يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ
[آل عمران:102].
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا
[الأحزاب:70-71].
وبعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
أما بعد:
حقاً إننا في زمن الفتن، وقد اقتربت الساعة كما أخبر ربنا تبارك وتعالى، وإن الفتن لتمر على القلب أو على العبد، فإذا مرت عليه فتنة قال: هذه مهلكتي؛ لأنه لم يمر عليه أعظم منها، فيتصور أنها القاصمة والمهلكة، فإذا بفتنة أعظم منها تمر عليه، فيتبين أن السابقة ليست بشيء.
وإن الفتن اليوم تحيط بالمسلمين من كل جانب، وتحدق عليهم من كل واد، والفتنة إذا كانت من خارج الصف كان أمرها أهون من أن تأتي من ابن من أبناء الدعوة.
وهذا الكتاب راج وشاع بين الشباب، وعم خطره جداً، وربما يكون مؤلفه مأجوراً عند الله، وربما يكون قد سطره وكتبه ابتغاء رضوان الله عز وجل، وأنا لا أعرف المؤلف، ولا يضره أني لا أعرفه، فكل الناس خير مني، فربما يزن عند الله أمثالي، ولو أن الدنيا امتلأت بمثلي فربما يكون أثقل في الميزان منا جميعاً، ولكن الحق أحق أن يتبع، فإن هذا الكتاب على قدر ما فيه من سقطات -وقد يعد الكثير منها من باب سبق القلم أو سوء الفهم- ولكن الذي يعنيني بالدرجة الأولى أنه قد خالف جمهور أهل السنة والجماعة في تحديد اليوم الذي تقوم فيه الساعة.
وإنما عبرت بـ(اليوم) لعظم ما جاء من تحديد في هذا الكتاب، وإلا فقد استخدم المؤلف لغة الأرقام، وهي لغة غير معهودة في دين الله عز وجل حتى يحدد به العام الذي تقوم فيه الساعة.
فقد قال: ربما قامت الساعة عام 1430هـ يزيد قليلاً أو ينقص قليلاً.
وأما قوله: (يزيد قليلاً أو ينقص قليلاً) فربما ذلك من شدة حيائه، ولولا ذلك لقال: إن القيامة ستقوم في اليوم كذا في الساعة كذا.
وهذا التحديد كان أولى به أن يحدده إبراهيم عليه السلام أو موسى عليه السلام أو عيسى عليه السلام أو نبينا محمد عليه الصلاة والسلام، وكان أولى بهذا التحديد منه أبو بكر الصديق رضي الله عنه أو عمر أو عثمان أو علي أو العشرة المبشرون، أو أبو حنيفة أو مالك أو الشافعي أو ابن حنبل . فكل هؤلاء أولى بالتحديد منه.
فهل يتصور أن هذا الحق قد خفي على الأمة أجمع وظهر له؟! الجواب: لا، وما استخدم علماؤنا من السلف لغة الأرقام قط فيما هو دون ذلك وأهون وأقل.
وهذا الأمر -وهو تحديد الساعة- أمر خطير جداً وعظيم، ولقد اغتر بعض الشباب بهذا الكتاب حيث حثهم على العمل الصالح مخافة أن تدركهم الساعة، فبعض الشباب الذين لا ينظرون في دقائق الأمور ولا في بواطنها اغتروا بذلك، وقالوا: إن أعظم ثمرة لهذا الكتاب أنه أوقف الشباب على شفير جهنم، مما زادهم عملاً وطاعة لله عز وجل.
ورداً على هذه الشبهة أقول: إن العبد إذا لم تقرعه النصوص لم تقرعه أقوال الرجال، فإذا سمعت قول الله عز وجل: اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ
[القمر:1] فلم تنصدع؛ فاعلم أنه سرعان ما يزول انصداعك بأقوال الرجال وأهل العلم، فإن المرء الذي يسير على هدى من الله يكفيه أن يسمع (قال الله) و(قال رسول الله صلى الله عليه وسلم)، وهذا كاف في إثبات الاستقامة والسير على الهدي والصراط المستقيم، وأما أن يسمع من الرجال كلاماً لا يوافق الكتاب والسنة ولا سلف الأمة ويقول: إنه كلام جميل ومفيد؛ فنقول: إن الجمال كل الجمال والصلاح كل الصلاح في كتاب الله عز وجل، وفي سنة النبي عليه الصلاة والسلام، فلابد من أن نرجع في كل مسألة خاصة من مسائل الخلاف والنزاع إلى كتاب الله وسنة الرسول عليه الصلاة والسلام بفهم سلف الأمة، وهذا الكلام قد حفظه الكثير، ولكن قل من يعقله ويفهمه، وأقل منهم من يعمل به. فهذه الكلمات والجمل قد حفظناها ورددناها على ألسنتنا، وربما لم تتجاوز هذه الأقوال ألسنتنا.
الأمر الأول: بيان معتقد أهل السنة والجماعة في هذه المسألة، وفي أمثالها من أمور الغيب.
والأمر الثاني: الرد على ما نراه قد جانب الصواب في الكتاب.
وهذا الأمر يحتاج إلى محاضرتين أو أكثر، وقد سلكت مسلكاً في ردودي على مثل هذه الأمور التي أراها مخالفة للشرع: أن أبين أولاً شرع الله في المسألة؛ حتى إذا قرأ الطالب أو السامع الكتاب يكون قد عرف الحق في هذه المسألة مقروناً بالأدلة الشرعية.
ومحاضرتنا اليوم -بإذن الله تعالى- تتعلق تعلقاً قوياً بمعتقد أهل السنة والجماعة في مسائل الغيب عموماً، وخصوصاً في مسألة قيام الساعة، وقصدي بيان الحق في هذه المسألة، ولم أقصد الرد على كتاب بعينه أو شيخ بعينه، وإنما قصدت أن أبلغك أمر الله تبارك وتعالى بألا تخوض في أمر الغيب، إلا إذا كان عندك منه دليل أو سنة قوية.
وسنذكر الأدلة في هذا الباب من كتاب الله تبارك وتعالى، ومن سنة النبي صلى الله عليه وسلم، وليس قصدنا الاستقصاء، وإنما قصدنا إيراد آيات وأحاديث كثيرة التي تدل على معتقد أهل السنة والجماعة في مثل هذا الأمر.
ثم إيراد أقوال الشراح والمفسرين في تفسير الآيات وشرح الأحاديث، وأجملنا القول في ذلك مخافة الملل.
وفي المحاضرة الثانية -بإذن الله تعالى- يلزمك إحضار الكتاب معك إن كان عندك، حتى نقول: إنه قال كذا، في صفحة كذا والصواب كذا، فهو قد اعتمد على أدلة أيضاً فهم أنها تفيد ما ذهب إليه من تحديد نهاية العالم وفناء الدنيا في عام كذا زاد أو قل، وهو معذور في هذا الفهم، ولكنه قد جانب الصواب، ولابد من بيان الأمرين.
ونقول: إنه معذور ومرفوع عنه الإثم بإذن الله، وأخطأ، ولكن يلزمنا أن نبين الصواب.
قال تعالى في سورة الأنعام -الآية رقم (50)-: قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ
[الأنعام:50]. وهذه الآية نفس معناها في سورة هود الآية رقم: (31).
قال الحافظ ابن كثير : أي: لا أقول لكم: إني أعلم الغيب، وإنما ذاك من علم الله عز وجل، ولا أطلع منه إلا على ما أطلعني عليه ربي.
وهذا يدل على أن الغيب غيبان: غيب استأثر الله تبارك وتعالى بعلمه، وغيب أطلع عليه بعض خلقه من رسله، وليس أحد غير الرسل قد أطلعه الله تبارك وتعالى على بعض الغيب، وهذا يرد على المتصوفة الذين وصلوا -بزعمهم- إلى درجة التجلي، فهم يقولون: المراتب عندنا ثلاث: مرتبة التخلية، ثم مرتبة التحلية، ثم مرتبة التجلية.
فأما التخلية فهي التخلية من كل إثم وذنب ومعصية.
وأما التحلية عندهم -وهي كذلك عند أهل السنة- فأن يتحلى بمكارم الأخلاق والفضائل والطاعات.
وأما المرحلة الثالثة فهي التي اختلف فيها الصوفية عن بقية الأمة، وهذه المرحلة هي الكفر بعينه، وهي مرحلة التجلية، فقالوا: إذا تخلص العبد من معاصيه وتحلى بطاعة ربه تجلى الإله فيه وتجلى هو في الإله حتى يصير هو الله والله هو!
كما قال ذلك ابن عربي .
قال الحافظ ابن كثير : أي: لا أقول لكم إني أعلم الغيب، وإنما ذلك من علم الله عز وجل، ولا أطلع منه إلا على ما أطلعني عليه ربي، فالجنة غيب، والنار غيب، والصراط غيب، والحساب والجزاء والمآل، ولكن هذا الغيب أطلع الله عز وجل نبيه عليه، وأخبره بعلم منه، وأخبرنا النبي عليه الصلاة والسلام بهذا، فلابد أن نؤمن بما أخبرنا به من جهة الغيب على سبيل الإجمال والتفصيل، فإذا أخبرنا بغيب وحجب عنا التفصيل وجب علينا أن نؤمن بهذا الغيب على الإجمال، كما أوجب علينا أن نؤمن بأن الله تبارك وتعالى يقيم الساعة، ولم يأمرنا بالبحث عنها، ولذلك سئل النبي عليه الصلاة والسلام عدة أسئلة من البدو والأعراب وغيرهم عن الساعة فما كان عنده من جواب.
وفي سورة الأنعام في الآية (59) قال تعالى: وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ
[الأنعام:59]، فقال:
وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ
[الأنعام:59] ولم يقل: ومفاتح الغيب عنده، فقدم الظرف ليدل على التخصيص، أي: أن الله تبارك وتعالى مختص ومستأثر بعلم الغيب، ولم يطلع أحداً ولا حتى الرسل عليه، فقال:
وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ
[الأنعام:59].
وقال الصرصري رحمه الله:
فلا يخفى عليه الذر إما تراءى للنواظر أو توارى
فهو الذي يعلم الغيب والشهادة، فكل ما غاب عنك الله يعلمه، كما تعلم أنت ما تشاهده وما تراه.
وقال العلامة الشنقيطي في (أضواء البيان) الجزء الثاني (صفحة 174): بين الله تعالى المراد بمفاتيح الغيب بقوله: إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ
[لقمان:34].
فعلم الغيب الذي استأثر الله تبارك وتعالى به إنما هو ما ذكر في هذه الخمس، وبذلك جاء الخبر عند البخاري وأحمد من حديث ابن عمر مرفوعاً، وهذه الآية الكريمة تدل على أن الغيب لا يعلمه إلا الله، وهو كذلك؛ لأن الخلق لا يعلمون إلا ما علمهم خالقهم جل وعلا.
وأخرج مسلم من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: (من زعم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يخبر بما يكون في غد فقد أعظم على الله الفرية). أي: قد افترى على الله افتراء عظيماً من زعم أن النبي عليه الصلاة والسلام يعلم ما سيكون في الغد القريب، وهذا يدل على نفي علم الغيب عن النبي عليه الصلاة والسلام إلا ما أطلعه ربه عليه، فكيف بادعائه علم الساعة؟
وقال الله تعالى: قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ
[النمل:65].
ولما رميت عائشة رضي الله عنها بالإفك والمعصية والزنا لم يعلم النبي صلى الله عليه وسلم أهي بريئة أم لا، حتى أخبره الله تبارك وتعالى وبرأها من فوق سبع سماوات، ولو كان يعلم الغيب لعلم ما وقع؛ لأنه قد وقع هذا الافتراء والإفك بالأمس، فلو كان يعلم الغيب لعلم ما وقع بالأمس، ولكنه لم يعلم حتى أخبره المولى عز وجل.
ولما جاءوا لوطاً لم يعلم أيضاً أنهم ملائكة، ولذلك سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ
[هود:77]؛ لأنه خاف عليهم من أن يفعل بهم قومه الفاحشة، حتى قالوا له:
إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ
[هود:81].
ويعقوب عليه السلام ابيضت عيناه من الحزن على يوسف وهو في مصر، ولم يدر خبره حتى أظهر له الله خبر يوسف، ولو كان يعلم الغيب لعلم خبر ولده.
وسليمان عليه السلام مع أن الله سخر له الشياطين والريح لم يكن يدري عن أهل مأرب قوم بلقيس شيئاً حتى جاءه الهدهد وقال له: أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ
[النمل:22].
ونوح عليه السلام ما كان يدري أن ابنه الذي غرق ليس من أهله، أي: ليس من أهل السعادة والنجاة، وقال: رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ
[هود:45]، ولم يعلم حقيقة الأمر حتى أخبره الله بقوله:
يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ
[هود:46].
والملائكة المقربون عليهم السلام لما قال الله لهم: أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاءِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ * قَالُوا سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا
[البقرة:31-32]، أي: لا اطلاع لنا على الغيب إلا ما أطلعتنا عليه.
فظهر بهذا أن أعلم المخلوقات -وهم الرسل والملائكة- لا يعلمون من الغيب إلا ما علمهم الله تعالى، وهو تعالى يطلع رسله على ما يشاء من غيبه، كما قال تعالى: وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ
[آل عمران:179].
وقال تعالى: عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا * إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ
[الجن:26-27].
قال الذهبي رحمه الله في كتاب (الكبائر): والساحر لابد أن يكفر، كما قال الله تعالى: وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ
[البقرة:102]، وما للشيطان الملعون غرض من تعليمه الإنسان السحر إلا ليقع في الشرك.
فترى خلقاً كثيراً من الضلال يدخلون في السحر ويظنونه حراماً فقط، وما يشعرون أنه الكفر، فيدخلون في تعليم السيمياء، وهي: إيجاد أحداث وخيالات ليس لها وجود في الحس، ويعملون بها وهي محض السحر، وفي عقد المرء عن زوجته وهو ما يسمى عند العامة بالربط، ربط الرجل عن امرأته وعدم استطاعته إتيانها، وهو سحر كذلك، كما أنهم يدخلون في عقد محبة الزوج لامرأته وفي بغضها وبغضه، وأشباه ذلك بكلمات مجهولة وتمتمات وحروف وكلمات متقطعة أكثرها شرك وضلال. انتهى كلام الإمام الذهبي .
أي: أن الله تبارك وتعالى لا يطلع على غيبه أحداً إلا من الرسل، وليس كل الرسل كذلك، بدليل قوله تعالى: وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ
[آل عمران:179].
وقال: عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا * إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ
[الجن:26-27].
فمن قائل: المراد بالمفاتح: خزائن الرزق، وقال قائل: هي الآجال وأوقات انقضائها، وقيل: هي عواقب الأعمار وخواتيم الأعمال.
ثم قال القرطبي : من قال: إنه ينزل الغيث غداً وجزم فهو كافر.
أي أن من قال: إن الله ينزل الغيث غداً وجزم بذلك فهو كافر، سواء أخبر عنه بأمارة ادعاها أم لا.
وكذلك من قال: إنه يعلم ما في الرحم فهو كافر، فإن لم يجزم لم يكفر، إلا أنه يستحب له ألا يتكلم به، فإن فيه تشبهاً بكلمة أهل الكفر، وجهلاً بلطيف حكمته.
قال ابن العربي المالكي رحمه الله: وكذلك قول الطبيب: إذا كان الثدي الأيمن مسود الحلمة فهو ذكر، وإن كان في الثدي الأيسر فهو أنثى، وإن كانت المرأة تجد الجنب الأيمن أثقل فالولد أنثى، وادعى ذلك عادة لا واجباً في الخلقة لم يكفر ولم يفسق، ولكن لا يستحب له الدخول في مثل هذا، ولو أن الطبيب ادعى ذلك من باب العادة، أو أن المرأة ادعت ذلك من باب العادة، وقد خلقت هذه المرأة في مجتمع كله يقول: لو كان الجنب الأيمن ثقيلاً بالحمل فإن الولد أنثى، ولو كان خفيفاً فإن الولد ذكر، فلو قالت ذلك من باب العادة لم تكفر ولم تفسق، أما لو قالت ذلك من باب الواجب الشرعي وأنه لابد أن يكون ذكراً، وليس عندها برهان ولا دليل في ذلك؛ فإنها تكفر.
وأما من ادعى الكسب في مستقبل العمر فهو كافر، أو أخبر عن الكوائن المجملة أو المفصلة في أن تكون قبل أن تكون فلا ريبة في كفره أيضاً.
قال القرطبي: وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ
أي: وقت مؤقت،
فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ
أي: الوقت المعلوم عند الله عز وجل.
وهذا هو الشاهد الذي أردت سوقه، إذا جاء أجلهم المعلوم عند الله، لا عند الخلق ولا عند الرسل ولا عند الملائكة المقربين؛ فإن آجال الأمم وأعمارها إنما هو عند الله تبارك وتعالى، وهو من العلم الذي استأثر تبارك وتعالى به، فلم يطلع عليه أحداً من خلقه، ولا حتى الرسل ولا الملائكة المقربين.
ومثل هذه الآية قد جاء معناها في آيات كثيرة، كما في سورة النحل في الآية (61): وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ
[النحل:61].
وقال تعالى في سورة يونس في الآيتين (48-49): وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ
[يونس:48] استبعاداً وجحوداً وإنكاراً،
قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلا نَفْعًا
[يونس:49]، أي: كيف أعلم الساعة، ولو كنت أملك لنفسي الضر والنفع لأخذت حذري من قيام الساعة؟
لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلا نَفْعًا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ
[يونس:49].
وفي سورة سبأ في الآيتين (29-30) قال الله تعالى: وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ * قُلْ لَكُمْ مِيعَادُ يَوْمٍ لا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ سَاعَةً وَلا تَسْتَقْدِمُونَ
[سبأ:29-30]، فالله تبارك وتعالى قد نفى أن تتقدم أمة أجلها أو تتأخر عنه ولو ساعة، وذكر الساعة لأن أقل الوقت يذكر، وهذا يدل أن لكل أمة أجلاً محتوماً معلوماً، ولكنه معلوم عند الله تبارك وتعالى لا عند الخلق.
وقد رجح الحافظ ابن كثير: أن هذه الآية نزلت في مشركي مكة، وكانوا يسألون عن وقت الساعة استبعاداً لوقوعها وتكذيباً بوجودها، كما قال تعالى: وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ
[يونس:48].
وقال الله تعالى: يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِهَا
[الشورى:18]، أي: يقولون: متى هي؟ فإن كنت صادقاً فائت بها،
وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا
[الشورى:18]، أي: خائفون وجلون موقنون بأنها قادمة لا محالة،
وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ أَلا إِنَّ الَّذِينَ يُمَارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلالٍ بَعِيدٍ
[الشورى:18]، والذين يمارون في الساعة ويقولون بتحديد أوقاتها وأوصافها فإنما هم في ضلال بعيد.
وقوله: يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا
[الأعراف:187] أي: متى وقتها وآخر مدة الدنيا الذي هو أول وقت الساعة؟
قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي
[الأعراف:187].
ولا شك أن النبي عليه الصلاة والسلام هو أعلم الخلق بالله وبآياته، ومع هذا فإن الله تبارك وتعالى أمره أن يرد علم الساعة على جهة الخصوص إليه سبحانه، فهو يقول له: يا محمد! مثلك مثل بقية الخلق لا تعلم عن وقت تعيينها وتحديدها شيئاً، قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ
[الأعراف:187]. فأمره سبحانه إذا سئل عن الساعة وعن وقتها أن يرد علمها إلى الله تعالى؛ فهو سبحانه الذي يعلم أمرها ووقتها على جهة التحديد، ولا يعلم ذلك غيره، ولهذا قال:
ثَقُلَتْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ
[الأعراف:187]. قال قتادة : ثقل علمها على أهل السماوات والأرض. واختار هذا المعنى ابن جرير ، ورجحه على غيره من التأويل.
وقال السدي عليه رحمة الله: خفيت في السماوات والأرض -يعني: خفيت على الملائكة كما خفيت على الرسل- فلا يعلم قيامها حين تقوم ملك مقرب ولا نبي مرسل. ولذلك قال: لا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً
[الأعراف:187]، ولفظ:
لا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً
ورد في غير ما آية من كتاب الله عز وجل؛ ليدل على أن الأمر إنما يأتي فجأة، ولا يسبقها إلا أمارات وعلامات تدل عليها، وأما أن يطلع أحد أو يظن ظناً أن الساعة آتية بعد عدة أعوام فلا شك أن هذا من باب الرجم بالغيب،
لا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً
أي: فجأة، فتبغتهم بقيامها وتأتيهم على غفلة.
وقوله: يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا
[الأعراف:187]، أي: كأنك عالم بها من كثرة ما استحفيت من السؤال عنها، وكأنك لكثرة ما استحفيت من السؤال عنها جاءك علمها، وهذا أرجح الأقوال. فنفى الله عز وجل أن يكون النبي عليه الصلاة والسلام عنده شيء من علم الساعة، أي: من علم قيامها ووقتها وتعيينها وتحديدها، فقد أخفى الله علمها على خلقه، ولهذا قال:
قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ
[الأعراف:187]، أي: ليس عند أحد من الخلق.
وقوله: قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ
[الأعراف:188]، أي: لا أملك لنفسي جلب خير ولا دفع ضر ولا شر إلا ما ملكني ربي وأمكنني فيه، فكيف أعرف علم وقت الساعة؟!
وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ
[الأعراف:188]، والمعنى: لو كنت أعلم الغيب لأجبت عن كل ما أسأل عنه، ولو كنت أعلم الغيب لأخذت حذري وما مسني السوء، كما أفاده القرطبي في التفسير.
وقال تعالى في سورة يونس في الآية رقم (20) رداً على مشركي مكة في طلبهم الآيات على سبيل التعجيز لرسول الله صلى الله عليه وسلم: فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ
[يونس:20].
وقال في نفس السورة في الآية 77: وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ
[النحل:77].
قال الحافظ ابن كثير: يخبر تعالى عن كمال علمه وقدرته على الأشياء في علمه غيب السماوات والأرض واختصاصه بعلم الغيب, فلا اطلاع لأحد على ذلك إلا أن يطلعه الله تبارك وتعالى على ما يشاء, وفي قدرته التامة التي لا تخالف ولا تمانع, وأنه إذا أراد شيئاً فإنما يقول له: كن فيكون, كما قال: وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ
[القمر:50]، أي: فيكون ما يريد كطرف العين, بل وأسبق من ذلك؛ لأنه إذا قال للشيء: كن كان في لحظة، بل في أقل من طرفة العين.
وقال القرطبي : إن الساعة لما كانت آتية ولابد جعلت من القرب كلمح البصر.
وقيل: المعنى: هو عند الله كذلك لا عند المخلوقين، بدليل قوله تعالى: إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا * وَنَرَاهُ قَرِيبًا
[المعارج:6-7]، أي: إنهم يرون وقت وقوع الساعة وقيامها بعيداً، ولكن الله تبارك وتعالى يراها قريبة.
وقال العلامة الشنقيطي في (أضواء البيان) في الجزء الثالث (صفحة 296): أظهر الأقوال فيها -أي: في هذه الآية- أن الله إذا أراد الإتيان بها فهو قادر على أن يأتي بها في أسرع من لمح البصر؛ لأنه يقول للشيء: (كن) فيكون.
وقال تعالى في سورة طه في الآيتين (15-16): إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا
[طه:15]، ومعنى ذلك: أنه لم يخفها، والمستقر في الأذهان والقلوب عند أهل السنة أن الله قد أخفاها حقاً.
قال الحافظ ابن كثير : إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ
، أي: قائمة لا محالة وكائنة لابد منها، وأما قوله:
أَكَادُ أُخْفِيهَا
قال الضحاك عن ابن عباس: إنه كان يقرؤها هكذا: (أكاد أخفيها من نفسي), كأن الله تبارك وتعالى يقول: ولو شئت أن أخفيها عن نفسي لفعلت؛ لشدة استئثاره بعلم الغيب فيها، وعدم إطلاعه أحداً من خلقه عليها، ولذلك قال ابن عباس : (أكاد أخفيها من نفسي)؛ لأنها لا تخفى من نفس الله أبداً.
وفي رواية عنه: لا أطلع عليها أحداً غيري.
وقال السدي: ليس أحد من أهل السماوات والأرض، أي: من الملائكة والرسل والخلق جميعاً- إلا قد أخفى الله عنه علم الساعة. وثبت غير ذلك بنحوه عن ابن مسعود وقتادة وابن جبير، وغيرهم، حتى جاء في مصحف أبي وابن مسعود: أكاد أخفيها من نفسي، فكيف يعلمها مخلوق؟!
وقال تعالى في سورة الأنبياء في الآية الأولى: اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ
[الأنبياء:1]، وغيرها من الآيات التي تدل على قرب الساعة، وهذه الآيات نزلت على الصحابة، ولا شك أن الصحابة كانوا يظنون أن الساعة يمكن أن تقوم في زمانهم وفي قرنهم، ولذلك لما حدث النبي عليه الصلاة والسلام أصحابه بظهور المسيح الدجال كأنهم يرونه رأي العين، فانزعجوا غاية الانزعاج، وقالوا: (يا رسول الله! فماذا نفعل إذا ظهر؟ قال: إن ظهر وأنا فيكم فأنا حجيجه) و(إن) هنا للشك، بخلاف (إذا) فهي للتحقيق، قال: (إن ظهر وأنا فيكم فأنا حجيجه)، أي: أنا له، وهذا يدل على أن النبي عليه الصلاة والسلام لم يعلم أن المسيح الدجال سيظهر في زمانه أو لا، فكيف بالساعة؟! فقال: (إن ظهر وأنا فيكم فأنا حجيجه، قالوا: وإن ظهر بعدك يا رسول الله؟! قال: فاقرءوا عليه فواتح سورة الكهف).
قال الله عز وجل: اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ
[الأنبياء:1]، والمعنى: قرب الوقت الذي يحاسبون فيه على أعمالهم، ومن علم اقتراب الساعة قصر أمله، وطابت نفسه بالتوبة، ولم يركن إلى الدنيا، وكل ما هو آت قريب، والموت لا محالة آت، وموت كل إنسان هو قيام ساعته، والقيامة أيضاً قريبة بالإضافة إلى ما مضى من الزمان، فما بقي من الدنيا أقل مما مضى، أفاده القرطبي في التفسير.
وقال في التذكرة صفحة (709): فأما وقتها فلا يعلمه إلا الله.
وقال تعالى في سورة الأنبياء في الآية (97): وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ
[الأنبياء:97]، قال المفسرون بالإجماع: هو يوم القيامة، وهذا الكلام من قبل ألف وأربعمائة سنة، ولا يزال المسلمون يتلون قوله:
وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ
، وسيأتي ذلك الوعد الحق، ويصير عياناً محسوساً، وأما وقته فلا يعلمه إلا الله تبارك وتعالى.
وقال تعالى في سورة النمل في الآية (65): قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ
[النمل:65]، ومعنى (أيان): متى، أي: وما يشعرون متى يبعثون.
وقال في سورة لقمان في الآية رقم (34): إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ
[لقمان:34]، وهذه هي التي ورد تسميتها في الأحاديث بالمفاتيح الخمسة التي لا يعلمها إلا الله.
وقال تعالى في سورة الأحزاب في الآية رقم 63: يَسْأَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ
[الأحزاب:63]، فالأسئلة عن الساعة كثيرة ومتكررة، وموقف النبي عليه الصلاة والسلام منها واحد: لا يعلمها إلا الله. أفما يكفينا ويسعنا ما وسع النبي صلى الله عليه وسلم ووسع الصحابة والسلف في أننا إذا سئلنا عن الساعة وما يتعلق بها قلنا: إنما علمها عند الله؟!
يَسْأَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا
[الأحزاب:63]، فهو تعالى يخبر رسوله عليه الصلاة والسلام أنه لا علم له بالساعة، وأرشده إن سأله الناس عن ذلك أن يرد علمها إلى الله عز وجل، كما قال تعالى في سورة الأعراف وهي مكية وسورة الأحزاب وهي مدنية، وهذا يدل على أن النبي عليه الصلاة والسلام ثبت على رد علمها إلى الله في الفترة المكية وفي الفترة المدنية حتى مات على ذلك، واستمر في رد علمها إلى الذي يقيمها، ولكن الله تبارك وتعالى أخبره أنها قريبة بقوله:
وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا
، وكما قال تعالى:
اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ
[القمر:1].
وقال الله تبارك وتعالى: اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ
[الأنبياء:1].
وقال: أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ
[النحل:1]، وغيرها من الآيات.
فقال الله تبارك وتعالى راداً عليهم: قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عَالِمِ الْغَيْبِ لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ
[سبأ:3].
وقال راداً على المنكرين للبعث والحساب في الآيتين (29-30) من نفس السورة: وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ * قُلْ لَكُمْ مِيعَادُ يَوْمٍ لا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ سَاعَةً وَلا تَسْتَقْدِمُونَ
[سبأ:29-31].
وقال تعالى في سورة الشورى في الآيتين (17-18): اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ * يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِهَا وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ أَلا إِنَّ الَّذِينَ يُمَارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلالٍ بَعِيدٍ
[الشورى:17-18]، وهذه الآية فيها ترغيب وترهيب، كما أن فيها تزهيداً في الدنيا، وأما الكافرون الجاحدون فيقولون:
مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ
[يونس:48] على سبيل التعنت والتكذيب، وأما المؤمنون فهم خائفون وجلون من وقوعها، ويعلمون أنها الحق من ربهم، وأنها كائنة لا محالة، فهم مستعدون لها، عاملون من أجلها، عالمون أن الذي خلق السماوات والأرض قادر على إحياء الموتى بطريق الأولى والأحرى، كما قال تعالى:
وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ
[الروم:27]، وقال تعالى في سورة الزخرف في الآية (61):
وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلا تَمْتَرُنَّ بِهَا وَاتَّبِعُونِ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ
[الزخرف:61]، وفي الآية (66):
هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ
[الزخرف:66]، وفي الآية (85) قال تعالى:
وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ
[الزخرف:85].
وفي سورة محمد صلى الله عليه وسلم قال الله تعالى في الآية (18): فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا
[محمد:18]، أي: علاماتها وأماراتها. فالساعة لها أشراط صغرى وأشراط كبرى، ولم يظهر شيء من الأشراط الكبرى بعد. والله تبارك وتعالى قال:
فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا
، فعبر عنها بصيغة الماضي؛ ليدل على أن هذه الأشراط لما كانت متحققة وواقعة لا محالة فكأنها وقعت بالفعل؛ ليدل على اقتراب الساعة.
ومن أشراط الساعة بعثة النبي صلى الله عليه وسلم، قال صلى الله عليه وسلم: (بعثت أنا والساعة كهاتين، وضم السبابة والوسطى). وليس بعد بعثة النبي عليه الصلاة والسلام حدث أعظم من قيام الساعة، ولذلك قال: (بعثت أنا والساعة)، أي: ليس شيء بعدي إلا قيام الساعة، فليس هناك نبي يرسل ولا كتاب ينزل، بل قيام الساعة، فليس هناك حدث بعدي إلا هذا: فَأَنَّى لَهُمْ إِذَا جَاءَتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ
[محمد:18].
فمن أشراط الساعة بعثة نبينا محمد، فهو أمارة اقترابها ودنوها، فهو خاتم الرسل الذي أقام الله به الحجة على العالمين وأكمل به الدين، وقد جاء في أسمائه عليه الصلاة والسلام أنه نبي التوبة، ونبي الملحمة، وهو الحاشر الذي يحشر الناس على قدميه، وهو العاقب الذي ليس بعده نبي.
وفي سورة الجن في الآيات (25-28) قال تعالى: قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ مَا تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَدًا
[الجن:25]، فالنبي عليه الصلاة والسلام يتبرأ من علم الغيب ومنه علم غيب الساعة، وأنه لا يدري أقريب ما وعدهم الله عز وجل به من قيام الساعة أم أن الله تبارك وتعالى جعل لذلك أمداً بعيداً أو قصيراً أو قريباً، فقال:
قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ مَا تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَدًا * عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا * إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا * لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا
[الجن:25-28].
وفي سورة الملك في الآيات (25-26) قال تعالى: وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ * قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ
[الملك:25-26]. فمهمة النبي عليه الصلاة والسلام البشارة والنذارة، فهو يبشرنا وينذرنا ويخوفنا.
وفي سورة النازعات في الآيات (42-46) قال تعالى: يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا
[النازعات:42]، أي: متى وقتها؟ ومتى منتهى الدنيا الذي هو بداية قيام الساعة؟!
يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا * فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا * إِلَى رَبِّكَ مُنتَهَاهَا
[النازعات:24-44]، أي: إن الذي يعلم مرساها ومنتهاها هو الله تبارك وتعالى؛
إِنَّمَا أَنْتَ مُنذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا
[النازعات:45]،وأما الذي لا يؤمن بها فأنت لا تخيفه يا محمد!
كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا
[النازعات:46].
هذه بعض الآيات التي وردت في ذكر الساعة وأنها غيب، وأنها لابد واقعة، ولا محالة آتية، وأنها لا تأتي إلا بغتة، وأن علمها عند الله عز وجل قد استأثر به، وأن النبي صلى الله عليه وسلم إنما ترك الجواب؛ لأنه لا يعلمه ولم يطلعه الله تبارك وتعالى على علم الساعة، كما أخفى عليه بعض علم الغيب الذي هو دون علم الساعة.
وقد اختلف العلماء في تعيين المقصود من قوله: (كهاتين. وأشار بالسبابة والوسطى)، والسبابة هي التي يسبح بها، وهي التي تلي الإبهام، وأما الوسطى فهي الأصبع الوسط، ولا شك أن الأصبع الأوسط أطول من بقية الأصابع، فقال البعض: المقصود منه الإشارة إلى قرب المجاورة بين البعثة وقيام الساعة، فإن الساعة إنما تأتي مقاربة ومجاورة لبعثة النبي عليه الصلاة والسلام، وقال البعض الآخر: إنما المقصود من الإشارة تفاوت ما بينهما طولاً، أي: في مدة الزمن، فليس بين بعثة النبي عليه الصلاة والسلام وبين قيام الساعة إلا كما بين السبابة والوسطى من فرق في الطول، ولا شك أنه قصير، وهذا يدل على اقتراب الساعة كذلك، واختار هذا الطيبي والبيضاوي .
وقيل: المقصود: ليس بينه وبينها نبي ولا واسطة؛ إذ ليس بعد بعثة النبي عليه الصلاة والسلام بعثة ولا رسالة، وكل من ادعى الرسالة أو البعثة أو إنزال الكتب فهو كاذب، وقد حذرنا النبي عليه الصلاة والسلام وأخبرنا أنه سيكون قبل قيام الساعة ثلاثون كذاباً، كلهم يدعي أنه نبي.
الحديث الثالث: أخرج مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (تقوم الساعة والرجل يحلب ناقته -أي: لقحته- فما يصل الإناء إلى فيه حتى تقوم الساعة وهو على تلك الحال، والرجلان يتبايعان الثوب فما يتبايعانه حتى تقوم الساعة، والرجل يلوط حوضه فما يصدر -أي: فما ينصرف- حتى تقوم الساعة).
الحديث الرابع: (إن الساعة تهيج بالناس أو تهيج بالناس، والرجل يصلح حوضه -أي: يطينه- والرجل يسقي ماشيته، والرجل يقيم سلعته في السوق ويخفض ميزانه ويرفعه)، يعني: تقوم الساعة بغتة والناس في شغل، والناس قد شغلتهم دنياهم وأعمالهم.
وفي هذا الحديث بيان أن الساعة استأثر بعلمها الله عز وجل، وأخفى ذلك عن الملائكة المقربين وعلى الأنبياء والمرسلين، فقال: (ما المسئول عنها بأعلم من السائل، قال: فأخبرني عن أماراتها؟ قال: أن تلد المرأة ربتها، وأن ترى الحفاة العراة العالة رعاء الشاء يتطاولون في النبيان)، فذكر بعض أشراطها وعلاماتها، ولم يذكر جميع الأشراط والعلامات، وإنما ذكر علامات عظيمة وهي من صغائر العلامات، وأما كبرى العلامات فقد ذكرت كل علامة منها في غير ما آية وحديث.
يقول الحافظ ابن كثير : وفي هذا الحديث أنه عليه الصلاة والسلام كان إذا سئل عن هذا الذي لا يحتاجون إلى علمه أرشدهم إلى ما هو الأهم في حقهم، وهو الاستعداد لوقوع ذلك، والتهيؤ له قبل وقوعه ونزوله وإن لم يعرفوا تعيين وقته.
وبمعناه كذلك ما أخرجه الإمام مسلم من حديث أنس : (أن رجلاً سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الساعة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن يعش هذا الغلام فعسى ألا يدركه الهرم حتى تقوم الساعة) ولهذا الحديث طرق متعددة في الصحيحين، وفيها أن هذا الغلام إنما كان من البادية، وقيل: إنه من أزد شنوءة، وقيل: إنه غلام المغيرة بن شعبة ، وذهب بعض أهل العلم إلى تعدد الحوادث، وذهب الحافظ ابن حجر عليه رحمة الله إلى أنه لا مانع أن يكون الغلام أصله من البادية وقد خدم المغيرة بن شعبة وهو من أزد شنوءة، فجمع بين الروايات المختلفة بهذا الجمع، فجزاه الله خيراً.
والإطلاق في هذه الطرق محمول على التقييد الوارد في حديث عائشة : (قامت عليكم ساعتكم)، أي: ساعة المخاطبين.
ويؤيده كذلك ما أخرجه مسلم من حديث جابر رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول قبل موته بشهر: (تسألوني عن الساعة وإنما علمها عند الله؟!) وهذا سؤال استنكار. (تسألوني عن الساعة وإنما علمها عند الله؟ وأقسم بالله ما على ظهر الأرض اليوم من نفس منفوسة تأتي عليها مائة سنة). فبعض أهل العلم نظر إلى ظاهر هذا الحديث وقال بقرب الساعة اعتماداً عليه، وليس الأمر كذلك، وهذا الحديث إنما تكلم فيه النبي صلى الله عليه وسلم على قرنه، وأنه منذ ذلك اليوم لا يعيش أحد مائة عام، فلابد أن يفنى جميع أهل القرن ممن عاش في ذلك اليوم وفي تلك اللحظة، وأنه لن يعيش منهم أحد قرناً كاملاً بعد ذلك اليوم، ولذلك قال: (وأقسم بالله ما على ظهر الأرض اليوم من نفس منفوسة تأتي عليها مائة سنة).
وقد فهم ذلك عبد الله بن عمر ، فقد روى الشيخان أنه قال: إنما أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم انخرام ذلك القرن.
فهذا النبي الأمي سيد البشر وخاتم الرسل قد أمره الله أن يرد علم وقت الساعة إليه إذا سئل عنها، فقال: قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ
[الأعراف:187]، وأنه لا يعلم الغيب المستقبل ولا اطلاع له على شيء من ذلك إلا بما أطلعه الله عليه.
قال الحافظ ابن كثير: وأكابر أولو العزم من الرسل ليس عندهم علم عن الساعة على وجه التعيين، وإنما تكلموا جميعاً عن أشراطها وعلاماتها.
وفي حديث ابن مسعود رضي الله عنه قال: (أوتي نبيكم صلى الله عليه وسلم مفاتيح كل شيء غير خمس، ثم تلا الآية). وسند ابن مسعود حسن.
وهذا يدل على أن علم الساعة على جهة الخصوص مما استأثر الله تبارك وتعالى به، فلا يجوز الخوض فيه.
قال ابن كثير: إسناد هذا الحديث صحيح. وقال مجاهد: هي مفاتيح الغيب التي قال الله تعالى: وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ
[الأنعام:59]. وقال قتادة: هي أشياء استأثر الله بهن فلم يطلع عليهن ملكاً مقرباً ولا نبياً مرسلاً، فلا يدري أحد من الناس متى تقوم الساعة.
وهذه هي عقيدتنا، فلا يدري أحد من الناس متى تقوم الساعة، في أي سنة أو في أي شهر أو ليل أو نهار، ولا يعلم أحد متى ينزل الغيث ليلاً أو نهاراً، ولا يعلم أحد ما في الأرحام أذكر أم أنثى، أحمر أو أسود، أو هو شقي أم سعيد، أو خير هو أم شر، ولا تدري يا بن آدم متى تموت، فلعلك الميت غداً، أو المصاب غداً، وليس أحد من الناس يدري مضجعه من الأرض أفي بحر أم بر، أو في سهل أو جبل، وقد جاء في الحديث الصحيح: (إذا أراد الله قبض عبد بأرض جعل له إليها حاجة). وفي رواية ابن ماجه بزيادة: (فإذا بلغ أقصى أثره توفاه، فتقول الأرض يوم القيامة: يا رب! هذا ما استودعتني).
والدعاوى الفارغة التي تظهر في الصحف والمجلات ويروجها الفساق والملاحدة والزنادقة ما بين الحين والحين من أن الساعة ستقوم يوم 17 فبراير أو يوم الإثنين القادم أو يوم السبت بعد القادم، قد عاصرناها، ومصدرها بلاد الكفر، يروجونها ليشوشوا بها عقائد المسلمين، وليس لنا عذر في ترك التعلم، وخاصة ما أوجب الله تبارك وتعالى علينا تعلمه من أمر الغيب الذي تعلق بالساعة، فنؤمن أن الساعة آتية لا ريب فيها، وأنها تقوم في يوم جمعة، وتقوم في النهار دون الليل؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (خير يوم طلعت عليه الشمس). واليوم يطلق في اللغة والاصطلاح على النهار دون الليل، فقال: (ولا تقوم الساعة إلا في يوم الجمعة). فهذا دليل على أن الساعة تقوم في يوم جمعة، وأما أي جمعة فهذا ما استأثر الله تبارك وتعالى به، وقد ورد في بعض الروايات والطرق: (إن كل شيء يشفق في صبيحة الجمعة حتى ممسى اليوم من أن تقوم الساعة في ذلك اليوم إلا الإنس والجن)، وفي رواية ضعيفة عند أبي نعيم : (لا تقوم الساعة إلا نهاراً)، ويغني عن هذه الرواية الضعيفة ما أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة : (خير يوم طلعت عليه الشمس)، فاليوم كاف في إثبات أن القيامة إنما تقوم في النهار دون الليل.
قال شيخ الإسلام ابن القيم حول سؤال من سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا رسول الله! ما أقصى ما نحن بالغون ومنتهون إليه): لا جواب لهذه المسألة؛ لأنه إن أراد أقصى مدة الدنيا وانتهائها فلا يعلمه إلا الله.
وإن أراد أقصى ما نحن منتهون إليه بعد دخول الجنة والنار فلا تعلم نفس أقصى ما تنتهي إليه من ذلك، وإن كنا ننتهي إلى نعيم وجحيم، ولهذا لم يجبه النبي صلى الله عليه وسلم على سؤاله.
هذا ما أردت بيانه في عقيدة أهل السنة والجماعة فيما يتعلق بالغيب الذي استأثر الله تبارك وتعالى بعلمه، وأكتفي بذكر ما أوردت من أدلة خشية الملل والطول، وما ذكرت فيه غنية وكفاية.
لا يجوز لأحد أن يخوض في شيء من علم الغيب الذي استأثر الله تبارك وتعالى به، لا بالقول ولا بالفعل ولا بالتصنيف وتشويش عقائد المسلمين، وإنما عليه أن يقف، ويسعه ما وسع النبي صلى الله عليه وسلم ووسع الرسل جميعاً وعباد الله العلماء والصالحين منهم، ويتوقف ويقول: آمنت بالله ورسله.
نسأل الله تبارك وتعالى لنا ولكم التوفيق والهداية والسداد.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر