهود والنصارى من أعظم الناس صوراً وهيئة، ومن أجمل الناس، حتى سماهم العرب بني الأحمر. وفي رواية بني الأصفر؛ لجمالهم وحسن منظرهم، لكني والله أرى عليهم غضب الله، مع وجود هذا المنظر الجميل، عيون خضراء، وشعر أصفر، وبياض في البشرة، وغير ذلك لكن ذل الكفر لا يغادرهم قط، فهو بين وظاهر على وجوههم، وهذا فارق بين أهل الإيمان وأهل الكفر، أنهم وإن تحسنت صورهم إلا أن غضب الله تعالى لا يفارقهم، وذل هذه المعصية العظمى التي لا يغفرها الله عز وجل لا يغادر قلوبهم، ولذلك قال الله تعالى: وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ
[المنافقون:4]. ثم يصفهم الله عز وجل
كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ
[المنافقون:4] وهم في غاية الفزع، والهلع،
يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ
[المنافقون:4] وغير ذلك مما ورد في صفاتهم. أما العرب فهم معروفون بالسمرة، بخلاف العجم فإنهم معروفون بالحمرة، أو بالبياض المشرب بالحمرة، ولا شك أن هذا منظر ترتاح إليه العين أكثر من السمرة، لكن الله عز وجل إنما جعل المفاضلة بين الخلق بالإيمان المستقر في القلب والذي جرى مقتضاه على الجوارح.
ومنها: استحباب الشفاعة في العفو مع بقاء وثبوت الحد.
الأول: أنه لا قصاص بينهما في نفس ولا طرف، وهذا مذهب الحسن البصري وعطاء بن أبي رباح المكي ؛ لأنه لا يقتل رجل بامرأة، ولا امرأة برجل، وكذلك لو أن امرأة قطعت ذراع رجل لا يقطع به ذراعها، والعكس بالعكس، ومذهب عطاء والحسن مذهب فاسد.
ثم قالا: بل تتعين دية الجناية تعلقاً بقوله: وَالأُنثَى بِالأُنثَى
[البقرة:178].
والمذهب الثاني: وهو مذهب جماهير العلماء من الصحابة والتابعين فمن بعدهم، وهو ثبوت القصاص بينهما في النفس وفيما دونها، أي: مما يمكن القصاص فيه، وهذا هو المذهب الحق، أن المرأة لو قتلت رجلاً قتلت به، أو قطعت منه عضواً قطع عضوها به، والعكس بالعكس.
واحتج الجمهور بقول الله تعالى: أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ
[المائدة:45] هذا وإن كان شرعاً لمن قبلنا، وفي الاحتجاج به خلاف مشهور للأصوليين فإنما الخلاف إذا لم يرد شرعنا بتقريره وموافقته، وقد ورد في شرعنا هذا.
أما المذهب الثالث: فهو مذهب أبي حنيفة وأصحابه: يجب القصاص بين الرجال والنساء في النفس، ولا يجب فيما دون النفس، وهي الأطراف: كالذراع والعين، والسن، والقدم، وغير ذلك.
قال: (ومنها وجوب القصاص في السن وهو مجمع عليه، فإن كسر بعضها ففيه وفي كسر سائر الأعضاء خلاف مشهور للعلماء، والأكثرون على أنه لا قصاص فيه إنما تجب فيه الدية). والدية في السن عشرة من الإبل، وهذا من باب حفاظ الإسلام على كرامة الإنسان.
قال: [(إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزان)] والأرجح (الثيب الزاني) بإضافة الياء، وإن كان هذا له وجه صحيح فصيح كما في قول الله تعالى: الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ
[الرعد:9] ولم يقل المتعالي. فقال: (الثيب الزاني) لأن الثيب إذا زنا فحكمه الرجم حتى الموت، وهذا إجماع أهل العلم أن الثيب إذا زنا رجم حتى الموت، ولا تصح الشفاعة هنا بأنه يدفع الدية، لأن الزنا ليس فيه دية، أما في القتل والجرح فإنه يجوز أن ننزل من القصاص إلى الدية؛ لأننا لا زلنا في حد الشرع وحكم الشرع، أما في الزنا فإن الشرع لم يشرع أكثر ولا أقل من الرجم للثيب، والثيب هو كل من نكح، والنكاح بمعنى البناء، سواء طلق أو لم يطلق، فلو أن شخصاً تزوج امرأة وبنا بها ثم طلقها يقال عنه ثيب، ويعتبر ثيباً حتى وإن وقع منه الزنا في وقت لم تكن تحته زوجة، المهم أنه باشر النساء بنكاح صحيح، ولذلك هذه المباشرة هي الموجبة للرجم، أما عدم المباشرة فهي الموجبة للجلد أو التغريب على اختلاف بين أهل العلم.
ولذلك إذا عقد إنسان عقد نكاح ولم يبن ثم زنا. أي بغير المعقود عليها؛ لأن المعقود عليها لا يسمى زنا بل هي زوجته وإن كان لا ينبغي له إتيان هذه المرأة، فهذا أمر مخل بالمروءة والأدب، ومناقض ومناهز لأعراف المجتمعات الإسلامية. فإذا زنا العاقد بغير المعقود عليها فإنه يجب عليه الجلد، لأنه لم يبن بهذه المرأة المعقود عليه.
قال: [(والنفس بالنفس)]. يعني: من قتل يقتل، النفس بالنفس، ويستثنى منها: نفس الكافر، والمرتد، والمحارب؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (لا يقتل مسلم بكافر). وهذا المذهب الذي رجحناه من أقوال أهل العلم في الدرس الماضي.
قال: [(والتارك لدينه المفارق للجماعة)]. التارك لدينه. أي: المرتد. أما المفارق للجماعة فهذا يمكن أن يكون المقصود به هم البغاة.
وقوله: (المفارق للجماعة) ليست للتوكيد، فالتارك لدينه تعني المرتد، وأما المفارق للجماعة فإن مذهب الجماهير أن المفارق هو من فارق جماعة المسلمين، واتخذ طريقاً ليقطع الطريق، والخلاف قائم بين العلماء في (التارك لدينه المفارق للجماعة) هل هما بمعنى واحد ينطبق على عدة أعيان؟ أو أنهما عين واحد؟
ولو اطلعت على كلام الإمام النووي لوجدت الخلاف، لكن الخلاف عند البخاري في هذه المسألة واسع جداً.
والتارك لدينه في حقيقة الأمر هو مفارق للجماعة، فلا يمكن أن يكون واحداً من المسلمين قولاً واحداً. لكن قيل: المفارق للجماعة هم البغاة. وقيل هو: الصائل إذا بغى. يعني: هو الصائل أي الظالم إذا اتخذ طريقاً مهجوراً وقطع الطريق. وقيل: بل هو قاطع الطريق خاصة. وقيل: هو الباغي الذي تميز؛ بخلاف الباغي في المصر والحي لكنه لم يخرج عن عموم جماعة المسلمين، فالبغاة المميزون كالخوارج مثلاً، فإنهم تميزوا وتحيزوا واتخذوا لهم مصراً وأعلنوا الحرب على الإمام، فحينئذ وجب على الإمام أن يقاتلهم لا لأنهم كفار وإنما لأنهم فارقوا الإمام وبغوا عليه.
حدثنا أحمد بن حنبل ومحمد بن مثنى واللفظ لـأحمد قالا: حدثنا عبد الرحمن بن مهدي عن سفيان عن الأعمش عن عبد الله بن مرة عن مسروق عن عبد الله بن مسعود قال: قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (والذي لا إله غيره لا يحل دم رجل مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله إلا ثلاثة نفر: التارك الإسلام - يعني: المرتد - المفارق للجماعة ، والثيب الزاني، والنفس بالنفس) قال الأعمش : فحدثت به إبراهيم -يعني النخعي- فحدثني عن الأسود -يعني ابن يزيد النخعي- عن عائشة بمثله].
فهذا الحديث ثابت من طريق عبد الله بن مسعود ومن طريق عائشة.
قال: [وحدثني حجاج بن الشاعر والقاسم بن زكريا قالا: حدثنا عبيد الله بن موسى عن شيبان -وهو ابن عبد الرحمن النحوي- عن الأعمش بالإسنادين جميعاً نحو حديث سفيان ولم يذكرا في الحديث قوله: (والذي لا إله غيره)].
(وقد يستدل به أصحاب أبي حنيفة في قولهم: يقتل المسلم بالذمي). لأن الآية عامة، (النفس بالنفس)، والكافر نفس، فلو أن مسلماً قتل كافراً قتل المسلم بهذا الكافر، لأن المسلم نفس والكافر نفس، والله تعالى يقول: أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ
[المائدة:45] فأخذوا الآية على عمومها.
(أما جمهور العلماء فعلى خلاف ذلك). وقالوا: هذه الآية مخصصة بقوله عليه الصلاة والسلام: (لا يقتل المسلم بكافر) .
(قال العلماء: ويتناول أيضاً كل خارج عن الجماعة ببدعة، أو بغي، وغيرها، وكذا الخوارج). لأن الخوارج الذين خرجوا على علي بن أبي طالب بغاة، والباغي ليس كافراً، ولذلك لما سئل علي بن أبي طالب : أهؤلاء كفاراً أم ماذا؟ مع أنهم تميزوا وقاتلوا علياً وهو الإمام، فقال: من الكفر فروا. يعني: ليسوا كفاراً، مع أن عملهم يعتبر خروجاً عن الإمام الحق، ومع هذا لم يكفرهم الإمام.
كذلك ما وقع من الذين خرجوا على عثمان بن عفان حتى قتلوه، وهذا في دفع الصائل كذلك، يعني هذه الأحكام فيما يتعلق بـعلي بن أبي طالب وعثمان بن عفان وغيرهما ممن وقع عليهم الظلم والبغي والصيالة، كانوا يدعون إلى عدم المقاتلة حتى لا يظن الظان أن المقاتلة إنما كانت بسبب الردة والكفر؛ لأن الباغي ليس كافراً.
ثم سئل علي رضي الله عنه عن الخوارج: إذاً فمن هم؟ قال: هم إخواننا بالأمس بغوا علينا اليوم. والله تعالى يقول: وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ
[الحجرات:9] ماذا حدث بينهم ؟
اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا
[الحجرات:9]، فسمى الله تعالى الطائفتين مؤمنتين، كما قال الله تعالى:
فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ
[البقرة:178]، ولم يقل: من قاتله، أو من القاتل الكافر، وإنما قال:
فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ
[البقرة:178]. فأثبت له أخوة الإيمان، وهذا يدل على أن مرتكب الكبيرة ليس كافراً بكبيرته، وإن كانت من أعظم الكبائر.
أما ما جاء عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال: ليس لقاتل المؤمن عمداً توبة. فقد ثبت رجوعه عن ذلك، وإن لم يثبت فلا عبرة بخلافه لمجموع الصحابة رضي الله عنهم؛ لأن هذه المسألة -أي: الحكم على القاتل بالكفر- مسألة يردها الكتاب والسنة، كما تردها السنة العملية للصحابة ومن بعدهم إلى يومنا هذا أن القاتل ليس كافراً وإنما ارتكب جرماً عظيماً جداً، وهو على خطر بين يدي الله عز وجل إن شاء عذبه وإن شاء غفر له، وإن أقيم عليه الحد فالحد كفارته؛ لأن الحدود كفارات لأهلها، وإن تاب منها تاب الله عز وجل عليه، والله أعلم.
أما قوله عليه الصلاة والسلام: (سباب المسلم فسوق وقتاله كفر)؛ فالسب فسق، لكنه لا يخرج به من الملة، كما أن قتال المؤمن أو قتال المسلم كذلك كفر وهو عند الإطلاق كفر عملي، ما لم يستحله مع قيام الحجة عليه، فإذا استحله مع قيام الحجة عليه وأن هذا مما حرمه الله، فأقدم على القتل وهو يعلن أن هذا دمه حلال بغير بينة ولا حجة فلا شك أنه يكفر بذلك ويخرج من الملة، لا لعين القتل، وإنما لكونه أحل ما حرمه الله.
قال: (قوله: (التارك لدينه المفارق للجماعة) هو عام في كل مرتد عن الإسلام بأي ردة كانت فيجب قتله إن لم يرجع إلى الإسلام. قال العلماء: ويتناول أيضاً كل خارج عن الجماعة ببدعة، أو بغي، وغيرهما، وكذا الخوارج.
واعلم أن هذا عام يخص منه الصائل، الذي هو المفارق للجماعة، فيباح قتله في الدفع). كما قلنا في الباب قبل الماضي أن الصائل إذا لم يندفع إلا بالقتل قتلناه، لا لكونه مرتداً وإنما لكونه لا يدفع إلا بهذه الوسيلة، فيباح قتله في الدفع. قال: (وقد يجاب عن هذا بأنه داخل في المفارق للجماعة) ليس لأنه مفارق للإسلام، وإنما هو مفارق للجماعة.
(أو يكون المراد لا يحل تعمد قتله قصداً إلا في هذه الثلاث). يعني: لا يحل قتل المؤمن عمداً إلا في هذه المسائل الثلاث، والله تعالى أعلم.
وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.
الجواب: الكفر الاعتقادي موطنه القلب. أما الكفر العملي إما أن يكون باللسان أو بعمل الجوارح، حتى وإن أعلن خلاف ما يعتقد. يعني: لو أن واحداً سب دين الله عز وجل، أو سب الرسول صلى الله عليه وسلم. وتحققت فيه الشروط من العقل، والقدرة، وغير ذلك، وانتفت عنه الموانع. أي: موانع الإكراه، والجهل وغير ذلك، مع أن هذه المسائل لا يعذر فيها الإنسان بجهله فسب الله وسب الدين وغير ذلك ليس فيها إعذار، فهذا الإنسان يكفر ويخرج عن الملة؛ لأنه ارتد ردة قولية، وهو كفر اعتقادي، وهو في الوقت نفسه كفر عملي، لأنه باشره باللسان.
أما إذا جاء رجل بكتاب الله عز وجل ووطأه بقدمه، وهو بالغ، عاقل، راشد، ليس مجنوناً، ولا سفيهاً، ولا مكرهاً، وهو يقول: أشهد أن هذا هو كلام الله عز وجل المنزل من فوق سبع سماوات على محمد عليه الصلاة والسلام بواسطة جبريل عليه السلام، وأنا أومن بذلك إيماناً جازماً، ومع هذا هو مستمر في وطئ المصحف وتقطيعه، وتمزيقه، وإلقائه في المزابل، فإنه يكفر. فهذا كفر عملي وإن كان يصرح بخلاف ذلك، وهذا الكفر العملي يخرجه عن الملة.
الجواب: بلا شك أن هذا لا يكفر، وإن كان كذلك فقد دخل في خطر عظيم جداً، لأنه أقسم بغير الله عز وجل، والنبي عليه الصلاة والسلام يقول: (من أقسم بغير الله فليقل: لا إله إلا الله) فدل على أن هذا كفارة ذلك. وقال عليه الصلاة والسلام: (من أقسم بغير الله فقد كفر أو أشرك) وهذا الكلام قد استوعبناه بحثاً في كتاب الأيمان، فلا داعي للإطالة فيه.
أو قال الإنسان: أكون بريئاً من دين الإسلام لو أني فعلت كذا، أو لو ثبت علي كذا. فلا شك أنه لا يقصد الخروج من الملة وإنما قصد نفي التهمة عنه، أو قصد أن يحمل فلاناً على فعل كذا أو ترك كذا فإن بر قسمه فلا شك أنه على خطير عظيم جداً ولا يعود لذلك. وإن حنث فلا شك أنه يلزمه كفارة اليمين مع بقاء الخطر الأول. والله تعالى أعلم.
الجواب: كان عبد الله بن عمر يفعل ذلك حقيقة، إذا مدحه إنسان تناول كفاً من حصى وألقاه في وجه المادح، وإن كان مذهب جماهير الصحابة وغيرهم من علماء الأمة بحثو الوجه بالتراب هو الزجر الشديد للمادحين، وإثبات أن هذا الأمر لا ينبغي للمسلم أن يقدم عليه، فالحديث محمول على الزجر الشديد، ولكن بعض أهل العلم كالظاهرية ذهبوا إلى وجوب إلقاء التراب في وجوه المداحين.
الجواب: بلا شك أن الشباب الذين يفعلون ذلك أو يأتون بشيء خارج عن عادة الخلق وهي المعروفة بالخوارق، ينظر إلى عمل هذا الذي جرت على يديه الخارقة؛ فإن كان من أهل الإيمان والتقوى فالمعلوم أن هذه كرامة من الله عز وجل، وأما إذا كان غير ذلك فهو استدراج من الشيطان، ولذلك قال شيخ الإسلام ابن تيمية : إذا رأيتم عمل العامل خارق للعادة فلا تحكموا عليه حتى تنظروا إلى عمله، وهذا الفارق بين عباد الرحمن وأولياء الشيطان، وقد ذكر الفروق بينهما شيخ الإسلام ابن تيمية في كتابه: (الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان) فيرجع إليه.
أما الأمر الثاني: هل للساحر توبة؟
فالجواب: نعم، السحر وإن كان ضرباً من ضروب الكفر والردة، إلا أن الساحر لو تاب لتاب الله عز وجل عليه، ولا يزال باب التوبة مفتوحاً حتى تطلع الشمس من مغربها.
الجواب: على أية حال هذا ليس حديثاً من الأصل، وإنما هي حكاية تروى عن أبي حنيفة ، أنه كان له جار يهودي إلى آخر القصة، أما أنه حديث مرفوع فليس عندي به علم، وأغلب الظن أنه حديث موضوع.
الجواب: على أية حال هذه الأحاديث وغيرها مما جاء في فضل سورة (يس) لا يصح منها حديث واحد، وليس معنى ذلك أن (يس) ليس لها فضل، فهي كلام الله عز وجل، ولكننا نتكلم عن مبدأ ثبوت هذه الروايات، فهذه الروايات غير ثابتة، ويدور أمرها بين الضعف الشديد والوضع، وليس منها حديث ضعيف فحسب بل الأحاديث الواردة في هذا وفي كثير من السور أحاديث كلها موضوعة وضعها رجل يسمى بـنوح الجامع ، وهو المعروف بأنه جمع كل شيء إلا الصدق، أخذ القرآن من أوله إلى آخره مائة وأربع عشرة سورة، ووضع في كل سورة حديثاً، فأنبته نفسه بعد ذلك، فقال: ليس معقولاً أن أضع في سورة البقرة حديثاً واحداً، وسورة الإخلاص حديثاً واحداً، فوضع في البقرة ما يناسبها حجماً، فوضع ثمانية وعشرين حديثاً، وبعد ذلك ثمانية عشر، وبعد ذلك خمسة عشر، من أجل قسمة العدل بين أحجام السور.
الجواب: في الحقيقة -أخي الكريم- وإن جوز بعض أهل العلم العمل في البنوك في الأماكن التي لا تباشر الربا ولا تعانيه، فلا يبقى إلا أن نقول: إن هذا العمل مشبوه. يعني: إن لم يكن هناك جزم بحرمته فلا أقل من الحكم بأنه عمل فيه شبهة عظيمة، فإذا كنت على البر -يعني لم تعمل- فابحث عن عمل آخر، والله تعالى ييسر لك أمرك، (ومن ترك شيئاً لله عوضه الله خيراً منه) .
الجواب: أنا ما ترددت في مسألة من مسائل الشرع كترددي في تكفير تارك الصلاة؛ لأن خلاف أهل العلم في هذه القضية خلاف قوي جداً، فأحياناً يترجح لدي تكفيره، وأحياناً يترجح لدي عدم تكفيره، وأنا الآن يترجح لدي التكفير.
الجواب: لا يصلح توجيه هذا السؤال على هذا النحو ابتداءً؛ لأن قوله عليه الصلاة والسلام في حديث الفرق: (كلها في النار إلا واحدة) لا يلزم منه الخلود الأبدي السرمدي، كما أنهم إذا دخلوا النار فلا يلزم أن يكون دخولهم في النار بسبب كفرهم، وإلا فالنبي عليه الصلاة والسلام في أول الحديث قال: (وستفترق أمتي إلى ثلاث وسبعين)، فهل أحد من أمته كافر؟
فالذي يترجح لدي أن هؤلاء يدخلون النار بسبب بدعتهم، كما أنه لا يمكن النظر إلى هذه الفرق باعتبار أنها مبتدعة بدعة لا تخرجها من الملة، أو أنهم جميعاً خارجون عن الملة؛ لأن هذا وذاك يصطدمان مع حديث النبي عليه الصلاة والسلام، إنما ينظر لكل أحد مبتدع على حدة، ويفرق بين الداعية إلى البدعة العالم بها وبين عامة الناس ورعاع الناس، فيفرق مثلاً بين عامة الخوارج وبين زعماء وقادة الخوارج، ومنظري الخوارج، كما أنه كذلك لا يمكن أن يستوي قط رجل يمشي في شوارع إيران لا يعرف الخمسة من الطمسة وهو شيعي، وبين الخميني، لا يستويان قط، فهذا عالم وذاك جاهل نشأ في بيئة متشيعة فتشيع بتشيعها، لأنه ليس من أهل العلم، ولا يطلب العلم، إنما هو من رعاع هذه الفرقة، وقد تكلمنا عن الخوارج والشيعة وغيرهما من الفرق فنقيس هذا الكلام عليهما.
الجواب: كتاب الروح محل نزاع، والنزاع فيه يدور بين أمرين:
الأول: إما أن ابن القيم كتب كتاب الروح قبل أن يتأهل لذلك. يعني: في مبدأ طلبه، وفي أيام صغره وشبابه. الثاني: وإما أن هذا الكتاب منسوب له زوراً، ليس كتابه؛ لأنه فعلاً فيه كلام لا يتوافق قط مع علم ابن القيم ، ولا مع منهجية ابن القيم في الدعوة، والعلم، والعمل.
الجواب: سميت الحوادث بهذا الاسم لأنها حدثت بعد أن لم يكن لها وجود. يعني: الحادث هو من لم يكن موجوداً فوجد، أما أن تكون هناك حوادث لا أول لها -يعني أزلية- فهذا لا يمكن أن ينسب إلا إلى الله تعالى؛ لأن الله تعالى هو الأول بلا ابتداء، وليس حدثاً سبحانه وتعالى، وهذا الكلام كلام تمقته النفس والقلب جداً ولكني أردت أن أبين سؤال الأخ الكريم.
الجواب: المسح على العمامة أمر مشروع، إن كانت العمامة تعم جميع الرأس فيمسح عليها، ولا يلزم فيها ما يلزم المسح على الخف؛ لأن المرء إذا مسح على العمامة جاز له أن يخلعها حتى وإن نقض وضوءه ثم لبسها لا يلزمه أن يخلعها حين الوضوء فيمسح رأسه، بل إذا توضأ وأدرك الوضوء وهو لابس عمامته فلا بأس أن يمسح عليها حتى وإن كان نزعها وقت نقضه لهذا الوضوء خلافاً للخف أو للجورب، وإذا كانت العمامة في بعض الرأس دون البعض فإنما يمسح على الشعر المكشوف -أي: في مقدم رأسه- ويتم المسح على بقية العمامة، والرجل والمرأة في ذلك سواء.
الجواب: فعل ذلك النبي عليه الصلاة والسلام أحياناً، أما غالب أحيانه عليه الصلاة والسلام أنه ما كان يرفع يديه إلا بعد الانتقال، يعني ما كان يرفع يديه إلا بعد أن يقف، كما جاء عند الحاكم وابن خزيمة وغيرهما (أن النبي عليه الصلاة والسلام كان إذا قام إلى الثالثة كبر ورفع يديه، وكان يرفع يديه وهو جالس أحياناً قبل أن يقوم) فكلمة أحياناً تدل على أن الأصل أنه ما كان يرفع يديه إلا بعد القيام.
الجواب: المسألة هذه فيها نزاع على اعتبار شذوذ زيادة زائدة بن قدامة من عدمها، فمن قال بزيادة زائدة بن قدامة مع أنها في صحيح مسلم وشذوذها يقول: السنة في الأصبع أو السبابة اليمنى الإشارة فقط. ومن قال بأن هذه الزيادة زيادة ثقة قال بجواز رفع السبابة والخفض، فتكون اليد على الفخذ والإشارة بها على المذهب الأول وهو الذي يترجح لدي، أما بعض الناس فيتكلف هيئات أخرى للإشارة بالسبابة لا دليل عليها. وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر