الحمد لله، نحمده ونستعينه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهد الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا وقدوتنا محمداً عبد الله ورسوله، وصفوته من خلقه وخليله، بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح لهذه الأمة حتى أتاه اليقين من ربه.
أما بعد:
فقبل أن نبدأ في الكلام على ما ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية في هذا الكتاب أحب أن ألخِّص ما سبق أن قرأناه من هذا الكتاب.
فقد بدأ شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله بتعريف العبادة، وذكر أمثلتها ومنزلتها ومكانتها، ثم بعد أن عرّف العبادة وذكر منزلتها ومكانتها وأنها تشمل الدين بأكمله، ذكر تعريفها الشرعي، وبعد أن ذكر تعريفها الشرعي ومعناه قسّم العبودية إلى قسمين:
الأول: العبودية الاضطرارية: وهذه العبودية الاضطرارية هي بمعنى ربوبية الله سبحانه وتعالى وخلقه وأمره سبحانه وتعالى.
الثاني: العبودية الاختيارية وهي بمعنى: إلاهية الله سبحانه وتعالى وعبادته بإرادة العبد واختياره ورغبته.
ثم ذكر شيخ الإسلام رحمه الله أن العبودية الأولى يقر بها المشركون ويعترفون بها، ويثبتون أن الله عز وجل خالقهم ورازقهم ومحييهم ومميتهم ومدبر جميع شئونهم، وقال في أثناء ذلك: إن إثبات هذه العبودية وحدها لا يكفي في الإسلام، بل لا بد من أن ينضاف إلى إثبات العبودية الاضطرارية عبودية الاختيار، وهي أن يعبد المرء الله سبحانه وتعالى بقلبه ولسانه وجوارحه.
ثم بعد ذلك ذكر شيخ الإسلام رحمه الله طائفة وهم أهل التصوف، ووصفهم بأنهم الذين يشهدون الحقيقة الكونية، والحقيقة الكونية هي العبودية الجبرية أو العبودية الاضطرارية، فهؤلاء شهدوا هذه الحقيقة وعظّموها، وجعلوا مدار الدين عليها، وترتب على شهودهم هذا زلات وأخطاء كثيرة.
ثم بعد ذلك بدأ شيخ الإسلام رحمه الله تعالى يتحدث عن أصناف هؤلاء وأنواعهم، ويرد على كل نوع من هذه الأنواع.
هذه خلاصة ما سبقت قراءته بشيء من التفصيل.
وتوحيد الإلهية يمكن أن يسمى بعدة أسماء، فيمكن أن يسمى توحيد الإلهية، ويمكن أن يسمى توحيد العبادة، ويمكن أن يسمى ملة إبراهيم؛ فملة إبراهيم هي توحيد الإلهية، ولكن الحقيقة والمعنى والمضمون واحد.
فأقول: ترتب على اشتغال الصوفية بشهود الحقيقة الكونية وشهود الربوبية أمور، منها:
أولاً: إهمال توحيد الإلهية، وقد سبق أن أشرت في دروس سابقة إلى آثار هذا الإهمال، مما أدى إلى تغيير مفهوم التوحيد عند أهل التصوف، وترتب على ذلك تغيير مفهوم الشرك، فأصبح الشرك عندهم هو القدح في الربوبية فقط، وأما تعظيم جانب الربوبية واعتقاد أن الله هو الخالق الرازق المحيي المميت ولو انضاف إلى ذلك الشرك في الإلهية فلا يضر عندهم، ولا يرونه من الشرك، ولهذا اختلف الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله مع هؤلاء الصوفية ومع الأشاعرة في مفهوم الشرك؛ فإن الشيخ محمد بن عبد الوهاب يعتبر أن الطواف حول القبور شرك؛ لأنه صرف لنوع من أنواع العبادة لغير الله، وهي عبادة الطواف، وأن الاستغاثة بغير الله شرك فيما لا يقدر عليه إلا الله، وأن الذبح للقبور شرك، وأن القوانين الوضعية التي يحل فيها الحرام ويحرم فيها الحلال شرك، لكن هؤلاء لا يعتبرون ذلك من الشرك؛ لأن هذه الأنواع والأمثلة التي ذكرتها ليس فيها قدح في الربوبية عندهم، وأحسنهم من يعتبر هذه من الأخطاء من الذنوب والمعاصي.
فالأمر الأول الذي ترتب على شهود هؤلاء للحقيقة الكونية: إهمال الحقيقة الشرعية أو الدينية، وهو ما أدى إلى الخلاف في مفهوم التوحيد وفي مفهوم الشرك، وترتب على ذلك الصراع الفكري الذي يعيشه المسلمون الآن في الكلام على القبور والطواف حولها، والكلام على الاستغاثة بغير الله، وطلب الشفاعة من الرسول صلى الله عليه وسلم، وسن القوانين الوضعية وتحكيمها في حياة الناس، ونحو ذلك من الانحرافات الكبرى التي نعتبرها نحن -أهل السنة والجماعة- من الشرك، ونجد أن هؤلاء الصوفية والأشاعرة لا يعتبرون ذلك من الشرك، وهذا الأمر سببه الأساسي هو الإغراق في شهود الحقيقة الكونية واعتبارها الدين بأكمله.
العبد رب والرب عبد يا ليت شعري من المكلف؟!
إن قلت عبد فذاك رب أو قلت رب أنى يكلف؟
وكذلك يقول في صفة الكلام:
وكل كلام في الوجود كلامه سواء علينا نثره ونظامه
يعني أن كل الكلام الموجود في الدنيا من حق وباطل، وصحيح وفاسد، وكلام الرجال والنساء، والغيبة والنميمة، وذكر الله عز وجل، ونهيق الحمير، ونباح الكلاب، وزقزقة العصافير، كل ذلك عنده هو كلام الله عز وجل. وليس كل الصوفية على هذا المذهب، ولكن القائلين بوحدة الوجود أحرجوا، فقيل لهم:كيف نجمع بين التعدد الموجود مع قولكم: إن هذه الوحدة كلها إله واحد؟! فقد أتيتم بما هو أشنع من رأي النصارى؛ فإن النصارى يقولون: الأب والابن وروح القدس إله واحد، فقال لهم الناس: كيف يكون الثلاثة واحداً؟! فأنتم أتيتم بما هو أدهى! فقالوا: لا، فهذا الكون مثل البحر، والبحر -مثلاً- هو الله عز وجل، وهذه المخلوقات مثل الأمواج، وهذا تخريج كبيرهم الذي علمهم السحر وهو العفيف التلمساني ، وهو أخطرهم كما ذكر ذلك شيخ الإسلام رحمه الله، وأشدهم فهماً للفلسفة وإدراكاً لها، فهو يشبه الله تعالى بالبحر والمخلوقات بالموج فالموجة الأولى لا تخرج من البحر، بل هي البحر نفسه، وهذا أمر ظاهر الفساد، فإذا كانت الموجة هي البحر فكيف بالموجة الثانية، ولا شك في أن هذه العقيدة أفسد من كل عقيدة فاسدة، بل إنهم قالوا بأن فرعون من أكبر الموحدين، والسبب في أن فرعون من أكبر الموحدين هو أنه قال: أنا ربكم الأعلى، وصدق -هكذا يقولون- في أنه هو ربهم الأعلى، لكن فرعون لما رأى نفسه ملكاً ورأى حوله الجنود اعتقد أن الإله نوعان: أعلى وأسفل، فأضاف نفسه إلى الإله الأعلى فقط.
وابن عربي هذا كفّره العلماء؛ لأن هذه العقيدة هي أكفر عقيدة وجدت على أهل الأرض، فـشيخ الإسلام رحمه الله في مواطن يقول: لم يأت أحد بمثل العقيدة التي جاء بها هؤلاء، ولهذا استحلوا المحارم، فعندهم لو أن رجلاً نكح ابنته فلا شيء عليه؛ لأن الرب ينكح الرب! هكذا يعتقدون وهكذا يرددون.
وابن عربي الطائي هذا يحسن الظن به آلاف مؤلفة من الناس، والسبب في إحسانهم الظن به هو أن كتابه (الفتوحات المكية) مليء بالمواعظ ومليء بالإرشاد ومليء بالتوجيه ومليء بالكلام الجميل، وكان صاحب عاطفة جياشة وأسلوب حسن، وهو شاعر متميز، لكنه كان على الشرك.
ولا شك في أن عقيدة هؤلاء لا تحتاج إلى ردود تفصيلة؛ لأن فيها إبطالاً لرسائل الأنبياء، بل فيها إبطال لكل الأديان، ولهذا فإن هذه العقيدة -كما يقول أهل العلم- يكفي في نقدها أن تتصورها، فإذا تصورتها وضح نقدها، ولو اشتغلت في نقدها وأطلت لأخذ ذلك منك جهداً كبيراً، فيكفي أن تعلم أنه يقول: إنك أنت الله، وأنت تعرف نفسك.
فرد عليهم بهذا الكتاب، وهو كتاب مطبوع موجود، وقد يسمى: (السبعينية)؛ لأنه في الرد على ابن سبعين ، وهو من أئمة هؤلاء.
ومن كتبه رحمه الله تعالى كتاب اسمه (حقيقة مذهب الاتحاديين) وهو مطبوع في مكانين: في مجموع الفتاوى التي جمعها ابن قاسم في المجلد الثاني، وطبع أيضاً في مجموعة الرسائل والمسائل التي جمعها الشيخ محمد رشيد رضا ، وطبعت قديماً في مطبعة المنار، ثم طبعت بعد ذلك في دار الكتب العلمية وغيرها من الدور البيروتية.
وله من الكتب -أيضاً- كتاب اسمه (الرد الأقوم على فصوص الحكم)، وقد أفرد في الرد على هذا الكتاب لـابن عربي ، وله كتاب اسمه: (الحجج العقلية والنقلية في رد بدع الجهمية والصوفية) وهو -أيضاً- مطبوع في المجلد الثاني من مجموع الفتاوى.
وله -أيضاً- رسالة خاصة إلى إمام من أئمتهم المعاصرين له يسمى نصر المنبجي ، وهي -أيضاً- مطبوعة، وفي المجلد الثاني من مجموع الفتاوى.
وقد رد عليهم أيضاً ملا علي قاري الحنفي ، فله كتاب كبير بعنوان: (رد الفصوص) يعني: رد فصوص الحكم لـابن عربي .
كما أن ممن رد عليهم برهان الدين البقاعي ، فله كتاب سماه: (تنبيه الغبي في تكفير ابن عربي )، وهو كتاب موجود ومشهور حققه الأستاذ عبد الرحمن الوكيل ، وقد كان عبد الرحمن الوكيل في بداية أمره صوفياً على عقيدة هؤلاء، ثم بعد ذلك رجع إلى السنة.
فهم ضالون منحرفون متناقضون لا شك في ذلك، ولهذا قد يصبر أحدهم على القتل ويظن أن قاتله هو الله، كما صبر ابن الفارض على ذلك؛ فإن ابن الفارض قتل، والسهروردي قتل، وهو من الفلاسفة المشهورين، وقتل غيرهما، وصبروا على القتل وهم يعتقدون أن هذا هو مقتضى شهود الحقيقة الكونية.
يقول: الذي يشهد الحقيقة الكونية يسوي بينها؛ لأنها كلها مخلوقة لله عز وجل ليس بينها فرق، فالجميع مخلوق لله، وقد سبق أن أشرنا إلى أنه لو كان الشيء مخلوقاً لله فلا يعني ذلك أن الله لا يبغضه، ولا يعني أن الله لا ينهانا عنه، فقد يخلقه وينهانا عنه، وقد يخلقه وهو مبغض له، والحكمة في هذا الابتلاء، قال تعالى: لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا [الملك:2].
لأنه يعتقد أن الأصنام مخلوقة لله عز وجل، وبناء على هذا يعتقد أن عبادتها صحيحة، فهو سوى بين الله وبين الأصنام في العبادة.
وليس المقصود أنه سوى بين الله والأصنام في كل شيء؛ لأنه يشهد الحقيقة الكونية التي هي خلق الله، والأصنام يعتبرها من خلق الله، لكن سوى بين الله وبين الأصنام في العبادة، فهؤلاء لما أهملوا الحقيقة الدينية حصل عندهم الشرك، فلما حصل عندهم الشرك بدءوا يدافعون عن الشرك، فإذا عبدوا القبور مثلاً، أو عبدوا الأصنام، أو عبدوا أي شيء من دون الله قالوا: نحن لسنا كفاراً؛ لأننا نعتقد أن الموجد والخالق والرازق هو الله، فهم عندما قالوا بهذا القول سووا بين الله وبين الأصنام في الحقيقة الدينية الشرعية، أي: في الإلهية.
ونحن نعلم أن كفار قريش كانوا يشهدون الحقيقة الكونية، ويقرون بأن الخالق هو الله تعالى إذا سئلوا، كما قال تعالى: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [لقمان:25]، فهم يعرفون أن الله هو خالق السموات والأرض، وهو مدبر كل شيء، وما عبدوا الأصنام لأنهم يعتقدون أن هذه الأصنام خالقة ورازقة ومحيية ومميتة ومدبرة، بل عبدوها لأنهم يعتقدون أنها وسائط، كما قال تعالى عنهم: مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى [الزمر:3].
ولهذا أثبت الله عز وجل في القرآن لكفار قريش وغيرهم من كفار العرب أنهم يشهدون الحقيقة الكونية، والدليل على هذا قول الله سبحانه وتعالى: وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ [يوسف:106]، فهم يؤمنون بالله إيمان الربوبية كما قال جماعة من المفسرين، ويشركون بالله في الإلهية، فهل نفعهم الإيمان بالربوبية؟! ما نفعهم.
وهكذا فهؤلاء المتصوفة لما عظموا الحقيقة الكونية والربوبية شابهوا المشركين، وسيأتي معنا نص شيخ الإسلام رحمه الله على مشابهتهم للمشركين.
إذاً: معنى قول شيخ الإسلام رحمه الله: [حتى تئول به هذه التسوية إلى أن يسوي بين الله وبين الأصنام] يعني: التسوية في الحقيقة الدينية، وأما الحقيقة الكونية فهي التي أوصلته إلى هذه التسوية، يقول: [بل قد آل الأمر بهؤلاء إلى أن سووا الله بكل موجود] يعني: في العبودية، حيث إن هذه المخلوقات كلها لله سبحانه وتعالى.
إذاً: المقصود بالتسوية تسوية العبادة، وليست تسوية الخلق والرزق، يقول: [وجعلوا ما يستحقه من العبادة والطاعة حقاً لكل موجود؛ إذ جعلوه هو وجود المخلوقات، وهذا أعظم الكفر والإلحاد برب العالمين، وهؤلاء يصل بهم الكفر إلى أنهم لا يشهدون أنهم عباد الله] يعني: عندما يتجاوزون كثيراً وأكثر يصل بهم الحال إلى أنهم يعتقدون أنه ليس إلا المخلوقات فقط، وهي التي خلقت نفسها، فهي الإله، وهي المألوه في نفس الوقت.
ثم قال: [لا بمعنى أنهم معبودون، ولا بمعنى أنهم عابدون؛ إذ يشهدون أنفسهم هي الحق، وهذا هو دين ومذهب وحدة الوجود، كما صرح بذلك طواغيتهم كـابن عربي صاحب الفصوص] أي: فصوص الحكم كما سبق أن أشرت إلى ذلك.
وهناك كتاب آخر بنفس الاسم اسمه (فصوص الحكم) للفارابي ، والفارابي هو الفيلسوف الملحد المشهور والموسيقار المشهور الفارابي ، له كتاب اسمه: (خصوص الحكم) في الفلسفة.
وقد سبق أن ذكرت أن ابن سبعين بقي في غار حراء ينتظر الوحي شهراً؛ لأنه يعتقد أنه يمكن أن يحصل له التنبؤ، والعجيب أنه يحتاج إلى النبوة مع أنه يعتقد أنه هو الله، فانظروا إلى التناقض، فكيف تذهب وتجلس في غار حراء شهراً تنتظر النبوة وأنت الله كما تزعم، والجبل الذي بجوارك هو الله أيضاً، وتطلب من الله وأنت الله، فكيف يطلب الله منك؟! فأفسد دين مر على أهل الأرض هو دين هؤلاء.
وهذا من خطط اليهود العالمية، وهذا ينبغي أن نفقهه، فنستفيد من أحداث كثيرة تمر على العالم، فاليهود من خططهم ليصيروا شعب الله المختار، ويهيمنوا على الدنيا، ويكون لهم كل التأثير، من خططهم في تحقيق ذلك تحطيم الأديان، ويعتقدون أن تحطيم الأديان دين، فهم أرادوا تحطيم النصرانية وحكموها بالفعل، ويعتقدون أن ذلك دين، وحاولوا تحطيم الإسلام، وهم يعتقدون ذلك ديناً؛ لأنهم يعتقدون أن اليهود فيهم صفة خاصة هي أنهم أهل حقد وحسد، فعندما جاء هذا الدين، وجاء به نبي عربي من ولد إسماعيل غضبوا، وكأنهم يريدون أن يحجروا على الله عز وجل أنه لا يضع النبوة إلا فيهم.
فلما غضبوا حسدوه، فلما حسدوه لم يتبعوه، وفيهم من الإدراك الشيء الكثير، فهم يعرفون أن أي دين يأتي من عند الله عز وجل فهو ناجح مائة في المائة، وإذا أخذه قوم وآمنوا به سيكون لهم السيطرة وسيكون لهم النصر والظفر في الدنيا كلها، وحينئذ سيكونون مهزومين ضعفاء محتقرين، وليس عندهم الاستعداد لأن يلتزموا بدين الله عز وجل، فما هو الحل؟
الحل هو تحطيم الأديان كلها حتى الدين الحق، فقالوا: حطموا الأديان واجعلوها كلها باطلة، واشغلوا الناس بالشهوات والملذات، وأفسدوا الناس بكل ألوان الفساد. ويعتقدون أن ذلك من الدين، وقد يستغرب الإنسان ويقول: هل توجد أمة من أمم الأرض لها دين محترم وتفسد أديان الآخرين وتظن أن هذا من دينها؟ والجواب: نعم، وهذا هو حال اليهود.
والحقائق الشرعية تثبت أن عيسى عليه السلام بعث إلى اليهود من أجل أن يصحح معتقداتهم بعد موسى عليه السلام، فآمن به طائفة سميت النصارى، وكفرت به البقية، وهم: بقية اليهود، وكانوا يتعاونون مع الرومان الوثنين ضد هؤلاء، وبالفعل تعاونوا معهم تعاوناً قوياً جداً، وطاردوهم، واضطهدوهم، فصاروا مشردين، وكان من أبلغ من يطارد النصارى بولس شاول اليهودي، ثم فكر في أسلوب آخر غير أسلوب المواجهة المادية فقال: أفسدهم عن طريق العقائد.
وهذه هي خطة اليهود، فجاء إلى النصارى وقال لهم: عندما أتيت إلى مدينة كذا -وذكر اسم مدينة- جاءني نور من السماء، وعندما جاء النور من السماء فزعت، فإذا هو يسوع، فقال: يا بولس ! لماذا تطارد أتباعي؟! ثم وضع يده على قلبي فآمنت. ثم قال: يا بولس ! كرس بالإنجيل، يعني: ادع إلى الإنجيل. فجاءهم بولس وأسلم.
فتخيل كم تكون عظمة فرحة النصارى المساكين عندما يؤمن بدينهم من كان يضطهدهم، سيفرحون فرحاً عظيماً جداً، وهذا الذي حصل، حيث فرحوا إلا طائفة يسيرة منهم عرفوا خطط اليهود، وحذروا البقية الباقية، لكن ما كان للتحذير فائدة عند هؤلاء، فبدأ يأتي بآراء وبدأ يقرر قواعد دين النصارى، وبدأ يقول: أريد أن أكتب الإنجيل. وبدأ يزاحم الإنجيل، مع أن الأناجيل كتبت بعد رفع عيسى بزمن طويل، فبدأ يأتي برسائل سميت فيما بعد: (رسائل بولس ).
وهكذا بدأ يخترع لهم ديناً آخر ويحرف الدين من داخله، فلما آمن قسطنطين -وهو رئيس الدولة الرومانية- بالنصرانية وكان وثنياً واجه دينين للنصرانية: الدين الأول: الدين المحرف الذي جاء به بولس ، واتبعه عدد كبير من النصارى ممن اغتروا بـبولس ، وبقيت طائفة يسيرة أتباع لرجل موحد نصراني اسمه: آريوس ، فلما أسلم قسطنطين أراد أن يجعل مذهب الدولة الرسمي الرومانية المذهب النصراني، فوجد مذهبين: أحدهما إما التوحيد الخالص الذي يمثله آريوس ، والآخر مذهب بولس شاول .
ثم كانت الخلاصة أن أقاموا مجمعاً سموه: (مجمع نيقية) في عام ثلاثمائة وخمسة وعشرين ميلادية تقريباً، وفيه أعلن عند الرومان أن المذهب النصراني على طريقة بولس شاول هو المذهب الرسمي للدولة، ومن تلك الفترة صار هو المذهب الرسمي وهو مذهب محرف ضال.
إذاً: استطاع اليهود أن يضربوا دين النصارى من الجذور، ولهذا نلحظ الآن النصارى في أوروبا وفي أمريكا وفي غيرها مثل الخواتم في أيدي اليهود يعبثون بهم كيفما يشاءون، وانظر إلى موضوع من الموضوعات الأخلاقية، وهو المحافظة على العرض، فالمحافظة على العرض من الأمور المشتركة بين الأنبياء، فالأنبياء لهم دين اتفقوا فيه جميعاً، وهناك أشياء تشريعية اختلفوا فيها، ومن التشريع المشترك حفظ العرض، والمحافظة على الأهل والبعد عن الفواحش، كالزنا واللواط، فذلك محرم في كل الشرائع عند كل الأنبياء بدون استثناء، وما جاء أحد منهم بحل الزنا أو اللواط أو نحو ذلك.
وانظر اليوم إلى العالم الغربي الذي أصبح ذنباً لليهود، لقد أصبح متفسخاً إلى أبعد حد؛ لأن الذي شرع له الزنا، وشرع له الفواحش هم اليهود، فأراد اليهود أن يعملوا في دين الإسلام مثل ما عمل بولس في دين النصرانية.
فـابن عربي وابن سبعين وغيرهما وهؤلاء ليس المقصود أن عندهم شبهة ولم يفهموا الحقيقة، لا، بل المقصود أكبر من هذا، فهم زنادقة يريدون إفساد الإسلام؛ لأنه لا يمكن أن يكون الإنسان عنده شبهة ويقول بهذه العقيدة الغريبة التي ما قال بها أئمة الكفر في تاريخ الأرض كله.
فنعرف من هذا أن هؤلاء الزنادقة يريدون هدم الإسلام من الداخل.
[بل هو ضلال وعمى عن شهود الحقيقة الكونية، حيث جعلوا وجود الخالق هو وجود المخلوق، وجعلوا وجود كل وصف مذموم وممدوح نعتاً للخالق والمخلوق؛ إذ وجود هذا هو وجود هذا عنده].
هؤلاء لا يفرقون بين الطاعة والمعصية، ولا يفرقون بين الكفر والإيمان، ولا يفرقون بين أي عقيدة وأي عقيدة أخرى.
[ويعلمون مع ذلك أن الله أمر بطاعته وطاعة رسوله، ونهى عن معصيته ومعصية رسوله، وأنه لا يحب الفساد ولا يرضى لعباده الكفر، وأن على الخلق أن يعبدوه فيطيعوا أمره ويستعينوا به على كل ذلك كما قال في فاتحة الكتاب: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:5]، إِيَّاكَ نَعْبُدُ [الفاتحة:5]، معناها: نعبدك وحدك لا شريك لك، وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:5] معناها: نستعين بك وحدك لا شريك لك.
ومن عبادته وطاعته: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بحسب الإمكان، والجهاد في سبيله لأهل الكفر والنفاق، فيجتهدون في إقامة دينه مستعينين به، مزيلين بذلك ما قدر من السيئات].
وهذا القدر المقصود به: الابتلاء، فإن الله عز وجل قدر ذلك ليختبرك أنت؛ ولهذا قام النبي صلى الله عليه وسلم بالجهاد مع أنه يعرف أن كفر كفار قريش هو من قدر الله عز وجل، وكذلك قام الصحابة من بعده، وقاموا بالأمر بالمعروف وبالنهي عن المنكر، وقام أئمة الدين بالدعوة إلى الله عز وجل، وإصلاح النفس، وإصلاح المجتمع.
وهناك فرق كبير بين إنسان يعتقد أنَّه ليس في الإمكان أحسن مما كان، فيعتقد أنه هذا الوضع وضع طبيعي، وأن الأخطاء موجودة منذ زمن، وكذلك المنكرات، وبين شخص يتعامل مع الواقع بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
فبعض الناس إذا قيل له: انتشر التبرج، فلا بد من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالتي هي أحسن وبالكلام الطيب، قال: يا أخي! في الزمن الماضي كان هناك تبرج وسفور يوم كان الجهاد في سبيل الله قائماً. ونقول: صحيح أنه كان هناك تبرج وسفور، لكن هل معنى هذا أن يقره الإنسان؟! بل يدفعه بقدر ما يستطيع بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والكلمة الطيبة.
وبهذا ينتشر الخير، وينتشر الصلاح على قدر نشاط أهله وعلى قدر بذلهم وجهدهم وقناعتهم بأن إيصال الحق إلى الناس أمر ضروري جداً، وأنه من قدر الله الواجب علينا.
وأما المعاصي والمنكرات فقد خلقها الله سبحانه وتعالى، لكن أمرنا بدفعها، وهكذا ركب الله عز وجل هذا الكون وجعله مدافعة، قال تعالى: وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأَرْضُ [البقرة:251]، فأهل الحق يدفعون أهل الباطل، والمؤمنون يدفعون الكفار، وأهل الدعوة والإخلاص يدفعون أهل النفاق، وهكذا يكونون في مجاهدة، والجميع من قدر الله عز وجل، لكن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والدعوة، ورد الباطل من القدر الواجب الذي يعاقب عليه الإنسان إذا لم يقم به.
يقول: [فيجتهدون في إقامة دينه مستعينين به مزيلين بذلك ما قدر من السيئات، دافعين ما قد يخاف من آثار ذلك، كما يزيل الإنسان الجوع الحاضر بالأكل ويدفع به الجوع المستقبل]، فلو أن إنساناً جاءه الجوع فقال: لا أريد أن آكل، لأن الجوع قدر الله، أو جاءه البرد فقال: لا أريد أن أستتر من هذا البرد؛ لأنه قدر الله، أو جاءه الحر فقال: لا أريد أن آتي في مكان مبرد؛ لأن الحر قدر الله لكان سفيهاً، فالحر والجوع والبرد من قدر الله، كما أن الذنوب والمعاصي من قدر الله، فلماذا الذنوب والمعاصي نرضى بها ولا نرضى بالحر والجوع؟!
فلو كان عند الإنسان توحيد خالص لآلمته هذه الذنوب والمعاصي كما يؤلمه الجوع، والجميع من قدر الله سبحانه وتعالى.
يقول: [وكذلك إذا آن أوان البرد دفعه باللباس، وكذلك كل مطلب يُدفع به مكروه، كما قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: (يا رسول الله! أرأيت أدوية نتداوى بها، ورقىً نسترقي بها، وتقىً نتقيها، هل ترد من قدر الله شيئاً؟ فقال: هي من قدر الله)] وهذا الحديث في إسناده ضعف، لكن المعنى صحيح وثابت في نصوص أخرى، [وفي الحديث: (إن الدعاء والبلاء ليلتقيان فيعتلجان بين السماء والأرض)] هذا الحديث رواه الإمام أحمد في المسند، وابن ماجة في سننه، وصححه الشيخ الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة في المجلد الأول.
يقول: [فهذا حال المؤمنين بالله ورسوله العابدين لله، وكل ذلك من العبادة، وهؤلاء الذين يشهدون الحقيقة الكونية -وهي: ربوبيته تعالى لكل شيء- ويجعلون ذلك مانعاً من اتباع أمره الديني والشرعي على مراتب في الضلال] ثم بدأ يذكر مراتب هؤلاء.
ونلحظ هنا أنه ذكر مراتب الضالين في شهود الحقيقة الكونية، وأخرج أهل الاتحاد والحلول وذكرهم قبل ذلك؛ لأن فساد مذهب أهل الحلول والاتحاد واضح جداً، لكن هؤلاء فسادهم أقل من أولئك، وكل له مرتبته ودرجته.
الجواب: يحكم عليه بحسب قصده، فإن كان قصده أنه تعالى لم يخل منه مكان بعلمه وقدرته سبحانه وتعالى فلا شك في أنه صحيح، وإن كان يقصد ذاته فلا شك أنه باطل، وهذا هو مذهب أهل الحلول.
الجواب: إذا كان المقصود بالمادة أن لها جرماً، وأنها كانت بعد أن لم تكن؛ فالقاعدة عادية ليس فيها شيء جديد.
الجواب: المعروف أن القدر مكتوب في اللوح المحفوظ، ثم ينسخ في كتب الملائكة، أما كون القدر مكتوباً على الجبين فلا أعلم في هذا شيئاً.
الجواب: نعم قدر الله عز وجل الزنا وخلق الزنا، لكن هناك قدر مكروه يكرهه الله عز وجل، وهناك قدر يحبه الله، فهذا من القدر الذي كرهه الله عز وجل ونهانا عنه ليبتلينا أينا أحسن عملاً.
الجواب: لا يتصور أن موسى يقول: لماذا أكلت من الشجرة؟ لأنه لو اعتبر أن الذنب عذر لكان ذلك خطأ، لكنه لامه على أنه كان السبب في إخراجهم من الجنة.
الجواب: سبق أن أشرت إلى بعض عقائد ابن عربي ، وكتب ابن عربي موجودة، وأوضح كتاب بين فيه عقيدته ومذهبه هو كتاب (فصوص الحكم) وهو كتاب مطبوع وموجود، وله أيضاً كتاب شرحه الكاشاني ، والكاشاني من علماء الصوفية له كتاب اسمه (معجم مصطلحات الصوفية)، ترجم له فيه، ولعل أوضح من ترجم له وساق أقوال العلماء فيه رجل صوفي -أيضاً- يقال له: تقي الدين الفاسي ، وله كتاب اسمه (العقد الثمين في تاريخ بلد الله الأمين)، ترجم لـمحي الدين بن عربي هذا، وساق أقوال العلماء فيه، وبدأ برأي شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، ونقل أغلب كتاب (حقيقة مذهب الاتحاديين) تقريباً إن لم يكن نقله بالنص كاملاً، ثم نقل نصوصاً كثيرة عن الحافظ ابن حجر رحمه الله، وعن الذهبي ، وعن عدد كبير من أهل العلم، وجميعهم يبين عقيدته الفاسدة التي كان عليها.
الجواب: لا أعلم أنها موجودة، وقد كان يمثلهم قديماً آريوس ، وقد صاروا قلة وانقرضوا، ولو كانوا موجودين فإنه لا يقبل الله منهم صرفاً ولا عدلاً حتى يؤمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم، ولو كانوا موحدين على دين عيسى؛ لأن دين الرسول صلى الله عليه وسلم ناسخ لغيره من الأديان، ولهذا ينزل عيسى في آخر الزمان ويحكم بشريعة محمد صلى الله عليه وسلم، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (والذي نفسي بيده لا يسمع بي يهودي ولا نصراني ثم لا يؤمن بي إلا كان من أهل النار).
ولهذا يقول الله عز وجل: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ [آل عمران:19]، ويقول الله عز وجل: وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ [آل عمران:85]، فلا يقبل منه شيء حتى ولو كان موحداً على دين المسيح عيسى بن مريم الذي نزل من السماء.
الجواب: يجب علينا أن نغير كل منكر، لكن على قدر استطاعتنا؛ لقوله تعالى: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا [البقرة:286]، فعلى قد استطاعتنا نقوم بتغيير المنكرات.
الجواب: لا يلزم أن نقدر على ذلك، ولا نترك قدرة في وسعنا.
الجواب: دين النصارى أساسه أن الإله هو الأب والابن وروح القدس، ثم اختلفوا في معنى هذا الكلام، فبعضهم قال: إن الأب والابن والروح القدس عبارة عن صفات، مثل: أن تكون طويلاً، وأبيض، وسميناً -مثلاً- أو نحيفاً، فهذه ثلاث صفات وأنت واحد.
فبعضهم قال: إن الأب والابن وروح القدس عبارة عن ثلاث صفات في إله واحد، وهذا قول أكثر النصارى، وهو قول اليعقوبية خاصة، ويقصد بالسودان نصارى السودان، وبالقبط النصارى الموجودين في مصر، فقولهم هو أن اللاهوت -ويقصدون به الله سبحانه وتعالى-، والناسوت -ويقصدون به الجسد الإنساني، وهو عيسى عليه السلام- اختلطا هذا الاختلاط مثل اختلاط الماء مع اللبن، فهل تستطيع أن تفرق بين الماء واللبن؟! فلو أخذت نصف كأس ماء ووضعت عليه نصف كأس لبن ومزجتهما سيخرج لك شيء ثالث ليس بماء ولا لبن، فلا تستطيع أن تقول: إنه ماء مائة في المائة، ولا تستطيع أن تقول: إنه لبن مائة في المائة، فهم يرون أن الله اختلط بالمسيح عيسى ابن مريم اختلاطاً لا يمكن معه التفريق بينهما.
ولا شك في أن هذا القول من أخبث الأقوال.
الجواب: بعض المترجمين قد يقول: ابن العربي ويقصد صاحب الوحدة والحلول والاتحاد، وهذا غير صحيح، وليس هذا هو الفارق الوحيد بينهما، فهذا له كتب وله اسم خاص، وهذا له كتب وله اسم خاص، فهذا محي الدين بن عربي الطائي من طيء، وذاك رجل معافري يكنى: أبا بكر ، مالكي المذهب، وكان في زمن غير الزمن الذي كان فيه ذاك.
الجواب: نعم هناك فرق بين هذين الاسمين، فالحلول لا يقتضي الامتزاج من كل وجه، والاتحاد يقتضي الامتزاج من كل وجه، ويمكن أن نمثل على هذا بمثال: فأنت إذا أتيت بكأس فارغ ثم وضعت فيه ماء فإن الماء حل في هذا الكأس، أي: دخل فيه، والكأس غير الماء، ويمكن أن تفرق بينهما.
لكن الاتحاد معناه الامتزاج، مثل ما سبق أن مثلت بالماء واللبن.
فالاتحاد أقوى في الامتزاج من الحلول، فأهل الحلول يقولون: إن الله عز وجل موجود في حياة الناس، لكنه غير ممتزج بها، أما أهل الاتحاد فيقولون: إن الله عز وجل ممتزج في الأشخاص، مثل الصبغة التي يصبغ بها الشيء بحيث يكون الجميع متفقاً في صبغة واحدة.
الجواب: التفضيل على الإطلاق غير وارد، ولهذا ذكر ابن القيم رحمه الله قاعدة نفيسة جداً في كتابه (بدائع الفوائد)، وقال فيها: إن التفضيل المطلق من كل وجه يندر في الأشياء.
فالأشخاص قد يكون أحدهم فاضل من جهة ومفضولاً من جهة أخرى، وضرب على هذا أمثلة، فقال: هل الأفضل عائشة رضي الله عنها أم خديجة ؟ وكلتاهما زوجتا النبي صلى الله عليه وسلم، ويحبهما رسول الله صلى الله عليه وسلم محبة شديدة.
نقول: الأفضل باعتبار السابقة للإسلام ومناصرة النبي صلى الله عليه وسلم في بداية دعوته خديجة ، والأفضل باعتبار العلم، وباعتبار نشر العلم بين الناس، وقربها من الرسول صلى الله عليه وسلم عائشة رضي الله عنها، ولهذا فإن التفريق بين الأشياء يمكن أن يكون باعتبارات مختلفة، ومثل هذا التفضيل بين الملائكة وصالحي البشر، فيمكن أن يقال: إن الملائكة أفضل باعتبار، وصالحو البشر أفضل باعتبار آخر.
فالملائكة أفضل باعتبار كثرة التعبد، صالحو البشر أفضل باعتبار أنهم ابتلوا بالشهوات والشيطان، فدفعوا في الوقت الذي لم يبتل فيه الملائكة بهذا.
الجواب: قيادة المرأة للسيارة أمرها محسوم ولله الحمد، ففيها فتوى قديمة من المشايخ، ورأي الشيخ عبد العزيز بن باز وغيره من المشايخ -مثل الشيخ محمد بن عثيمين ، وأعضاء هيئة كبار العلماء- واضح في المسألة، وهو أنه لا يجوز أن تقود المرأة السيارة؛ لما يترتب على هذا من الفتن، فليس محل التحريم في قيادة المرأة للسيارة أنه لا يجوز أنها تمسك بآل القيادة وتشغل السيارة، لكن لما يترتب على قيادتها من فتن ومصائب.
وإذا كانت المشكلات موجودة الآن في حياة كثير من الناس بدون قيادة للمرأة للسيارة فكيف إذا قادت؟! فإذا قادت قيل: لا بد من كشف الوجه، وهذا مخالفة شرعية، ثم إن حقيقة ذلك دعوة لخروج المرأة، لكن بطريقة هادئة، فبعض الناس لا يريد أن يدعو إلى الفساد دفعة واحدة، لكنه يدعو إليه بشكل متدرج، فيقول: نريد قيادة المرأة للسيارة، وقد يورد ضوابط شديدة جداً، بحيث لا تقود إلا من الساعة السابعة في الصباح إلى السابعة في الليل، ولا تخرج عن الخطوط الطويلة، ولا تقود إلا من كان عمرها أربعين سنة، وهذه ضوابط ليست بالهينة، ثم تستمر سنتين أو ثلاث سنوات ثم ينقض ضابط، ثم ينقض الذي بعده، ثم ينقص الذي بعده، ثم نصبح مثل المجتمعات الفاسدة التي نعرفها في حياة المسلمين اليوم.
ولا شك في أن هذا لا يرضاه المسلم ولا يحبه، ويكفي أن أهل العلم الذين يعرفون مصالح الناس ويقدرونها، ويعرفون حاجة الناس، ويوازنون بين المصالح والمفاسد وهم أهل الحل والعقد في أي مجتمع من المجتمعات يكفي أنهم أفتوا في هذا الأمر.
أما أهل الفساد، وأهل الانحراف فلا يلتفت إليهم، وأقول: إنه ينبغي علينا أن نقنع الناس بأن الفساد شر عليهم جميعاً، على الصالح والطالح، والله عز وجل يقول: وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً [الأنفال:25]، وهؤلاء المفسدون الذين يريدون خرق السفينة إذا تركهم الناس سيهلك أهل السفينة جميعاً.
ومع الأسف أننا نحن -الدعاة والمصلحين- قد يوجد لنا في بعض الأحيان بنات أو أخوات أو أمهات غير مقتنعات بالحجاب، حيث تأخذ الواحدة منهن الحجاب بشكل تقليدي، ولهذا لو وجدت فرصة ربما كشفت عن وجهها، وكثير من الفتيات تعيش بهذا الأسلوب مع الأسف الشديد، فلو كان هناك فرصة لأن تقود سيارة لقادتها وهي راغبة؛ بسبب أن مثل هؤلاء الفتيات لم يتربين تربية صحيحة في البيوت على أهمية الحجاب وأنه دين، فالحجاب دين مثل كون الصلاة ديناً، والصيام ديناً، والحج ديناً، والزكاة ديناً، فمن من النساء اليوم تعتقد أن الحجاب مثل الصلاة والصيام؟!
فكثير من النساء عندهن أن الحجاب مثل غترتك أيها الرجل! وهذه مسألة خطيرة إذا لم تفهم الفتاة -سواء أكانت زوجة أم أختاً أم أماً أم قريبة- أن الحجاب دين يجب الالتزام به، وأن خروجها من بيتها من أكبر المصائب.
وهنا شيء أريد أن أنبه إليه، وهو أن أكثر ما يسعى إليه المفسدون أن يوجدوا صراعاً بين الرجل والمرأة، وهذا الذي تربى عليه الغرب، فالغرب تربوا على وجود صراعات دائمة بين الرجل والمرأة والفقير والغني، والحاكم والمحكوم، والضعيف والقوي، فالحياة عندهم مبنية على الصراع.
ولهذا قد يبدأ المفسدون بهذه القضية، فتجد الدندنة على موضوع أن الرجل هضم المرأة ولم يعطها حقوقها، وأن الرجل تعدى على حقوق المرأة، وقد يوجد هناك تعد من بعض الرجال لا يوافق الشرع، لكن هؤلاء أهل الفساد يلبسون الشرع أخطاء الناس، فقد توجد فتاة يظلمها أبوها فيزوجها رجلاً كبيراً جداً في السن حتى يتزوج هو بنت هذا الرجل، وهذا ظلم.
لكن بعض المفسدين يلبس هذا الظلم هذا الدين، فيجعل هذا من ظلم الدين للمرأة والعياذ بالله، وهذه القضية قضية واضحة ومحسومة، ولله الحمد.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر