في الدرس الماضي تحدثنا عن الحاجة لدراسة العقيدة، وعن منزلة كتب شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله بشكل خاص من بين كتب العقيدة الأخرى، وعن كتاب (الفتوى الحموية الكبرى) الذي نحن بصدد شرحه، وأيضاً عن طبيعة تأليف هذا الكتاب وكونه جواباً لسؤال، ومن طبيعة الجواب على السؤال أن يكون فيه تكرار، وأن يكون فيه تقديم وتأخير، وتكلمنا عن طبيعة تأليف شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، وهو أنه يستطرد كثيراً، وأيضاً تحدثنا عن الطريقة التي سنشرح بها هذا الكتاب بإذن الله تعالى، وهو تقسيم الكتاب على شكل وحدات موضوعية، ثم بعد ذلك نشرح هذه الوحدات ونعرف مواقعها في الكتاب، وسنقرأ وسنشرح الكتاب -بإذن الله- بشكل مفصل.
وإنما اخترنا هذه الطريقة التي هي طريقة الوحدات الموضوعية لما فيها من ربط المسائل بعضها ببعض، فإن ربط المسائل بعضها ببعض مهم جداً لطالب العلم، وفي هذا حل للإشكال الذي يذكره كثير من الإخوة من أن طريقة شيخ الإسلام ابن تيمية في التأليف طريقة صعبة، ويشق على بعض القارئين لها أن يستفيدوا منها، وقد أمليت في اللقاء الماضي الوحدات الموضوعية التي سنتحدث عنها بإذن الله.
والموضوع الأول هو: موضوع يقينية منهج السلف الصالح وعصتمه.
وسنتحدث عن هذا الموضوع في ست مسائل بإذن الله.
المسألة الأولى: المراد بمنهج السلف الصالح المحكوم له باليقينية والعصمة:
منهج السلف الصالح رضوان الله عليهم المقصود به: ما أجمعوا عليه من مسائل الاعتقاد وأصول الأحكام.
والمراد بمنهج السلف الصالح المعصوم هو المنهج الذي أجمعوا عليه، وليس المقصود به آحاد السلف الصالح رضوان الله عليهم، فليس قول الواحد من السلف حجة، وإنما الحجة فيما أجمعوا عليه.
والمراد بحديثنا في هذه الفقرة هو ما أجمع عليه السلف رضوان الله عليهم من مسائل العقيدة وما أجمعوا عليه من أصول الأحكام، فقد أجمع السلف رضوان الله عليهم في مسائل العقيدة على أن الله يرى يوم القيامة، وهذا المعنى الذي أجمعوا عليه معصوم ويقيني لا شك فيه، كما أنهم أجمعوا على أن الزاني المحصن المتزوج إذا وجدت فيه الشروط وانتفت عنه الموانع فإنه يرجم بالحجارة حتى الموت، وهذا أمر أجمعوا عليه، وهو يقيني ومعصوم أيضاً في نفس الوقت.
إذاً: ينبغي أن نستصحب هذا المعنى في دراستنا لهذه الفقرة، وهو أنه ليس المراد بعصمة منهج السلف أن أقوال السلف على شكل أفراد معصومة، فإذا جاء أحد -مثلاً- وقرأ في بعض كتب السلف وقرأ نصاً لأحدهم ظن أنه معصوم وظن أنه يقيني، ليس هذا هو المراد، وإنما المراد ما أجمعوا عليه جميعاً، وعندما تعامل بعض الناس مع أقوال السلف مفردة على أنها معصومة أخطئوا خطأ كبيراً في التعامل مع الناس، وألزموهم بما لم يلزمهم الله سبحانه وتعالى به!
فليس قول واحد من الصحابة أو قول واحد من التابعين، أو قول واحد من علماء الأمة أو ممن له قدم صدق فيها حجة دون غيره، وإنما الحجة تكون في إجماعهم وفي اتفاقهم على معنى من المعاني، أو على قول من الأقوال، أو على إرادة من الإرادات، أو على فعل من الأفعال، فإذا أجمعوا عليه فإن إجماعهم حجة.
المسألة الثانية هي: يقينية منهج السلف وعصمته مأخوذة من يقينية مصدره.
وذلك أن مصدر السلف الصالح رضوان الله عليهم هو الكتاب والسنة، ولا شك أن الكتاب والسنة مصدر معصوم، وفي نفس الوقت مصدر يقيني، والدليل على أن الكتاب والسنة معصومان وأن ما فيهما حق لا شك فيه بأي وجه من الوجوه هو أن الرسول صلى الله عليه وسلم معصوم وهو الذي جاء بالقرآن وجاء بالحكمة، وهي السنة، وهذا القرآن حق، وما دل عليه القرآن فهو حق، ومنهج السلف مأخوذ من القرآن ومأخوذ من السنة، فتلحقه اليقينية، وتلحقه العصمة التي لحقت أصله وهو القرآن والسنة.
ومن لا يعتقد بيقينية القرآن وعصمة القرآن فلا شك أنه ليس من المسلمين، فإذا ناقش أحد في يقينية القرآن، وأنه حق من عند الله عز وجل فإننا نثبت له ذلك من أدلة صدق النبي وصدق ما جاء به، والرسول صلى الله عليه وسلم وجب اتباعه علينا؛ لأن ما جاء به حق، ومعرفتنا بكون ما جاء به حق لم تأت بمجرد دعواه أن ما جاء به حق، فإنه ليس كل من ادعى أنه نبي يكون كذلك، فقد ادعى أشخاص كثيرون النبوة وهم ليسوا من الأنبياء، كـمسيلمة الكذاب وسجاح وطليحة الأسدي والأسود العنسي وغيرهم ممن ادعوا النبوة وهم كذابون، فإذا كان الأمر كذلك فكيف نعرف صدق النبي صلى الله عليه وسلم؟ هل وضح للمشركين الذين جاء إليهم يقينية دعوته وأنها معصومة أو لم يوضحه؟
وللجواب على هذا السؤال نقول: لقد وضح النبي صلى الله عليه وسلم عصمة رسالته، ووضح للناس أن رسالته يقينية وأنها حق لا تقبل الجدال ولا تقبل النقاش، وقد عرفوا ذلك وأيقنوا به ولم يشكوا فيه، وذلك أنه يمكن أن نلخص أدلة صدق الرسول صلى الله عليه وسلم في ثلاثة أمور:
الأمر الأول: تضمن الوحي الذي جاء به لما يدل على عصمته وصدقه ونبوته؛ فإن الوحي الذي جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم يتضمن أنه حق، وأنه صادق، وأن ما جاء به من عند الله ليس من وساوس الشياطين؛ لأن القرآن الموجود بين أيدينا يدل دلالة يقينية على أن هذا الكلام الموجود فيه إنما هو كلام الله، ويدل على ذلك ثلاثة أمور:
الأمر الأول: أن الله عز وجل تحدى المكذبين أن يأتوا بمثل هذا القرآن، بل تحداهم بأن يأتوا بعشر سور مثله، بل تحداهم بأن يأتوا بسورة واحدة من مثله، وهذا التحدي ما زال مستمراً إلى قيام الساعة، ومع هذا لم يأت أحد بمثل ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم من هذا القرآن، يقول الله عز وجل: قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا [الإسراء:88]، ويقول سبحانه وتعالى: أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ [هود:13]، ويقول الله سبحانه وتعالى: وَإِنْ كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ [البقرة:23]، ولا يزال هذا التحدي مستمراً إلى قيام الساعة، ولم يأت أحد بمثل هذا القرآن ولا بشيء منه، وهذا يدل دلالة ظاهرة على أن هذا القرآن من كلام الله، وليس من كلام البشر.
فإذا كان القرآن من كلام الله وليس من كلام البشر فله مميزات تختلف عن كلام البشر، كما أن لصفاته مميزات تختلف عن صفات البشر، وبناءً على هذا نعلم أن هذا الوحي حق، وأنه يتضمن بيان أنه حق.
ومما يدل على أن القرآن يتضمن الحق في نفسه وأنه يدل على صدق الرسول أنه أخبر عن مغيبات فوقعت كما أخبر، ومن تلك المغيبات التي أخبر عنها القرآن ونحن نراها: حفظ القرآن، فقد أخبر الله عز وجل أن هذا القرآن محفوظ، كما قال الله عز وجل: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [الحجر:9].
وهذا القرآن محفوظ إلى اليوم، وقد مضى عليه أكثر من أربعة عشر قرناً ولم يتغير ولم يتبدل، ولم يزد فيه أحد حرفاً واحداً، وهذا يدل دلالة يقينية على أن القرآن حق؛ لأنه أخبر سبحانه أنه محفوظ، مع أن الكتب الماضية التي أنزلها الله عز وجل على أنبيائه كالتوراة والإنجيل وغيرها لما لم يخبر الله عز وجل أنها محفوظة بدلها أتباعها في وقت قصير جداً، فمثلاً: بعد وفاة المسيح بفترة بسيطة تغيرت الأناجيل، وأصبحت أربعة أناجيل بعد أن كان إنجيلاً واحداً هو الذي نزل من السماء، وهذا يدل على أن هذا القرآن حق، فإنه أخبر عن هذا الأمر الغيبي الذي سيحصل في المستقبل، فوقع كما هو، وسيستمر حفظ الله لهذا القرآن إلى قيام الساعة.
ومن الأمور المغيبات التي أخبر الله عز وجل عنها: ظهور الدين وتمكينه للصحابة رضوان الله عليهم فقادوا الأمم، وقد أخبر الله عز وجل عن هذا الأمر في فترة كانوا فيها من المستضعفين، فوقع ما أخبر الله سبحانه وتعالى به، وظهر الصحابة رضوان الله عليهم حتى إنه في زمن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فتحت الأندلس في أوروبا بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم باثنتين وثمانين سنة، ففتحت الأندلس وهي جزء من أوروبا في سنة 92هـ، يقول الله عز وجل: يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ [الصف:8].
وهناك مغيبات متعددة أخبر عنها القرآن فوقعت كما هي، مثل غلبة الروم للفرس، كما ذكر ذلك عز وجل في سورة الروم، ويمكن مراجعة ذلك في كتب التفسير.
ومما يدل على تضمن القرآن للحق والصدق أنه تضمن أموراً علمية يكتشفها الناس اليوم وهي حق لا شك فيه، ويمكن أن تراجع الكتب التي عنيت بهذا الأمر.
الأمر الثاني: دلالة المعجزة على النبوة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم جاء بمعجزة خارقة لسنن الله في الكون، ولا يمكن أن يخرق سنة الله عز وجل في الكون إلا هو عز وجل، ولا يمكن أن يخرقها الله إلا لنبي، ولهذا فإن المعجزات دلائل يقينية على أن هذا الرجل مرسل من عند الله سبحانه وتعالى.
وقد يقول قائل: ما هو الفرق بين معجزة النبي وسحر الساحر؟
والجواب: أن سحر الساحر ليس فيه خرق لسنن الله الكونية الجارية، ولهذا فإن السحر يمكن لإنسان عادي أن يتعلم السحر فيصبح ساحراً، فالسحر ليس أمراً خاصاً من الخرق لسنن الله في الكون، وليس هذا شأنه، وإنما السحر صنعة، وعلى الرغم من أنه عجيب وغريب لكنه ليس أمراً لا يقدر عليه إلا الله.
فالفرق بين المعجزة والسحر: أن السحر مقدور عليه من البشر، فهم قادرون على تعلمه، بينما المعجزة لا يقدر عليها إلا الله عز وجل، ولذلك دلت على نبوة النبي.
وأوضح أمر يفرق بين السحر والمعجزة هو ما حدث عندما اجتمع سحرة فرعون مع موسى عليه السلام، فألقوا ما في أيديهم العصي والحبال فإذا هي حيات، فعندما جاء موسى عليه السلام بعصاه وألقاها أكلت عصيهم فعرف السحرة -وهم أهل التخصص والذين يعرفون فنهم بشكل جيد- أن هذا الذي جاء به موسى عليه السلام ليس من جنس العمل الذي يقومون به، فهو مختلف عنه، ولهذا آمنوا في نفس المكان، فإذا كان أهل التخصص وأهل الشأن أن هذا العمل الذي جاء به موسى عليه السلام ليس من جنس العمل الذي جاءوا به، فهم أعرف به، وحينئذ يدرك الإنسان أن المعجزة ليست من جنس السحر ونحو ذلك.
فبين النبي الصادق والساحر الكاذب فروق كثيرة، منها: أن معجزة النبي خارقة لسنن الكون لا يقدر عليها إلا الله، بينما سحر الساحر ليس خارقاً لسنن الله في الكون، ويقدر الإنسان أن يتعلمه وإن كان عجيباً وغريباً في نفسه.
وكذلك النبي له أحوال وله صفات وله أخلاق وله آداب تختلف عن الساحر، فالنبي صادق لا يمكن أن يكذب، معتدل الطبع، يحسن إلى الآخرين، ليس به جنة، لم يأت بالدعوة التي جاء بها من أجل أن ينتصر ويكون صاحب مكانة؛ فهو لا يعرف بحبه للظهور والشهرة ونحو ذلك، بينما الساحر حاله مختلف عن ذلك، فأغلب السحرة تجد أنهم يعتنون بالقاذورات والأوساخ، فبعضهم لا يغتسل من الجنابة، وبعضهم قد يكذب على الناس ويغرر بهم.. ونحو ذلك.
إذاً: هناك فرق كبير بين هذا وهذا، وهذا الفرق يدل على أن النبي صادق، وعلى أنه من عند الله، وعلى أن ما جاء به حق لا شك فيه.
الأمر الثالث: دلالة أحوال النبي وصفاته، ولهذا جاء في الحديث الطويل الذي رواه البخاري عن ابن عباس ، أن هرقل سأل عن النبي صلى الله عليه وسلم أبا سفيان مجموعة من الأسئلة، وهو لم ير الرسول صلى الله عليه وسلم، فلما أجاب عنها عرف من خلال هذه الأسئلة أنه رسول حقاً، فقال له: والله! إن صدقت فيما قلت إنه لرسول الله، وليملكن موضع قدمي هاتين، وفي بعض الروايات: وإنني لو خلصت إليه لتجشمت لقاءه، ولغسلت عن قدميه وشربت مرقتها.
فاكتشف أنه نبي من عند الله من خلال الأسئلة التي كشفت عن أحواله، فهو ليس له أب من الملوك يريد أن ينتصر لملك أبيه، وهذا الرجل لم يأت بهذه الدعوة في فترة الشباب وفترة الحماس وفترة الطفرة، لم يأتِ بهذه الدعوة إلا بعد الأربعين، حيث السكون والهدوء والبعد عن الانفعالات العاطفية، وهذا الرجل أيضاً يتبعه الفقراء، ولا يتبعه الأغنياء، وهذا الرجل إنسان يتعامل مع الواقع الذي خلقه الله عز وجل بما يقتضيه، فقد يُهزم وقد يَهزم، فعرف أن هذه هي صفات الأنبياء الذين يأتون بالوحي من عند الله سبحانه وتعالى.
إذاً: ما يدل على صدق الرسول صلى الله عليه وسلم يدل على أن هذا الوحي من الله، والذي يدل على صدق الرسول أدلة برهانية يقينية لا تقبل الشك ولا تقبل الجدال إلا من معاند، لكن الذي يريد الحق والذي يكون منطقياً في تفكيره فإنه يقبل هذه الحجج وهذه الأدلة وهذه البراهين، فإذا ثبت عندنا صدق الرسول بالبراهين فإنه يثبت عندنا أن الوحي حق، وإذا ثبت عندنا أن الوحي حق ثبت عندنا أنه يقيني غير ظني، وثبت أنه معصوم، وإذا ثبت عندنا أن الوحي يقيني معصوم ثبت عندنا أن منهج السلف الصالح وما أجمعوا عليه المأخوذ من هذا الوحي يقيني ومعصوم لا يقبل الشك ولا يقبل الجدال، ولهذا كما أن الله عز وجل حفظ هذه الأمة بحفظ كتابها كذلك حفظها في منهجها، فقد حفظ الله عز وجل هذه الأمة بأمرين:
الأمر الأول: وجود طائفة على الحق من أتباع السلف الصالح إلى قيام الساعة، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: (لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين، لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك).
الأمر الثاني: وجود مجدد لهذا الدين الحق الصحيح في كل قرن، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله يبعث على رأس كل مائة عام لهذه الأمة من يجدد لها أمر دينها)، فحفظت هذه الأمة في كتابها، فحفظت من الجانب العلمي ومن الجانب العملي، فمن الجانب العلمي حفظت بحفظ كتابها، ومن الجانب العملي حفظت بحفظ الطائفة المنصورة القائمة على الحق، ولهذا جاء في بعض الألفاظ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين يقاتلون عليه)، ولهذا فإن ظهورهم بين، يقول الشيخ عبد الرحمن أبابطين : ظاهرين بالحجة دائماً وبالسيف أحياناً.
المسألة الثالثة: هل تكلم الرسول صلى الله عليه وسلم في العقيدة أم أهملها؟ لأننا نرى أن كثيراً من المتأخرين من أهل الكلام ومن الصوفية ومن الفلاسفة ومن العصرانيين الجدد يتكلمون في العقائد بعيداً عن النصوص الشرعية من كتاب الله ومن سنة الرسول صلى الله عليه وسلم، فنحن نتساءل: هل النبي صلى الله عليه وسلم وضح أمر العقيدة والإيمان بالله في أسمائه وصفاته وأفعاله وعبادته وفي أمر القدر والغيبيات، وفي أمر الموالاة والمعاداة وغير ذلك من الأمور المهمة المتعلقة بهذه الأمة، أم أهملها؟!
وللجواب على هذا السؤال نقول: لقد تضمنت رسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم بيان الحق في أصول الدين وفروعه، والدليل على ذلك قول الله عز وجل: هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ [التوبة:33]، والهدى المقصود به: العلم الصحيح النافع، ودين الحق المقصود به: العمل الصالح، وهذا العمل الصالح لا يكون صالحاً إلا بتحقيق المتابعة للرسول صلى لله عليه وسلم، وإخلاص العمل لله سبحانه وتعالى.
فرسالة الرسول صلى الله عليه وسلم جاءت متضمنة لبيان الحق في أصول الدين وفروعه، وفي المسائل وفي الدلائل، ولهذا يقول الله عز وجل: مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ [الأنعام:38]، ويقول الله عز وجل: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا [المائدة:3]، وسيأتي أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر بكل شيء، وما ترك طائراً يقلب جناحيه في السماء إلا ترك لأصحابه رضوان الله عليهم منه خبراً، وسيأتي معنا مجموعة من الأدلة عند قراءتنا للمقطع الذي يتعلق بيقينية منهج السلف رضوان الله عليهم، وهذه الأدلة تدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم علم أصحابه كل شيء، حتى آداب قضاء الحاجة، فقد علمهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ذهب أحدهم إلى الخلاء ماذا يقول، وإذا خرج من الخلاء ماذا يقول، وإذا نام ماذا يقول، وإذا استيقظ ماذا يقول، وإذا جامع زوجته ماذا يقول، فهل تتصورون أن الرسول صلى الله عليه وسلم علم أصحابه هذه الأمور الدقيقة ولم يعلمهم الأمور العظيمة التي فيها صلاح عقائدهم وصلاح دينهم، ومعرفتهم لربهم وخالقهم سبحانه وتعالى؟
وهل تتصورون أن النبي صلى الله عليه وسلم علم أصحابه آداب قضاء الحاجة ولم يعلمهم الصفات حتى احتجنا إلى مصدر آخر نأخذ منه الصفات؟
لا شك أن النبي صلى الله عليه وسلم شرح لأصحابه أمور العقائد شرحاً مفصلاً أكثر من أي باب من أبواب الدين الأخرى؛ لأنها هي الأصول والقواعد الأساسية التي يرتكز عليها الدين، فهل تتصورون أن الرسول صلى الله عليه وسلم يعلم أصحابه صفات الملائكة وصفات الرسل والكتب السابقة ويعرض عن صفات المعبود التي تتوق إلى معرفته كل نفس صالحة طيبة؟ لا يمكن أن يعرض عن ذلك.
إذاً: عندما ندرك أن الرسول صلى الله عليه وسلم علم أصحابه الأمور اليسيرة فلا شك أنه علمهم الأمور العظيمة من باب أولى، وهذا قياس صحيح قوي، وهو الذي يسميه أهل العلم: قياس الأولى.
وكذلك يستحيل أن يهمل الرسول صلى الله عليه وسلم بيان الحق المغني في باب الأسماء والصفات وفي باب أفعال الله عز وجل وعبادته، ويدل على ذلك عدة أمور:
الأمر الأول: أن النبي صلى الله عليه وسلم أنزل الله عليه القرآن، ووصف الله عز وجل هذا القرآن بأنه نور، وأنه هدى، وأنه شفاء، وأنه روح، وهذه الأسماء تدل على موصوفات هي وصف للقرآن الكريم، فلا يمكن أن يكون روحاً وهو لم يبين الأسماء والصفات، ولا يمكن أن يكون نوراً وهو لم يبين الأسماء والصفات، ولا يمكن أن يكون هدى وهو لم يبين الأسماء والصفات.
ونستنبط من أسماء القرآن الكريم وما بعث به الرسول صلى الله عليه وسلم من القرآن ما يدلنا على أن النبي صلى الله عليه وسلم قد وضح العقيدة توضيحاً كافياً شافياً لا إشكال فيه.
الأمر الثاني: أن النبي صلى الله عليه وسلم علم أصحابه كل شيء، ومن ذلك الأمور الصغيرة، فالأمور الكبيرة من باب أولى.
الأمر الثالث: أن النبي صلى الله عليه وسلم هو أعلم الناس بربه، وهو أكثرهم بياناً وأبلغهم فصاحة، وهو أنصحهم لهذه الأمة، فلا يمكن أن تجتمع هذه مع كتمه لبيان العقيدة لهم؛ لوجود العلم عنده، لوجود البيان والفصاحة عنده، ولوجود المحبة والنصح للأمة؛ فينتج عن هذه الثلاث المقدمات استحالة عدم بيان النبي صلى الله عليه وسلم للعقائد الصحيحة، فلا يمكن أن يبقي الرسول صلى الله عليه وسلم هذا الأمر مشتبهاً ملتبساً على الناس.
المسألة الرابعة: هل تكلم الصحابة رضوان الله عليهم في باب الصفات كلاماً كافياً وشافياً أم أنهم لم يتكلموا في ذلك؟
والجواب على هذا أن نقول: إنهم تكلموا بكلام كاف شاف يدل عليه عدة أمور:
الأمر الأول: واقع الآثار الموجودة في كتب التفسير وفي كتب العقائد المسندة التي نقلت بالأسانيد الصحيحة عن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم.
الأمر الثاني: يستحيل أن يسكت الصحابة رضوان الله عليهم عن بيان العقيدة الصحيحة أيضاً، ووجه استحالة ذلك هو أنه إن سكتوا فإنا نقول: إما أن يسكتوا لجهلهم بالعقيدة أو يسكتوا لأنهم قالوا الباطل فيها والعياذ بالله!
فأما سكوتهم للجهل بالعقيدة فهذا لا يمكن أن يتصور من جيل الصحابة رضوان الله عليهم؛ لأنهم كانوا أحرص الناس على الخير، فهذا أبو هريرة رضي الله عنه يأتي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فيقول: (من أسعد الناس بحسن شفاعتك يا رسول الله؟ فيقول: لقد علمت أنك ستسألني عن ذلك؛ لما رأيت من حرصك على الحديث، أسعد الناس بحسن شفاعتي من قال: لا إله إلا الله، مخلصاً من قلبه).
و أبو هريرة أيضاً رأى النبي صلى الله عليه وسلم كان يكبر فيسكت، ثم يقرأ بعد ذلك، فسأله عن هذه السكتة.
فلا يمكن أن يحرص الصحابة على الأمور الصغيرة فيسألون عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا يسألونه في الأمور الكبيرة، وهم أعلم الأمة -ولا شك- بقضايا الدين وأعلمهم أيضاً بقضايا العقيدة على وجه الخصوص؛ لأنهم لما تمثلوها علماً وعملاً نصرهم الله سبحانه وتعالى.
وأما قولهم بالباطل فإنه لا يمكن أن يقولوا بالباطل؛ لأن الصحابة أنصح الناس لهذه الأمة، ولا يمكن أن يجتمعوا على باطل، وإن من عرف أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وزكاء قلوبهم وطيب نفوسهم وأخلاقهم وحرصهم رضوان الله عليهم على نشر الدعوة والدين، وبذل أنفسهم في سبيل الله، يعلم أنه لا يمكن أن يتصور مع هذه القرائن جميعاً أن يقولوا الباطل ويكذبوا على الله عز وجل وعلى رسوله عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم.
وحينئذ نقول: الصحابة رضوان الله عليهم هم أعلم الناس بالعقيدة الصحيحة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، والأدلة التي سبق أن أشرنا إليها هي أدلة برهانية يقينية يحتج بها أهل السنة، ويقبلها كل إنسان يريد الحق، لكن المعاند لو جئت له بالنهار لقال لك: إنه ليل. والعياذ بالله! فالمعاند ليس له دواء إلا السيف، لكن طالب الحق الذي لا يكون متبعاً لهواه سيدرك أن النبي صلى الله عليه وسلم بين العقيدة بياناً كافياً، وأن الصحابة رضوان الله عليهم قد بينوها بياناً كافياً واضحاً، ولهذا لم يحصل الاختلاف بين أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في قضايا الاعتقاد، ولا وقع في أصول الأحكام أبداً، وإنما وقع الخلاف بينهم في أمور فقهية محتملة؛ وذلك إذا كان النص يحتمل مجموعة من المعاني، ثم إن الله عز وجل يرزق البعض حفظاً أو فقهاً أقوى من البعض الآخر، وحينئذ قد يقع البعض في الخطأ والبعض الآخر يقع في الصواب، فهذه هي حدود دائرة الاختلاف التي وقع فيها الصحابة رضوان الله عليهم، أما العقائد وأصول الأحكام فإنه لم يقع فيها خلاف ألبتة.
المسألة الخامسة: هل أدرك الصحابة رضوان الله عليهم المسائل الفلسفية والكلامية والإشارات الصوفية التي وقعت في من بعدهم أم أنهم لم يعرفوها؟
الذين يرون أن الصحابة كانوا مفوضة -يفوضون معاني الأسماء والصفات ولا يفهمون لها معنى- يظنون أن الصحابة رضوان الله عليهم ما كانوا يفهمون للصفات معنى، وبناءً على هذا فإنهم لم يغوصوا في معانيها، وإنما جاء المتأخرون من المتكلمين والفلاسفة وأثروا العقيدة بمعقولاتهم التي جاءوا بها، وكذلك الصوفية أثروا الجانب الروحي في الإسلام بما جاءوا به من إشارات لطيفة ودقيقة في العبادات والإرادات لم يكن الصحابة رضوان الله عليهم على علم بها، وهذا الفهم باطل.
والجواب على هذه المسألة أن نقول: إن المسائل الفلسفية والكلامية وقعت بعدهم، فما كان فيها من الحق فلا شك أن الصحابة يعرفونه ويعتقدونه، وما كان من الباطل فلا شك أن الصحابة ينكرون الباطل حتى لو لم يعرفوا هذا الباطل المعين، فإن المنكرات لا يمكن للإنسان أن يحيط بها، وبناءً على هذا نقول: إن ما حصل من الباطل بعد أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قد يعلمونه وقد لا يعلمونه، مثل نفي العلو ومثل تأويل الصفات ومثل القول بقدم العالم، أو القول بأن البعث الجسماني لا يكون أبداً، وإنما يكون البعث بالأرواح، ونحو ذلك، فنقول: هذه المعاني الباطلة الضالة والتعبيرات التي تدل عليها قد يعلمها الصحابة أو قد لا يعلمونها، وهذا لا يضرهم في شيء؛ لأن هذا كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله هو مثل ما لا ينقض الوضوء، فلو قال لك إنسان: عدد لي ما لا ينقض الوضوء، فستعدد له أشياءً كثيرة لا تنقض الوضوء، وما ينقض الوضوء محصور، لكن ما لا ينقضه كثير، فمثلاً: لمس الورقة لا ينقض الوضوء، وشرب الماء لا ينقض الوضوء، والمسح بالمنديل لا ينقض الوضوء، ولو عددنا لاستغرقنا ليلة أو ليلتين فيما لا فائدة فيه من الكلام عما لا ينقض الوضوء، فالكلام لا ينقض الوضوء، ولمس الغترة لا ينقض الوضوء، ولمس الشعر لا ينقض الوضوء.. ولهذا ما لا ينقض الوضوء لا يمكن حصره.
ويمكن أن أذكر هنا كلام شيخ الإسلام رحمه الله في كتابه (درء تعارض العقل والنقل) فإنه علق على كلام ابن عقيل الحنبلي رحمه الله في نصيحته لمن أراد أن يشتغل بعلم الكلام وقد أحس في نفسه ذكاءً، فقال له: إن هذا الأمر لا ينفعك، فإن الصحابة ما كانوا يعرفون الجوهر والعرض ونحو ذلك، فعلق شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله على هذه العبارة فقال: قلت: (قول القائل: إن الصحابة رضي الله عنهم ماتوا وما عرفوا ذلك فيه تفصيل، وذلك أن هذا الكلام فيه حق وباطل) أي: أن الكلام الذي حصل بعد الصحابة مشتمل على حق وباطل.
قال: (أو أن هذا الكلام) يعني: الذي أشار إليه المتكلم.
قال: (قد يراد به حق وقد يراد به باطل، فأما الباطل فهو مثل إثبات الجوهر الفرد وطفرة النظام وامتناع بقاء العرض زمانين، ونحو ذلك، فقد لا يخطر ببال الأنبياء والأولياء من الصحابة وغيرهم، وإن خطر ببال أحدهم تبين له أنه كذب، فإن القول الباطل الكذب هو من باب: "ما لا ينقض الوضوء" ليس له ضابط، وإنما المطلوب معرفة الحق والعمل به، وإذا وقع الباطل عرف أنه باطل ودفع) أي: أنه لا يشترط للإنسان أن يعرف كل باطل، لكن يشترط أن يعرف كل حق يمكن أن يعرفه، أو يعرف القدر الواجب منه.
قال: (وصار هذا كالنهي عن المنكر وجهاد العدو، فليس كل شيء من المنكر رآه كل من الصحابة وأنكروه) أي: أنهم لم يروا كل منكر، فالصحابة لم يروا القنوات الفضائية، ولا يعني هذا أنه ليس بمنكر، بل إنه منكر، ولا يعني أيضاً أنه نقص في علم الصحابة بالحق؛ لأن الحق كانوا يعرفونه.
قال: (وهكذا المقالات الفلسفية والكلامية والإشارات الصوفية التي وقعت بعدهم.
ومع هذا فلا يقطع على كل من الصحابة بأنهم لم يعرفوا أمثال هذه الأقاويل ويعرفوا بطلانها، فإنهم فتحوا أرض الشام ومصر والمغرب والعراق وخراسان، وكان بهذه البلاد من الكفار والمشركين والصابئة وأهل الكتاب من كان عنده من كتب أهل الضلال والفلاسفة وغيرهم ما فيه هذه المعاني الباطلة، فربما خوطبوا بهذه المعاني بعبارة من العبارات وبينوا بطلانها لمن سألهم، والواحد منا قد يجتمع بأنواع من أهل الضلال ويسألونه عن أنواع من المسائل ويوردون عليه أنواعاً من الأسئلة والشبهات الباطلة فيجيبهم عنها، وأكثر الناس لا يعلمون ذلك ولا ينقلونه، والشافعي وأحمد وغيرهما من الأئمة قد ناظروا أنواعاً من الجهمية أهل الكلام وجرى بينهم من المعاني ما لم ينقل، ولكن من عرف طرق المناظرين لهم والمسائل التي ناظروهم فيها علم ما كانوا يقولونه، كالفقيه الذي يعرف أن فقيهين تناظرا في مسألة من مسائل الفقه مثل مسألة قتل المسلم بالذمي، أو القتل بالمثقل ونحو ذلك، فينقل المناظرة من لم يفهم ما قالاه، فيعرف الفقيه الفاضل مما نقل ما لم ينقل).
والشيء كما تعلمون يعرف بالشيء، والشاهد من هذا القول هو أن من قال: إن الصحابة رضوان الله عليهم لم يعرفوا مسائل الكلام والفلسفة وإشارات الصوفية، إذا كان يريد أن الصحابة آمنوا بالألفاظ الظاهرة دون معانيها فهذا باطل، وهو مذهب التفويض، وسيأتي الحديث عنه مفصلاً بإذن الله تعالى، وإن أراد أن في هذا نقصاً في علمهم فإن الأباطيل والمنكرات لا يمكن أن يحيط بها الإنسان، والمهم هو أن يعرف الإنسان الحق ويدرك الحق، ويعرف ما اشتهر من الباطل في زمانه للرد عليه ولإظهار فساده ونقضه، وأما تفصيلات الباطل وما لم يأت منه فإن هذا غير مطلوب، ولا ينقص من علم الإنسان شيئاً.
المسألة السادسة: شبهات حول منهج السلف رضوان الله عليهم.
لا يخفى أن هذه الأمة افترقت وانقسمت واختلفت وأصبحت طوائف، وتفرقت إلى آراء وأفكار ومناهج وفلسفات متعددة ومختلفة، وأهل الحق هم من سار على منهج السلف الصالح رضوان الله عليهم من الصحابة والتابعين ومن سار على طريقتهم في الاعتقاد والعمل.
وهناك عدد كبير من أصحاب هذه المذاهب والأفكار ينتقدون منهج السلف الصالح رضوان الله عليهم، ونحن في هذا الزمان نسمع هنا وهناك من ينتقد منهج السلف، فقد نسمعه في شريط أو نقرأه في كتاب أو نراه في قناة، أو نقرؤه في صحيفة من الصحف، أو نسمعه في منتدى من المنتديات أو في أي مكان من الأماكن التي يجلس فيها الناس ويتكلمون فيها، فنرى أشخاصاً ينتقدون منهج السلف الصالح رضوان الله عليهم، فلنذكر هذه الشبهات الآن بشكل سريع ومختصر، ونذكر البديل الذي يريده هؤلاء، ثم نبين بطلان ما قالوا به بشكل مختصر أيضاً.
من الشبهات التي أثيرت حول منهج السلف الصالح رضوان الله عليهم: أنه منهج قديم لا يواكب الحضارة والعولمة!
فهؤلاء يقولون: منهج السلف منهج قديم قد انتهى، فقد كان في وقت من الأوقات يصلح، لكن الآن لم يعد يصلح مع التقنية المعاصرة الكبيرة التي يشهدها العالم اليوم، ومع عصر العولمة وتقارب الناس تقنياً وفكرياً.. إلى آخره.
والبديل عند هؤلاء هو الحداثة، وهو أن نهدم القديم ونبني مجتمعاً جديداً من أفكارنا نحن، فمادام منهج السلف قديماً فهو لا يصلح عندهم للتطبيق الآن في مجال الاعتقاد، ولا يصلح للتطبيق في مجال السياسة، ولا يصلح للتطبيق في الاقتصاد العالمي، ولا يصلح للتطبيق في الأدب، ولا يصلح للتطبيق في أي مجال من المجالات، فما هو الحل؟
قالوا: الحل هو أن نخترع لأنفسنا ديناً جديداً ومنهجاً جديداً نواكب به الحضارة في كل مجالاتها، فنخترع منهجاً عقائدياً جديداً، ومنهجاً سياسياً جديداً، ومنهجاً اقتصادياً جديداً، ومنهجاً تعليمياً، ومنهجاً فنياً، ومنهجاً أدبياً، ومنهجاً في أي باب من الأبواب، وهكذا نخترع منهجاً جديداً بعيداً عن كل قديم.
وهذا يدل على أن هؤلاء يريدون أن يهدموا الأديان، وهي فكرة في الحقيقة ماسونية ويهودية، فهم يريدون أن يهدموا الأديان جميعاً، ويدخل في الهدم اليهودية والنصرانية والإسلام، ويدخل في الهدم الأنبياء، ويدخل في الهدم كل التفاصيل السابقة، ويدخل في الهدم التاريخ الإسلامي كله، ويدخل في الهدم علماء المسلمين والصحابة رضوان الله عليهم، وهذه الفكرة فكرة إلحادية كفرية خطيرة على الإسلام والمسلمين، ويمثل هذه الفكرة الحداثيون.
ولهذا نحن نقول ونكرر دائماً: إن أهل الحداثة ليس الخلاف بيننا وبينهم في التركيب الشعري، فهم ينثرون الشعر ونحن نقول: ينظم، وهم يقولون كلاماً غير مفهوم، ونحن نقول كلاماً مفهوماً، ليس الخلاف هنا، بل هم يرون أن الحداثة منهج تغييري جديد يقتضي هدم كل ما هو قديم، وبناء حياة جديدة، وبالتالي فإن أهل الحداثة ينتقدون منهج السلف الصالح رضوان الله عليهم.
والرد على هؤلاء هو أن نخاطبهم مخاطبة الكفار، فنقول لهؤلاء: هل تثبتون أموراً يقينية في الحياة أو ليس هناك شيء يقيني عندكم؟ فإن كانوا يثبتون أموراً عقلية يقينية خاطبناهم بأدلة صدق الرسول صلى الله عليه وسلم التي سبق أن أشرنا إليها، فإذا بينا لهم أن المنهج العقلي يدل على أن الرسول صادق فإن من العقل أن ما جاء به صدق وحق، فإذا عرفنا أن ما جاء به صدق وحق عرفنا أن هذا الدين سيستمر إلى قيام الساعة، وعرفنا أن هناك يوماً آخر يجتمع فيه الخلق ويعذبون أو ينعمون، وعرفنا ما هو من حقائق هذا الدين.
أما إذا كانوا لا يثبتون قواعد عقلية مشتركة عند كل الناس فمثل هؤلاء مرضى لا ينفع معهم الخطاب، ولهذا لو أن إنساناً تنزل معهم وقال: دعونا نهدم كل ما هو قديم، ودعونا نؤسس منهجاً جديداً، فكيف يكون ذلك وقد يختلف الناس، هذا يطرح فكرة وهذا يطرح فكرة؟ ما هو المنطق الذي تحتكمون إليه عند اختلافكم؟ فسيقولون: نحكم المنطق العقلي والمنفعة!
فيقال لهم: قد يأتيكم شخص فيقول: إن الرسول القديم الذي أردتم هدم شريعته حق من منطلق عقلي، فإذا أرادوا مناقشته أثبت لهم صدق الرسول بالأدلة السابقة، وحينئذ سيضطرون للإيمان بالرسول، وسيلزمهم كل ما تضمنه دين الرسول من احترام منهج السلف واحترام هذا الدين، وإثبات اليوم الآخر... إلى آخره من العقائد المعروفة.
الشبهة الثانية: يقول بعض الناس: إن منهج السلف منهج نصي يقف عند حدود ظاهر النص ولا يغوص في المعاني ولا مدخل للعقل فيه!
والذي يردد هذه العبارات هم أهل الكلام، فأهل الكلام يؤسسون العقائد على العقل مجرداً عن الدين وعن النقل، فإذا قيل لهم: لماذا تؤسسون العقائد على العقل مع أن الدين فيه بيان للعقائد، قالوا: الدين إيمان مجرد ليس فيه إقناع عقلي، وليس كل الناس عندهم استطاعة أن يؤمنوا؛ لأننا نخاطب كفاراً ونخاطب ناساً لا يحترمون الدين، فلا بد أن نؤسس العقائد على العقل بغض النظر عن الدين!
وهؤلاء جهلوا جهلاً ذريعاً أن هذا الدين فيه أدلة عقلية لو جمعها الإنسان لاستطاع أن يحارب بها كل مشرك وضال ومبتدع، ولهذا سبق أن أشرت إلى أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أنزل الله عليه هذا الدين جاء بمصلحة المسلمين في أصول الدين وفروعه وفي مسائل الدين ودلائله، ففي القرآن الكريم أدلة عقلية قاطعة لا تقبل الجدال ولا تقبل الخلاف، وهي تدل على إثبات العقائد، سواء في موضوع وجود الله، أو في موضوع العبودية لله، أو في موضوع اليوم الآخر، أو في موضوع النبوات، أو في أي موضوع من موضوعات العقائد.
والحقيقة أن أهل الكلام جاءوا بهذه الفكرة من الفلاسفة، والفلاسفة -خاصة المتأخرين منهم- بنوا عقيدتهم على أن الدين إيمان مجرد على أمرين:
الأمر الأول: أن النصارى وأرباب الكنيسة كانوا يطالبون الناس بالإيمان المجرد بعيداً عن العقل، لوجود عقائد لا يقبلها العقل، مثل الثالوثية، ومثل العشاء الرباني، وبعض أنواع العقائد التي جاءوا بها مما لا يقبلها العقل، ولهذا قالوا للناس: لا بد أن تؤمنوا إيماناً مجرداً عن العقل.
الأمر الثاني: أن هناك أصلاً فلسفياً يرى أصحابه أن الأديان لا مدخل لها في العقليات ولا مدخل لها في البراهين، ولهذا لو رجعتم -مثلاً- إلى كتاب زكي نجيب محمود محفوظ لوجدتم ذلك، وزكي من الفلاسفة الكبار الأحياء الآن، وله كتاب اسمه (موقف من الميتافيزيقيا) والمقصود بالميتافيزيقيا: الغيبيات أو ما وراء الطبيعة، وهو لا يؤمن بالغيبيات؛ لأنه على نظرية المنطقية الوضعية، ويرى أن الدين هو مجرد الإيمان والتسليم بدون برهان وبدون دليل، ولهذا لا يرى أن الدين مشتمل على البراهين، ولا يرى أن الدين مشتمل على الأدلة العقلية المقنعة، ومن هنا كان هو والمتكلمون ممن تأثر بالمنهج الفسلفي يقولون: إن منهج السلف منهج نصي لا يتضمن العقائد اليقينية المقامة على البراهين العقلية، ونحن نقول: إن منهج السلف مأخوذ من القرآن والسنة، وقد اشتمل القرآن والسنة على أدلة عقلية لا شك فيها.
ونضرب على هذا مثلاً، وذلك في قوله عز وجل: وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ [يس:78]، جاء المشرك إلى النبي صلى الله عليه وسلم ففت عظماً عنده وقال: يا محمد! هل تعتقد أن الله يحييها بعد أن صارت رميماً؟ فقال الله عز وجل: وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا [يس:78] يعني: بحركته هذه.
وَنَسِيَ خَلْقَهُ [يس:78] يعني: نسي أن الله عز وجل خلقه من قبل وهو لم يك شيئاً.
قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ [يس:78] فرد عليه سبحانه: قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ [يس:79]، فأنت الآن أتيت بعظم رميم وفتته أمام النبي صلى الله عليه وسلم تقول: من يحيي هذا؟ فنقول: يحييه الذي جاء به وهو لم يكن شيئاً؟!
فرد عليه بدليل يقيني عقلي: أن القادر على البدء قادر على الإعادة، بل إن البدء أصعب من الإعادة؛ لأن البدء ليس له مادة يتكون منها، بينما الإعادة لها مادة موجودة ممكن أن يكون الشيء منها، ولو رجع واحد منا إلى كتاب (درء تعارض العقل والنقل) مثلاً، واستقرأه لاستطاع أن يجمع كثيراً من الأدلة العقلية التي ذكرها ابن تيمية رحمه الله من النصوص القرآنية، كقوله تعالى: أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ [الطور:35]، وهذا فيه بيان أن الله هو الخالق، فكيف البيان العقلي لهذه الآية؟
يقول الله لهم: (أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ)، فهل تتصورون أن أحداً يخلق من غير شيء هكذا صدفة؟ هذا لا يمكن، فإن الإنسان مفطور على أن المحدث لا بد له من محدِثٍ، وأنت ترى الطفل الصغير إذا كان متجهاً نحو جهة وجئته وحركته من ورائه التفت إليك، كيف عرف الصبي أن هذه الضربة لها محدث وهو أنت، مع أنه لم يكن كبيراً بحيث إنه يعلم هذا الأمر؟ هذه فطرة موجودة، وهي مقدمات عقلية ثابتة في كل الناس.
قال تعالى: (أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ) وهم يعرفون أنهم ليسوا هم الخالقين، وتحصل من هذا أن الله هو الخالق، وهذا برهان عقلي لا شك فيه.
وقال عز وجل: أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ [الملك:14]، فإذا عرفنا أن الله خلقنا فسنثبت لله العلم؛ لأنه هو الذي خلقنا؛ إذ كيف يخلقنا وهو لا يعلم؟ لا يمكن ذلك، لابد أن يعلم، ونحن نعرف أن الله عز وجل خلقنا؛ فتقرر من هذا أن الله عز وجل عالم بنا.
الشبهة الثالثة: أن منهج السلف منهج جاف لا عناية له بالروحانيات، ولهذا اتجه هؤلاء نحو التصوف كحل لعلاج هذه المشكلة، ونجد أن بعض أصحاب الدعوات المعاصرة الآن يقولون: نحن دعوة سلفية صوفية رياضية! فقيل: كيف تكون دعوة سلفية وصوفية في نفس الوقت؟ قالوا: نأخذ من السلفية العقائد الصحيحة، ونأخذ من الصوفية الروحانيات.
فقيل: هل السلفية لا يوجد بها روحانيات؟ قالوا: لا، بل فيها جمود، وفيها جفاف، فنقول: هذا هو الفهم الباطل الذي دفع الصوفية في بداية الأمر للمسالك المنحرفة عن منهج السلف رضوان الله عليهم، فقد علم النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه كيف يتعبدون لله، وما هو الطريق الذي يسلكونه إلى الله عز وجل.
فلما جاء الصوفية ظنوا أن هذا الدين ليس فيه منهج للتعبد، فاخترعوا منهجاً وقالوا: إن الإنسان يتعبد في خلوة ويذكر الله عز وجل بطريقة معينة، ثم بعد ذلك تأتيه كشوفات، فإذا جاءته الكشوفات هي كرامات، وفي آخر هذه الكرامات تسقط عنه التكاليف! ويمكن مراجعة كتب الصوفية في هذا الأمر.
إذاً: الصوفية ما التجئوا إلى منهج مخترع في التعبد إلا لاعتقادهم بأن منهج السلف منهج ناقص وجاف، وهكذا أصحاب هذه الدعوة التي أشرنا إليها، والتي يقولون فيها: إن دعوتنا دعوة سلفية صوفية رياضية، هؤلاء ما قالوا: إن دعوتهم صوفية بهذه الطريقة، إلا أنهم يظنون أن منهج السلف لا يتضمن منهج التعبد لله سبحانه وتعالى، وحينئذ فإن هذا فهم ناقص لمنهج السلف، فإن منهج السلف كما أنه منهج في تصحيح قضايا الاعتقاد في الله عز وجل وصفاته وأفعاله، فكذلك هو منهج في السلوك، وهو منهج في تزكية النفوس، ومنهج في التعبد لله، ومنهج في الدعوة إلى الله، ومنهج في الإصلاح والتغيير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومنهج في كل باب، منهج السلف هو حقيقة الدين نفسه، فالدين الصحيح هو منهج السلف رضوان الله عليهم.
الشبهة الرابعة: أن منهج السلف منهج متشدد:
يقولون: إن منهج السلف منهج متشدد متعصب، لا يتعامل مع الناس بمرونة، وليس عنده مرونة، وأصحاب هذا الفكر هم الذين يسمون بالعصرانيين.
والعصرانيون هم طائفة لهم امتداد تاريخي قديم، ولهم وجود معاصر الآن، وتختلف مقالاتهم، لكن بالجملة تشملهم روح واحدة وهي أنهم يعتقدون أن منهج السلف منهج قاس متشدد، لا يصلح في هذه العصور المتأخرة التي تمكن الغرب من الحضارة، وتمكنوا أيضاً من العالم الإسلامي، وتمكنت أمريكا من العالم عن طريق هيئة الأمم المتحدة، وعن طريق قواعدها العسكرية التي نثرتها في كل مكان في العالم، فهم يقولون: إنه لا يمكن أن نأخذ منهج السلف والحالة هذه، قالوا: والحل أن نكون مرنين في الغناء، فإن الغناء قضية أصبحت جزءاً من حياتنا، واختلاط المرأة بالرجل هي أيضاً جزء آخر، فهي حلال.
وكذلك الأموال الربوية لو جئت تطالب البنوك في كل العالم أن تغلق لم يسمع لك أحد، ولهذا يسمون أصحاب المنهج السلفي أصحاب فقه المنع، فعندهم كل شيء ممنوع.. ممنوع.. ممنوع، ولهذا يقولون: لابد أن نكون مرنين في التعامل مع الناس.
وأصحاب هذا الفكر خطيرون على الأمة الإسلامية؛ لأنهم يجعلون الأمة تذوب في غيرها من الأمم، وتتخلى عن مقوماتها وعن عقائدها وعن مناهجها الأساسية في الحياة التي تميزت بها عن غيرها؛ بحجة أن الضغط قوي، وأن البلاء كبير.
والحقيقة أنه مهما حصل الضغط على المسلمين ومهما ابتلي المسلمون، ومهما انتشر الفساد في الأرض، فالواجب ألا يتغير المنهج وألا تتغير العقيدة، فالعقيدة هي العقيدة، والأحكام هي الأحكام لا تتغير لانتشار أمر من الأمور في زمن من الأزمان، وإنما الأحكام هي الأحكام والعقيدة هي العقيدة والدين هو الدين، حتى لو لم يبق إلا عشرة مسلمين والبقية ليسوا على ذلك فيجب أن تبقى العقيدة الصحيحة معهم وأن تبقى الأحكام معهم، فالغناء حرام والاختلاط حرام والربا حرام، فهذه الأشياء حرام جميعاً، حتى لو أن العالم جميعه مارس هذه الأمور.
ولهذا هؤلاء يريدون اليوم أن يلتفوا على الصحوة الإسلامية، وأن يلتفوا على الشباب الصالحين الجدد الذين لهم حركة في الدعوة إلى الله عز وجل وإلى الإصلاح، فيقولون: إنكم مهما تحركتم فإنكم لا تستطيعون زحزحة الدب الغربي الذي يجثم على صدر المسلمين، فلا تستطيعون حينئذ أن تغيروا الحياة، لكن حتى تغيروا الحياة لابد أن تكونوا مرنين، وأن تحتكوا بالمجتمع، ولا يكون هناك عوازل بينكم وبين المجتمع، ونحن نقول: إنه ليست هناك عوازل -ولله الحمد- بين الشباب السلفي والمجتمع، لكن هذا الاتصال يتضمن إنكار المنكرات، ويتضمن النصيحة، ويتضمن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ويتضمن التعليم، ويتضمن الثبات على الحق وعدم قبول المساومة في أي عقيدة من العقائد.
الشبهة الخامسة: أن منهج السلف منهج منغلق:
وهذه تابعة للطائفة الأولى العصرانية، فإنهم يقولون: إنه منهج منغلق عن المعطيات الإنسانية المعاصرة التي أفرزتها الحضارة الغربية، فيقولون: هناك نظريات أوروبية ومذاهب ومناهج فلماذا لا نستفيد منها؟ ولماذا لا نأخذ من هؤلاء ونأخذ من هؤلاء ونأخذ من هؤلاء؟
وللجواب على هؤلاء نقول: إن ديننا غني -ولله الحمد- بالحق، وديننا واضح لا يحتاج أن يستمد من غيره، وهذه العقائد والنظريات والأفكار والمناهج الغربية أو الشرقية إن كان ما فيها حقاً فقد دلنا الله عليه قبل أن يأتي هؤلاء، وإن كان ما فيها باطلاً فنحن نرده ولا نقبله.
إذاً: ليس هناك داع إلى أن نقول: نحن نريد أن نأخذ من الآخرين، فأنت لا تأخذ إلا عندما تكون فقيراً، لكن عندما تكون غنياً فإنك تعطي، ونحن أعطانا الله عز وجل الحق ووضحه وبينه لنا، وحينئذ نحن نعطي ولا نأخذ.
وهناك أمور في الحياة العادية مثل الميكرفونات ومثل اللمبات لا علاقة لها بالتدين والمناهج والعقائد، فمثل هذه الأمور أمور إنسانية عامة ليست خاصة بالغرب ولا خاصة بالشرق، ويمكن للإنسان إذا تعلمها أن يصنعها وأن يمارسها وأن يستفيد منها؛ فليس في ذلك شيء، لكن المناهج والعقائد والأفكار لا يجوز للإنسان بأي حال من الأحوال أن يستقيها إلا من الوحي المعصوم بفهم السلف الصالح رضوان الله عليهم.
الشبهة السادسة: أن منهج السلف يركز على جانب ويهمل جانباً.
وينسبون ذلك إلى بعض المنتسبين إلى منهج السلف رضوان الله عليهم، فقد يجدون شاباً منتسباً إلى منهج السلف عنده ضعف في التفكير مثلاً، فيقولون: إذاً المنهج السلفي ضعيف في التفكير.
فنقول: ليس كذلك، فهذا الشخص مسكين ضعيف في التفكير، ولا يلزم أن يكون البقية كذلك، ولو كانوا كلهم كذلك -ولا يمكن أن يكون- لما جاز أن يوصف المنهج نفسه بأنه كذلك، فلا يجوز أبداً أن يوصف المنهج أنه كذلك، ولهذا ينبغي للإنسان أن يتعلم الأسلوب الصحيح في اعتناق العقائد.
والأسلوب الصحيح في اعتناق العقائد هو أن الإنسان يعتنق العقيدة الصحيحة التي دل عليها الكتاب والسنة، وأما ما عداها فليس لنا فيها حاجة.
وأما الذين يرددون الحرية الفكرية أو حرية التفكير، ويناقشون قضايا العقائد بغير منهج مستقيم فهؤلاء من الضالين المنحرفين الذين يريدون هدم هذا الدين ويجب أن نقف في وجوههم، وأن نرفض مناهجهم.
هذا ما أحببت أن أشير إليه في هذه المسائل المتعلقة بموضوع يقينية منهج السلف الصالح وعصتمه، وسنقرأ -إن شاء الله- في اللقاء القادم المقطع المتعلق بهذا الباب ونعلق عليه؛ لنبدأ في لقاءات أخرى بموضوعات ثانية.
أسأل الله عز وجل أن يوفقنا للعلم النافع والعمل الصالح.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر