الحمد لله نحمده ونستعينه ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمد عبده ورسوله، بلغ الرسالة وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين.
أما بعد:
فقد سبق أن تحدثنا عن كتاب (الرد على الزنادقة والجهمية) للإمام أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى.
وسوف نتحدث هنا -بإذن الله تعالى- عن التعريف بكتاب: (توحيد وإثبات صفات الرب عز وجل) لـأبي بكر محمد بن إسحاق بن خزيمة الشافعي الذي يلقب بإمام الأئمة، والإمام أبو بكر بن خزيمة رحمه الله من علماء القرن الثالث، وولادته كانت في فترة مبكرة، ولهذا تلقى على أقران الإمام أحمد رحمه الله تعالى، من أمثال: إسحاق بن راهوية والإمام البخاري رحمه الله ومسلم وغيرهم من علماء أهل السنة المشهورين في تلك الفترة، وقد ولد في سنة مائتين وثلاث وعشرين، وتوفي في سنة ثلاثمائة وإحدى عشرة.
وهذا الكتاب الذي ألفه ابن خزيمة رحمه الله اشترط فيه الصحة كما اشترط الصحة في صحيحه، وهذا هو ظاهر كلامه رحمه الله في المقدمة، فإنه عندما تحدث عن سبب تأليف الكتاب بين أنه بسبب ظهور بعض الأحداث سمع من المشتغلين بالعلم الذين جالسوا أهل الأهواء والبدع، سمع منهم كلاماً خلاف السنة فقام بتأليف هذا الكتاب.
ويحسن هنا أن نذكر الموطن التي أشار فيها إلى اشتراطه للصحة، فإنه عندما ذكر المسائل التي سيتعرض لها في هذا الكتاب وهي مسألة القدر ومسألة الأسماء والصفات قال: مما وصف الله به نفسه في محكم تنزيله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد، وبما صح وثبت عن نبينا صلى الله عليه وسلم بالأسانيد الثابتة الصحيحة بنقل أهل العدالة موصولاً إليه، ليعلم الناظر في كتابنا هذا ممن وفقه الله لإدراك الحق والصواب، ومنَّ عليه بالتوفيق لما يحب ويرضى صحة مذهب أهل الآثار في هذين الجنسين من العلم.
يقصد العلم بالقضاء والقدر، والعلم بتوحيد صفات الله سبحانه وتعالى.
وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في الفتاوى أن ابن خزيمة رحمه الله ممن اشترط الصحة في كتابه التوحيد، فإذا روى حديثاً بإسناده ولم يعلق عليه فذلك علامة على أنه يرى أنه صحيح، كما أنه إذا روى حديثاً في صحيحه المشهور الذي لم يطبع منه إلا الربع فقط فهو -كذلك- صحيح عنده، ولكن مع هذا فقد وجد في هذا الكتاب بعض الأحاديث التي انتقدت، رواها عن بعض الضعفاء، بل روى عن بعض المتروكين.
ومن الأحاديث الضعيفة التي ذكرها رحمه الله تعالى الحديث المشهور الذي فيه أن الله خلق الأرض على النون، والنون على قرن ثور، وهو حديث طويل لا يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم، ومع ذلك نقله في هذا الكتاب.
وهذا الكتاب يرد فيه على الطوائف المنحرفة جميعاً، فهو يرد فيه على المعتزلة، وقبل ذلك على الجهمية، ويرد فيه كذلك على الكلابية.
وكان العصر الذي ظهر فيه ابن خزيمة رحمه الله قد نشطت فيه الكلابية خاصة في المشرق، وكان لهم كثير من الأئمة، فقد كان هناك بعض الأئمة من أهل الحديث، وفي نفس الوقت يكون على عقيدة ابن كلاب الذي خالف فيها منهج السلف.
وهذا الكتاب اهتم بإثبات الصفات، فهو -مثلاً- يذكر سياق ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم في أن لله عز وجل يدين، وفي إثبات صفة الوجه، وفي إثبات الصفات بشكل تفصيلي، لكن يوجد فيه تكرير، فصفة اليد ذكرها في أكثر من عشرة أبواب، فيذكرها في باب، ثم يأتي في باب آخر فيذكرها، ثم يأتي في باب آخر فيذكرها، وقد كانوا لا يعتنون بالترتيب كما هو منهج البحث العلمي المعاصر الآن، وإنما كانوا كلما وجدوا حديثاً يمكن أن يضعوا له باباً مستقلاً فعلوا ذلك، وقد يكررون لأهمية التكرار في بعض الأحيان.
ولهذا قلده -أيضاً- جهمي في العصر الحاضر، وقد توفي وهلك عام ألف وثلاثمائة وسبعين تقريباً، وهو محمد زاهد الكوثري ، فإنه في تعليقه على كتاب الأسماء والصفات للبيهقي ذكر كتاب ابن خزيمة هذا ونقده نقداً شنيعاً، وتكلم عليه كلاماً قبيحاً وسماه: كتاب الشرك، والعياذ بالله.
ولا شك في أن هذا الكتاب من كتب أئمة السلف، وابن خزيمة إمام مشهور، تلقى عنه العلم البخاري ومسلم ، ورويا له في غير الصحيح أحاديث متعددة، ومن تلاميذه ابن حبان البستي ، وغيرهم من الأئمة المشهورين في ذلك الزمن.
وهذا الكتاب فيه عناية تفصيلية بإثبات الصفات، ولهذا جاء أحد الأشاعرة - وهو أبو بكر بن فورك - فتتبع هذا الكتاب، وأخذ الصفات المذكورة في هذا الكتاب وقام بتأويلها صفة صفة، وزعم أنها ليست على ظاهرها.
وسمى كتابه: (بيان مشكل الحديث) ثم رد عليه بعد ذلك إمام من أئمة الحنابلة، وهو أبو يعلى رحمه الله تعالى بكتاب سماه: (إبطال التأويلات) فأخذ تأويلات ابن فورك ، ورد عليها تأويلاً تأويلاً، وبين خطأه وضلال المذهب الذي اتبعه في ذلك.
هذا بالنسبة للتعريف بكتاب من كتب السلف رضوان الله عليهم في مجال العقائد.
المعنى الأول: المتعبد به، والمعنى الثاني: التعبد.
فأما المتعبد به فهو ما عرف به شيخ الإسلام رحمه الله تعالى العبادة، فإنه قال: هي اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الباطنة والظاهرة، فهذا تعريف للعبادة في ذاتها.
ولهذا لما ذكر الأمثلة ذكر الصلاة والزكاة والصيام والحج.. إلى آخر الأمثلة التي ساقها بعد التعريف.
وأما العبادة التي تطلق ويراد بها التعبد فيصدق عليها ما عرفها به الكفوي رحمه الله في كتابه (الكليات) فإنه قال عن العبادة: هي فعل ما يرضي الرب.
وسبق أن أشرنا إلى معاني العبادة في لغة العرب، وقلنا: إن العبادة تأتي في لغة العرب على خمسة معان:
الأول: الخضوع، والثاني: الذل، والثالث: الطاعة، والرابع: المملوكية، والخامس: النسك والتنسك.
دعاء العبادة، ودعاء المسألة، وهكذا بقية التعريفات.
فالحج في اللغة: هو القصد، وفي الاصطلاح: قصد أماكن مخصوصة لأداء شعائر مخصوصة. فهناك علاقة بين المعنى اللغوي والمعنى الاصطلاحي، ولا يصح أن يكون المعنى اللغوي في جهة والمعنى الاصطلاحي في جهة أخرى، فالكلمات التي استخدمها الشارع في معانٍ جديدة في الحقائق الشرعية لا بد من أن يكون هناك رابط بينها وبين المعنى اللغوي في أصل لغة العرب قبل أن تستخدم بالمعنى الشرعي.
فالعبادة في لغة العرب معناها: الذل والخضوع، ومعناها: الطاعة والاستسلام، ومعناها: المملوكية التامة، ومعناها التنسك بأفعال يقدمها الإنسان لمعبوده الذي يعبده.
والعبادة في الشرع هي هذه المعاني اللغوية، لكن بشرط أن تصرف لله سبحانه وتعالى، فإن معنى العبادة في لغة العرب يمكن أن يصرف لأي شيء، فيمكن أن يصرف للطاغوت، أو للأصنام أو للهوى أو للشيطان، لكن العبادة بمفهومها الشرعي هي نفس المعاني اللغوية التي استخدمت، لكن بشرط أن تكون مصروفة لله سبحانه وتعالى، فهذه هي العبادة الشرعية.
مثال ذلك: الإيمان، فالإيمان يقول فيه بعض أصحاب المعاجم: إنه يراد به التصديق في لغة العرب، وعندما تأتي إلى المعنى الشرعي تجد أنه لا يقصد به التصديق فقط، وإنما يضاف إليه العمل والقول، أي: عمل القلب وعمل الجوارح، وقول اللسان، فلم يبق المعنى الاصطلاحي على حد المعنى اللغوي، وقد كان بعض الناس يتكلمون في لغتهم الدارجة بكلمة (آمن) بمعنى: صدق، كقوله تعالى: وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا [يوسف:17] يعني: ما أنت بمصدق لنا، لكن هذه الكلمة استخدمت في المعنى الشرعي بمعنى أشمل من المعنى اللغوي، فهل الأمر كذلك في تعريف العبادة أم أن الشرع استعمل العبادة بمعناها اللغوي بدون أن يضيف إليها معنى آخر جديداً؟
بيان ذلك أنه يمكن أن يخضع الإنسان في بعض الأحيان ويذل ويطيع وهو كاره غير محب، فهذه الأفعال لا تسمى عبادة، مثل حالات الإكراه التي تمر بالناس، بحيث إنهم يُضطهدون من الطواغيت مثلاً، ففرعون اضطهد بني إسرائيل، فلم يستطع أحد منهم أن يرفع رأسه، فالظاهر هو أنهم خاضعون، وأنهم مذلون طائعون له، لكن لا يعني هذا أنهم عبدوه من دون الله، والسبب في هذا أن هذا الخضوع وهذا الذل كان بالقهر والجبر والقوة، وليس خضوعاً تعبدياً، فإن الخضوع التعبدي هو الذي يكون فيه خضوع وفي نفس الوقت يكون ناشئاً عن محبة وعن تأله لهذا المعبود، كما أن المحبة وحدها بدون خضوع ليست عبادة، فالإنسان يحب أبناءه، ويحب أمه وأباه، ويحب زوجته، ويحب إخوانه في الله، ولم يقل أحد من الناس: إن الرجل إذا أحب هؤلاء فقد عبدهم من دون الله، فهو كافر.
ومن هنا كان تحرير المصطلحات الشرعية مهماً جداً، وإذا لم يحدد الإنسان المعاني الشرعية يقع في الزلة.
ومثال ذلك: الذين وقفوا عند المعاني اللغوية في تعريف العبادة، فقالوا: إنها هي الذل والخضوع فقط، فقد رتبوا على هذا أن من ذل وخضع فهو عابد، ورتبوا على هذا أن الذين يذلهم الطواغيت بالقوة والقهر والجبر والحديد والنار كفار، فإذا قيل لهم: لماذا كفروا؟ قالوا: لأنهم خضعوا للطواغيت، فإذا قيل: ما معنى أنهم خضعوا للطواغيت؟ قالوا: عبدوهم من دون الله، فإن العبادة هي الخضوع.
فنقول: لكن هذا الخضوع ليس عن محبة، وإنما هو عن خوف، فقد جبروهم على هذا الخضوع، والعبادة ليست مجرد الخضوع، وإنما هي خضوع مع محبة.
وأكثر ما يبرز معنى العبادة في طاعة طواغيت التصوف، فطواغيت التصوف الآن لا يتسلطون على الناس بالحديد والنار، ولا يتسلطون على الناس بالإرهاب المادي، وإنما يتسلطون على الناس بالإرهاب النفسي، فأنت إذا أغضبت الولي محق رزقك، وذهبت البركة من مالك، وأصبحت ضائعاً في هذا الوجود ليس لك أحد تأوي إليه، وحينئذ يضطر الإنسان الذي ليس عنده عقيدة سليمة إلى أن يخضع لهؤلاء حتى لا يضيع رزقه، وحتى لا يكون من الهلكى، ويكون هذا الخضوع ليس خضوعاً؛ لأنه يخاف على رزقه فقط، بل خضوعاً مشوباً وخصلة التعظيم والإجلال، وفيه العناية بالتعبد، ومنها هنا جاءت المحبة، فهو يحبه لأنه ولي لله كما يتصور، ويخضع له؛ لأنه يخاف على رزقه، فاختلط الخضوع والمحبة، فعبده من دون الله، والعياذ بالله.
فعبودية المريدين لأصحاب الطرق الصوفية أوضح في الشرك -والعياذ بالله- من عبودية المضطهدين الذين لم يخضعوا عن محبة وإنما خضعوا عن خوف، ولهذا ينبغي على الإنسان إذا درس أي مفهوم من المفاهيم الشرعية أن يحرره تحريراً شرعياً، كمفهوم التوحيد مثلاً، أو مفهوم الإيمان، أو مفهوم الشرك، أو مفهوم الكفر، أو غيرها من المفاهيم، ومنها مفهوم العبادة، فيجب أن يحرره تحريراً شرعياً، بحيث يكون المعنى واضحاً في ذهنه، ولا يرد عليه إيرادات تفسد هذا المعنى.
ومن ثم نأخذ من هذا أن حقيقة العبادة التي إذا صرفت لغير الله كانت شركاً: هي الخضوع والذل والطاعة للمألوه والمحبوب، والمألوه والمحبوب هو الذي أحب لمعنى غيبي، فالمشركون الذين كانوا في مكة كانوا يحبون أصنامهم، وقد يقول قائل: ومن يحب الحجر؟
نقول: لا بد من أن نفهم كيف كان المشركون يعبدون أصنامهم، فالمشركون ما كانوا يعبدون الأصنام لأنها حجارة، فهم أناس لهم عقول، ويعرفون أن الحجارة هذه لا تضر ولا تنفع، ولا يستفاد منها، وإنما كانوا -في الحقيقة- يعبدون الأولياء والصالحين والأنبياء والملائكة، فهم في الحقيقة يعبدون هؤلاء، كما قال الله عز وجل: أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا [الإسراء:57].
فقوله: أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ [الإسراء:57] يعني: أولئك المدعوون يبتغون إلى ربهم الوسيلة، فيحبون ويخافون ويرجون، فهم يعبدون الله، وهؤلاء هم الأنبياء والصالحون والملائكة.
ولهذا تجد أن النصارى يعبدون عيسى عليه السلام وهو نبي صالح، واليهود يعبدون عزيراً وهو صالح كذلك، والمشركون يعبدون اللات، وسبب ذلك أن رجلاً كان يلت السويق على صخرة بين مكة والطائف، ويعطيه الحجاج، ثم مات، فلما مات عكفوا على قبره وعبدوه من دون الله.
فهم ما كانوا يعبدون الأصنام؛ لأنها حجارة.
وهنا قد يقول قائل: لماذا جاءوا بالأصنام؟
أقول: إن الأصنام جاءوا بها من أجل أن تذكرهم فقط، فيضعون صنماً على شكل إنسان أو على شكل ولي أو على شكل قائد كبير مثلاً، فتذكرهم بالملائكة، وتذكرهم بالأنبياء والصالحين، فيعبدونها، وإلا فإنهم لا يقصدون العبادة لهذه الحجارة، وقد عظم المشركون الكعبة ومكة بشكل عام، وظنوا أن كل شيء فيه بركة، إلى درجة أنهم أصبحوا يظنون أن الحجارة فيها بركة، فيقولون: الحجارة هذه لا تنفع، لكن فيها بركة، فهي تبارك لك رزقك، ولهذا -كما قال ابن إسحاق - كان بعض العرب إذا ضعن من مكة وخرج منها أخذ معه شيئاً من حجارتها، يتبرك بها. فالأصل هو طلب البركة.
فالكفار ما كانوا يعبدون الأصنام لذاتها، وإنما كانوا يعبدونها لأنها متعلقة بأشخاص لهم مكانة عند الله، فهم يريدون هؤلاء الأشخاص أن يشفعوا لهم عند الله عز وجل، وجاءوا بهذه الأصنام لتذكرهم فقط.
ولهذا فإن تغليب جانب على جانب في قضايا العبادة يجعل الإنسان يضل وينحرف.
فهو ينقسم إلى توحيد الربوبية والإلهية والأسماء والصفات باعتبار جانب الله سبحانه وتعالى، فإذا أردت أن تقسم التوحيد بالنظر إلى الله فإنه ينقسم إلى ثلاثة أقسام:
القسم الأول: توحيد الربوبية وهو إفراد الله بالخلق والرزق والإحياء والإماتة والتدبير عموماً.
القسم الثاني: توحيد الإلهية وهو إفراد الله عز وجل بالعبادة.
القسم الثالث: توحيد الأسماء والصفات: وهو إثبات ما أثبته الله لنفسه أو أثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم، ونفي ما نفاه الله عن نفسه أو نفاه عنه رسوله صلى الله عليه وسلم، هذا هو التقسيم الأول.
وأما التقسيم الثاني: فهو باعتبار جانب العبد، فإن التوحيد ينقسم بهذا الاعتبار إلى قسمين:
توحيد المعرفة والإثبات، وتوحيد القصد والطلب.
فتوحيد المعرفة والإثبات يشتمل في التقسيم الثلاثي: على توحيد الربوبية وتوحيد الأسماء والصفات؛ لأن هذين التوحيدين إنما يتعلقان بالمعرفة في الإنسان.
وأما النوع الثاني من أنواع التوحيد بالنسبة للتقسيم الثنائي فهو توحيد القصد والطلب، وهذا التقسيم الثاني يقابل توحيد الإلهية في التقسيم الثلاثي، وبناءً على ذلك فإن توحيد الإلهية يعتبر شطراً أساسياً من التوحيد، وإنما قيل له: توحيد الألوهية بالنظر إلى جانب الله، ونفسه يعبر عنه بتوحيد العبادة بالنظر إلى جانب العبد، فبالنظر إلى جانب العبد يسمى توحيد العبادة، وبالنظر إلى جانب الله تعالى يسمى توحيد الألوهية، وهو إفراد الله تعالى بالعبادة.
ومن هنا نلحظ العلاقة بين العبادة وبين التوحيد، فالعبادة هي أساس التوحيد، وأساس التوحيد هو إفراد الله بالعبادة، ولا يتصور أن يفرد الإنسان الله عز وجل بالعبادة إلا إذا جاء بتوحيد الربوبية، وهو إفراد الله عز وجل بالخلق والرزق والملك، وكذلك إثبات الأسماء والصفات، فإذا حصل القدح في إفراد الله عز وجل بالربوبية، أو في إفراده بالأسماء والصفات فإن هذا يكون في نفس الوقت قدحاً في توحيد العبادة.
ومن هنا نلحظ أهمية العبادة، فإن العبادة لها أهمية كبرى في حياة الإنسان؛ لأنها هي حقيقة التوحيد الذي أراده الله عز وجل منا.
الإيمان يعرفه أهل السنة بأنه قول وعمل، والمراد بالقول قول القلب وقول اللسان، وقول القلب هو تصديقه، وقول اللسان هو النطق بالشهادتين، والذكر، وقراءة القرآن، والدعوة إلى الله، ونحو ذلك.
وأما العمل فيشمل عمل القلب وعمل الجوارح، فما هو عمل القلب؟ إن عمل القلب هو الخشية، والخوف، والإنابة، والرجاء، والمحبة، والتوكل، وغير ذلك من أنواع العبادات القلبية.
وأما عمل الجوارح فهي الأعمال التي يباشرها الإنسان بجوارحه، مثل الجهاد في سبيل الله، والحج، والدعوة، والصلاة والزكاة والصيام ونحو ذلك، فهذه أعمال بالجوارح.
فهذا هو تعريف الإيمان عند السلف الصالح رضوان الله عليهم، وإذا قارنا بين العبادة وبين الإيمان نجد أن العبادة هي الإيمان تماماً، فالعبادة هي حقيقة الإيمان، فإن العبادة -كما سبق- معناها الذل والخضوع والمحبة لله تعالى، والذل والخضوع والمحبة لله تعالى هي أعمال القلب في تعريف الإيمان.
كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ألا وإن في الجسد مضغة، إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب).
فإذا قارنت بين العبادة والإيمان تجد أن العبادة هي نفسها عمل القلب في الإيمان، فعمل القلب: الخوف، والرجاء، والإنابة، والتوكل، والمحبة، ونحو ذلك، فهذه هي عبادات، وهي في نفس الوقت إيمان.
وكذلك أعمال الجوارح، كالصلاة، والزكاة، والصيام، والحج، وأداء الأمانة، وبر الوالدين، وصلة الأرحام، والوفاء بالعهود، وكذلك قول اللسان كصدق الحديث، فهذه كلها عبادات، وهي في نفس الوقت إيمان، وهذا الإيمان إما متعلق باللسان، وإما متعلق بالجوارح، وإما متعلق بالقلب.
ومن هنا نلحظ العلاقة القوية بين العبادة من جهة، وبين الإيمان من جهة أخرى، فإذا تصورنا إنساناً لا يعبد الله عز وجل، فهل يكون مؤمناً؟ إنه لا يكون مؤمناً أبداً؛ لأن العبادة والإيمان بمعنى واحد.
لقد بحث شيخ الإسلام هذا الموضوع فقال: فالدين كله داخل في العبادة. ثم ذكر حديث جبريل، وقال: فجعل هذا كله من الدين، ويقول: والدين يتضمن معنى الخضوع والذل، يقال: دنته فدان أي أذللته فذل، ويقال: يدين الله، ويدين لله، أي: يعبد الله ويطيعه ويخضع له، فدين الله عبادته وطاعته والخضوع له.
فنلحظ هنا أن العبادة هي التوحيد، وأن العبادة هي الإيمان، وأن العبادة هي الإسلام، وأن العبادة هي الدين، ويدلنا هذا على أهمية فهم العبادة، وعلى أهمية الاهتمام بها وتصورها، والنظر إلى حياة النفس وحياة المجتمع هل هي موافقة لعبادة الله أم ليست موافقة.
ومن ثم تعرف هل هي موافقة للإيمان، وهل هي موافقة للتوحيد، وهل هي موافقة للإسلام، وهل هي موافقة للدين، أم ليس الأمر كذلك؟
الطائفة الأولى: العلمانية.
والطائفة الثانية: أهل الكلام.
والطائفة الثالثة: الصوفية.
فهم لا يرفضون الدين جملة، ولا يطعنون فيه مباشرة، وإنما يحصرون الدين في جزء يسير من الحياة، ويتركون بقية الحياة لأهوائهم وأفكارهم وآرائهم وفلسفاتهم، وهم في كثير من الأحيان يستعيرون آراءً وأفكاراً ومذاهب وفلسفات من جهات أخرى.
فهؤلاء العلمانيون خطر على مسيرة الأمة؛ لأن العلمانية حصرت الدين الذي أنزله الله عز وجل من السماء ليكون حاكماً للناس في واقع الأرض، حصرته في مكان ضيق ومحدد، وهي لا ترفضه، بل إنها قد تعتز به، وقد تثني عليه، وقد تفرح به وبرجالاته، لكنها لا تفهم الفهم السليم الصحيح الذي أراد الله عز وجل أن يكون واقعاً في الأرض.
ومن هنا كان لا بد من أن نعرف تعريف العلمانية للعبادة، وأن نبين الخطأ والآثار المترتبة على هذا التعريف.
يعرف العلمانيون العبادة بأنها: الشعائر التعبدية التي تكون في حدود المسجد. وهم إذا تكلموا عن العبادة وفرحوا بها فإنما يقصدون الشعائر التعبدية فقط، مثل الصلاة والصيام والحج والزكاة ونحو ذلك، ولهذا لا يرون ضيراً على كل إنسان علماني أن يتبنى مذهباً فكرياً غربياً وفي نفس الوقت يكون مسلماً، ويكون عابداً لله؛ لأن العبادة التي تصوروها، والتي يريدون أن يفوا بها هي هذه العبادة التي هي الشعائر التعبدية في حدود المسجد فقط.
وبناء على هذا يقولون: إن المرأة -مثلاً- لو أنها خرجت سافرة متكشفة لتسافر إلى أي مكان، وتعمل ما تريد، وتترك ما تريد، وتعاشر غير زوجها من الرجال إذا كان ذلك بحريتها، وليس فيه قدح في شخصيتها؛ فإن هذا أمر مباح لها، وهو من حقوقها الشخصية.
فالمرأة يمكن أن تعبد غير الله عز وجل، بحيث تتخذ منهجاً في حياتها مخالفاً لمنهج الله سبحانه وتعالى، وتصلي وتصوم ثم تقول: إنها عابدة. وهذا لا شك في أنه انحراف خطير.
ومن أمثلة ذلك أنهم يقولون: يمكن لإنسان عابد ومسلم أن ينضم إلى حزب شيوعي يرى أن الشيوعية خير في التحاكم إليها من أي شريعة أخرى في الدنيا، أو ينتمي إلى فكر تحرري يرى أن الإنسان حر حرية مطلقة بغير قيود، وهي التي يسمونها الليبرالية، لكن في نفس الوقت لا بد من أن يحافظ على الشعائر التعبدية حتى يكون مسلماً، وإلا فإنه لا يكون مسلماً، وحينئذ جعلوا الإنسان عابداً لغير الله في أغلب حياته.
ويترتب على تعريف العلمانية للعبادة إلغاء الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ لأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تدخل في شئون الآخرين، وإلغاء الجهاد في سبيل الله؛ لأن فيه تعدياً على حريات الآخرين، وفيه إيذاء للآخرين.
وهكذا بقية شئون الحياة تبنى على غير منهج الله، فتكون جماعة العلمانيين حينئذ عابدة لغير الله عز وجل في بقية شئونها، وفي نفس الوقت ترى أنها عابدة لله عز وجل بمجرد أداء الشعائر التعبدية، وهذا هو تعريف الإسلام عندهم، فإذا قيل لهم: ما هو الإسلام العظيم الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم؟ قالوا: هو هذا المسجد الذي يصلى فيه، ويجتمع فيه المسلمون، وفيه تكون اللقيا بين المسلمين يوم الجمعة ونحو ذلك، أما بقية أمور الحياة فلا شأن للإسلام فيها، بل إنهم يقولون: إن الإسلام نظيف، فلا يصلح أن ندخله في جميع شئون الحياة؛ فإن ذلك يجعل الإسلام يتقذر؛ لأن شئون الحياة فيها قذارة، وفيها مصالح، والإسلام مثالي، فلا يصلح أن يكون بهذه الطريقة وبهذا المستوى.
ولهذا يريدون من الإسلام أن يكون مجرد شعائر تعبدية فقط، وهذا مخالف -كما قلت- لأساسيات عظيمة في القرآن والسنة، ومن ذلك قول الله عز وجل: وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ [آل عمران:85]، فالذي يتبع أي مذهب من المذاهب الفكرية فهو ضال منحرف، خارج عن دائرة الإسلام.
والله سبحانه وتعالى يقول: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا [المائدة:3]، وهذا المنهج العلماني فيه ادعاء أن هذا الدين ليس كاملاً؛ لأنه لم يأت بأحكام للمرأة، ولم يأت بأحكام للمال، وهذا هو مقتضى التعريف.
ومثل ذلك آيات كثيرة، كقوله سبحانه وتعالى: قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ [الأنعام:162-163]، فهذه الآية تدل على أن حياة الإنسان كلها خاضعة لمنهج الله سبحانه وتعالى، ويجب أن تكون وفق منهج الله سبحانه وتعالى، وإذا تصور الإنسان أنه يمكن لجوانب من حياته أن تخرج عن منهج الله فهو مخالف لنص الآية؛ لأنه تعالى قال: وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي [الأنعام:162]، أي: كل أحوالي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الأنعام:162]، ومخالف -أيضاً- لسيرة النبي صلى الله عليه وسلم العملية، وسيرة الصحابة رضوان الله عليهم، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد صبغ الحياة كلها بالإسلام، وليس هناك ميدان أبداً من الميادين لم يصبغه هذا الدين بالإسلام، وليس هناك ميدان من الميادين أبداً لم يكن فيه شرع لله عز وجل.
وعلم الكلام علم مناظرة وحجاج وجدل، وقد ترتب على هذه المناظرات والحجاج والجدل كثير من العقائد التي صنفها أهل الكلام في كتبهم، وهؤلاء انحرفوا في تعريف العبادة، حيث حصروا العبادة في التصديق القلبي والنطق باللسان فقط، والسبب في حصر العبادة في تصديق القلب والنطق باللسان فقط أمران:
الأمر الأول: الإرجاء.
والأمر الثاني: تفسيرهم للإله بأنه القادر على الاختراع.
فإن عامة أهل الكلام مرجئة، أي: أنهم أخروا العمل عن مسمى الإيمان، فلم يجعلوا العمل داخلاً في مسمى الإيمان، وإنما أخرجوا العمل عن مسمى الإيمان وحصروا الإيمان المنجي عند الله عز وجل في التصديق القلبي فقط، ثم اختلفوا: هل النطق بالشهادة شرط لإجراء الأحكام الدنيوية على الإنسان مع احتمال أن يكون ناجياً يوم القيامة، أم أن النطق بالشهادتين شرط في أساس الإيمان من التصديق؟ وذلك على قولين في هذه المسألة، وجمهورهم على أن النطق بالشهادتين شرط لإجراء الأحكام الدنيوية فقط، والتفريق بين المسلم وغيره إنما يكون بالنطق، وأما عند الله عز وجل فإنه قد ينجو عندهم من جاء بالتصديق القلبي فقط حتى ولو لم ينطق بالشهادتين، وقد نصوا على ذلك في كتبهم، فالذي يراجع مثلاً كتاب المواقف للإيجي يجد هذا الكلام، وكذلك كتاب أصول الدين للبغدادي ، وكذلك عامة كتب أهل الكلام، مثل تحفة المريد في شرح جوهرة التوحيد، وتبسيط العقائد الإسلامية، وغيرها من الكتب التي نصوا فيها على أن الإيمان يحصل بمجرد التصديق القلبي فقط.
وإذا كان الإيمان هو مجرد التصديق القلبي فقط، فمعنى هذا أن عمل القلب لا يدخل في الإيمان، وقد نصوا على هذا، ونص الباقلاني في باب الإنصاف على أن عمل القلب وعمل الجوارح لا يدخل في مسمى الإيمان، وإذا كان عمل القلب والجوارح لا يدخل في مسمى الإيمان فمعنى هذا أن من ترك جميع أعمال القلب، وجميع أعمال اللسان، وجميع أعمال الجوارح، فإنه لا يكون كافراً ما دام أنه مسلم، فتصور وجود إنسان لا يصلي، ولا يصوم، ولا يحج، ولا يزكي، ولا يخاف الله، ولا يحبه، ولا يخشاه، ولا يتوكل عليه، ولا يرجوه، ولا يعمل من الأعمال شيئاً ومع هذا يكون مسلماً؛ لأنه مصدق بالقلب، وأخرجوا العبادة كلها من مفهوم الإيمان، فلما أخرجوا العبادة كلها من مفهوم الإيمان ترتب على هذا أنهم جاءوا إلى تفسير (لا إله إلا الله) فقالوا: (لا) معناها النفي، وهذا واضح، و(إلا) معناها الحصر، وهذا واضح، و(الله) هو اسم الجلالة المعروف، وهذا واضح، وبقيت كلمة (إله) فقالوا: الإله معناه: القادر على الخلق، والقادر على الرزق، والقادر على الإبداع، فمعنى (لا إله إلا الله) عندهم: لا خالق إلا الله، ولا رازق إلا الله.
فيقولون: إن الإنسان إذا اعتقد أنه لا خالق إلا الله فهو مؤمن، وقالوا: لا يمكن أن يعبد المؤمن غير الله.
أما أهل الكلام فيقولون: إذا كان يعتقد أن الله هو الخالق الرزاق فليس بمشرك، حتى لو طاف حول القبر، وذبح لغير الله، واستغاث بغير الله، فما دام يعتقد أن الله هو الخالق الرازق، فهذا يكفي.
وقد كان المشركون يعتقدون أن الله هو الخالق الرزاق، كما قال الله عز وجل: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [لقمان:25] والله عز وجل يقول: فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ [البقرة:22]، قال المفسرون: يعني: تعلمون أن الله هو الخالق الرازق. ولهذا فإن المشركين جميعاً يعرفون الله ويعظمونه، ويعظمون البيت الحرام، ويعظمون المشاعر، ويعظمون الأنبياء، ويعظمون الملائكة، ويعرفون أن الله هو الخالق الرازق، لكن يجعلون مع الله آلهة أخرى في أفعال الخلق، وفي أفعال الجوارح.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر