توقفنا عند موضوع مذهب أهل التفويض، وبطلان مقالة: طريقة السلف أسلم، وطريقة الخلف أعلم وأحكم، وارتباط هذه المقالة بما سبق الحديث عنه من أن منهج السلف الصالح رضوان الله عليهم معصوم، والمقصود بمنهج السلف، يعني: ما أجمعوا عليه، واتفقوا عليه من العقائد، وطريقة النظر، وطريقة الاستدلال، وتمييز الأحكام بعضها عن بعض، هذه الطريقة المجمع عليها معصومة، لا يتطرق إليها البطلان بأي وجه من الوجوه، وقد بين شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أن النبي صلى الله عليه وسلم وضح قضايا العقائد من حيث المسائل، ومن حيث الدلائل توضيحاً كافياً، ومغنياً عن الرجوع إلى غير طريقته عليه الصلاة والسلام، وهكذا أصحابه الكرام رضوان الله عليهم تكلموا في قضايا العقائد، ولا يمكن بأي وجه من الوجوه أن يكون الصحابة رضوان الله عليهم ومن بعدهم يجهلون الحق في هذه المسألة، كما أنهم لا يمكن أبداً أن يكونوا قد عرفوا العقائد الصحيحة وكتموها عن الناس، ولم يوضحوها لهم، فإن من عرف حال القوم، وجهادهم في سبيل الله، وإتباعهم لسنة الرسول صلى الله عليه وسلم يدرك إدراكاً جازماً أن هؤلاء لا يمكن أبداً أن يعرفوا الحق ثم يكتموه، ولو جاز ذلك عقلاً من واحد لما جاز من الجميع كما هو معلوم.
ولهذا تطرق شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله إلى الذين يقدحون في السلف، وإلى الذين يتكلمون فيهم، ويذمون السلف الصالح رضوان الله عليهم، وذكر هذه المقالة، وهؤلاء القوم -أعني: المفوضة- هم طائفة من الطوائف التي تقدح في علوم السلف، وتقدح في مناهجهم، أما الذين يقدحون في علوم السلف فهم كثر، يمكن أن نذكر رءوس أقلام في هذا، منهم الشيعة الذين يسبون أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ويكفرونهم، ويطعنون في أمانتهم وفي عدالتهم.
ومنهم أيضاً الذين يتعصبون للأئمة في المسائل التي تكون متعلقة بالفروع حتى لو خالفوا طريقة السلف رضوان الله عليهم، أو خالفوا بعض فتاوى الصحابة الذين هم أشهر منهم، ومنهم الذين يقدحون في منهج السلف الصالح رضوان الله عليهم ويقولون: إنه منهج قديم، وإنه منهج تقليدي، وإنه لا يصلح أن يواكب الحضارة المعاصرة التي تقدمت اليوم من الناحية المادية، ومن ناحية التكنولوجيا، ويرون أن هذا منهج قديم لا يصلح لمواكبة العصر، ولا بد من هدم هذا المنهج وبناء مناهج حداثية جديدة تختلف عنه.
ومنهم من يذم السلف ويقول: إن هؤلاء فرقوا الأمة، ومزقوها، وجعلوها شيعاً وشعباً وأنواعاً، وقدح بعضهم في بعض بسببهم، ولا شك أن مثل هؤلاء من أهل الظلم والعدوان على فضلاء هذه الأمة الذين وصفهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنهم خير القرون، كما قال عليه الصلاة والسلام: (خير القرون قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم)، ثم بعد ذلك ذم من يأتي من القرون بعدهم.
ولهذا لا تجد أحداً يقدح في علوم السلف وفي منهج السلف وهو على السنة أبداً، فلا يقدح فيهم إلا من يكون زائغ الاعتقاد بأي وجه من وجوه الزيغ، فالذين يقولون: إن علوم السلف ومناهج السلف الصالح رضوان الله عليهم تفرق الأمة وتمزقهم، هؤلاء ما عرفوا هذه العلوم ولا أدركوها، ولم يعلموا أن السلف الصالح رضوان الله عليهم يتبعون الحق في كل مكان، وفي كل مسألة يجتهدون فيها وفي البحث عنها.
ثم الذين يخالفون الحق ليسوا سواءً بل هم أنواع، منهم من يخالف الحق فيقع في الكفر المبين، ومنهم من يخالف الحق فيقع في البدعة المضلة، ومنهم من يخالف الحق فيقع في المعصية، ومنهم من يخالف الحق بأي وجه من الوجوه، ولهذا لم يحكم السلف رضوان الله عليهم على كل من خالف طريقة الرسول صلى الله عليه وسلم بحكم واحد، بل تقوم هذه المخالفة تقويماً شرعياً ثم يحكم عليها، ولهذا عندما تحدثوا عن الفرق الضالة قديماً سموا أصحابها أصحاب المقالات، ومعنى أصحاب المقالات: الذين لهم أقوال يخالفون بها الحق، ثم يبينون حكم هذه الأقوال، وأنها تختلف، وأنها ليست حكماً واحداً.
فمذهب أهل التفويض هؤلاء هو القدح في علم السلف رضوان الله عليهم، وجعلهم أناساً سطحيين لا يعلمون الكتاب إلا أماني، وأنهم كالصالحين العوام السذج، الذين فيهم غفلة، وفيهم سطحية، ولا يفهمون الكلام بسرعة، ونحو ذلك من الصفات التي ألصقوها بهم كما سيأتي معنا إن شاء الله.
وجعلوا طريقة المتأخرين من أهل الكلام الذين خلطوا علوم الإسلام بالفلسفة اليونانية، واخترعوا دلائل أخرى لقضايا الاعتقاد، خالفوا بها الكتاب والسنة، جعلوا طريقة هؤلاء المتأخرين خيراً من طريقة السلف الصالح رضوان الله عليهم.
من الأمور التي تشبث بها أهل التفويض بعض النصوص التي نقلت عن السلف الصالح رضوان الله عليهم، وهذه النصوص التي استدلوا بها هي نصوص وردت عن السلف رضوان الله عليهم، عندما يسألون عن أحاديث الصفات، وعن آيات الصفات.
وقد تنوعت عبارات السلف عندما سئلوا عن أحاديث الصفات، فمنهم من قال: أمروها كما جاءت بلا كيف، وروي هذا عن ربيعة ، وعن سفيان الثوري ، وعن مالك وعن غيرهم، ويمكن أن تراجع كتب العقائد المسندة مثل شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة، والإبانة لـابن بطة ، والشريعة للآجري ، ستجدونهم يسندون إلى عدد كبير من السلف رضوان الله عليهم عندما يسألون عن أحاديث الصفات أنهم يقولون: أمروها كما جاءت بلا كيف، فيفهمون من كلمة (أمروها) أنها ليست معنى، وهذا فهم باطل، لأن السلف قالوا: أمروها كما جاءت، والسؤال: كيف جاءت؟ جاءت في الكتاب والسنة ولها معان واضحة وبينة، فإن الله خاطبنا بلسان العرب، ولم يخاطبنا بالأحاجي والألغاز.
فقول السلف: أمروها كما جاءت، يعني: لا تتصرفوا في معناها بتغييرها عما جاءت عليه، فهي جاءت على لسان العرب وعلى معنى اللغة العربية، فلا يصح التصرف فيها بالمعاني الباطلة، هذا معنى الإمرار، فإن السلف رضوان الله عليهم واجهوا الجهمية الذين لا يمرون نصوص الصفات كما جاءت، وإنما يحرفون معانيها لتوافق الأصول العقلية التي جاءوا بها، وسنتحدث عن هذه الأصول بإذن الله بشكل مفصل، فإنهم أصلوا أصولاً عقلية في الاستدلال على وجود الله، وعلى وحدانية الله عز وجل، وعلى ثبوت نبوة الرسول صلى الله عليه وسلم، وجعلوا هذه الأصول العقلية التي استدلوا بها على هذه القضايا الشرعية قواعد لا تقبل التغيير ولا التبديل، ثم حاكموا نصوص الصفات إليها، فإن وجدوا ما يتعارض معها حرفوا معناه، وبدلوا معناه بالتأويلات الغريبة، فالسلف يقولون: (أمروها)، يعني: لا تتصرفوا فيها بالتأويلات الباطلة.
قولهم: (كما جاءت)، يعني: كما جاءت في القرآن والسنة، وهي جاءت بلسان عربي مبين كما أخبر الله عز وجل.
ولهذا قولهم: (بلا كيف)، يدل على أن لها معنى، وإلا لم يكن لكلمة (بلا كيف) فائدة؛ لأنهم قالوا: أمروها كما جاءت بلا كيف، يعني: لا تكيفوا معناها، بل التزموا بالمعنى الذي دلت عليه هذه الصفات.
وقد أشار شيخ الإسلام رحمه الله في هذا الكتاب إلى هذا الموضوع في موضعين:
الموضع الأول: فإن شيخ الإسلام رحمه الله عندما نقل أقوال السلف في الصفات قال: وروى أيضاً عن الوليد بن مسلم قال: سألت مالك بن أنس وسفيان الثوري والليث بن سعد والأوزاعي عن الأخبار التي جاءت في الصفات؟ فقالوا: أمروها كما جاءت، وفي رواية: فقالوا: أمروها كما جاءت بلا كيف.
وتخريجها موجود في كتب السلف المسندة.
فقولهم رضوان الله عليهم: أمروها كما جاءت، رد على المعطلة، وقولهم: بلا كيف، رد على الممثلة، والزهري ومكحول هما أعلم التابعين في زمانهم، والأربعة الباقون هم أئمة الدنيا في عصر تابعي التابعين.
وإنما قال الأوزاعي هذا بعد ظهور أمر جهم المنكر لكون الله فوق عرشه، والنافي لصفاته، ليعرف الناس أن مذهب السلف كان خلاف ذلك.
الموضع الثاني: يقول: فقول ربيعة ومالك : الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، موافق لقول الباقين: أمروها كما جاءت، فإنما نفوا علم الكيفية ولم ينفوا حقيقة الصفة، ولو كان القوم آمنوا باللفظ المجرد من غير فهم لمعناه على ما يليق بالله لما قالوا: الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول.
والمفوضة يؤولون كلام الإمام مالك رحمه الله عندما سئل عن الاستواء فقال: الاستواء معلوم، وفي بعض الألفاظ: غير مجهول، قال: الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة، فجاءوا إلى قوله: الاستواء معلوم، فقالوا: يقصد الإمام مالك أنه معلوم في كتاب الله، وهذا تأويل لكلامه، فإنه لم يقل: آية الاستواء معلومة، لو قال: آية الاستواء معلومة، لكان لهم وجهة في هذا، لكنه قال: الاستواء، يعني: الصفة معلومة، فهو لم يتحدث عن الآية؛ هذا أولاً.
وثانياً: إذا كان قصده أن آية الاستواء معلومة، فإن هذا تحصيل حاصل ليس فيه ثمرة؛ لأن الرجل عندما سأله ذكر له الآية: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه:5]، ثم قال: كيف استوى؟ ولهذا فإن قولهم تأويل باطل، وتعسف بالنصوص لا وجه له.
يقول شيخ الإسلام رحمه الله: إن قول مالك وقول ربيعة وهو ربيعة الرأي شيخ مالك : الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، موافق لقول الآخرين: أمروها كما جاءت بلا كيف، فإنما نفوا علم الكيفية ولم ينفوا حقيقة الصفة، ولو كان القوم قد آمنوا باللفظ المجرد من غير فهم لمعناه على ما يليق بالله لما قالوا: الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، ولما قالوا: أمروها كما جاءت بلا كيف، فإن الاستواء حينئذ لا يكون معلوماً بل مجهولاً، كيف يكون معلوماً وهم لا يفهمون له معنىً؟ بل يكون مجهولاً بمنزلة حروف المعجم، يعني: التي لا معاني لها مفردة، أ ب ت ث ج، فإنه لا فائدة فيها كحروف مفردة، وإنما تكون الفائدة إذا تركبت وكونت كلمة، وأيضاً فإنه لا يحتاج إلى نفي علم الكيفية إذا لم يفهم من اللفظ معنىً؛ لأنه إذا كان لا يفهم له معنىً فهذا بطبيعة الحال لا يمكن أن يكون له كيفية مفهومة لدى الشخص، وإنما يحتاج إلى نفي علم الكيفية إذا أثبتت الصفات، وسبق أن تحدثنا عن أقسام الصفات، وقلنا: إن الصفات باعتبار الأدلة تنقسم إلى صفات عقلية، وهي: ما يدل عليها العقل استقلالاً مع ورودها في الشرع، وصفات خبرية، وهي ما لا يدل عليها العقل استقلالاً، مثل صفة الوجه والاستواء، والنزول، والإتيان والمجيء، وغيرها.
قال: [فإن من ينفي الصفات الخبرية -يعني: مثل المتأخرين من الأشاعرة- أو الصفات مطلقاً -يعني: كالمعتزلة- لا يحتاج أن يقول: بلا كيف؛ لأنه ليس هناك شيء يثبته حتى يكون له كيف، وإنما ينفي الكيف من يثبت أمراً وهو المعنى] فمن قال: إن الله سبحانه ليس على العرش، لا يحتاج أن يقول: بلا كيف، فلو كان من مذهب السلف نفي الصفات في نفس الأمر، يعني: كما يقول المفوضة؛ لأن المفوضة يقولون: السلف لا يثبتون الصفات كما هي في ظواهر النصوص، وإنما يقولون: إن ظواهرها غير مرادة، فينفون ظواهرها، وأما معانيها فلا يفهمون لها معنىً ويفوضونها إلى الله عز وجل، هكذا يتصورون.
ثم يقول: [وأيضاً فقولهم: أمروها كما جاءت، يقتضي إبقاء دلالتها على ما هي عليه، فإنها جاءت ألفاظاً دالة على معان] كما سبق أن أشرنا، وقلنا: كيف جاءت؟ جاءت ألفاظاً عربية لها معان يمكن للإنسان أن يتدبرها، وهذه المعاني لا يمكن أن تشابه المخلوقين؛ لأنها منسوبة إلى الخالق، وقد تقرر عقلاً وشرعاً في حس المسلم أن الخالق غير المخلوق، وأنه لا يمكن أن يشابهه بأي وجه من الوجوه.
ثم قال: [فإنها جاءت ألفاظاً دالة على معان، فلو كانت دلالتها منفية لكان الواجب أن يقال: أمروا ألفاظها مع اعتقاد أن المفهوم منها غير المراد، أو: أمروا ألفاظها مع اعتقاد أن الله لا يوصف بما دلت عليه حقيقة، وحينئذ فلا تكون قد أمرت كما جاءت ولا يقال حينئذ: بلا كيف، إذ نفي الكيف عما ليس بثابت لغو من القول].
إذاً: استدلال المفوضة بقول السلف: أمروها كما جاءت بلا كيف، لا وجه لهم فيه، فإنهم لا يمكن أبداً أن يأخذوا من كلمة الإمرار نفي المعنى، فإن كلمة الإمرار في حد ذاته لا يدل على نفي المعنى، وقد سبق أن أشار شيخ الإسلام رحمه الله إلى هذا كما ذكرنا.
فـالكوثري لما جاء إلى هذا النص علق في كتاب الأسماء والصفات وقال: هذا نص صريح، بمعنى: أن هذا الكلام نص صريح في نفي المعنى، وهذا هو اعتقاد السلف، خلافاً للذين يقولون: إن اعتقاد السلف أن لها معاني، فيشبهون الله بخلقه، قبحه الله.
ولا شك أنه لم يفهم كلام الإمام أحمد على وجهه الصحيح، فإن الإمام أحمد رحمه الله لم ينف المعنى الظاهر لنصوص الصفات، وإنما نفى المعاني الباطلة التي يؤولون إليها الصفات، وقد يقول قائل: كيف عرفت؟
والجواب: هو أن الإمام أحمد رحمه الله له نصوص كثيرة في كتب أهل السنة، وفي كتابه الرد على الجهمية، توضح أنه يعتقد أن لظواهر النصوص معاني، فكيف نلغي هذه النصوص الكثيرة التي تملأ كتبه رحمه الله، ثم نأخذ كلمة واحدة ونقول: إن هذا هو مذهبه.
وهذه طريقة أهل البدع والضلالة، فإنهم يأتون إلى عالم من العلماء فيأخذون بعض أقواله التي فيها احتمال، ثم يروجون عنه أن هذا هو مذهبه، وينسون أن له مقالات صريحة واضحة بينة ترد هذا الاعتقاد الذي زعموا، ولهذا فإن الإمام أحمد رحمه الله له كتاب واضح اسمه: الرد على الجهمية والزنادقة، وواضح من كتابه ومن خلال النصوص التي نقلت عنه في كتب أئمة أهل السنة، أنه يعتقد أن ظواهر النصوص مرادة، وأنها على حقيقتها بلا كيف.
إذاً: قوله: ولا كيف ولا معنى، فيه رد على المشبهة الذين كيفوا صفات الله عز وجل بصفات خلقه، وفيه رد على المعطلة الذين جاءوا بتأويلات باطلة من عند أنفسهم، وفسروا بها معاني النصوص، وجاءوا بمعان باطلة.
وقول الإمام أحمد : (ولا معنى)، ليس المقصود: أن نصوص الصفات ليس لها معنى في الحقيقة، ليس هذا مقصوده رحمه الله كما تدل عليه نصوصه الأخرى.
وأيضاً استدلوا بنفي بعض السلف تفسير نصوص الصفات، قالوا: إن بعض السلف نفوا تفسير نصوص الصفات، قالوا: ما دام أنه لا تفسير لها فلا معنى لها، فزعموا أن السلف يرون التفويض، وهذا أيضاً باطل، فإن التفسير الذي نفاه السلف هو التفسير الباطل، وهو المعنى الباطل، وهو الذي قالوا عنه: أمروها كما جاءت، يعني: لا تفسروها بمعان باطلة.
ونقل اللالكائي رحمه الله عن أبي عبيد القاسم بن سلام عندما سئل عن بعض أحاديث الصفات قال: هذه الأحاديث عندنا حق يرويه الثقات بعضهم عن بعض، إلا أنا إذا سئلنا عن تفسيرها قلنا: ما أدركنا أحداً يفسر منها شيئاً، ونحن لا نفسر منها شيئاً، نصدق بها ونسكت، قالوا: ما دام أنه لا يفسر شيئاً فلا معنى لها!
قلنا: لا، أنتم مبطلون في هذا، كيف تأخذون نصاً واحداً عن عالم، وتتركون بقية نصوصه الأخرى؟! هذا باطل وهذا من الظلم، ثم إن الدارقطني رحمه الله روى في كتابه الصفات نفس هذا الخبر، بما يدل على أن البيهقي رحمه الله يقول: لا نفسر، يعني: لا نكيف صفات الله، ولا نأتي بتفسير باطل لها، فساق الدارقطني بإسناده عن أبي عبيد رحمه الله أنه قال نفس النص بلفظ آخر، قال: هذه أحاديث صحاح حملها أصحاب الحديث والفقهاء بعضهم عن بعض، وهي عندنا حق لا شك فيه، ولكن إذا قيل: كيف وضع قدمه؟ وكيف ضحك؟ قلنا: لا يفسر هذا، ولا سمعنا أحداً يفسره.
إذاً: ما هو الشيء الذي قال عنه أبو عبيد : إنا لا نفسره؟ هو قوله: وإذا قيل: كيف؛ لأن الكيف مجهول لا يمكن أن نعرفه، وإن كان للصفات كيفية في نفس الأمر.
إذاً: نخلص من هذا أن استدلال المفوضة بما ورد عن السلف رضوان الله عليهم من إمرار الصفات، استدلال باطل فإنه ليس لهم فيه حق بأي وجه من الوجوه، وحينئذ نفهم أن السلف الصالح رضوان الله عليهم كانوا يقولون: إن نصوص الصفات لها معان، وأن هذه المعاني يفهمها الإنسان من لغة العرب، مع التزام واعتقاد أنه لا مشابهة بين الخالق والمخلوق أبداً.
فعندما نقرأ في القرآن إثبات صفة العلم، أو الحياة، أو الوجه.. أو غيرها من الصفات، فإنا نعتقد ثبوت هذه الصفات بمعانيها، ثم ننفي عنها مشابهة المخلوقين.
وقد سبق أن أشرنا أن أبرز من استدل للمفوضة هو أبو يعلى الحنبلي رحمه الله تعالى في كتابه: إبطال التأويلات، وهو رد على ابن فورك في كتابه: تأويل مشكل الحديث، أو مشكل الحديث وبيانه، وابن فورك أول ما نقل أحاديث ابن خزيمة رحمه الله في كتابه التوحيد، ومع كون أبي يعلى رد على ابن فورك وهو من علماء الأشاعرة، إلا أنه لم يكن محقاً في كثير من المسائل التي عرضها، ومنها: موقفه من نصوص الصفات، فإنه زعم أن نصوص الصفات تفوض، وأنه لا معاني لها، واستدل بآية آل عمران، وقد سبق أن نقلنا من كتابه نصوصاً تدل على ذلك، وكذلك استدل بما نقل عن السلف رضوان الله عليهم، وقد سبق أن أشرنا إلى الرد عليهم.
الأدلة على بطلان مذهب المفوضة متنوعة، يمكن أن نشير لبعضها، ثم نذكر مراجع للرد على أهل التفويض، ويمكن الرجوع إليها والاستفادة منها، فمن الردود أن نقول: إن مذهب المفوضة مخالف لكثير من نصوص القرآن الكريم، ومن هذه النصوص: النصوص الواردة في أن القرآن أنزله الله بياناً للناس، وأنه هدىً للناس، ووصف القرآن بأنه شفاء، وبأنه روح، فقد كان المفوضة يقولون: إن الصفات ليس لها معان، فلا يمكن أن تكون هدىً، ولا يمكن أن تكون بياناً، فإن البيان هو الواضح المعنى، والألغاز والأحاجي ليس لها بيان، والله عز وجل يقول: هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ [آل عمران:138]، ويقول عز وجل: إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ [الإسراء:9].
ويقول سبحانه وتعالى: شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ [البقرة:185]، فقول: (بينات) جمع بينة، وهي الحجة الواضحة، التي لا يعتريها شك ولا ريب، وكذلك عقيدة المفوضة فيها رد للآيات الواردة في وجوب تدبر القرآن، فإن الله عز وجل يقول: كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ [ص:29]، ويقول: أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا [محمد:24]، ويقول: أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا [النساء:82].
وذم الله عز وجل الذين لا يفقهون، ولا يعقلون، ولا يعلمون، يعني: لا يفقهون القرآن، ولا يعقلون آياته، ولا يفهمون ما تدل عليه.
وكذلك عقيدة المفوضة فيها إبطال لتيسير القرآن، فإن الله عز وجل يقول: وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ [القمر:17].
وهم يعتقدون أن كثيراً من معاني القرآن ليست واضحة ولا مفهومة، ولا شك أن الشيء إذا كان غير واضح ولا مفهوم لا يكون يسيراً بل يكون عسيراً.
وكذلك عقيدة المفوضة كما أن فيها إبطالاً لنصوص القرآن الكريم، ففيها أيضاً انتقاص لحكمة الله عز وجل ولرحمته، فإن من حكمة الله عز وجل ومن رحمته أن هدى الناس بهذا القرآن، ولو كان هذا القرآن فيه معان لا تفهم، وخصوصاً ما يتعلق بصفات الله عز وجل، فإنه لا شك أن في هذا قدحاً في حكمته، وقدحاً في رحمته سبحانه وتعالى.
بالإضافة إلى أن هذا القول الذي قالوه: إن نصوص الصفات ليست لها معان واضحة، مخالف لإخبار الله عز وجل أن هذا القرآن نزل بلسان عربي مبين، واللسان العربي المبين هو الواضح الذي يفهمه كل أحد.
ثم إن من الردود عليهم أنهم قطعوا مقوماً من أعظم مقومات الإيمان، وهو تدبر أسماء الله عز وجل وصفاته، فإن الإنسان عندما يتدبر أسماء الله عز وجل، ويتدبر صفاته سبحانه وتعالى، تنبت شجرة الإيمان في قلبه، وذلك عندما يعرف علم الله وحكمة الله سبحانه وتعالى، ورحمة الله عز وجل، ويدرك معانيها ويفهم حقيقتها، لكن إذا كان لا يتصور لها معنىً، ولا يفهم الفرق بين العلم والحكمة والرحمة ونحو ذلك، فلا شك أن هؤلاء حجبوا عن أنفسهم وعن الأمة باباً عظيماً من أبواب الإيمان، بل هو أصل الإيمان، وهو التدبر في أسماء الله وصفاته، ومعرفتها على وجهها الحق.
هذه بعض الأوجه التي يمكن أن نرد بها على هؤلاء، ويمكن أن يراجع كتاب الإكليل في المتشابه والتأويل، لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، وهي رسالة مطبوعة ضمن مجموع الفتاوى، وطبعت أيضاً ضمن مجموعة الرسائل الكبرى، وقد رد عليهم شيخ الإسلام رحمه الله في مواطن متعددة من كتبه، لكن في هذا الكتاب رده بشكل مركز، ومن الكتب التي ردت على هؤلاء في العصر الحاضر: كتاب للدكتور رضا نعسان اسمه علاقة الإثبات بالتفويض في صفات رب العالمين، وهو كتاب مطبوع، وأيضاً هناك رسالة ماجستير للأستاذ أحمد القاضي بعنوان: مذهب أهل التفويض في نصوص الصفات، وهي رسالة ممتازة جمع أطراف كلام شيخ الإسلام رحمه الله فيها، ويمكن أيضاً أن يراجع المجلد الثالث من كتاب موقف ابن تيمية من الأشاعرة للدكتور عبد الرحمن المحمود ، فقد عقد فصلاً أو مبحثاً صغيراً بعنوان: هل مذهب السلف التفويض، وناقشه مناقشة لا بأس بها.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ولا يجوز أيضاً أن يكون الخالفون أعلم من السالفين، كما يقوله بعض الأغبياء ممن لم يقدر قدر السلف، بل ولا عرف الله ورسوله والمؤمنين به حقيقة المعرفة المأمور بها، من أن طريقة السلف أسلم وطريقة الخلف أعلم وأحكم].
هنا تعليق ممتاز للمحقق، وهو أنه وجد في بعض النسخ إضافة كلمة، وإن كانت هذه العبارة صدرت من بعض العلماء لكنه يعني بها معنى صحيحاً، فهذه العبارة في بعض النسخ أضيفت إلى رسالة ابن تيمية هذه، وقد أثبت المحقق أن هذه العبارة ليست من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية من عدة اعتبارات، منها: أن هذه العبارة ليست موجودةً في جميع النسخ الخطية لهذا الكتاب، وهي تصل إلى تسع نسخ، عدا واحدة هي النسخة الظاهرية الموجودة فيها هذه العبارة.
والاعتبار الثاني: أن هناك نسخة هندية وجدت هذه العبارة معلقة على الهامش، مما يدل على أنها ليست من كلام الشيخ، ومنها أيضاً أن ابن عبد الهادي تلميذ شيخ الإسلام ابن تيمية نقل نصاً طويلاً من الحموية في كتابه العقود الدرية، ولم يذكر هذه العبارة، وكذلك مرعي بن يوسف الكرمي في ترجمته لـشيخ الإسلام .
أيضاً يقول: إن هذه العبارة باطلة في معناها، وقد تكون مدخلاً لتسويغ مقولة باطلة، وكلامه هذا صحيح، قال: [فإن هؤلاء المبتدعة الذين يفضلون طريقة الخلف على طريقة السلف إنما أتوا من حيث ظنوا أن طريقة السلف هي مجرد الإيمان بألفاظ القرآن والحديث من غير فقه لذلك، بمنزلة الأميين الذين قال فيهم: وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ [البقرة:78]، وأن طريقة الخلف هي استخراج معاني النصوص المصروفة عن حقائقها بأنواع المجازات وغرائب اللغات].
وهنا يمكن أن نشير إلى فائدتين:
الفائدة الأولى: هو تحديد معنى مصطلح السلف ومصطلح الخلف، فمصطلح السلف تكلموا عليه من ناحيتين: من الناحية اللغوية، ومن الناحية العرفية.
فمن الناحية اللغوية، سلف يعني: مضى، فكل من تقدم فهو من السلف، وبناءً على هذا المعنى اللغوي يشمل كل من تقدم سواءً كان صالحاً أو طالحاً، خيراً أو شريراً، والخلف: هو كل من تأخر، لكن ليس مقصود من تكلم على موضوع السلف وموضوع الخلف في كتب العقائد أنه المعنى اللغوي، وإنما مقصودهم المعنى العرفي.
والمعنى العرفي: أن السلف هم الذين تقدموا من الصحابة والتابعين والصالحين، ويندرج معهم من سار على نهجهم حتى لو كان من المتأخرين، فإنهم يسمون أتباع السلف، ولهذا قد يسميهم البعض: السلفيين، أي: أتباع للسلف المتقدمين الذين كانوا على عقيدة معينة، وهي طريقة الرسول صلى الله عليه وسلم والصحابة.
والخلف له معنى عرفي، وهو: من كان مخالفاً لطريقة السلف من أهل الكلام كالصوفية مثلاً، والفلاسفة الباطنية وغيرهم، فهؤلاء من الخلف، وإن كان قد يراد بكلمة الخلف في مثل هذا الموطن الأشاعرة، يعني: عندما يقال: منهج السلف أسلم، ومنهج الخلف أعلم وأحكم، قائل هذه العبارة يقصد بالسلف المتقدمين من الصحابة والتابعين وغيرهم، ويقصد بالخلف الأشاعرة من أهل الكلام.
والحقيقة أن كلمة السلف تطلق على كل من كان معتقداً للحق من الناحية العرفية، والخلف تطلق على كل من كان معتقداً للباطل، لا سيما في موضوع نصوص الصفات.
الفائدة الثانية: أن السبب الذي جعل هؤلاء ينسبون إلى السلف أنهم لا يفهمون للنصوص معاني، وأن الخلف المتأخرين الذين يؤولون النصوص هم أعلم؛ السبب في هذا هو الغرور، وهكذا فإن هذه الصفة إذا وجدت في أشخاص فإنهم يتجرءون على السلف، وسأذكر الخصلة التي وجدت عند هؤلاء، ثم أربطها بمجموعة موجودة في الواقع المعاصر الآن.
هؤلاء -أقصد الخلفيين- الذين يقولون: إن طريقة السلف أسلم، وأنهم مثل عوام الصالحين الذين لا يفهمون الكلام بشكل دقيق، ويصورونهم مثل الدراويش، يعني: ليسوا أصحاب عقليات، وأصحاب تفكير، وأصحاب منطق مثلاًً، نشأت هذه المشكلة عندهم من كتب اليونان، عندما ترجمت إلى الأمة الإسلامية درست، فلما درست تبناها مجموعة سموا بالفلاسفة، وهؤلاء الفلاسفة اعتقدوا عقائد باطلة، وقلدوا اليونانيين، فظهرت طائفة في المجتمع الإسلامي سميت المعتزلة فيما بعد، هؤلاء الطائفة ردوا على الفلاسفة، وقالوا: إنكم أنتم أصلاً مخالفون للعقليات.
ثم بعد إنكار السلف رضوان الله عليهم على هذه الطائفة الجديدة المنتسبة إلى الإسلام، الذين هم المعتزلة، وحصلت الفتنة التي هي فتنة خلق القرآن، وانتصر فيها أهل السنة، ظهرت طائفة من المنتسبين إلى السنة عظمت العقليات، وأعجبت بما عند المعتزلة وما عند الفلاسفة من استخدام العقل والتفكير، وظنوا أن من مقتضى استخدام العقل والتفكير أن ينقد السلف الصالح، وأن تنقد النصوص الشرعية؛ لأنهم فهموا أن السلف ليس عندهم عقليات، وأنهم أناس نصيون، يعني: يأتيه الأمر من الله أو من الرسول، ولا يفكر فيهما، وأن عقائد هؤلاء ليست مبنية على أمور يقينية، وعلى تفكير سليم، وعلى قناعة، وإنما هي مبنية على تسليم مجرد خالص لله عز وجل.
ولما تكونت هذه الفكرة عند هؤلاء بدءوا يعظمون أنفسهم، وأنهم أرباب العقليات، وبدءوا يعظمون استنباطاتهم التي يستنبطونها في المسائل الإلهية، وفي صفات الله، وفي وجود الله، وفي قضايا الأنبياء، وفي العقائد، وفي الاستدلالات العقلية، فلما عظموه هان في نفوسهم حال السلف، وهانت في نفوسهم النصوص الشرعية، ولهذا تجرءوا على النصوص الشرعية بالتأويل والإبطال للمعاني، وتجرءوا على السلف بوصفهم أنهم سذج سطحيون، يريدون السلامة فقط، والذي يريد السلامة لا يدخل في المغامرات الفكرية، وفي النقاش العقلي، هكذا يقولون.
هذا الغرور ولد عندهم هذه الجرأة على هؤلاء، ولا شك أن هذا غرور زائف، لأن هذه العقليات التي يزعمونها هي عبارة عن سراب بقيعة، ليس عليها برهان ولا دليل، ولهذا لما ظهر شيخ الإسلام ابن تيمية من المتأخرين -بعد ظهور هؤلاء- رد عليهم رداً عجيباً في كتابه درء تعارض العقل والنقل، وبين أن أدلتهم العقلية هي عبارة عن أوهام وليست أدلة، وإذا جئنا نتحدث عن الأصول العقلية التي نفوا من أجلها الصفات، سنبين كيف أن هؤلاء بنوا كثيراً من العقائد على أمور وهمية، وألزموا البشرية جميعاً بتبنيها، وأنهم لم يفهموا العقلية الكبيرة التي كانت عند السلف رضوان الله عليهم، وأن السلف لم يؤمنوا بالنصوص من باب التسليم المجرد فقط، وإنما هو تسليم ناتج عن يقين، واعتقاد جازم بأن هذا هو الحق الذي لا يرتاب فيه أحد، ولهذا جزموا بأن نصوص القرآن والسنة فيها أدلة عقلية، لكن هؤلاء أصلوا أدلة معينة، وزعموا أنها هي العقليات فقط، وأن ما سواها ليست عقلية.
فمثلاً الرجل الذي جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وهو حصين أبو عمران جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وكان مشركاً وكان رجلاً عاقلاً، قال: (يا
ومنها أيضاً الآية التي في سورة يس: وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ [يس:78-79]، وسنتحدث إذا جئنا إلى الصفات بإذن الله عن أدلتها العقلية الموجودة في القرآن الكريم بإذن الله تعالى.
يشابه هؤلاء في الواقع المعاصر اليوم العصريون، الذين جاءوا بالاتجاه العصري، والاتجاه العصري ليس اتجاهاً له أصول عقدية يمكن أن يحاكم إليها هؤلاء، وإنما عندهم فكرة عامة وهي: أن كل ما هو عصري فلا بد أن يكون فيه فائدة، ونحاول أن نقرب بين كل ما هو عصري، حتى لو كان مخالفاً للشرع، ولهذا ظهر بعضهم بفقه في مجال الإفتاء سماه فقه التيسير، وأصبح كل أمر يجد له مذهباً ولو شاذاً عند العلماء قديماً، يفتي به في الواقع المعاصر، فيبيح كشف الوجه والاختلاط، وسفر المرأة بدون محرم، وسماع الأغاني، ونحو ذلك من الأمور التي يفتي بها مثل هؤلاء.
ويشبه هذا بعض العصريين الذين أصبحوا ينتقدون المشايخ، وينتقدون أهل العلم، وينتقدون السلفيين، ويقولون: إن هؤلاء تقليديون، ويقولون: نحن في عصر الديمقراطية الآن، ويقولون: إن عمر بن الخطاب كان ديمقراطياً، ويبدءون يأخذون بعض النصوص، ويلوون أعناقها كما فعل المتكلمون السابقون، إذاً: هذه الفئة تشبه تلك، فقد هان في نفوس العصريين الآن علوم المشايخ وأهل العلم من السلفيين، فلما هانت في نفوسهم تجرءوا عليهم، ومن ثم تجرءوا على النصوص، وبدءوا يلعبون بالنصوص الشرعية في مجال الإفتاء، وفي مجال العقائد، وفي النظم الاجتماعية، وفي النظم السياسية، وفي النظم الاقتصادية، وأصبحنا نسمع من يفتي بإباحة الربا، ومن يفتي بجواز الخلوة، ومن يفتي للناس بكل ما يريدون، بل أصبحنا نسمع من يقول من هؤلاء: هل يمكن أن يدخل الفلاح الجاهل الأحمق الذي لا يفهم شيئاً الجنة؛ لأنه يقول: لا إله إلا الله، وفلان وفلان من أئمة الغربيين العمالقة الفكريين يدخلون النار؛ لأنهم ما قالوا: لا إله إلا الله؟ هكذا يفهمون، ولهذا دعوا إلى حوار الأديان، ودعوا إلى التقارب معها، ودعوا إلى الاجتماع في الملة الإبراهيمية، كما يريدون وكما يتصورون، وهؤلاء خطر حقيقي على المجتمع الإسلامي الآن، كما أن أهل الكلام كانوا قديماً -وما زالوا- خطراً على المجتمع الإسلامي أيضاً.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فهذا الظن الفاسد أوجب تلك المقالة التي مضمونها نبذ الإسلام وراء الظهر، وقد كذبوا على طريقة السلف، وضلوا في تصويب طريقة الخلف، فجمعوا بين الجهل بطريقة السلف في الكذب عليهم، وبين الجهل والضلال بتصويب طريقة الخلف].
ولا تتصوروا أن هذا الكلام سب فقط بل هم كذبوا حقيقة؛ لأنهم نسبوا إلى السلف شيئاً ما قالوه، ولا اعتقدوه، وهم جهلوا؛ وهذا أمر واقع، فإنه لا يمكن أن يكون من اعتقاد السلف أن هذه النصوص لا معاني لها، وما زال السلف رضوان الله عليهم يفسرون معاني النصوص، وارجعوا مثلاً إلى كتاب التوحيد والرد على الجهمية في صحيح البخاري ، وهو آخر كتاب من كتب صحيح البخاري ، وإلى باب قول الله عز وجل: وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ [هود:7]، ستجدون السلف رضوان الله عليهم يفسرون آيات الاستواء تفسيراً واضحاً، بأن معناه: العلو، والاستقرار، والارتفاع، ونحو ذلك، وهكذا يفسرون غيرها من النصوص الشرعية.
قال المؤلف رحمه الله: [وسبب ذلك اعتقادهم أنه ليس في نفس الأمر صفة دلت عليها هذه النصوص بالشبهات الفاسدة التي شاركوا فيها إخوانهم من الكافرين].
هذا سبق أن أشرنا إليه، وقلنا: إن هؤلاء يعتقدون أنه ليس هناك صفات حقيقة تؤخذ من ظواهر النصوص، والسبب هو أصول عقلية أصلوها في إثبات وجود الله، وفي وحدانية الله، وفي إثبات النبوة، وفي إثبات البعث، والجزاء، والمعاد، وجعلوا هذه الأصول العقلية هي الأصول التي تحاكم إليها النصوص، فأولوا النصوص وحرفوها بناءً على ذلك.
قال المؤلف رحمه الله: [فلما اعتقدوا انتفاء الصفات في نفس الأمر، وكان مع ذلك لا بد للنصوص من معنىً، بقوا مترددين بين الإيمان باللفظ وتفويض المعنى -وهي التي يسمونها طريقة السلف- وبين صرف اللفظ إلى معان بنوع تكلف -وهي التي يسمونها طريقة الخلف- فصار هذا الباطل مركباً من فساد العقل والكفر بالسمع، فإن النفي إنما اعتمدوا فيه على أمور عقلية ظنوها بينات وهي شبهات، والسمع حرفوا فيه الكلام عن مواضعه، فلما ابتنى أمرهم على هاتين المقدمتين الكاذبتين الكفريتين، كانت النتيجة استجهال السابقين الأولين واستبلاههم].
استبلاههم يعني: يعتقدون أنهم بله لا يفهمون شيئاً.
قال المؤلف رحمه الله: [واعتقاد أنهم كانوا أميين بمنزلة الصالحين من العامةلم يتبحروا في حقائق العلم بالله، ولم يتفطنوا].
حتى إن بعضهم يبرر لهذا القول، يعني: عندما يستبلهون السلف السابقين ويرون أنهم مساكين، وأنهم يفهمون فهماً سطحياً للنصوص، يبررون هذا ويقولون: لأنهم اشتغلوا بالجهاد وانشغلوا فصاروا يقاتلون الرومان، ويقاتلون الفرس، ولم يتفرغوا لتأصيل العلم وتقعيد العلم ونحو ذلك، وما دروا أن اشتغال السلف رضوان الله عليهم بالجهاد، هو الذي أعز الله عز وجل به هذا الدين, وهو الذي منع الأمة من الابتداع حتى تركت الجهاد، ورضيت بأذناب البقر، واشتغلت بالعقليات الفاسدة، فأخرجوا لنا هذه النتائج المنتنة من البدع الضالة.
قال المؤلف رحمه الله: [ولم يتفطنوا لدقائق العلم الإلهي، وأن الخلف الفضلاء حازوا قصب السبق في هذا كله].
السؤال: لقد ذكرت أن من الرد على مذهب المفوضة أنهم بكلامهم قد قدحوا في حكمة الله؟
الجواب: نعم، وجه القدح في حكمة الله عز وجل هو أن الله عز وجل من حكمته أنه عندما أرسل الرسول وأنزل الكتاب أنزله هداية للناس، وهذا أمر واضح، فإذا كانت هذه النصوص التي أنزلها الله ليست لها معان، فهذا قدح في حكمته، في كونه ينزل هذا القرآن على الناس، من أجل أن يكون هداية للناس ثم لا يكون.
السؤال: ما رأيك فيمن يقول: إن تعلم الأسماء والصفات لا يجدي، ولا الخوض فيها، ومعرفة أقوال المخالفين والرد عليهم، وإنما الاقتصار على كلمة: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ [الشورى:11]؟
الجواب: المشكلة أن كثيراً من الناس يتكلمون بغير علم، ولو أن كل إنسان ليس عنده علم سكت -حتى لو كان كبيراً وحتى لو كان شخصيةً معروفة- لارتاحت هذه الأمة، ولارتاح هو وأراح الناس، لكن المشكلة أن مثل هذه العبارات تخرج من أشخاص لم يفهموا العلم ولم يدرسوه ولم يقرءوه، ولا فهموا مقاصده، فتجد أنه شخص سطحي بسيط تربى على كتب المثقفين، وعلى بعض الكتابات التي كتبها بعض شيوخه وأساتذته، فإذا جاء إلى موضوع عميق في أصول الدين مثل موضوع الأسماء والصفات تكلم فيه بمثل هذا الكلام.
كيف يقول هذا الرجل: إن تعلم الأسماء والصفات لا يجدي مع أن القرآن والسنة مليئان بالأسماء والصفات، فلو جمعنا الآيات الموجودة في القرآن التي فيها أسماء وصفات لزادت عن نصف القرآن، فقوله: يعني أن نصف القرآن أو ثلث القرآن غير مهم، ولا يجدي تعلمه، كيف يقول مثل هذا القول؟ ثم يقول: ولا الخوض فيها، مع أننا نعلم أن هذه من أصول الإيمان، كيف لا يجدي الخوض في صفات ربك الذي تعبده؟ كيف لا يجدي الخوض في أسماء ربك التي سمى بها نفسه؟ لكن الخوض بالحق وليس بالباطل، فإن قصد أنه لا يجدي الخوض فيها بالباطل، فنحن لا نقول: لا يجدي، بل نقول: هذا بدعة وضلالة، وقد تصل بالإنسان إلى الكفر.
ولهذا فإن هذه القضية قضية حيوية؛ لأنها متعلقة بالمعبود الذي نعبده، والذي نصلي له كل يوم، ونصوم له، ونتعبد له سبحانه وتعالى، فهي قضية حيوية ومهمة، وقد امتلأت بأسمائه وصفاته نصوص القرآن والسنة، حتى الآيات المتعلقة بالأحكام الفقهية بالحيض والنفاس، قال تعالى: وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ [البقرة:222]، فهذه فيها صفة المحبة، هل الله عز وجل يحب؟ نعم، كما تدل عليه نصوص أخرى، فعندما يأتيني جهمي ويقول: إن الله لا يحب، فإني أرد عليه وأقول: إن عقيدتك باطلة وفاسدة، فلا شك أن هذا الإنسان تكلم في هذه المسألة بغير علم، ولو أنه قرأ كتب أهل العلم، وفكر في المسألة، وراجع القرآن والسنة لما قال مثل هذا الكلام.
السؤال: نرجو التوجيه بالحديث الذي ينسبونه للرسول صلى الله عليه وسلم: (ما وسعتني سمائي ولا أرضي، ولكن وسعني قلب عبدي المؤمن)؟
الجواب: هذا حديث باطل ليس بصحيح، ويمكن مراجعة كتاب المقاصد الحسنة في بيان كثير من الأحاديث المشتهرة على الألسنة، للإمام السخاوي رحمه الله، فقد ذكر هذا الحديث وبين بطلانه.
السؤال: أشكل علي قول ابن تيمية رحمه الله في ثنايا قوله في الرد على مقولة المفوضة: شاركوا فيها إخوانهم من الكافرين، فهل يرى ابن تيمية رحمه الله تكفير أصحاب هذه المقالة؟
الجواب: لا يلزم من قول ابن تيمية هذا أنه يكفر أصحاب هذه المقالة، لكن المقصود: أن هؤلاء شاركوا الكافرين في مقالتهم، ثم الحكم عليهم يحتاج إلى وجود الشروط التامة فيهم، وانتفاء الموانع عنهم حتى يكونوا من الكافرين، ولهذا قد يشارك الإنسان أحياناً إبليس في صفة الحسد والكبر، فلا يكون مثل إبليس مائة بالمائة.
وهكذا لما شاركوا هؤلاء الكفار في هذه الفكرة لا يلزم أن يكونوا كفاراً مثلهم، وبعض الناس الآن قد يشارك بعض الكفار في بعض الصفات، سواء كانت صفات خلقية أو خلقية، فيصح أن يقال: شاركوا الكفار في كذا، ولا يلزم من هذا التكفير.
أما قوله: (إخوانهم)، فلا يلزم من ذلك أنه يكفرهم، لأمرين: لاحتمال أن يقصد بإخوانهم: أصحابهم ممن ناقشوهم وناظروهم، فإن الله عز وجل يقول: وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ [الأحقاف:21]، وليس مقصوده أنه أخوهم في الدين، وإنما المقصود: صاحبهم في السكن، وفي النسب، وفي الدعوة والإصلاح، هذا من وجه.
والوجه الثاني: أنه ربما أراد ابن تيمية رحمه الله التنكيل بهم؛ لأنهم شاركوا الكافرين، فنسبهم إليهم في مثل هذه الحالة، والمقام الذي تحدث عنه ابن تيمية ليس مقام حكم، ولهذا لا يصح أن نأخذ من كلام أهل العلم أحكاماً وهو ليس في سياق الأحكام، فقد نفهم أن هذا الكلام جاء به ابن تيمية وكتبه وهو مغضب على هؤلاء، وليس قصده تقرير الحكم الشرعي فيهم، فإنه إذا أراد أن يقرر الحكم الشرعي فيهم تغيرت طريقته بالمرة، وحينئذ لا يصح أن يقتنص الإنسان كلمة ويقول: إن ابن تيمية يكفرهم، هذا لا يصح، وقد تكلم ابن تيمية على مسألة تكفير الفرق في رسالة له مطبوعة ضمن مجموع الفتاوى.
السؤال: كثيراً ما نسمع عن أصول أهل السنة، ومن ذلك: طاعة ولي الأمر، فما هي أصول السنة والجماعة، وكم عددها؟
الجواب: المقصود بأصول أهل السنة والجماعة القواعد العامة في الأبواب المتنوعة التي يعتقدها أهل السنة رضوان الله عليهم، ففي باب الإيمان بأسماء الله لهم أصول، وفي الإيمان بالصفات لهم أصول، وفي الإيمان بالقدر لهم أصول، وفي الإيمان بالملائكة والغيبيات لهم أصول، وفي الإيمان بالبعث واليوم الآخر لهم أصول، وهكذا لهم أصول متنوعة، ويمكن أن نعرفها من خلال الدراسة والبحث والاستقصاء، وهي ليست محصورة في عدد معين؛ لأن التقسيم العلمي يختلف من كاتب إلى آخر، فقد يضم بعض العلماء أصلين أو ثلاثة أصول ويجمعها سوياً ويجعلها تحت أصل واحد، وبعضهم قد يوزعها ويفرقها، فالسؤال عن العدد لا يمكن الإجابة عنه؛ لأن طريقة أهل العلم تختلف من كتاب إلى كتاب آخر، لكن هذا هو المقصود.
السؤال: كيف نرد على العصريين وانتقادهم للسلف الصالح، وقولهم: إنهم سطحيون؟
الجواب: هذا قول باطل؛ لأن السلف الصالح ليسوا سطحيين، عرفنا ذلك من خلال هذه الحضارة الكبرى التي أسسها السلف رضوان الله عليهم، منذ زمن الصحابة رضوان الله عليهم إلى يومنا المعاصر، فإن هذه الحضارة لا يمكن أن تنتج عن سطحيين في مجال السياسة، وفي مجال المال، وفي مجال الدعوة والإصلاح، وفي مجال التعليم، فقد كانت بغداد فيها أكثر من ثلاثة مليون نسمة، وفي الوقت نفسه كانت باريس ليس فيها إلا ثلاثة آلاف نسمة، فضلاً عن الجامعات الكبرى التي كانت موجودة في بغداد، والجهل الذريع الذي كان موجوداً في باريس، ونحن لا يهمنا أن نقارن أنفسنا بالغرب، فالغرب لا يستحق أن نقارن أنفسنا بهم، لكن نقول هذا الكلام في الرد على العصريين؛ لأنهم يعظمون الغرب، ولأنهم يرون أن الحضارة هي حضارة الغرب، نقول: هذه الحضارة الضخمة الكبيرة التي بناها المسلمون هل تنتج عن سطحيين؟ لا يمكن أن تنتج عن سطحيين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر