وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله، بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين.
أما بعد:
فإن الله سبحانه وتعالى خلقنا في هذه الدنيا لتحقيق حكمة عظيمة وهدف كبير، وهي إقامة دينه في الأرض، ولهذا أرسل الله سبحانه وتعالى الرسل وأنزل الكتب وامتحن الخلق وابتلاهم، وقد جاءت الرسل الكرام بالدعوة إلى عبادة الله عز وجل وحده لا شريك له وإفراده سبحانه وتعالى بالعبودية والإلهية، لكن أقوامهم لم يكونوا على طريقة واحدة في التعامل معهم، بل آمن بهم البعض، وكفر بهم البعض وهم الأكثر.
وقد جعل الله سبحانه وتعالى هذه الفتن في حياة الناس ليبتليهم وليختبرهم، فقدر الله سبحانه وتعالى وجود الصراع بين الحق والباطل إلى قيام الساعة، ونحن في هذا الزمان بعد مرور أكثر من أربعمائة وألف سنة على هجرة النبي صلى الله عليه وسلم نعيش في زمن كثرت فيه الأهواء، وكثر فيه الافتراء، وكثرت فيه التيارات والاتجاهات، وكثر فيه الدعاة المنحرفون على أبواب جهنم، وأمام هؤلاء لابد من أن يكون للداعية إلى الله سبحانه وتعالى منهج وطريقة يسير عليها ليجنب نفسه ومن يستطيع هذه الأهواء وهذه الشبهات وهذه المناهج المضلة.
وتجد آخرين يرون أن هذا الدين لا يصلح أن يطبق اليوم، ولا يصلح أن يكون هو السائد على حياة الناس اليوم، ويقولون: كيف يمكن أن نطبق ديناً جاء لقوم آلتهم في المواصلات الحمار والبعير في الوقت الذي نسير فيه من أقصى الكرة الأرضية إلى أقصاها الآخر في وقت لا يتجاوز عشرين ساعة أو أقل؟! يقولون: كيف نطبق هذا الدين في هذا الزمان المتطور المذهل؟! إذاً لابد من أن نجعل هذا الدين جزءاً من تراثنا نعتز به؛ لأنه تراث أمة من الأمم، لكن ينبغي أن نهدم كل ما هو قديم، وأن نبني الحياة البشرية على الصورة الأخرى وبطريقة أخرى تناسب الواقع المعاصر.
وكل أصحاب هذه الآراء مجمعون على أن هذا الدين لا يصلح لهذا الزمان، وأنه دين فني وانتهى، فترى بعضهم يصرح بأنه انتهى وذهب، وبعضهم يخشى من الانتقال فيحاول أن يمزق أجزاء هذا الدين، فيحصره في دائرة معينة ويقول: أنا أقر بالدين، لكن هذا الدين الأصلح له أن يكون في المسجد فقط، أما أن يبني الحياة فلا، وهذا طرف.
إن هذا المنهج لم يجعله الله عز وجل مخفىً لا نعرف له طريقاً، وإنما جعل الله عز وجل له معاني يمكن للإنسان أن يشاهدها وأن يصير عليها، يقول الله سبحانه وتعالى: وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ [الأنعام:153]، وقال ابن مسعود رضي الله عنه: (خط رسول الله صلى الله عليه وسلم خطاً مستقيماً، ثم خط عن يمينه خطوطاً وخط عن يساره خطوطاً، ثم قرأ قوله تعالى: وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ [الأنعام:153])، ولهذا فإن على الإنسان أن يعرف الصراط المستقيم، ويعرف كيف يمكنه أن يسير عليه.
إن هذه الأمور -أيها الإخوة- لا ينبغي للإنسان أن يأخذها بطريقة سطحية، ويوافق كلام الآخرين فيها، بل الواجب على الإنسان أن يدرس وأن يتأمل وأن يفكر، لاسيما وأن حياتنا مليئة بالتيارات والأفكار، ومليئة بالآراء، فلابد للإنسان من أن يسير على منهج منضبط، وهذا المنهج المنضبط هو صراط الله المستقيم، وهذا الصراط المنضبط يشرع من خلال كتب أئمة السلف السابقين في الاعتقاد والأعمال، ويشرع في ضوابطه لطالب العلم، ويشرع في تأصيله في مسائل الاعتقاد، ويشرع في نظرته للكتاب والسنة وكيف يمكن أن يفهم الإنسان الكتاب والسنة، وهو الذي سار عليه الصحابة رضوان الله عليهم، وسار عليه من بعدهم من أهل العلم، حتى ظهرت الآراء والأهواء المضلة.
ولهذا ينبغي على طالب العلم أن يدرس وأن يتعلم وأن يتحقق وأن يبحث وأن يفهم، وأن يعرف الطريقة السليمة للاستدلال بالقرآن والسنة، فإن كثيراً من الناس اليوم ضلوا في طريقتهم في الاستدلال، وأضرب على هذا أمثلة:
فمن ذلك أن الشيعة تسب عائشة رضي الله عنها وتقول: إن سبب سب عائشة رضي الله عنها هو القرآن! ويستغرب الإنسان ويتساءل: كيف يكون القرآن سبباً في سب عائشة رضي الله عنها؟! فيقولون: إن الله عز وجل يقول: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً [البقرة:67]، فإذا قيل: وما البقرة؟ قالوا: البقرة عائشة ! فانظر إلى الضلال في الاستدلال بالنصوص!
ومن ذلك أن تجد امرأة نصبت نفسها مفتية فتقول: إنه يجوز للمرأة أن يكون لها ولاية على الرجل ولاية عامة، كأن تكون حاكمة مثلاً، أو ولاية أقل منها، كأن تكون وزيرة مثلاً، بل إنها قالت: إنه يجوز للمرأة أن تصلي إمامة بالرجل، واستدلت على ذلك بقول الله سبحانه وتعالى: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ [التوبة:71]، فقالت: بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يعني: المؤمنون بعضهم أولياء على المؤمنات، وبعض المؤمنات أولياء على المؤمنين! فانظر إلى هذه الطريقة العوجاء في الاستدلال.
وما يزال كثير من الناس اليوم يتلاعب بالأحكام ويتلاعب بالقرآن والسنة، وبعضهم لا يستدل بالقرآن والسنة، إلى درجة أنك قد تجد من أثر عليه فأصبح يقول: إن اليهود والنصارى ليسوا كفاراً! بل إن بعضهم من أصحاب الأفكار العصرية يقولون: كيف يمكن أن يدخل البدوي الفلاح الغبي الجنة، لأنه يقول: لا إله إلا الله ويصلي ويصوم، بينما فلان من طواغيت الكفر الذكي المخترع كذا وكذا من الآلات المعاصرة يدخل النار؟! فيقولون: هذا تناقض، ويعتقدون أن هذا تناقض. ونحن نقول: يدخل الجنة؛ لأن الله عز وجل جعل للجنة باباً، وجعل للباب مفتاحاً، ومفتاح هذا الباب موجود عند هذا الأعرابي، حتى لو وصف بما وصفه به، والمفتاح لا يوجد عند ذلك المخترع.
أما هذه الأمة فهي أمة متميزة، ذلك لأن الله عز وجل جعلها آخر الأمم، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (نحن الآخرون الأولون يوم القيامة، بيد أنهم أوتوا الكتاب قبلنا)، فنحن آخر الأمم، وكان من حكمة الله عز وجل عندما جعلنا آخر الأمم أن حفظ لنا القرآن وحفظ لنا السنة، كما قال الله عز وجل: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [الحجر:9]، والذكر يشمل القرآن ويشمل السنة أيضاً، فحفظ القرآن فلم تطله يد التحريف، وحفظت السنة على أيدي أهل السنة، فنشأ العلم المشهور، وهو علم الحديث العلم الدقيق الذي يمحص الرجال، حتى إنه يضبط أغلاطهم وأخطاءهم، فإذا جاء حديث من الأحاديث ربما رده الإمام أحمد وقال: هذا الحديث ليس من حديث الشعبي ، وإنما هو من حديث فلان وهو ضعيف. بناء على دراسة توثيقية دقيقة، وهذا هو المعلوم من النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: (لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين -وفي لفظ منصورة- لا يضرهم من خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك)، فلا يزول الخير أبداً في أي عصر من العصور مهما انتشر الفساد العقدي والخلقي في هذه الأمة بالكلية، بمعنى: أنه لابد من أن يوجد فيها من ينطق بالحق، وهذا هو مصداق حديث الرسول صلى الله عليه وسلم: (لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك)، وأمر الله الذي يأتي فيأخذ هذه الطائفة هو الريح التي تأتي في آخر الزمان وتأخذ أرواح المؤمنين، فلا يبقى إلا شرار الخلق وعليهم تقوم الساعة وتنتهي الدنيا.
فإذا انتهت هذه الطائفة انتهت هذه الدنيا.
وعندنا تقرأ في تاريخ الأمة وتنظر في الأحوال التي مرت عليها في عصورها السابقة تجد أنه مر عليها فترة من فترات الجهل، ومر عليها فترة من فترات ضياع العلم، ومر عليها فترة من فترات الإرهاب والضعف، ومع هذا تبقى طائفة قائمة بالحق.
ومن الأئمة الذين كان لهم تجديد ودور رائد وقوي شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن عبد الله بن تيمية رحمه الله تعالى، فهذا الإمام كان له دور تجديدي كبير في حياة الأمة، حيث انتشرت في زمانه البدع والضلالات، حتى أصبحت هي السائدة، وأصبح الذي يدعو إلى عقيدة السلف رضوان الله عليهم شاذاً وغريباً، فأحيا الله عز وجل به ما اندرس من العقيدة، وأظهر به السنة، وجاهد رحمه الله وصبر، وكان يقف مواقف لا تقفها أمة من البشر، وكان هذا الإمام له من العلم ما لا تستطيع أن تؤديه مراكز من مراكز الأبحاث العلمية، وكان له أيضاً من الجهد والصبر ما لا يستطيعه أحد ممن كان في زمانه، وهذه إرادة الله عز وجل، وهذا قدر الله عز وجل لهذه الأمة؛ لأنها أمة منصورة ولله الحمد، فيخرج الله عز وجل من أبنائها من يحمي لها عقيدتها ومن يحمي لها دينها، ومن يقول كلمة الحق في أحلك الأوقات ظلمة غير عابئ بما يحصل له ولا يخشى إلا الله سبحانه وتعالى، هذا الإمام ألف كتباً كثيرة في العقيدة، فكان من الكتب التي ألفها رحمه الله تعالى كتاب (العبودية)، وهذا الكتاب من أهم الكتب في الحقيقة من ناحية الموضوع، وهو موضوع العبودية والعبادة، فإنها هي الأصل في الدعوة إلى الله عز وجل، وهي الأساس في الحكمة من خلق الناس، وكذلك من ناحية طريقته رحمه الله في بحث هذه المسألة ودراستها ومحاولة الإلمام بجوانبها، ومناقشة المنحرفين فيها والرد عليهم، وإن كان ذلك بشكل إجمالي، لكن لا بأس بأن نبسطه بإذن الله تعالى.
كان الإمام ابن تيمية رحمه الله من أسرة علم، فأبوه عالم من العلماء، وكان العالم المقدم في حران، وكذلك جده عبد السلام ابن تيمية ، فإن له كتباً مشهورة في مذهب الإمام أحمد ، بل إن ابن مالك الجياني الطائي النهدي المشهور يقول: إن الله عز وجل ألان الفقه لـعبد السلام كما ألان الحديد لداود. وهو صاحب كتاب (منتقى الأخبار في أحاديث سيد الأخيار)، وهو كتاب في أحاديث الأحكام شرحه الإمام محمد بن علي الشوكاني المتوفى سنة 1250هـ في كتاب سماه (نيل الأوطار).
ومن شيوخه أيضاً محمد بن عبد القوي بن مهران الدمشقي ، ومن شيوخه أيضاً تقي الدين الواسطي ، ومنهم المنجا بن عثمان بن المنجا المقدسي .
وقد درس شيخ الإسلام رحمه الله العلوم المعروفة، فلما هضمها وعرفها اتجه إلى القراءة والاطلاع، فكان واسع الاطلاع، وكان أعرف بكتب المخالفين منهم بها، فقد قال عن نفسه: إنه ربما قرر عقائد الشيعة للشيعي، فيفرح الشيعي بهذا التقرير ويعجب به ويقول: هو كما قلت، ثم ينقض هذا التقرير لبنة لبنة.
أولاً: أنه قام بالرد على الفرق الضالة وجاهدها، فقد تحدى البطائحية الرفاعية، وهم طائفة من الصوفية يعتمدون على الشعوذة والسحر، وهذه الطائفة كانت تأتي أمام الناس وتظهر الخوارق الغريبة، مثل كون الإنسان منها يدخل السيف في جوفه ثم يخرجه، ومثل أن يأخذ الزجاج ويبتلعه، ومثل أن يدخل حديدة من جهة ويخرجها من جهة أخرى من بدنه، ومثل أن يُضرب بالخنجر في رأسه حتى لا يستطيع أن ينزعه الرجل القوي، ومثل أن يضع السيف في عينه حتى إذا تركه استطاع أن يحركه بدون أن يسقط، ونحو ذلك من الغرائب والعجائب، وربما جاءوا بالعقارب فأكلوها، وربما أكلوا المسامير، وربما أدخل أحدهم المثقب من النار في جلده، وهذا كله من السحر والشعوذة، ويعتقدون أن ذلك من الكرامات، وقد تحداهم شيخ الإسلام ابن تيمية أمام ناحية السلطنة في دمشق، وتحداهم أمام الناس، وقال: إن كنتم تظنون أن الدخول في النار لا يستطيعه أهل السنة فلنتباهل أنا وأنتم، لكن بشرط أن تغسلوا أبدانكم بالخل والماء الحار؛ لأنهم كانوا يطلون أجسادهم ببعض المواد التي تحميهم عندما يدخلون النار، فيضحكون على الناس، فلم يستطيعوا، وربما منعهم شيخ الإسلام رحمه الله، فاشتكوه في يوم من الأيام إلى نائب السلطنة في دمشق، وقالوا: إن هذا الشيخ آذانا، فنريد أن يفسح لنا المجال في إظهار بعض الكرامات! هكذا يزعمون، والحقيقة أنهم سحرة.
وكذلك رد على الشيعة، فإن له كتاباً اسمه (منهاج السنة النبوية في نقض كلام الشيعة القدرية)، وهو كتاب ضخم ألفه في الرد على صفي الدين بن المطهر الحلي ، وهو شيعي كانت له علاقة بالدولة المغولية في زمانه، وكان شيخ الإسلام ابن تيمية في تلك الفترة تحت حكم المماليك، وهذا الشيعي استطاع أن يوسوس للحاكم المغولي ابن غازان وأن يقنعه بالتشيع واعتنق التشيع، فرد عليهم شيخ الإسلام ابن تيمية بهذا الكتاب الضخم الذي ربما لا يستطيع كثير من الناس اليوم قراءته، وبين فيه ضلاله وانحرافه.
وكذلك رد شيخ الإسلام ابن تيمية على المتكلمين من الأشاعرة والمعتزلة وغيرهم، فألف كتاباً ضخماً في المعقولات سماه (درء تعارض العقل والنقل)، وله كتاب كبير في الرد على الإمام الثاني في المرحلة للأشاعرة، وهو الرازي ، فألف كتاباً سماه (بيان تلبيس الجهمية).
وله -كذلك- رسالة سماها الفتوى الحموية، وهي -أيضاً- سؤال جاءه من حماه عن آيات الصفات وأحاديثها.
وله أيضاً في تقرير العقيدة السلفية وتقعيدها كتاب (التدمرية)، وهو كتاب عظيم في بابه، وله كتب عظيمة رحمه الله، وهذا مجال دعوي خصب أثراه شيخ الإسلام إثراء كبيراً، وكان لكتبه تأثير كبير، وقد رد على الفلاسفة وأهل الاتحاد ووحدة الوجود في كتاب سماه (بغية المرتاد) وألفه عندما كان مسجوناً في الإسكندرية بسبب مشايخ الصوفية.
وله كتاب أيضاً في الرد على الصوفية اسمه (الاستقامة)، وهو رد على رسالة القشيري ، وهي من أهم كتب الصوفية.
وله كذلك من المصنفات كتاب عظيم جداً اسمه (الصارم المسلول على شاتم الرسول) تكلم فيه على الذي يشتم النبي صلى الله عليه وسلم، وكان سبب ذلك أن رجلاً شتم النبي صلى الله عليه وسلم، فرفع عليه شيخ الإسلام دعوى عند نائب السلطنة، وأوذي فيها وصمد، وفي آخر ذلك قتل هذا الرجل حداً، وقبل أن يقتل جاءه الشيخ ينصحه، وذكره بالله وأمره بالتوبة، ثم قتل؛ لأن القول الصحيح في الذي يسب الله ويسب الرسول صلى الله عليه وسلم هو أنه يقتل في الدنيا حتى ولو تاب، وتوبته -إذا كان فيها صادقاً- ربما تنفعه عند الله سبحانه وتعالى.
فمن نتائج شيخ الإسلام ابن تيمية ابن القيم صاحب التصانيف النافعة، يقول ابن حجر العسقلاني رحمه الله في كتاب (الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة)، في ترجمته لـتقي الدين : إن تقي الدين كان فرطاً بين الناس، يعني: أن شيخ الإسلام رحمه الله ليس عالماً عادياً يكتفي بتدريس المسائل والإفتاء المجرد فقط، لكنه كان يعيش في الحياة ويتفاعل معها، فهو يعايش الحياة ويتفاعل معها، وقد أسلم على يده يهودي وهو صغير لم يصل سن العشرين، وأسلم عليه يهودي آخر بعد سنة 750هـ تقريباً، وكان له من القدرة الفائقة في التأثير الشيء العجيب.
فانخدع المستعصم ، وزُيِّن له ذلك، فقام ومعه أربعون من العلماء ومن أولاده ومن نسائه ومن أعيان البلد، ومن الوزراء الذين كانوا معه، فلما وفدوا على هولاكو قتلهم عن بكرة أبيهم، وما ترك منهم نفساً، ولما أراد قتل المستعصم خاف؛ لأنه يعرف أن الخليفة عند المسلمين شيء كبير، وأنه لا يستطيع أن يقتل الخليفة مباشرة، فربما هاج عليه العامة فلا يستطيع أن يقاومهم، فزين له ابن العلقمي وسيلة لقتله، وهي أن يلفه في لحاف وأن يضربه حتى يموت بدون أن يهريق دمه، ثم يقال: إنه مات، ثم قتل بهذه الطريقة بين يدي هولاكو ، ثم دخل التتار بغداد، وعبثوا فيها أربعين يوماً يحرقون ويسرقون ويدمرون ويقتلون، حتى إن ابن كثير رحمه الله قال في البداية والنهاية: قتل فيها أكثر من ألف ألف إنسان يعني: قتل أكثر من مليون من المسلمين في تلك الفترة الحرجة، وابن الأثير صاحب (الكامل) عندما تكلم عن مجيء التتار ومحاصرتهم لبغداد قال: إنني ترددت كثيراً في كتابة ما فعله التتار بالمسلمين، فإنه لا يمكن للإنسان أن يرضى بأن يكتب نعي الإسلام، ولا أستطيع أن أكتب الدمار الذي حل بالمسلمين، فيا ليت أمي لم تلدني، ويقول: يا ليتني كنت نسياً منسياً ومت قبل هذه الحادثة، وذلك لما رأى.
وعلى كل حال فإن تلك الفترة -مع أنها فترة ضعف وفترة جمود في حياة المسلمين- هي أقل بكثير من حياة المسلمين في هذا العصر.
ثم إن هذه القبائل الوثنية -أعني التتار- لما اجتاحت بلاد المسلمين استطاع الملك المظفر قطز أن يردهم عن بلاد الشام، ثم جاء محمود غازان -وهو حاكم من حكامهم- فأسلم، ولو استطاع غازان أن يغير عقائد المسلمين وأن يغير أخلاقهم وآدابهم وأفكارهم وتوجهاتهم ويجعلهم على منهج التتار لما أسلم، ولا يمكن أن يسلم، لكن أهل الإسلام بقوا على عقائدهم مع وجود هذا الاستعمار العسكري المباشر من التتار، ومع هذا استطاعوا أن يبدلوا عقيدة أعظم حاكم من حكام البوذيين في ذلك الزمان، وهو غازان ، فأسلم، وهذا يقودنا إلى الكلام عن بعض المسائل الصعبة التي استطاع أن يفتي فيها شيخ الإسلام ابن تيمية ، وذلك أن غازان أسلم قبل رمضان، وصام رمضان، وبدأ يصلي، وأمر الناس بالإسلام، وبنى المساجد، وبدأ يدعو الوثنيين إلى الإسلام والتخلي عن عقائدهم، وأعلن أن دين الدولة هو الإسلام، لكنه مع هذا بقي يحكم بدستور وضعه جنكيز خان القائد الأول للمغول الوثنيين، وقد جمع هذا الدستور الذي يحكم به من عقائد الأمم الوثنية، ومن عقائد اليهود، ومن عقائد النصارى، وجعله في كتاب سمي (الياسق)، فلما أراد المسلمون أن يحاربوهم تردد كثير من العلماء في بلاد الشام وفي مصر في محاربتهم، وقالوا: كيف نحارب المسلمين؟! فهم يعلنون أنهم مسلمون، فكيف نحاربهم؟! فأفتى شيخ الإسلام ابن تيمية بأنهم ليسوا من المسلمين، وأن دولتهم دولة حرب، والسبب في هذا هو أنهم لم يتنازلوا عن عقائد الكفر، والواجب على الإنسان إذا أسلم أن يترك عقائد الكفر وأن يبدأ حياة جديدة، فيسلم ويكون خاضعاً لدين الله عز وجل في كل وجه من الوجوه، أما أن يكون هذا (الياسق) هو المسيطر عليهم، وهو الحاكم بينهم، وهو الفيصل، وإذا اختلفوا يرجعون إليه؛ فإن هذا هو الشرك بعينه؛ لأن الله عز وجل يقول: فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ [النساء:59]، ويقول: وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ [المائدة:44]، ويقول: فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [النساء:65].
ثم إن شيخ الإسلام رحمه الله دعا الناس إلى قتالهم، وأفتى الناس بأن يفطروا في ذلك اليوم، وهو يوم الخامس عشر من شهر رمضان، وكذلك أمرهم بمواجهة هؤلاء والصبر على الجهاد، وبشرهم بأن قتلاهم شهداء بإذن الله تعالى، وقال: إنكم ستنصرون في هذه الواقعة، فقالوا له: قل: إن شاء الله، فقال: أقول: إن شاء الله تحقيقاً لا تعليقاً، ستنصرون، ونصرهم الله عز وجل في هذه المعركة، بعد أن خاضها شيخ الإسلام بنفسه وتلطخ فرسه بالدم فيها، فهذا دور لعالم مشارك في الحياة، ومشارك في التصنيف، وله كتبه، ومشارك في الرد على المبتدعة، ومشارك في الرد على النصارى ودعوتهم إلى الله، ومشارك في توضيح الحق للناس بالنسبة للصوفية والأشعرية حتى لا يخفوا على الناس.
ومن رجع إلى ذكر محنة شيخ الإسلام رحمه الله في كتاب البداية والنهاية لـابن كثير يجد أنه يقول: وقام شيخ الإسلام ابن تيمية وجماعته فحلقوا رءوس بعض الذين يعملون القزع، وعملوا وعملوا وعملوا، وهذا يدل على أن هذا الإمام متميز بكل الاعتبارات في دعوته ومنهجه، ولا شك في أن حياة شيخ الإسلام ابن تيمية يطول الكلام فيها، ولكن يكفي ما أشرنا إليه، ويكفيه أن كتبه تعتبر من أهم المراجع الإسلامية.
ولهذا فإنه عندما يقرأ الإنسان أي كتاب من الكتب -سواء أكان لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أم لغيره- فإنه ينبغي عليه أن يستفيد من حججه، وألا يعتبر قوله في كل شيء، ومثال ذلك في أنه لا يقبل الله عز وجل ديناً غير دين الإسلام، فإن قيل: هل يقبل الله عز وجل يوم القيامة اليهودية؟ فإنك تقول: لا. فإن قال: ما هو الدليل؟ فلا تقل: قال شيخ الإسلام رحمه الله. بل تأتي بالآية فتستدل بها، وهذا منهج عظيم في قراءة الكتب، فإنه ليس كل الناس يقر بإمامة الأئمة، لكن كل الناس يعتبرون أن كتاب الله حجة وأن السنة حجة، ولهذا إذا قرأت كتاباً لعالم من العلماء فلا تعتبر كلامه، بل انظر إلى دليله، لتعرف كونه استدلالاً صحيحاً وسليماً، فإن كان كذلك فاحفظ الدليل واحفظ الاستدلال فهو الحجة، وليس قول فلان ولا قول فلان.
وستكون طريقتنا -إن شاء الله- في دراسة هذا الكتاب هي أننا قبل أن نبدأ في دراسة هذا الكتاب سنعرف بكتاب من كتب أهل السنة وبطريقته، ثم نبدأ بالكتاب بعد ذلك بإذن الله، وسنقسمه حسب الموضوعات، فالذي يقرأ كلام الشيخ يعرف أنه كثير الاستطراد، وأنه ربما تكلم كلاماً متسلسلاً، فلا يشعر الإنسان بوحدة موضوعية كما يقول الباحثون في هذا العصر، لكن عندما نأخذ الكلام ونقسمه على فقرات يكون ذلك أبين وأوضح، الفقرة الأولى تكون في تعريف العبادة، والفقرة الثانية في أمثلتها، والفقرة الثالثة في منزلتها، والفقرة الرابعة في العلاقة بين الدين والعبادة، والفقرة الخامسة في العبادة في الشرع، وهكذا نأخذها على شكل فقرات ونبحثها بحثاً نسأل الله عز وجل أن يكون موفقاً، إنه على كل شيء قدير.
الجواب: يستطيع الشاب المسلم أن يبتعد عن الشهوات والبدع إذا طلب العلم بمنهج مستقيم وصحيح، فإن طلب العلم يمنع من الشهوات ويمنع من الشبهات، لكن إذا كان جاهلاً ليس عنده علم، وإنما عنده عاطفة طيبة وحسن نية فذلك لا يكفي، فنحن في زمن امتلأت فيه الدنيا بالأفكار والآراء، وما يوجد من أفكار شاذة في غرب العالم أصبح يوجد عندنا اليوم عن طريق الإعلام المرئي والمسموع، وعن طريق الانفتاح الكبير على الغرب الذي يعيشه المسلمون اليوم، وهذا الانفتاح الكبير لا شك في أن له سلبياته الكبيرة، ومن أعظم هذه السلبيات أن الإنسان إذا كان غير محصن بالعلم الشرعي ربما تلقى فكرة من هذه الأفكار فأصبح داعية إليها، وهي على منهج بعيد عن المسلمين.
وعندما يظهر الإنسان اليوم على أية صحيفة -كصحيفة الحياة- يجد أنه في بلاد من بلاد المسلمين يقول الحزب الشيوعي كذا وكذا، ففي بلاد المسلمين شيوعيون، مع أن الشيوعيين أمة من أمم الكفر انقرضت وهلكت، فكيف يوجد في بلاد المسلمين شيوعيون؟! وكيف يوجد في حياة المسلمين علمانيون؟! مع أن العلمانية فكرة وجدت في أوروبا؛ لأنهم رأوا أن الدين الذي يحكم أوروبا لا يصلح أن يكون حاكماً لها، فألغوا الدين ووضعوه جانباً، وأصبحوا يبنون حياتهم بناء آخر.
فالانفتاح الكبير الذي يحصل في حياة المسلمين على العالم الغربي أو العالم الشرقي، في حين أنه لا يوجد عند كثير منهم حصانة عقدية وفكرية وأخلاقية تمنعهم من الانحراف والزلل والتأثر بالغرب، معناه أنهم سيتأثرون مباشرة بأولئك.
الجواب: هذه كلمة لا داعي لها أصلاً؛ لأن أبا بكر الصديق وعمر وعثمان وعلياً والصحابة جميعاً لا شك في أنهم أفضل من شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، مع أنه لا يقال فيهم هذه المقولة، فلا داعي للمبالغة، ولا يتعود الإنسان على المبالغة وتهويل الأمور وتعظيمها.
الجواب: ليس المقصود بالموت أنه مات كما مات موسى، ولكن هي الوفاة التي قالها الله سبحانه وتعالى، حيث قال تعالى: إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ [آل عمران:55]، ورفعه إليه يمكن أن يطلق عليه وفاة على أحد التفسيرين، وإن كان بعض العلماء يقول: إن الواو لا تقتضي الترتيب، وإن المعنى: إني رافعك إلي ومتوفيك. يعني: بعد الرفع. فالمقصود أن عيسى عليه السلام حي عند الله سبحانه وتعالى، ولم يمت في الدنيا كما يموت الناس.
الجواب: ليس هناك فرقة تستطيع أن تقول هي آخر فرقة ظهرت، فالآن يمكن أن يأتيك إنسان فيه خليط من الآراء، فرأي من فرقة، ورأي آخر من فرقة، ورأي ثالث من فرقة، خاصة بعض العصريين المشتغلين بالفقهيات وبعض المنشغلين بالعلم والدعوة الذين رأوا أنهم لا يستطيعون أن يواجهوا هؤلاء الملاحدة والمشركين، سواء أكانت المواجهة عملية أم علمية، فأراد بعضهم أن يقطع نصف المرحلة في حين يقطع الطرف الآخر نصف المرحلة، فيلتقون في الطريق، ومع الانهزام أمام الحضارة الغربية تولدت أفكار وآراء غريبة جداً، إلى درجة أن بعض من ينتسب إلى العلم يقول في الرجل الذي يضع ماله النقدي في بنك من البنوك ثم يعطى عليه فائدة، يقول: إن هذا ليس ربا، وأن هذا جائز، وقد أفتى بعض الناس بأن الفوائد البنكية ليست من الربا! وهذا من الضلال.
وآخر يفتي في ممثلة أو راقصة تعرض نفسها على ألوف من البشر في صورة مزرية وسيئة كاشفة لوجهها وشعرها وصدرها تبادل الرجال ألوان الحب والغرام، ومع هذا يقول إن هذه الراقصة على خير، وهذا لا شك في أنه خطأ، والسبب في هذا هو الأفكار العصرية المكونة من هذا الخليط، وأحسن المناهج -بغير شك- هو منهج السلف الصالح الذي هو طريقة الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام رضي الله تعالى عنهم.
الجواب: إذا كان يفهم فلا مانع، لكن إذا كان يشعر أنه لا يفهم المعاني التي تقرأ ولا يستوعبها فينبغي أن يبدأ بكتاب آخر.
أسأل الله عز وجل أن ينفعنا وإياكم بالعلم النافع والعمل الصالح، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر