إسلام ويب

شرح الفتوى الحموية [10]للشيخ : عبد الرحيم السلمي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • أصول الإسلام وقواعده العظام ليست مجال نقد أو مناقشة، لأنها مأخوذة من الكتاب والسنة، وما ضل من ضل من الفرق إلا لتركهم للكتاب والسنة إلى غيرهما، كأهل التعطيل فإن أصل مقالتهم مأخوذة من تلاميذ اليهود والمشركين والضلال الصابئين.

    1.   

    شبهات نفاة الصفات مأخوذة عن طواغيت الشرك والصابئة

    تحدثنا في الدرس الماضي عن شبهات المعطلة أهل الكلام كالمعتزلة والأشاعرة والماتريدية في نفي الصفات، وقلنا: إن مجموع هذه الشبه تدور على أربع شبه:

    الشبهة الأولى: شبهة تعدد القدماء، وقد بينا معناها والرد عليها، وهي شبهة المعتزلة.

    والشبهة الثانية: شبهة التركيب، وهي شبهة المعتزلة والأشاعرة والماتريدية، وهي شبهة عامة أهل الكلام.

    وقد بينا حقيقة هذه الشبهة، وأنه بسببها نفى أهل الكلام صفات الله سبحانه وتعالى الذاتية، وبينا الرد عليها.

    والشبهة الثالثة: شبهة منع حلول الحوادث بذات الله سبحانه وتعالى، وقلنا: إن هذه الشبهة هي شبهة عامة المتكلمين أيضاً، وبينا الرد عليها.

    والشبهة الرابعة: شبهة التشبيه والتمثيل، وكذلك بينا حقيقتها والرد عليها.

    وبعد بيان هذه الشبه بين شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أصل مقالة التعطيل ونفي الصفات، وأرخ لبدايتها، كما أنه بين جذورها العقدية والفكرية، وبين رحمه الله تعالى المنطلق الذي كان سبباً في نفي هؤلاء المعطلة لصفات الله سبحانه وتعالى.

    وذكر رموز أهل التعطيل في عصور مختلفة ومتنوعة، وسيكون حديثنا هنا بإذن الله تعالى حول هذا الموضوع.

    وقبل أن نبدأ في هذا الموضوع أحب أن نقرأ أولاً كلام شيخ الإسلام بشكل مختصر حول شبهات هؤلاء ضمن كلامه حول اللوازم التي تلزم المعطلة في نفيهم لصفات الله سبحانه وتعالى، ثم نتحدث مباشرة عن هذا الموضوع الذي سيكون محور حديثنا بإذن الله تعالى.

    قال المصنف رحمه الله تعالى: [ثم عامة هذه الشبهات التي يسمونها دلائل، إنما تقلدوا أكثرها عن طواغيت من طواغيت المشركين أو الصابئين، أو بعض ورثتهم الذين أمروا أن يكفروا بهم، مثل: فلان! وفلان! أو عن من قال كقولهم لتشابه قلوبهم، فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [النساء:65]، كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ [البقرة:213].

    ولازم هذه المقالة: أن لا يكون الكتاب هدى للناس، ولا بياناً ولا شفاء لما في الصدور، ولا نوراً ولا مرداً عند التنازع؛ لأنا نعلم بالاضطرار أن ما يقول هؤلاء المتكلفون إنه الحق الذي يجب اعتقاده لم يدل عليه الكتاب والسنة لا نصاً ولا ظاهراً، وإنما غاية المتحذلق أن يستنتج هذا من قوله: وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ [الإخلاص:4]، هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا [مريم:65]].

    سبق أن بينا السبب في كون هؤلاء لا يعتمدون أصلاً في تلقيهم لقضايا العقائد على النصوص الشرعية، فإنهم يؤصلون العقائد أولاً بالأدلة العقلية حسب ظنهم، وهي ليست أدلة عقلية، وإنما هي جهالات وشبهات، ولهذا عندما التزموا هذه الأدلة العقلية فيما ظنوا ترتب على هذه الأدلة العقلية أنهم نفوا صفات الله سبحانه وتعالى، بعضها أو كلها.

    فهؤلاء أصلاً من حيث المنطلق لم يكن المنطلق الأساسي في نفي الصفات والنصوص آيات أشكلت عليهم وفهموها على غير وجهها، وإنما انطلقوا في بداية أمرهم من تأصيل فاسد، وهو أن العقل هو المصدر الأساسي في تلقي العقائد، فلما أسسوا هذه العقائد على العقل بعيداً عن الشرع، ترتب على هذا أنهم استخدموا أدلة عقلية كانت مؤثرة على النصوص الشرعية؛ لأنهم عندما استخدموا هذه الأدلة العقلية قال لهم الناس: أنتم بدليلكم العقلي هذا خالفتم النص الفلاني، والنص الفلاني، وخالفتم الصفة الفلانية.

    فقاموا بتأويل هذه النصوص الشرعية حتى توافق القواطع العقلية، ولهذا إذا ناقشوا شخصاً لا يعترف بغير الكتاب والسنة ويقول: الكتاب والسنة فيها أدلة عقلية كافية، يقول هؤلاء: إن نفي الصفات موجود ضمن الكتاب والسنة، ويأتون بالعمومات مثل: وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ [الإخلاص:4].

    وكأن الإنسان إذا أثبت الصفات لزم منه أن يكون مشبهاً لله عز وجل بخلقه، وهذا فاسد فإنه وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ [الإخلاص:4]، ولَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى:11]، ولا سمي له، ومع هذا هو موصوف بالصفات، ولا تعارض بين إثباتنا للصفات ونفي المشابهة عن المخلوقات، فالله أثبت لنفسه الصفات ونفى المشابهة عن المخلوقات.

    فهذه الصفات التي نثبتها لله لا تشبه صفات المخلوقين؛ لأن الخالق لا يشبه المخلوقين بأي وجه من الوجوه، ولهذا ظن هؤلاء أن مجرد إثبات الصفات يلزم منه مشابهة المخلوقات، ولهذا اضطربوا اضطراباً كبيراً في هذه القضية وفي هذه المسألة، فقال لهم الناس: إن أنتم التزمتم بأن الإنسان إذا أثبت أي صفة لله عز وجل تشبه في الاسم صفة المخلوق، فيلزم من هذا تشبيه الله بالمخلوق، فأنتم حينئذ لا ينبغي أن تثبتوا أي صفة من الصفات.

    فالأشاعرة الذين يثبتون سبع صفات نقول: كيف تنفون الصفات الذاتية والصفات الفعلية بحجة مشابهة المخلوقات، وتثبتون صفات المعاني التي هي: الحياة، والعلم، والإرادة، والسمع، والبصر. فهذه يلزم منها مشابهة المخلوقات أيضاً؟ قالوا: هذه السبع لا يلزم منها مشابهة المخلوقات.

    قلنا: وكذلك بقية الصفات التي أثبتها الله لنفسه لا يلزم منها أيضاً مشابهة المخلوقات.

    قالوا: هذه الصفات التي أنتم أثبتموها من الكتاب والسنة فيها معنى الأبعاض والأجزاء، وكل جزء يحتاج إلى الآخر. وهذه هي شبهة التركيب التي جاءوا بها.

    قلنا: لا يلزم هذا، فإن كلمة أبعاض وأجزاء مصطلحات جديدة حادثة أنتم جئتم بها، فإن كنتم تقصدون أن الله عز وجل مركب منها، ركبه غيره، فهذا باطل، فإن الله عز وجل أعظم من ذلك وهو متقدس عن ذلك سبحانه وتعالى.

    وإن قلتم: إن المعنى أن اليدين صفة، والعينين صفة، والقدم صفة وهذه أبعاض؛ لأن هذه صفة وهذه صفة وهذه صفة، قلنا: فإن العلم صفة، والحياة صفة أخرى، والسمع صفة ثالثة، والبصر صفة رابعة، ولم تلتزموا أنه بإثباتكم لهذه السبع الصفات يلزم منها التركيب.

    ولهذا فهم متناقضون تناقضاً كبيراً جداً في هذه القضية، تجد أن أحدهم يقول: لا نشبه الله بخلقه، مع أنه يثبت صفة من الصفات، فنحن نأتي ونناقش في صفة الوجود، فالمعتزلي لا يثبت عامة الصفات لله عز وجل، نقول: هل تثبت لله صفة الوجود؟ قال: نعم، هو موجود؛ لأنه إذا قال: ليس بموجود صار ملحداً، فإذا قال: هو موجود، نقول: والعبد موجود أيضاً، فيلزمك أن وجود الله كوجود العبد، فهل له ذات وهو قائم بنفسه؟

    قال: نعم، له ذات وقائم بنفسه.

    قلنا: وكذلك العبد له ذات وقائم بنفسه، فأنت يلزمك بناءً على هذا أن ذات الله كذات العبد، وقيامه بنفسه كقيام العبد.

    قال: لا يلزمني هذا؛ لأن الله خالق والعبد مخلوق.

    قلنا: وكذلك عامة الصفات، فلماذا تأتي أيها المعتزلي وتأخذ جملة من الصفات وتثبتها وتنفي البقية، فإذا سئلت عن سبب النفي هنا قلت: مشابهة المخلوقات، فإذا قيل لك: وهذه الصفات التي تثبتها تشبه المخلوقات أيضاً؟ قلت: لا، هذا لا دليل عليه، ولا حجة فيه، قال: هذه الصفات التي أثبتها هي من الكمالات، وقلنا: وكذلك هذه لو كانت من علامات النقص ما أثبتها الله لنفسه.

    أصول الإسلام وقواعده العظام ليست مجال نقد أو مناقشة

    وبناءً على هذا يصبح أهل السنة هم أهل الحجة، وهكذا قال عنهم الرسول صلى الله عليه وسلم: (لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين)، يعني: ظاهرين بالحجة، وبالبرهان، وبالدليل العقلي، والنقل، وموافقة الكتاب والسنة دائماً، وفي كل حال ومع كل فرقة من فرق الضلال، وقد يكون لهم في بعض الأحيان سيف ودولة، وقد يكونون في بعض الأحيان أفراداً مبثوثين في العالم.

    وحينئذ نقول: إن أهل الحجة الصحيحة والمستقيمة هم أهل السنة والجماعة فقط ليس غيرهم، ونحن نؤمن بهذا عن علم ويقين، وهذا أمر لا يقبل الشك ولا يقبل الخلاف.

    وكثير من أصحاب الحوارات الذين يتكلمون عن الحوار، والذين يتكلمون عن التعددية في الآراء وفي الأفكار يقولون: كيف تجزم بأن رأيك هو الحق؟

    نقول: هذا ليس رأيي، هذا إجماع أجمع عليه المسلمون، وهذا الإجماع الذي أجمع عليه المسلمون هو مقتضى الكتاب والسنة، والكتاب والسنة هما الحق الذي ما عداه فهو الباطل كما قال الله عز وجل: فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ [يونس:32].

    قال: ينبغي أن تقول إن هذا رأيي، ويمكن أن يكون رأي غيري صواباً.

    نقول: هذا الكلام لو قلناه لكفرنا بالله عز وجل، فإذا جاءك من يناقشك في أصول الإسلام أو في قواعده الكلية، أو في مسائل الدين، أو في الرأي، والأفكار، والاجتهادات، لا يفرقون بين القضايا اليقينية الإجماعية المتفق عليها، والقضايا التي لا تقبل الجدل ولا تقبل الخلاف بأي وجه من الوجوه، وبين القضايا التي هي مجال آراء واجتهاد، فالقضايا التي هي مجال آراء واجتهاد مثل القضايا الحياتية اليومية، هذه تناقش فيها حتى تتعب، ولا يهمنا هذا، لأن الذي يهمنا هو أن أصول الإسلام وقواعده العظام ليست مجال نقد ولا مناقشة.

    نحن نعتقد أن هذه الأصول من أصول الإسلام لم تأت اعتباطاً، وإنما هي مبنية بناءً عقلياً يقينياً لا يقبل النقاش، قد يتوصل إليه أحد فيكون عالماً، وقد يجهله البعض فيكون غير عالم، لكن أن نجعلها مجالاً للنقاش والحوار هذا غير صحيح، ولا يمكن أن يصح أبداً بأي وجه من الوجوه.

    قال المؤلف رحمه الله: [وبالاضطرار يعلم كل عاقل أن من دل الخلق على أن الله ليس على العرش، ولا فوق السماوات ونحو ذلك بقوله: هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا [مريم:65]، لقد أبعد النجعة وهو إما ملغز أو مدلس لم يخاطبهم بلسان عربي مبين].

    أي: إذا قلنا: إن الله مستو على عرشه في العلو، فقال لنا شخص: لا، قلنا: ما هو الدليل؟ قال: هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا [مريم:65]، قلنا: وهل هذه الآية التي تتضمن أن الله لا سمي له، ولا كفؤ له، ولا مثيل له تدل على أنه ليس في العلو؟ الجواب: لا تدل على هذا، بل على العكس، تدل على أنه لتميزه سبحانه وتعالى، وأنه لا سمي له ولا كفؤ له فهو فوق العالم جميعاً، وأن هذه السماوات والأرض -كما قال النبي صلى الله عليه وسلم- هي عبارة عن حلقة ألقيت في فلاة بالنسبة للكرسي الذي هو موضع قدمي الرب، والكرسي كحلقة ألقيت في فلاة بالنسبة للعرش الذي استوى عليه الله سبحانه وتعالى، وحينئذ فهو فوق العالم بكل ما تدل عليه الأدلة من الكتاب والسنة، والعقل، والفطرة، بل فطرة الدواب كما ذكر ابن القيم ذلك في اجتماع الجيوش الإسلامية.

    قال رحمه الله: [ولازم هذه المقالة أن يكون ترك الناس بلا رسالة خيراً لهم في أصل دينهم؛ لأن مردهم قبل الرسالة وبعدها واحد، وإنما الرسالة زادتهم عمىً وضلالاً.

    يا سبحان الله! كيف لم يقل الرسول صلى الله عليه وسلم يوماً من الدهر، ولا أحد من سلف الأمة: هذه الآيات والأحاديث لا تعتقدوا ما دلت عليه، لكن اعتقدوا الذي تقتضيه مقاييسكم، أو اعتقدوا كذا! وكذا! فإنه الحق، وما خالف ظاهره فلا تعتقدوا ظاهره، وانظروا فيها، فما وافق قياس عقولكم فاعتقدوه، وما لا فتوقفوا فيه أو انفوه؟].

    افتراق الأمة وبيان الفرقة الناجية

    قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ثم الرسول صلى الله عليه وسلم قد أخبر بأن أمته ستفترق ثلاثة وسبعين فرقة، فقد علم ما سيكون، ثم قال: (إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا، كتاب الله)، وروي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال في صفة الفرقة الناجية: (هو من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي)].

    حديث الافتراق حديث مشهور مروي عن عدد كبير من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وهو حديث صحيح صححه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، وصححه أيضاً الشاطبي في الاعتصام، وصححه عدد كبير من أهل العلم كـالترمذي رحمه الله، والحاكم ، وابن حبان وغيرهم، وهو حديث صحيح ومشهور.

    وقد يوجد في بعض الأسانيد في بعض رواياته ضعف، لكن مجمل الروايات التي رويت عن مجموعة كبيرة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم تدل على أن هذا الحديث حديث صحيح لا شك فيه، وقد ضعف هذا الحديث ابن حزم الأندلسي رحمه الله تعالى، وابن الوزير في كتابه العواصم والقواصم، ولا حجة لهم في تضعيف هذا الحديث، وبالذات تضعيف ابن الوزير في العواصم والقواصم مبني على ذكر هذا في خطبة كتابه، عندما تحدث عن عظمة هذه الأمة ومكانتها ومنزلتها، فأشار إلى هذا الحديث الذي فهم منه أن عامة الأمة من الضالين المهددين بالهلاك إلا مجموعة بسيطة، وهذا خطأ، فإنه ليس مفهوم الحديث أن هذه الأمة عندما تفترق على ثلاث وسبعين فرقة وأن الواحدة منها هي الناجية أن أكثر الأمة من الضالين.

    فإن هذه الفرقة الواحدة هي في الحقيقة أكثر الأمة، والاثنتان والسبعون فرقة الأخرى هي عبارة عن أعداد إذا قيست بالنسبة لحجم الأمة بالكلية هي قليلة وضعيفة لا سيما في الصدر الأول، فإن الصحابة رضوان الله عليهم كانوا هم أهل السنة والجماعة، فلما ظهرت الفرق ظهرت أعداد بسيطة جداً وقليلة، مع أن لها أسماء، فالخوارج كان عددهم محدوداً، ومعطلة الصفات كانوا أربعةً أو خمسةً منتشرين في البلاد الإسلامية، ولهذا كان يتتبعهم الخلفاء ويقتلونهم كما سيأتي معنا.

    وهكذا الحال بالنسبة للمرجئة، وهكذا الحال بالنسبة للمعتزلة، ولهذا فإن كل فرقة خرجت عن السنة من حيث العدد ومن حيث الكم ومن حيث انتساب مجموعة كبيرة من الأمة إليها؛ هم عدد قليل لا يمثل عامة الأمة التي التزمت بالسنة والجماعة، ثم أصبحت هذه الفرق تزيد قليلاً.. قليلاً، وفي عصور الجهل الذي انتشر في الأزمان المتأخرة كثرت هذه الطوائف وصاروا عدداً كبيراً، لكن من كان من هذه الأمة على طريقة عامة أهل السنة ولم يختلط بالقبوريين ولا بالتصوف ولم يكن من عامتهم فإنه من أهل السنة، وهم عدد كثير من الناس ولله الحمد، لا سيما في هذه الأزمان ممن ولد على الفطرة، ولم يكن له ارتباط بفرقة من هذه الفرق بحيث يكون من عامتهم.

    ولهذا كما قلت: إن هذه الفرق في بدايتها وإن كانت من حيث العدد كثيرة -باعتبار أن أهل الحق فرقة واحدة- لكن هذه الفرقة هم عامة المسلمين، وهؤلاء فرق بسيطة مع الزمن أصبح لهم أعداد كثيرة، لكن أيضاً مع عامة المسلمين يبقون مهما كثرت أعدادهم ليسوا بالكثرة التي تغطي عامة المسلمين.

    وكثير ممن تحدث ودافع عن الأشاعرة تكلم وقال: إن خمسة وتسعين في المائة من الأمة على طريقة الأشاعرة، وهذا قول فاسد باطل، ودندن عليه بعض المتأخرين وقال: لماذا يتكلم على الأشاعرة بهذه الطريقة مع أن عامة الأمة أشاعرة؟ وهذا ليس صحيحاً أبداً؛ لأن عقيدة الأشاعرة عقيدة دقيقة كلامية لا يفقهها إلا الدارس، والدارسون المتخصصون في العقائد وفي علم الكلام والمشتغلون بذلك قلة، حتى لو أن عدداً كثير من الناس درسوا هذه المناهج في المتوسطة أو في الجامعة أو في غيرها، ينساها في بعض الأحيان، وحينئذ فالقول بأن أكثر الأمة على عقيدة الأشاعرة قول باطل؛ لأن الرجل الذي يبقى على فطرته إذا سألته أين الله؟ أجابك أنه في السماء مباشرة، وهذا نقد كبير جداً في عقيدة الأشاعرة الذين ينفون علو الله عز وجل على خلقه.

    وهكذا الحال في بقية صفات الله عز وجل، عندما تتحدث مع الإنسان المسلم الذي لم يختلط بهذه الشبهات، أو ربما درسها في بعض فترات حياته ونسيها إذا أجاب بفطرته سيجيبك بمقتضى الكتاب والسنة.

    وهذا لا يعني أن هذه الفرق ليست خطراً، بل هي خطر؛ لأنه عندما توجد هذه الفرق، وخاصة عندما تتبناها دول ستنشرها في الناس نشراً كبيراً من خلال المساجد، والخطباء الذين يتبنون هذه المذاهب، ومن خلال حلقات التعليم في المدارس مثلاً، ومناهج الجامعات؛ لأن الأجيال عندنا كلها تمر على التعليم.

    ولهذا فإن المخطط دنلوب الإنجليزي عندما جاء أيام الاستعمار الإنجليزي على مصر وضع خطة لمناهج التعليم، وتأثر بها الناس تأثيراً كبيراً؛ لأن الأجيال كلها تمر على التعليم، وحينئذ ستتأثر ولو بنوع من التأثر، فإذا دعم ذلك اهتمام من الشخص بهذه القضية، حينئذ ربما يكون هذا مؤثراً عليه في اعتقاده وتبنيه لعقائد هؤلاء.

    1.   

    أصل مقالة التعطيل وذكر رءوس أصحابها

    قال المؤلف رحمه الله: [فهلا قال: من تمسك بظاهر القرآن في باب الاعتقاد فهو ضال، وإنما الهدى رجوعكم إلى مقاييس عقولكم، وما يحدثه المتكلمون منكم بعد القرون الثلاثة؟ وإن كان قد نبغ أصلها في أواخر عصر التابعين.

    ثم أصل هذه المقالة -مقالة التعطيل للصفات- إنما هو مأخوذ عن تلامذة اليهود والمشركين، والضلال الصابئين، فإن أول من حفظ عنه أنه قال هذه المقالة في الإسلام هو الجعد بن درهم ، وأخذ عنه الجهم بن صفوان ، وأظهرها، فنسبت مقالة الجهمية إليه].

    ترجمة الجعد بن درهم

    أول من أظهر نفي الصفات هو الجعد بن درهم ، ولو أخذنا ترجمة الجعد بن درهم ، وتتبعنا كلام العلماء عليه، لوجدنا أن هذا الرجل ليس من أهل العلم، مع أنه نشأ في أماكن العلم وانتشار الحديث وانتشار السنة وظهورها.

    هذا الرجل لم يكن رجلاً عالماً مشهوراً، ولا إماماً، ولا داعية مصلحاً، وإنما هو رجل اشتغل بتتبع المتشابهات، وتأثر تأثراً كبيراً بأصحاب الأديان الأخرى، فنتج من ذلك هذه المقالة الخبيثة التي هي مقالة: خلق القرآن، ونفي صفات الله سبحانه وتعالى.

    يمكن أن نأتي بترجمة الجعد بن درهم من لسان الميزان للحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى، هذا الكتاب هو عبارة عن إكمال أو تذييل على كتاب ميزان الاعتدال في نقد الرجال للحافظ الذهبي رحمه الله، يقول رحمه الله في ترجمة الجعد بن درهم : الجعد بن درهم عداده في التابعين.

    يعني: كان في طبقة التابعين، فلو أن هذا الرجل استغل هذه الفرصة وطلب العلم على أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وكبار التابعين لصار من كبار التابعين كـسعيد بن المسيب والزهري وغيره؛ لأنه كان في زمن الدولة الأموية وهو المربي لآخر حكام الدولة الأموية الذي هو مروان بن محمد ، الذي يلقب بـمروان الحمار ، وسبب تلقيبه بـمروان الحمار أنه كان رجلاً صبوراً يتحمل، فلقب بهذا اللقب، وله لقب آخر وهو الجعدي نسبة إلى المربي له الجعد بن درهم ، فيسمى مروان الحمار ، ويلقب: بـالجعدي أيضاً.

    يقول: مبتدع ضال زعم أن الله لم يتخذ إبراهيم خليلاً، ولم يكلم موسى، فقتل على ذلك بالعراق يوم النحر، والقصة مشهورة.

    وهي قصة قتل خالد بن عبد الله القسري له، وكان خالد بن عبد الله القسري من عمال الأمويين على العراق.

    وهذه القصة رواها البخاري رحمه الله في خلق أفعال العباد، ورواها غيره، وفي بعض أسانيدها مقال من ناحية الصناعة الحديثية، إلا أن القصة لشهرتها وتناقل الناس لها صارت قصة مشهورة، ولهذا عبر الحافظ بقوله: والقصة مشهورة، يعني: أنه لا يتوقف على ثبوتها بالإسناد فقط.

    ومن هنا ننبه إلى قاعدة مهمة جداً: بعض الناس يظن أن ثبوت الرواية وعدم ثبوتها يتوقف على الإسناد فقط، وهذا خطأ، فإن الإسناد وسيلة من وسائل ثبوت الرواية، وهناك وسيلة أخرى وهي: أن القصة أو الحدث إذا كان مشهوراً عاماً يتناقله الناس جيلاً بعد جيل، فإن هذا يسمى الرواية المستفيضة المتناقلة، وهذه الرواية ثابتة، ومقتضاها صحيح، حتى لو كانت من ناحية الصناعة الحديثية ليست صحيحة؛ لأن كتب الرواية لأهل السنة أحرق كثير منها في زمن التتار، ودمر كثير من دور العلم، ومزقت كثير من كتب أهل العلم، وقتل كثير منهم وأحرقت مكتباتهم، وقد كانت تحمل كثيراً من الطرق والرواية، لكن هل يعني هذا أن هناك أحاديث أو أخباراً كثيرة صحيحة يحتاجها الإنسان في عبادته لم تصل إلينا؟

    لا، فإن حجة الله عز وجل كافية للعباد إلى قيام الساعة، لكن المقصود هو أن الرواية في بعض الأحيان قد تروى عند أكثر من ألف عالم أو ألفين أو ثلاثة آلاف أو أقل من ذلك.

    فإذا كان هناك مثلاً حرق وتدمير للكتب حسب المعروف تاريخياً، فستدمر من طرق هذه الرواية مائتان أو أكثر أو أقل مثلاً، وحينئذ تقل عدد الطرق لهذا الحديث أو ذاك، وحينئذ فالصحيح بالذات في القضايا الإخبارية والقصص المشهورة لا يصح الاعتماد فيه على مجرد الإسناد المنقول، فقد يكون هناك أسانيد أخرى منقولة تثبت هذه الرواية لكنها أحرقت، والذي يجعلنا نذكر هذا الاحتمال هو شهرة القصة وانتشارها في كتب أهل العلم، وكونهم يسوقونها في مجال الاحتجاج، ومجال أخذ العبرة والفائدة منها، مثل هذه القصة التي هي قصة خالد بن عبد الله القسري ، فقد ذكر بعض طلاب العلم في كتاب له اسمه: قصص لا تثبت، ونقل أنها من حيث الإسناد فيها ضعف، وكلامه صحيح، لكن مثل هذه القصة لا يتوقف ثبوتها على نقلها بالإسناد.

    وهكذا الحال في مثل شخصية عبد الله بن سبأ اليهودي الذي جاء من اليمن، والذي تكونت له طائفة تسمى: الطائفة السبئية، وأثر تأثيراً كبيراً في عقائد الشيعة، هذا الرجل عندما ترجعون إلى كتب أهل السنة المتقدمة تجدون أنهم يثبتونه، وأنهم يتكلمون عنه على أنه حقيقة تاريخية، وأن له تأثيراً، وهكذا المتقدمون من الشيعة.

    فلما جاء المتأخرون أراد بعض الشيعة نفي ارتباط الشيعة باليهود، فتتبع شخصية عبد الله بن سبأ ، فعندما جمع الطرق من حيث الإسناد، ومن حيث الصناعة الحديثية وجد أنها من رواية سيف بن عمر التميمي وهو مؤرخ مشهور له كثير من الكتب التاريخية، إلا أن أهل الحديث يضعفونه من جهة الرواية، وحاله أحسن من حال الواقدي ، فإن الواقدي ضعفه أشد، مع أنه إخباري مشهور أيضاً من حيث الرواية.

    ففرح بهذا طائفة الشيعة الذين يريدون نفي ارتباط الشيعة باليهود، هذا من جهة، وفرح بها مجموعة من العلمانيين الذين يريدون القدح في كتب السنة، ومن هؤلاء طه حسين ، ومنهم أيضاً رجل كان يكتب مقالات في بعض الصحف المحلية ينفي فيها شخصية عبد الله بن سبأ ويحتج بهذه الحجة.

    ولا شك أن هذه الحجة مدحورة؛ لأن شخصية عبد الله بن سبأ صارت شخصية مشهورة، يتناقل الناس أخبارها جيلاً بعد جيل، وقد يكون بعض أهل العلم عندما نقلها من حيث التوثيق والرواية نقلها بإسناد فيه ضعف، لكن هذا لا يعني أن هذه الشخصية ليست ثابتة مع أن الأجيال تتناقلها جيلاً بعد جيل.

    يقول الحافظ رحمه الله: وللجعد أخبار كثيرة في الزندقة، منها: أنه جعل في قارورة تراباً وماءً فاستحال دوداً وهواماً فقال: أنا خلقت هذا؛ لأني كنت سبب كونه، فبلغ ذلك جعفر بن محمد ، وجعفر بن محمد هو الصادق المشهور والعالم المعروف، فقال: ليقل كم هو؟ يعني: كم عدد هذا الدود الذي نتج عن التراب والماء المجموع؟ وكم الذكران منه والإناث إن كان خلقه؟ وليأمر الذي يسعى إلى هذا أن يرجع إلى غيره، يعني: الدود يسعى بعضه إلى بعض، فليأمر الذي يأتي من هنا أن يرجع إلى جهة أخرى، وهذا يرجع إلى جهة أخرى إن كان فعلاً خلقه فإنه يملكه، فبلغه ذلك فرجع.

    ترجمة الجهم بن صفوان

    يقول الذهبي رحمه الله: الجهم بن صفوان أبو محرز السمرقندي الضال المبتدع رأس الجهمية، هلك في زمان صغار التابعين، وما علمت أنه روى شيئاً لكنه زرع شراً عظيماً.

    إذاً: هو ليس من أهل الرواية، وليس من المشتغلين بالعلم الشرعي، وليس من طلاب العلم الذين يبحثون عنه ثم حصل عنده زيغ، فالقضية أن هذا الرجل كان عامياً من العوام، دخل مع مجموعة من الفلاسفة والضالين وتأثر بهم، فصارت هذه المقالة التي ظهرت عنده.

    وكان قتل جهم بن صفوان سنة ثمان وعشرين -يعني: بعد المائة- وسببه أنه كان يقضي في عسكر الحارث بن شريح الخارج على أمراء خراسان، فقبض عليه نصر بن سيار ، فقال له: استبقني -يعني: اجعلني حياً- فقال: لو ملأت هذا الملأ كواكب وأنزلت إلي عيسى بن مريم ما نجوت، والله لو كنت في بطني لشققت بطني حتى أقتلك، ولا تقوم علينا مع اليمانية أكثر مما قمت! وأمر بقتله، وكان جهم من موالي بني راسب، وكتب للحارث .

    والصحيح: أن قتل الجهم كان بسبب عقيدته الضالة، وليس بسبب خروجه على بني أمية، وإن كان خروجه على بني أمية من ضمن الأسباب التي كانت سبباً في قتله؛ لأن بني أمية وإن كان عندهم انحرافات في الأموال مثلاً، وعندهم انحرافات في تولية المناصب ونحو ذلك، إلا أنهم كانوا يتتبعون هؤلاء الزنادقة ويقتلونهم، فقتل غيلان الدمشقي القدري المشهور، وقتل الجعد بن درهم ، والجهم بن صفوان وغير هؤلاء على يد الأمويين؛ بسبب عقائدهم الضالة والمنحرفة.

    إذاً: هؤلاء ليسوا من طلاب العلم كما قلت، وذكر الإمام أحمد رحمه الله في كتابه الرد على الجهمية قصة للجهم بن صفوان ، وهو أنه التقى بطائفة من السمنية من فلاسفة الهند وجلس معهم، وهؤلاء كانوا ينكرون العقليات، ولا يثبتون إلا الحسيات، فسألوه عن ربه: هل ذاقه؟ هل شمه؟ هل رآه؟ هل لمسه؟ فنفى ذلك فقالوا: إذاً: أنت ليس لك إله، فعكف في بيته أربعين يوماً لا يصلي، ثم خرج إلى الناس وقال: ربي هو هذا الهواء الموجود في كل مكان ليس له اسم ولا صفة.

    1.   

    إسناد عقائد التعطيل والنفي

    قال رحمه الله: [وقد قيل: إن الجعد أخذ مقالته عن بيان بن سمعان ، وأخذها بيان عن طالوت بن أخت لبيد بن الأعصم ، وأخذها طالوت من لبيد بن الأعصم اليهودي الساحر الذي سحر النبي صلى الله عليه وسلم].

    هذا إسناد نفاة الصفات وارتباطه باليهود، أراد ابن تيمية رحمه الله أن يربط بين هذه المقالات التي ظهرت في الأمة، مع أنها لم تكن معروفة، فيريد أن يعرف من أين جاءت هذه المقالات؟ فبدأ يتتبع رحمه الله مصادر هذه المقالات.

    فذكر من مصادرها: أن هؤلاء أخذوها من اليهود هذا مصدر.

    المصدر الثاني: أنهم أخذوها من الصابئة.

    المصدر الثالث: أنهم أخذوها من الوثنيين المشركين، مثل فلاسفة اليونان.

    هذه ثلاثة مصادر أشار ابن تيمية رحمه الله إلى أن نفاة الصفات أخذوا منها.

    علاقة القول بخلق القرآن باليهود

    فأما اليهود فذكر ابن تيمية رحمه الله أن الجهم أخذ هذه المقالة عن الجعد ، وأن الجعد أخذ هذه المقالة عن بيان بن سمعان ، وأن بياناً أخذها عن طالوت بن أخت لبيد بن الأعصم ، وأن طالوت أخذ مقالته عن لبيد بن الأعصم الذي هو من بني زريق، وهو الذي سحر رسول الله صلى الله عليه وسلم.

    هذا الإسناد ذكره بإسناد لا بأس به ابن عساكر الدمشقي في تاريخ دمشق، وابن عساكر رحمه الله له كتاب كبير في تاريخ دمشق يصل إلى ستين مجلداً تقريباً أو سبعين مجلداً، نقل بإسناده أن الجهم أخذ عن الجعد ، وأن الجعد أخذ عن بيان وهكذا.

    وبيان بن سمعان الذي أخذ عنه الجعد هو رجل من غلاة الشيعة كان يقول إن علياً هو الإله، وإن الله عز وجل حل في علي ، فلما مات علي حل في ابنه محمد بن الحنفية ، وادعى النبوة واستدل على نبوته بقوله تعالى: هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ [آل عمران:138]، هكذا يفسر النصوص كما يهوى وكما يشتهي، وهو زنديق من الزنادقة المعروفين.

    وطالوت هذا رجل يهودي ذكر المحقق أنه لم يجد له ترجمة، وقد أشار ابن عساكر الدمشقي رحمه الله في تاريخ دمشق إلى أن طالوت هذا صنف كتاباً في خلق التوراة، وأن التوراة ليست من كلام الله بل هي مخلوقة.

    وهذا يؤكد أن بياناً أخذ خلق القرآن من طالوت الذي قال بخلق التوراة عند اليهود، فحول مقالة خلق التوراة إلى خلق القرآن، ومن هنا أدخلت في الديانة الإسلامية من بيان الذي نقلها عن اليهوديين: طالوت ولبيد ، اللذان كانا يقولان بخلق التوراة، يقول ابن عساكر : ولـطالوت هذا كتاب في خلق التوراة.

    لكن هنا إشكال عرضه بعض الباحثين، وهو أن المعروف عن اليهود هو التشبيه، وقد سبق أن تحدثنا عن هذا الموضوع وقلنا إن اليهود مشبهة، وإن أوائل الشيعة كانوا مشبهة؛ لأنهم قريبو عهد بالسبئية الذين هم من اليهود كما هو معلوم، وأول من أشاع التشبيه في الأمة الإسلامية هو هشام بن الحكم الرافضي الذي هو على عقيدة الشيعة، وكان يرى أن الله عز وجل في صورة إنسان.

    فإذا كانت عقيدة اليهود التشبيه فكيف أخذ هؤلاء نفي الصفات من اليهود؟

    والجواب على هذا: أن اليهود ليسوا طائفة واحدة في هذا الموضوع، فالذين بدلوا التوراة وحرفوها في بداية الأمر كانوا على عقيدة المشبهة، لكن هناك طوائف من اليهود لا سيما الذين كانوا يسكنون في حوض البحر الأبيض المتوسط، كانوا معطلة تأثروا بالفلسفة اليونانية.

    ولهذا يذكر ابن تيمية رحمه الله في مواضع من كتبه أن المتأخرين من اليهود ممن كان في زمن الإسلام مثل: الميمون بن موسى -وذكر نماذج من اليهود الذين كانوا في الأندلس- كانوا على عقيدة المعتزلة والجهمية في نفي الصفات.

    وهذا يدل على أنهم أخذوا العقيدة الموجودة عند نفاة الصفات من اليهود.

    إذاً اليهود يمكن تقسيمهم إلى قسمين: قسم كانوا مشبهة وهم الأغلب الذين حرفوا التوراة، وقسم تأثروا بالفلسفة اليونانية وهم المعطلة، ومنهم هؤلاء.

    العلاقة بين عقائد الجهمية والصابئة

    هذا ما يتعلق بعلاقة هذه المقالة باليهود، وأما علاقة هذه المقالة بالصابئة، فالصابئة هم الذين يعبدون الكواكب، وعلماء الصابئة فلاسفة كانوا يرون أن هذه الكواكب جزء من الإله، وأنها عبارة عن نفس وروح مجتمعة في الكواكب السبعة الموجودة في السماء، وإلى الآن توجد لهم آثار في بلاد الشام على شكل هياكل يبنونها، بعض هذه الهياكل يتعبدون فيها للزهرة، وبعضها يتعبدون فيها للمريخ، وبعضها يتعبدون فيها للشمس.

    وهم الذين بعث الله عز وجل فيهم إبراهيم عليه السلام، وكل حاكم فيهم يلقب بالنمرود فالنمرود ليس علماً على شخص محدد، وإنما هو لقب لكل ملك من ملوك الصابئة مثل: النمرود الذي حاج إبراهيم في ربه، فغلبه وبهته إبراهيم بالحجة والبرهان.

    فاسم النمرود كما سيأتي معنا مثل: اسم كسرى، ومثل: اسم هرقل، ومثل: اسم النجاشي، هذه الأسماء أسماء لكل من حكم طائفة من الأمة، فكسرى اسم لكل من حكم الفرس كما سيأتي معنا، فالنمرود هو اسم لكل من حكم الصابئة، والصابئة علماؤهم فلاسفة يرون أن هذه الكواكب جزء من الإله، فيتعبدون لها وينقسمون إلى قسمين: عباد الهياكل، وعباد الأصنام.

    فعباد الهياكل هم الذين يتعبدون مباشرة لهذه الكواكب، وعباد الأصنام يقولون: لا يمكن أن نتعبد لهذه الكواكب مباشرة، ولكن نصنع على هيأتها صنماً، هذا الصنم الذي نصنعه يقرب أعمالنا لهذه الكواكب، وهذه الكواكب تنقل أعمالنا للإله الأعظم الذي هو الله حسب ظنهم.

    ولهذا كان قوم إبراهيم على طائفتين، وناقشهم إبراهيم في الجهتين، عندما أراد أن يناقش أصحاب عباد الكواكب، فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ [الصافات:89]، ويقول العلماء: إن إبراهيم استدل بسقمه حسب قولهم بأن هذا السقم من النجوم التي في السماء، ومناقشة إبراهيم لهؤلاء موجودة في سورة الأنعام عندما رأى الشمس بازغة قال: هذا ربي، وهذا ليس نظراً من إبراهيم للوصول إلى إثبات وجود الله عز وجل، وإنما هي مناظرة ومناقشة لقومه عندما رأى الشمس بازغة، قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ [الأنعام:78]، قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ [الأنعام:76].

    فهذه مناقشة كان يظهرها أمام قومه الذين يعظمون الكواكب، فإذا نظر إلى القمر قال: هذا ربي يعني: أنتم تقولون إن هذا ربي، فَلَمَّا أَفَلَ ، فينظر إلى قومه ويقول: لا أُحِبُّ الآفِلِينَ [الأنعام:76]، يعني: كيف يأفل الرب ويختفي عن عبيده؟ ولهذا فإن الصحيح كما رجح ذلك الحافظ ابن كثير رحمه الله في التفسير أنه كان مناظراً وليس ناظراً، خلافاً لما رجحه الطبري رحمه الله في جامع البيان، فإنه رجح أنه ناظر يريد أن يستدل، وهذا غير صحيح، فإن سياق الآية لا يدل على ذلك.

    هذا بالنسبة لمناقشته للصابئة في موضوع الكواكب، وأما مناقشته للصابئة في موضوع الأصنام فإن والد إبراهيم الذي هو آزر كان ينحت الأصنام، وهذا يدل على أنهم من الطائفة الثانية الذين هم عباد الأشخاص أو عباد الأصنام، ومناقشة إبراهيم لهم هو عندما حطم هذه الأصنام وكسرها، وعلق فأسه على الصنم الكبير منهم، فلما أقبلوا إليه، قَالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا [الأنبياء:59]، قال: فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنطِقُونَ * فَرَجَعُوا إِلَى أَنفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ [الأنبياء:63-64]، ثم رجعت إليهم حمية الجاهلية وقالوا له: لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلاءِ يَنطِقُونَ [الأنبياء:65]، ثم أرادوا تحريقه بالنار كما هي في القصة المشهورة.

    كان الجعد بن درهم من أهل حران، وكانت حران مليئة بالصابئة، فتأثر بهم؛ لأن هؤلاء الصابئة نفاة للصفات.

    ترجمة للفارابي من سير أعلام النبلاء

    هذه ترجمة للفارابي من سير أعلام النبلاء فيها درس عظيم جداً نبهت عليه في دروس متعددة، وهو أن هؤلاء الفلاسفة أمثال الفارابي ، وابن سينا ، وابن رشد ، وابن الطفيل وغيرهم من الفلاسفة، لم يدرسوا العلم عند أهله من المتخصصين، وإنما درسوا على اليهود والنصارى، فتأثروا بهم، فهم يشبهون العلمانيين الآن، فهم يمثلون هذه الطبقة الملحدة التي تريد تغيير عقائد المسلمين.

    كما أن العلمانيين الآن يريدون تغيير عقائد المسلمين في قضايا الحكم، وفي قضايا الأموال، وفي قضايا المرأة، وفي قضايا متعددة، كما هو معروف من صراع أصحاب الدعوة الإسلامية مع هؤلاء المجرمين الذين يريدون تضليل هذه الأمة.

    هذه ترجمة فيلسوف من هؤلاء الفلاسفة ذكره الإمام الذهبي رحمه الله في سير أعلام النبلاء، يقول رحمه الله: الفارابي شيخ الفلسفة الحكيم -الحكيم ليس مدحاً له وإنما هو وصف؛ لأنهم يسمونهم الحكماء- أبو نصر محمد بن محمد بن طرخان بن أزلغ التركي الفارابي المنطقي، أحد الأذكياء -كان ذكياً لكن لم يكن زكياً- له تصانيف مشهورة، من ابتغى الهدى منها ضل وحار، منها تخرج ابن سينا ، نسأل الله التوفيق.

    وقد أحكم أبو نصر العربية بالعراق -لأنه ليس عربياً- ولقي مكتب بن يونس صاحب المنطق.

    متى بن يونس رجل نصراني كان رئيس المناطقة في زمانه، توفي في بغداد في سنة ثلاثمائة وثمانية وعشرين -يعني: في فترة مبكرة، في زمن الإمام النسائي رحمه الله، وزمن الأئمة الكبار أصحاب الكتب المعروفة.

    قال: لقي متى بن يونس صاحب المنطق فأخذ عنه، وسار إلى حران عند الصابئة، فلزم بها يوحنا بن جيلان النصراني ، وسار إلى مصر، وسكن دمشق.

    أين هذا من أئمة أهل الحديث في زمانه؟ فقد كانت دمشق مليئة بالعلماء الكبار، علماء اللغة، وعلماء الفقه، وعلماء الحديث.

    لو تنظرون لهذه الفترة التي يدرس فيها على النصارى، ويذهب إلى أماكن الصابئة والمشركين لوجدتم كبار العلماء المشهورين مثل ابن خزيمة ، وابن حبان ، وغيرهم من أهل العلم الكبار كانوا في تلك الفترة، وكانوا قريبين من الفارابي ، لكن العلم الذي يدرسه الفارابي غير العلم الذي يدرسه هؤلاء.

    فهو لا يريد علم أهل الحديث المعقدين كما يتصور، وإنما يريد علماً جديداً كان من أعظم أسباب انحراف هذه الأمة في مجال العقائد، كما يفعل أشباهه من العلمانيين في هذا العصر، فأنت تجد العلماء في كل بلد من بلاد المسلمين، لكنهم يتركونهم ويعتقدون أنهم من المتخلفين الرجعيين الذين لا يفقهون شيئاً، ثم يذهبون إلى أوروبا ويدرسون على المستشرقين، ويأتي أحدهم ويؤلف الكتب في الإسلام، ويتكلم باسم الإسلام، ويحرف أحكام الإسلام، ويظن أنه على هدى كما يفعل هذا الضال.

    فقيل: إنه دخل على الملك سيف الدولة ابن حمدان وهو بزي الترك، وكان فيما يقال يعرف سبعين لساناً، أي: سبعين لغة، وكان والده من أمراء الأتراك فجلس في صدر المجلس، ولا يشترط أن يكون الضال أحمق، فهناك أذكياء كثيرون ضالون منحرفون، فالذكاء وحده ليس مدحاً ولا قدحاً، وإنما بحسب ما يستعمل فيه، فإذا استعمل في الخير صار مدحاً لصاحبه، وإذا استعمل في الشر صار ضلالاً والعياذ بالله وخطراً عليه.

    وأخذ يناظر العلماء في فنون، يعني: ناظر العلماء الذين كانوا في زمانه في المنطق وفي الآداب بالذات، فعلا كلامه، وبان فضله، وأنصتوا له، ثم إذا هو أبرع من يضرب بالعود، إذ كان موسيقياً كبيراً، وكان له ألحان اخترعها، وكان من المتقنين للعود، إذاً: هذا مغن وليس بعالم.

    ولهذا تجدون أنه أمثال هؤلاء الذين تكلمون في الدين من العلمانيين وبعضهم شغال في الموسيقى، وبعضهم شغال في الأفلام، وبعضهم شغال في أي بلوى من هذه البلايا التي هي من صنع الفساق.

    فأخرج عوداً من خريطة وشده ولعب به ففرح كل أهل المجلس.

    وهنا يكون الخطر، فانظروا كيف كانت مجالس هؤلاء مع الأسف، يعني: مجالس سيف الدولة ابن حمدان ، بدلاً من أن تكون مجالس ذكر جعلوها مجالس لهو وغناء وسماع للمنطق والفلسفة والعقائد الضالة.

    فأخرج عوداً من خريطة وشده ولعب به ففرح كل أهل المجلس وضحكوا من الطرب، ثم غير الطرب فنام كل من هناك حتى البواب، فقام وذهب.

    يعني: لديه من الألحان الموسيقية ما هي مبنية على دراسة نفسية، فعندما يضرب بالعود من الممكن أن يجعلهم يضحكون، ومن الممكن أن يضرب ويجعلهم كلهم يبكون، ومن الممكن أن يضرب ويجعلهم كلهم ينامون، يعني: مبنية بناءً دقيقاً من الناحية النفسية، فهي علم من العلوم.

    ويقال: إنه أول من اخترع قانون الآلة المشهورة.

    وكان يحب الوحدة، ويصنف في مواضع النزهة، وقل ما يبيض منها، وكان يتزهد زهد الفلاسفة، ولا يحتفل بملبس ولا منزل، أجرى عليه ابن حمدان في كل يوم أربعة دراهم، وخابت هذه الجرائر، ويقال: إنهم سألوه أأنت أعلم أم أرسطو ؟ كما أنك لو سألت واحداً: أنت أعلم أم جولد سيهر من النصارى؟ فقال: لو أدركته لكنت أكبر تلاميذه، ولـأبي نصر نظم جيد، وأدعية مليحة على اصطلاح الحكماء؛ لأنهم يستغيثون بغير الله عز وجل.

    ذكره أبو العباس بن أبي أصيبعة ، وسرد أسامي مصنفاته وهي كثيرة، منها: مقالة في إثبات الكيمياء، وهذا الرجل يبدو أنه كان ساحراً أيضاً، وسائر تأليفاته في الرياضي والإلهي، وكلامه في الإلهيات فاسد؛ لأنه ليس مبنياً على علم.

    وبدمشق كان موته في رجب سنة تسعة وثلاثين وثلاثمائة، خاب وخسر هذا المسكين، يعني: فقد كان في هذه الفترة المبكرة يمكن أن يستفيد فيها من الأمة المسلمة والعلماء الكبار الذين كانوا في ذلك الزمن، اختطه والطريق الذي مشى فيه، وقبره باب الصغير.

    هذا الكلام والنقد الذي ذكرناه للفارابي لو سمعه بعض المثقفين المعاصرين لغضب، وقال: كيف تقول هذا الكلام؟ نحن نفرح بوجود مسلم من المسلمين يتقن علوماً أخرى، وأنت تنتقد هؤلاء!

    ولهذا تجد أن بعض المساكين الذين لا يعرفون هؤلاء الفلاسفة يتكلم ويفتخر بهؤلاء ويقول: نحن نفتخر بالعالم المسلم ابن سينا الذي اخترع كذا وكذا من معاني الطب، ونفتخر بـالفارابي ، ونفتخر بفلان! وهذا فخر لا قيمة له؛ لأن هذا لو انتسب للإسلام اسماً، فهو زنديق من الزنادقة أثر في عقائد المسلمين تأثيراً سيئاً.

    فينبغي التنبه لهذا، وقد تتلمذ هذا الرجل على متى بن يونس ، وعلى يوحنا بن جيلان النصراني، وهذه فائدة عظيمة تدل على أن كل من سلك طريقاً غير طريق السنة يكون سبباً من أسباب الضلال والانحراف والعياذ بالله.

    أسأل الله عز وجل أن يوفقنا وإياكم للعلم النافع والعمل الصالح.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718746

    عدد مرات الحفظ

    767037214