أما بعد:
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في كتابه العبودية: [فالحرية حرية القلب، والعبودية عبودية القلب، كما أن الغنى غنى النفس، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ليس الغنى عن كثرة العرض، وإنما الغنى غنى النفس). وهذا -لعمر الله- إذا كان قد استعبد قلبه صورة مباحة، فأما من استعبد قلبه صورة محرمة -امرأة أو صبي- فهذا هو العذاب الذي لا يدانيه عذاب].
الحرية الحقيقية: هي حرية القلب من التعبد لغير الله سبحانه وتعالى، وإذا تصورنا حقيقة العبودية لله سبحانه وتعالى عرفنا أن الإنسان الذي يأتي بهذه العبودية لله سبحانه وتعالى يكون حراً مما سواه، فهو لا يذل إلا لله، ولا يخضع إلا لله، ولا يطيع إلا الله، ولا يلتزم إلا بما شرع الله سبحانه وتعالى، ولا يتوكل إلا على الله، ولا يحزن ولا يرضى ولا يفرح إلا بما أمر الله سبحانه وتعالى به.
وهذا الوضع الاجتماعي الفاسد استمر حقبة طويلة جداً في أوروبا، ثم حصلت تغيرات اجتماعية في أوروبا منها: الثورة الصناعية العصرية الموجودة الآن، وما تركب عليها من بروز طبقة في المجتمع الغربي تسمى: الطبقة الوسطى، وأحياناً يعبرون عنها بالبرجوازيين، وهم أشخاص من أصحاب الأملاك والتجارات ورءوس الأموال أرادوا أن يحركوا هذه الأموال، وأن ينشطوا رأس المال، وأن تكون لهم مكاسب كبيرة من الناحية المادية، فهذه الظروف والتغيرات الاجتماعية ولدت ثورات في أوروبا، نتج عنها مذاهب فكرية معاصرة، ونتج عنها تحطيم النظام الإقطاعي، واختراع ما يسمى بالديمقراطية: وهو نظام سياسي يقوم على الحرية والتعبدية والانتخاب.
وترتب عليه أيضاً وجود مذاهب في الاقتصاد ومنها: مذهب الرأسمالية الذي معناه: الحرية الاقتصادية المفتوحة التي لا يحدها أحد، وترتب عليه أيضاً وجود مذهب غربي آخر وهو: الحرية في مجال الأدب وفي مجال النفس، وهكذا نتجت مذاهب غربية كبيرة أساسها الحرية وإثبات وجود الذات في مذهب يسمى: الوجودية.
ومذهب الوجودية: يقوم على إثبات وجود الإنسان لنفسه بالفعل الذي يقوم به، فهو يقوم بكل فعل، سواء كان هذا الفعل فعلاً تقره الشرائع أو لا تقره الشرائع، وسواء كان هذا الفعل الذي يقوم به فعلاً أخلاقياً أو غير أخلاقي، وسواء كان هذا الفعل مناسباً أو غير مناسب، أهم شيء هو أن يثبت وجوده من خلال الفعل الذي يقوم به، ولهذا انتشرت عند الغربيين صيحات غريبة جداً، وانتشر شذوذ في مجال الأخلاق، وفي مجال الفكر، وفي مجال الأدب، وفي مجال الرسم، وفي مجال الشعر، وفي المجال الفكري، والشاهد من هذا كله: هو أن الصورة الغربية المعاصرة الآن هي: الحرية، ومعناها: الانفلات المطلق، وأن الشخص يثبت ذاته وشخصه بإعطائه لنفسه الحرية المطلقة في باب من الأبواب، ولا يوجد أصلاً في الكون انفلات مطلق مائة بالمائة، لكن قد يوجد شخص يترك لنفسه الانفلات، ولا بد أن يكون لهذا الانفلات حدود، فلو أردت أن تجعل من نفسك طائراً فإنك لن تقدر؛ لأن لك حدوداً بشرية أنت محدود من خلالها، ولو أردت أن تجعل من نفسك ملكاً وإمبراطوراً كبيراً فلن تستطيع؛ لأن هناك عقبات تقف في وجهك ولا تجعلك تصل إلى ما تريد.
فهل يمكن تطبيق الحرية بالمفهوم الغربي أو لا يمكن تطبيقها؟ ومعنى الفكرة الغربية الحرية، هي: الانفلات المطلق، ولهذا وجدت نظريات غريبة جداً منها: نظرية الجندر.
وقد يستغرب الإنسان ويقول: لماذا جاءوا بهذه النظرية؟
والجواب: أنهم جاءوا بهذه النظرية وهدفها الأساسي اقتصادي محض؛ فهم يريدون أن يوظفوا المرأة في أي مجال، حتى ولو في حفر الأنفاق، أو في أصعب الأعمال وأشقها، وحتى لا تلزمهم النقابات ومنظمات العمل في تلك البلدان بأن هناك فرقاً بين المرأة والرجل، وأن المرأة لها حق إذا حملت، ولها حق الأمومة وحق الرضاع وحق تربية ولدها فترة من الفترات، فمن أجل هذا الأمر أرادوا أن يغيروا الفرق النوعي بين الرجل والمرأة من أجل أن يسووا بين المرأة والرجل في سوق العمل، فعندهم إذا مرض الرجل فإنه يأخذ إجازة من العمل أنه مريض، كذلك المرأة إذا حملت وفي التصنيف الطبي أن الحمل والولادة ليسا مرضاً، ولهذا لا يعتبره الغربيون أنه حالة من حالات المرض عندما تلد المرأة وإنما هو أمر طبيعي، ولهذا إذا توقفت المرأة بسبب الحمل فإنها لا تتقاضى أي مقابل لهذا التوقف، وإنما ينقص راتبها أو لا يكون لها أي مبلغ مالي في مثل هذه الفترة؛ لأنها هي التي توقفت بمحض إرادتها، فتبقى المرأة بين نارين: إما ألا تكون أسرة بالمرة حتى لا تحمل ولا يكون لها أولاد، حتى لا يكون عندها عبء أسري، وتعيش حياتها كلها بدون ولادة وإنجاب، وبهذا يكون القضاء على الأسرة أمر محتم، وإما أن تشتغل وتحاول الجمع بين العمل وبين الوضع الاجتماعي السيئ في سوق العمل وهذا هو الموجود الآن -مع الأسف- في الواقع الغربي، ويريده الكثيرون ممن ينادون بالتوسع في مجال عمل المرأة أن يحصل في بلادنا.
والكلام كثير الآن في الصحافة وفي الإعلام حول مسألة توسيع عمل المرأة، بل إن بعض الصحفيين يضعون تحقيقات وسؤالات ويقولون: ما المانع أن تكون المرأة جزارة؟ أو أن تكون ميكانيكية، فتفتح لها بنشراً وتشتغل فيه وتغير الزيت والكفرات وغير ذلك؟ وما المانع أن تشتغل المرأة بأي عمل بدون حدود؟ وهم في الأخير يقولون: وفق الضوابط الشرعية حتى يقبل الناس مثل هذا الكلام، وهذا الكلام في غاية الخطورة.
والتوسع في مجال عمل المرأة هو البداية بل هو لب تحرير المرأة عند هؤلاء المستغربين الذين يريدون أن يحولوا مجتمعاتنا كالمجتمعات الغربية، وليس المجال هو مجال الحديث عن ما ترتب على هذه الأوضاع المأساوية في الغرب والإحصائيات الحائلة، والتي تبين فشل التوسع في عمل المرأة أو مجاله، لكن نحن نريد أن نربط هذا الموضوع بموضوع مفهوم الحرية عند الغربيين، والمشكلة أن العالم الغربي لم يكتف بمفهوم الحرية لشخصه، وإنما ألزم الأمم الأخرى بهذا المفهوم.
فهل يمكن تطبيقها بالأسلوب الذي يريده الغربيون مائة بالمائة؟ الجواب: يستحيل أن تطبق بالصورة التي يريدها الغربيون مائة بالمائة؛ لأن هناك عقبات اجتماعية، فإذا كان الغرب لا يعرفون العيب، فنحن نعرف العيب، وإذا تركوا دينهم وأعرضوا عنه وأصبح همهم الأساسي هو المال، فهناك بلدان كثيرة جداً عندها أديان ولو كان التزامها ضعيفاً، إلا أنه من المستحيل أن يرضوا بهذا، فمن يتصور أنه يمكن أن تفتح بارات للخمور ومحلات للدعارة في بلاد المسلمين؟ فلا يرضى بهذا أحد من أهل الإسلام، وإن كان أحياناً قد يوجد ضغوط على البلاد الإسلامية لرفع الحواجز عن مثل هذه القضايا، والشاهد -يا إخواني!- هو أن الغربيين تحرروا فعلاً من الأديان وتحرروا من الأوضاع الاجتماعية، وتحرروا من كل شيء، فهل حصلوا على الحرية الحقيقية؟
الجواب: لا، فقد استعبدهم الشيطان، واستعبدتهم الآراء الغريبة، وأصبحوا فريسة كبيرة للشيطان يتلاعب بهم، وليس هناك حد فاصل أو منطقة فارغة، فإما أن تكون عابداً لله عز وجل أو تكون عابداً للشيطان، ويجب على المسلمين أن يطالبوا بالحرية الصحيحة المنضبطة التي تكون بعيدة عن قيود البشر، فتعبدنا لله عز وجل يكون بقدر الانفكاك من التعبد للمخلوقين، وأن نكون أحراراً منهم، ولهذا تعلمون قصة ربعي بن عامر عندما جاء إلى كسرى أو أحد قوات كسرى في معركة القادسية فقال له: إن الله بعث إلينا رسولاً ليخرجنا من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد. فالصحابة صاروا أحراراً من عبادة العباد، وقد كان يستعبدهم هوى مطاع، أو حاكم ظالم، أو قبيلة تحكم أفرادها بأي أسلوب، كما قال الشاعر:
وما أنا إلا من غزية إن غوت غويت وإن ترشد غزية أرشد
يعني: أنا من جماعتي، فإذا أتوا برأي راشد فأنا معهم راشد، وإذا أتوا برأي ليس برشيد فأنا غاوٍ معهم، وكذلك الآصار والأسر الاجتماعي: كالأسر المذهبي.
ولهذا فإن أكثر الناس حرية هم الذين يتعبدون لله عز وجل، فكلما تعبد الإنسان لله سبحانه وتعالى كلما نال الراحة والسرور والطمأنينة والحرية من البشر، وكلما ترك التعبد لله عز وجل فهو بقدر هذا الترك للتعبد لله عز وجل يتعبد للشيطان وللهوى وللقبيلة، أو لأي وضع من الأوضاع التي يعيش فيها.
ولهذا نحن نطالب بالحرية التي هي بمعنى: التعلق المطلق بالله عز وجل وبشريعته، فكلما التزمنا بمحبة الله وبشريعته فنحن أحرار؛ لأننا لسنا عبيداً للبشر، والمطلوب في الحرية ألا تكون عبداً للمخلوق؛ لأنه إنسان مثلك، فليس له حق في أن يستعبدك، ولا يعني: أن الحرية ألا يطيع الإنسان غيره إذا كان في طاعته طاعة لله عز وجل؛ لأن الله عز وجل أمر بطاعة الوالدين، فلا تكون هذه الطاعة عبودية إلا إذا أمراك بالمعصية وأطعتهما، والحاكم المسلم طاعته واجبة بأمر الله عز وجل وأمر الرسول صلى الله عليه وسلم، وتكون عبودية للحاكم إذا تذلل الإنسان له وأطاعه في معصية الله عز وجل، وهكذا الحال مع القبيلة، أو مع النفس، أو مع بقية البشر، فإذا استقام الوالدان واستقامت القبيلة واستقام الحاكم واستقام الوضع الاجتماعي الذي أنت فيه على طاعة الله فلك حرية ليس لها حدود بعد ذلك.
والذي دعا إلى التعليق في هذا الموضوع المهم الذي هو موضوع الحرية هو قول شيخ الإسلام الذي يعتبر قاعدة في هذا الباب عندما قال: فالحرية حرية القلب، والعبودية عبودية القلب. ومتى كان الإنسان حراً في قلبه فإنه لا يمكن استعباده إذا كان حراً لله عز وجل، مهما حاول الآخرون والشيطان استعباده، ومهما حاولت أي أمة من الأمم استعباده فإنه لا يرضى بالعبودية؛ لأن الحرية الحقيقية حرية القلب، والقلب هو أساس عمل الإنسان، والجوارح ما هي إلا نتيجة لعمل القلب.
ولا يمكن أن يكون هناك عمل من أعمال الجوارح الاختيارية دون أن يكون له أساس في القلب، وهذه قاعدة أهل العلم المعروفة في علاقة الظاهر بالباطن، وفي علاقة القلب بالجوارح، وهي: أن العلاقة علاقة مطردة وتامة إلا في حالتين: في حالة النفاق، وفي حالة الإكراه، ففي حالة النفاق يظهر الإنسان شيئاً ويخفي شيئاً آخر، وفي حالة الإكراه يلزم في الظاهر بشيء وفي قلبه شيء آخر، لكن في الحالة الطبيعية فإن الالتزام بين الظاهر والباطن أمره مستمر.
العبودية لغير الله عز وجل أنواع من حيث ماهيتها ونوعها، وأنواع من حيث حكمها الشرعي، فهناك عبودية للمال، وهناك عبودية للصور والأشكال، وهناك عبودية للشرف، وهناك عبودية لأمر غيبي يتخيل الإنسان أنه صحيح، فإذا كان لغير الله فهو خرافة.
فمن العبودية: العبودية للمال والشرف، قال صلى الله عليه وسلم في الحديث المشهور: (ما ذئبان جائعان أرسلا في غنم أضر أو بأضر عليه من حرص الإنسان على المال والشرف لدينه)، وهذا الحديث صحيح، وقد شرحه الحافظ ابن رجب الحنبلي في رسالة كاملة، وهو حديث عظيم جداً يحمل مثالاً عظيماً: وهو أن حرص الإنسان على الشرف والمال يفسد الدين كما يفسده الذئبان الجائعان اللذان أرسلا في غنم ليس لها راعٍ.
ومن خصائص الذئب: أنه لا يكتفي بما يريد، فإذا دخل في مكان مليء بالأغنام فإنه لا يكتفي بأن يقتل واحدة بل يقتلها كلها ثم بعد ذلك يأكل واحدة فقط ويمشي، ولهذا فإن أهل البادية يعرفون عن الذئب أنه مفسد، فهو يأكل الشيء الذي عنده ويقتل الباقي.
فالمقصود: أن حرص الإنسان على الشرف والمال يفسد دينه بأكمله كما يفسد الذئب هذه الأغنام، وإذا كان الإنسان حريصاً على المال والشرف فإن الحرص عليهما قد يصد عن سبيل الله وقد يدعو إلى الكفر.
وأنتم تعلمون قصة هرقل عظيم الروم لما أرسل إليه النبي صلى الله عليه وسلم عمراً بن أمية الضمري ، وجيء له بالكتاب من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم بعد ذلك جمع أبا سفيان ومعه بعض العرب وسألهم عن النبي صلى الله عليه وسلم، والحديث طويل عن ابن عباس في صحيح البخاري ، فقد سألهم عن حاله، وعن نسبه، وعن المعارك التي بينه وبينهم، وعن حقيقة دعوته، وماذا يطالب به، وهل كان في آبائه من ملك، وبعدما انتهى من الأسئلة قال: والله إن صدقتم فيما قلتم إنه رسول الله، فإنه سيملك موضع قدمي هاتين، -وكان قصر هرقل في الأردن- ولو أنني خلصت إليه -يعني: وصلت إليه- لغسلت عن قدميه وشربت مرقتها، وهذا يدل على أنه عرف الدين، وقد كان عنده شيء من علم الكتاب، لكن منعه من الإسلام الشرف وحب الملك، فلو أن هرقل أسلم فإنه سيترك الدولة الرومانية التي يملكها بأكملها، وسيأتي إلى المدينة ويعيش صعلوكاً ليس معه درهم واحد، فهذه الموازنة التي حصلت في عقل هرقل ، فقد كان يملك أوروبا بأكملها، وبلاد الشام عبارة عن مستعمرات، وكما أن أمريكا استعمرت أفغانستان والعراق فإن هرقل استعمر بلاد الشام.
والاستعمار اسم جميل لكنه في الحقيقة تدمير، فالأعداء يسمونه أسماء جميلة حتى تروج عند الناس.
فالشاهد: أنه جمع بطارقة الروم في دسكرة واحدة وأطل عليهم من شرفة وأغلق الأبواب وأخبرهم بخبر النبي صلى الله عليه وسلم وقال: والله إنه رسول الله، ثم قال لهم: هل لكم في الفلاح والنجاح؟ فحاصوا كما تحوص الحمر، واتجهوا إلى الأبواب، فلما يئس عدو الله من الإسلام قال: ردوهم علي فلما اجتمعوا بين يديه قال: إنما كنت أختبر التزامكم بدينكم، فبقي على شركه. فالشرف أحياناً قد يدعو الإنسان إلى الشرك، ويمنعه من الإسلام، وهكذا الحال في المال، فقد يصد عن سبيل الله في كثير من الأحيان.
والمقصود بعشق الصور هو: عشق الأشكال الجميلة سواء النساء أو غيرها، فالإنسان ينظر إلى الصورة الجميلة فيتعلق قلبه بها فيحبها محبة روحية أكثر من كونها محبة جسدية، وقد يحب امرأة فيتعلق قلبه بها حتى لو لم يجامعها في يوم من الأيام، لكن قلبه يتعلق بها فتكون المحبة روحية، والروح تؤثر في الإنسان مثلما يؤثر الجسد، والروح تمرض مثلما يمرض الجسد، فقد يمرض جسده فلا يقوم من الفراش، وكذلك الروح قد تمرض فتؤثر على بدنه فيسقط طريحاً.
رفع لـابن عباس فتى أصبح عظماً على جلد فقال: ما هذا؟ قيل له: من العشق، فكان ابن عباس يستعيذ بالله من العشق طوال ذلك اليوم؛ لأن الجمال والروح بينهما علاقة، وإذا لم يستطع الإنسان ضبط عواطفه، وتوجيه هذه العواطف لمحبة الله عز وجل والتعلق بالله عز وجل فإن هذه العواطف قد تفتك به وتهلكه والعياذ بالله، ولهذا فإن أحمد شوقي يقول:
صوني جمالك عنا إننا بشر من التراب وهذا الحسن روحاني
أو فابتغي فلكاً تأوينه ملكاً لم يتخذ شركاً في عالم فاني
أي: يقصد الشاعر أن هذا الأشياء روحية تؤثر على الإنسان تأثيراً كبيراً، والإنسان مكون من روح وجسد.
والشاهد الذي يعنينا من هذا الكلام: هو أن العشق قد يصل إلى الشرك الأكبر، ولهذا فإن مجنون ليلى هام على وجهه فلم يستفق إلا وهو في صحراء قاحلة بدون أكل وشرب، فمات فيها.
ومعنى هام على وجهه أي: فقد إحساسه، كحاسة الرؤية، وحاسة السمع، وحواسه الجسدية كلها، وأصبح يمشي دون أن يشعر بأي شعور، وهذا معناه: أن إرادة القلب انصرفت لغير الله بأكملها والعياذ بالله.
ولسنا في صدد الحكم على مجنون ليلى ، لكن الشاهد: أن الإرادة إذا انصرفت كلها لغير الله عز وجل فإنه قد يقع في الشرك، قال الله عز وجل: مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا [هود:15]، ومن زينة الحياة الدنيا: النساء وغيرها مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [هود:15-16].
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فإن العاشق لصورة إذا بقي قلبه متعلقاً بها مستعبداً لها اجتمع له من أنواع الشر والفساد ما لا يحصيه إلا رب العباد، ولو سلم من فعل الفاحشة الكبرى، فدوام تعلق القلب بها بلا فعل الفاحشة أشد ضرراً عليه ممن فعل ذنباً ثم يتوب منه، ويزول أثره من قلبه].
بل إن الذين كتبوا في هذا المجال قالوا: إذا حصل الجماع فقد ما في القلب، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ليس للمتحابين إلا الزواج).
فإذا أحب رجل فتاة فالأولى والأوجب له أن يتزوجها؛ لأنه إذا لم يتزوج منها وبقيت العلاقة بينهما فإن هذا يؤثر تأثيراً سلبياً في حياتهما بشكل كبير، فالزواج في أغلب الأحيان يقطع مشكلة العشق.
قال: [وهؤلاء يشبهون بالسكارى والمجانين].
قال الله عز وجل: لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ [الحجر:72]، فشبه السكرة بشرب المسكر، ووجه الشبه بينهما في غياب العقل تماماً، ولهذا فإن كثيراً من الشباب والفتيان يتصلون بالأطباء النفسيين، وبالمشايخ الشرعيين، أنهم يجدون عناء كثيراً جداً وشقاء كبيراً في هذا الموضوع.
والتعبير السطحي لهذا الموضوع هو أنهم يرسمون قلباً، ويرسمون سهماً يخترق هذا القلب، ثم نقطاً من دم، ويكتبون: الحب عذاب، وهذا تعبير صحيح، وفعلاً الحب عذاب دنيوي، فإن صاحبه يشعر بالشقاء والهم والتعاسة والعناء بشكل كبير.
قال: [كما قيل:
سكران سكر هوى وسكر مدامة ومتى إفاقة من به سكران
وقيل:
قالوا جننت بمن تهوى فقلت لهم العشق أعظم مما بالمجانين
العشق لا يستفيق الدهر صاحبه وإنما يصرع المجنون في حين ].
والفرق بينهما: أن السكران يسكر ساعتين أو خمس ساعات أو عشر ساعات، لكن سكران الهوى يسكر طول عمره.
وكم فقد هؤلاء المساكين هذه المتعة وهذه اللذة بمحبة الله عز وجل، وكم عاشوا في شقاء وتعاسة بهذا التعلق بالمخلوق، سواء كان تعلق جمال، أو تعلق دنيا، أو أي نوع من أنواع التعلق.
فالحقيقة أن كثيراً من الناس لم يذق طعم محبة الله عز وجل، وكما قال العلماء: كل من أحب شيئاً من المخلوقين عذب به إلا إذا أحب الله سبحانه وتعالى، فإنه يجد المتعة والسعادة والسرور، والتجربة تدل على ذلك فضلاً عن الدلائل الشرعية الكثيرة، ولهذا جاء في الحديث: (ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان)، والحلاوة: هي الطعم، سواء كان في اللسان، أو في غيره، فحلاوة العين بالمنظر الحسن، وحلاوة الأذن بالصوت الحسن، وحلاوة القلب بالراحة والطمأنينة والسعادة، قال: (ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يعود إلى الكفر كما يكره أن يقذف في النار).
فالثلاثة العناصر كلها تدور حول الحب والبغض، وهذا يدل على أهمية مسألة الحب والبغض، وفي الحديث: (أوثق عرى الإيمان: الحب في الله، والبغض في الله)، والمحبة: هي الولاء وما يترتب عليها من عمل، وما يترتب على البغض من عمل هو البراء، ولهذا فالذين يحاولون تجهيل الناس بآيات الولاء والبراء ويحذفونها من المناهج يجب عليهم أن يخافوا الله سبحانه وتعالى، فإنها أساس في العقيدة، وتجهيل الناس في هذا الباب من أعظم الأمور الخطيرة على أديان الناس.
قال: [والإنسان لا يترك محبوباً إلا بمحبوب آخر يكون أحب إليه منه، أو خوفاً من مكروه، فالحب الفاسد إنما ينصرف القلب عنه بالحب الصالح، أو بالخوف من الضرر].
وقد شبه ابن القيم رحمه الله هذا الموضوع بالإناء، وقال: إن الإناء بحسب ما وضع فيه، إذا وضعت فيه مادة فاسدة فإنه يكون ممتلئاً بها، فإذا وضعت فيه مادة صالحة بقدر هذه المادة الداخلة فإنها تخرج المادة الفاسدة، حتى إذا استكمل القلب، وأصبح مليئاً بالمادة الصالحة، خرجت المادة الفاسدة.
ولهذا فالقلوب ثلاثة أنواع: قلب ميت: وهو الممتلئ بالفساد.
وقلب صحيح: وهو الممتلئ بالصلاح.
وقلب مريض: وهو المخلوط. فهناك مادتان: مادة فساد ومادة صلاح، والقلب المريض ليس ميتاً ولا صالحاً، وهذا هو قلب الفاسق.
يقصد ابن تيمية بكلامه: الفطرة، فإن الله عز وجل يقول: فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ [الروم:30].
ويقول عليه الصلاة والسلام: (ما من مولود إلا يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه، كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء، هل تحسون فيها من جدعاء، حتى تكونوا أنتم تجدعونها) ثم قرأ أبو هريرة الآية السابقة في سورة الروم.
قال: [والقلب خلق يحب الحق ويريده ويطلبه، فلما عرضت له إرادة الشر طلب دفع ذلك، فإنها تفسد القلب كما يفسد الزرع بما ينبت فيه من الدغل، ولهذا قال تعالى:قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا [الشمس:9-10]، وقال تعالى: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى * وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى [الأعلى:14-15]، وقال:قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ [النور:30]. وقال تعالى: وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا [النور:21]، فجعل سبحانه غض البصر وحفظ الفرج هو أقوى تزكية للنفس، وبين أن ترك الفواحش من زكاة النفوس، وزكاة النفوس تتضمن زوال جميع الشرور، من الفواحش والظلم والشرك والكذب وغير ذلك].
هذا يدل على أهمية تزكية النفس وتصفيتها وتهذيبها من كل الأدران السيئة وتغذيتها وتقويتها وتنميتها بالإيمان والعمل الصالح.
وأهل السنة والجماعة كما أن لهم منهجاً راشداً وصحيحاً ومبنياً على الكتاب والسنة في باب الأسماء والصفات فهم كذلك لديهم منهج راشد وصحيح ومبني على الكتاب والسنة في مجال السلوك والتعبد والأخلاق والآداب، وقد مرت فترة طويلة على كثير من المنتسبين إلى السنة بسبب المؤلفات التي ألفت في العقيدة، وأن اتجاهها كان إلى مناقشة قضايا الأسماء والصفات، فظن كثير من المنتسبين إلى السنة أن محور العقيدة فقط الأسماء والصفات، بينما عقيدة أهل السنة والجماعة شاملة لكل حياة الإنسان، لأنها هي حقيقة الإسلام الصحيح مطابقة، فيشمل سلوك الإنسان، ويشمل سياسة الدنيا بهذا المنهج، ويشمل المال وتدبيره، وهكذا جميع حياة الإنسان.
لأن قوام ملكه وسيطرته هي بما عنده من الرئاسات، ولهذا فهو يحتاجهم، فإذا لم يرعهم ويعتني بهم خانوه في أحوج ما يكون محتاجاً إليهم، ولعله من العبرة القريبة التي حصلت عندما جاء هؤلاء المجرمون الأمريكان وحاربوا العراق، وكان رئيسهم الظالم المتجبر الذي ينشر على الناس الضلالة قد خانه جنوده وأتباعه في أحوج ما يكون إليهم، وسقط مثل أي ورقة تسقط من شجرة، ليس له أي ملك ولا سلطان ولا أي أمر ولا نهي، وهذا يدل على أن الإنسان الذي يتعلق قلبه بالآخرين والذي يكون محتاجاً إليهم حتى لو كان في الظاهر قوياً أو مسئولاً، أو لديه سلطان فهو في الحقيقة محتاج إليهم.
قال: [والتحقيق: أن كلاهما فيه عبودية للآخر، وكلاهما تارك لحقيقة عبادة الله، وإذا كان تعاونهما على العلو في الأرض بغير الحق؛ كانا بمنزلة المتعاونين على الفاحشة أو قطع الطريق، فكل واحد من الشخصين -لهواه الذي استعبده واسترقه- مستعبد للآخر ].
أي: أن الفاحشة هي حالة استمتاع من الطرفين، وكل واحد منهما محتاج إلى الآخر، وهكذا الحال في مسألة الرئاسة والعلو في الأرض.
منها: ما يحتاج العبد إليه كما يحتاج إليه من طعامه وشرابه ومسكنه ومنكحه ونحو ذلك، فهذا يطلبه من الله ويرغب إليه فيه، فيكون المال عنده، يستعمله في حاجته، بمنزلة حماره الذي يركبه، وبساطه الذي يجلس عليه، بل بمنزلة الكنيف الذي يقضي فيه حاجته، من غير أن يستعبده فيكون هلوعاً، إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا [المعارج:20-21] ].
الكنيف هو: الحمام.
قال: [ومنها ما لا يحتاج العبد إليه، فهذا لا ينبغي له أن يعلق قلبه به، فإذا تعلق قلبه به صار مستعبداً له، وربما صار معتمداً على غير الله، فلا يبقى معه حقيقة العبادة لله، ولا حقيقة التوكل عليه، بل فيه شعبة من العبادة لغير الله، وشعبة من التوكل على غير الله، وهذا من أحق الناس بقوله صلى الله عليه وسلم: (تعس عبد الدرهم، تعس عبد الدينار، تعس عبد القطيفة، تعس عبد الخميصة)، وهذا هو عبد هذه الأمور، فلو طلبها من الله فإن الله إذا أعطاه إياها رضي، وإذا منعه إياها سخط.
وفي الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم: (ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان: من كان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، ومن كان يحب المرء لا يحبه إلا لله، ومن كان يكره أن يرجع في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يلقى في النار)، فهذا وافق ربه فيما يحبه وما يكرهه، فكان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأحب المخلوق لله لا لغرض آخر، فكان هذا من تمام حبه لله، فإن محبة محبوب المحبوب من تمام محبة المحبوب، فإذا أحب أنبياء الله وأولياء الله لأجل قيامهم بمحبوبات الحق لا لشيء آخر فقد أحبهم لله لا لغيره، وقد قال تعالى: فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ [المائدة:54].
ولهذا قال تعالى: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ [آل عمران:31]، فإن الرسول يأمر بما يحب الله، وينهى عما يبغضه الله، ويفعل ما يحبه الله، ويخبر بما يحب الله التصديق به، فمن كان محباً لله لزم أن يتبع الرسول فيصدقه فيما أخبر، ويطيعه فيما أمر، ويتأسى به فيما فعل، ومن فعل هذا فقد فعل ما يحبه الله، فيحبه الله].
هذا هو المفهوم الشامل للجهاد؛ لأن الجهاد يكون بالمال، ويكون بالنفس، ويكون بالقول، ولهذا جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (يا أيها الناس! جاهدوا في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم وألسنتكم).
فالجهاد بالمال يكون ببذله في الأعمال الصالحة، وبتجهيز الغزاة في سبيل الله، والجهاد بالنفس يكون بالقتال المباشر لأعداء الله، وأما الجهاد باللسان فيكون بتوضيح حقائق الشريعة والرد على الطاعنين فيها.
ولا يصح أبداً إطلاق اسم غزوة أو معركة أو سرية أو نحو ذلك من الأسماء الشريفة في السير النبوية والتاريخ الإسلامي على قتال بين المسلمين.
وقد أجمع العلماء: على أن القتال الذي حصل في زمن الصحابة -مع أن طائفة منه على الحق وأخرى مخطئة- أنه لا يسمى جهاداً، وإنما الجهاد يكون في قتال أعداء الله من الكافرين، فجهاد الكافر الصريح عندما يعتدي على المسلم هذا هو الجهاد الصحيح، أما إذا كان الكافر لم يعتد على المسلم فإن فريضته هي الدعوة إلى الله، فليس في قتل الكافر في حد ذاته منقبة، فقتل الكافر في ذاته ليس مقصوداً للمسلمين ولأحكام الإسلام، وإنما إسلام الكافر هو المقصود، فإذا لم يمت ولم يسلم وقاتل المسلمين فإنه يقاتل، هذا هو الواجب الشرعي في هذا الأمر.
والحقيقة: أن هذه القضية ينبغي أن تفقه من كلام أهل العلم، والرجوع إلى أهل العلم المعتبرين في هذا الأمر، والبعد عن تلقف آراء الغلاة الذين لديهم شيء من الغلو في هذه المسائل، وأنصح كثيراً من الشباب بعدم أخذ هذه الآراء من منتديات الإنترنت، فإن فيها الغثاء والتخليط الكثير، فينبغي للإنسان ألا يتخذها مصدراً من المصادر، فإن فيها أناساً كثيرين يكتبون، وأحياناً قد تكون وراءهم جهات منحرفة يتقمصون شخصيات إسلامية فيتكلمون بالأسماء الشريفة، ويتكلمون بطريقة غير صحيحة، فلا يصح أن تكون منتديات الإنترنت مصدراً لك، بل يكون مصدرك الصحيح هو الأدلة الشرعية من القرآن والسنة وكلام أهل العلم المعتبرين وكتبهم.
بل قد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم في الصحيح أنه قال: (والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين).
وفي الصحيح: (أن
فحقيقة المحبة لا تتم إلا بموالاة المحبوب، وهو موافقته في حب ما يحب وبغض ما يبغض، والله يحب الإيمان والتقوى، ويبغض الكفر والفسوق والعصيان.
ومعلوم أن الحب يحرك إرادة القلب، فكلما قويت المحبة في القلب طلب القلب فعل المحبوبات، فإذا كانت المحبة تامة استلزمت إرادة جازمة في حصول المحبوبات، فإذا كان العبد قادراً عليها حصلها، وإن كان عاجزاً عنها ففعل ما يقدر عليه من ذلك كان له كأجر الفاعل].
هذا تفسير وتحرير لإرادة الإنسان؛ لأن العمل الذي يكون في الظاهر يكون مبنياً على الإرادة القلبية والقدرة على العمل، فيقول ابن تيمية رحمه الله: إن المحبة هي المحرك الأساسي لإرادة القلب، فإذا تحرك القلب فإن إرادته تكون جازمة، وبناء على هذا يكون العمل الذي يريد فعله إن كان في مقدوره فعله، وإن لم يكن في مقدوره ولا يستطيع فعله، يكون له أجر كأجر فاعله.
قال: [كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من اتبعه من غير أن ينقص من أجورهم شيئاً؛ ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الوزر مثل أوزار من اتبعه من غير أن ينقص من أوزارهم شيئاً). وقال: (إن في المدينة لرجالاً ما سرتم مسيراً ولا قطعتم وادياً إلا كانوا معكم، قالوا: وهم بالمدينة؟ قال: وهم بالمدينة حبسهم العذر)].
أي: أن العذر العائق من العمل هو الذي حبسهم، وأما إرادة القلب فهي موجودة، ولهذا فقد حصلوا على الأجر.
ومعلوم أن المحبوبات لا تنال غالباً إلا باحتمال المكروهات، سواء كانت محبة صالحة أو فاسدة، فالمحبون للمال والرئاسة والصور لا ينالون مطالبهم إلا بضرر يلحقهم في الدنيا، مع ما يصيبهم من الضرر في الدنيا والآخرة، فالمحب لله ورسوله إذا لم يحتمل ما يرى ذو الرأي من المحبين لغير الله مما يحتملون في حصول محبوبهم، دل ذلك على ضعف محبتهم لله، إذ كان ما يسلكه أولئك هو الطريق الذي يشير به العقل].
هذا بيانٌ في أن الإنسان إذا أحب فإنه يضحي من أجل محبوبه، سواء كان المحبوب رئاسة أو صورة أو مالاً أو غير ذلك، وقد يتلف بسبب هذه التضحية، وهذا إذا كان المحبوب محبوباً غير شرعي.
فإذا كان المحبوب شرعياً فالتضحية من أجله لازمة، وهي علامة على صدق هذه المحبة وعلى وجودها وقوة الإرادة فيها، وقد يحتمل الإنسان المكاره والمشاق في سبيل الله عز وجل، ولهذا جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (سيد الشهداء:
وهذا يدل على علو محبة الله عز وجل في نفس المجاهد في سبيل الله، وفي نفس المحتسب والآمر بالمعروف والناهي عن المنكر، وهكذا الحال فيما يتعلق بالتعبد لله.
وعندما يكون الجو شديد البرودة، أو الماء بارداً وليس هناك سخانة تسخن بها الماء، وأراد الإنسان أن يتوضأ، فإذا لم يكن هناك محبة في قلبه لله عز وجل فإنه لا يستطيع أن يقوم من نومه ويضع الماء على جسده، لكن إذا قام من نومه وتوضأ بالماء البارد فإنه يدل على علو المحبة في قلبه لله سبحانه وتعالى.
قال: [ومن المعلوم أن المؤمن أشد حباً لله كما قال تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ [البقرة:165]. نعم، قد يسلك المحب لضعف عقله وفساد تصوره طريقاً لا يحصل بها المطلوب، فمثل هذه الطريق لا تحمد إذا كانت المحبة صالحة محمودة].
أي: لابد للمحبة من أمرين: الأمر الأول: صحة المحبة وقوتها، والأمر الثاني: صحة الطريق إلى المحبوب. وهذا أمر مهم؛ لأنه أحياناً قد تجد أشخاصاً يضحون تضحيات بالغة وقد تكون بأنفسهم، لكن الطريق الذي ظنوا أنه يوصل إلى محبوبهم عز وجل لم يوفقوا فيه إلى الصواب.
ولهذا ينبغي للإنسان أن يجمع بين أمرين: الأمر الأول: قوة المحبة لله، وهي تساوي الإخلاص في باب صحة العمل، والأمر الثاني: أن يكون الطريق الموصل إلى الله عز وجل طريقاً صحيحاً، وهو يساوي محبة الرسول صلى الله عليه وسلم ومتابعته.
وهذا يدلنا على أهمية العلم، فالحماس والمحبة والتضحية والإرادة القوية مطلوبة، لكنها وحدها ليست كافية ولا بد فيها من علم، وهو بمثابة العقل المدبر لهذه الأمور، فلابد فيها من علم يضبط الإنسان حتى يقع على الطريق المستقيم الموصل الصحيح الذي لا اعوجاج فيه، وينبغي إدراك هذه القضية، وهذا من تنبيهه رحمه الله، وهو ربط لهذا الموضوع باتباع السنة، فإن المحبة تورث الحماس في القلب والتعلق بالله، وتورث قوة الإيمان في القلب، والاندفاع نحو الطاعة، لكن إذا لم يكن هناك طريق صحيح يسلكه فإنه يتخبط، فإذا تخبط ظن أنه في تخبطه هذا موافق لشرع الله عز وجل.
والخوارج نموذج عجيب في أشخاص يملكون حماساً قوياً، ويملكون اندفاعاً ويملكون شجاعة وقوة كما جاء في وصفهم في الحديث في خبر ابن عباس : بين وجوههم مثل ركب المعزاء من السجود.
ومع هذا قال النبي صلى الله عليه وسلم فيهم: (تحقرون صلاتكم إلى صلاتهم، وقراءتكم إلى قراءتهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية)، وسماهم النبي صلى الله عليه وسلم: كلاب النار، وقال: (لئن لقيتهم لأقتلنهم قتل عاد)، وهذا يدل على خطورة الخوارج، وهي الفرقة الوحيدة التي جاءت فيها أحاديث صريحة وكثيرة من النبي صلى الله عليه وسلم، فإنها ثبتت عن عشرة من الصحابة، كما قال الإمام أحمد ، وهذا يدل على خطورة الغلو، وخطر الخوارج.
فالخوارج يكفرون أهل الإسلام، ويقاتلون المسلمين، ويدعون أهل الأوثان والكفار، ففي زمن علي بن أبي طالب جاءوا إلى عبد الله بن خباب بن الأرت ، وهو تابعي جليل، وابن صحابي جليل، فأمروه بالالتزام بعقيدته، وسألوه عن رأيه في عثمان وعلي فقال بالحق فقتلوه، وبقروا بطن جاريته التي كانت معه وألقوها في النار، فهذا يدل على العنف والشدة في التعامل، مع أن القضية التي سألوا عنها لا تستحق كل هذه العقوبة، ولما رأوا رجلاً ذمياً عظموه وأجلوه ووقروه، فهؤلاء لا يكرهون أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ويحبون الكفار، بل هؤلاء أشخاص يأخذون قضية من القضايا ويعظمونها، فلما رأوا الذمي تذكروا الأحاديث الواردة في أن يحفظ الإنسان لأهل العهود والمواثيق حقوقهم، فالتزموا بها وعظموها، ولهذا عظموا الذمي، ولم يعظموه لكفره؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم أمر بتعظيم الحقوق والالتزامات، فإن بين المسلمين والكفار عهد وميثاق وذمة، وفي الوقت الذي يكفرون فيه أفضل الناس في زمانه وهو علي بن أبي طالب بعد موت عثمان رضي الله عنه، ويكفرون أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، ويتركون الروم، ويقاتلون المسلمين في النهروان وفي غيرها من المعارك.
إذاً: الحماس والقوة البدنية وقوة القلب وإرادة القلب ومحبة الله عز وجل وحدها لا تكفي إذا لم يرافقها اتباع للسنة، فينبغي إدراك هذه القضية.
نسأل الله عز وجل أن يوفقنا وإياكم لكل خير.
الجواب: هذا غير صحيح أبداً، فالخوف من أعمال القلب، كما أن المحبة من أعمال القلب، ولهذا روى أبو نعيم في الحلية عن مكحول رحمه الله تعالى وهو من التابعين أنه قال: من عبد الله بالمحبة وحدها فهو زنديق، ومن عبد الله بالرجاء وحده فهو مرجئ، ومن عبد الله بالخوف وحده فهو حروري -أي: من الخوارج- ومن عبد الله بالخوف والرجاء والمحبة فهو السني.
فلا بد من عبادة الله عز وجل بهذه جميعاً، وكلها من أعمال القلب، فلا يصح أن يقول الإنسان: إنني أعبد الله بالحب فقط، فلابد من خوف الله عز وجل، ولهذا جاء في وصف الأنبياء قوله تعالى: وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ [الأنبياء:90]، أي: يدعونه رغباً لوجود المحبة، ويدعونه رهباً لوجود الخوف منه سبحانه وتعالى، وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ [الأنبياء:90].
الجواب: تعلق القلب بالمال تعلق طبيعي، فالنفس تحب وجود المال، لكن المهم ألا يكون الإنسان عبداً لهذا المال، وألا يكسبه بالطريق الحرام، وإنما يكسبه بالطريق المباح.
الجواب: أنا لا أعرف هذا النوع من الشاي الذي يتكلم عنه السائل، لكن أعرف حديث النبي صلى الله عليه وسلم عندما قال: (يا معشر الشباب! من استطاع منكم الباءة فليتزوج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء).
وأيضاً ينبغي على الشاب أن يبتعد عن المثيرات، والإنسان إذا اشتغل بشيء ينفعه في دينه ودنياه، وابتعد عن المثيرات مثل المجلات والأفلام والقنوات الفضائية فإن شهوته تضعف، أما إذا كان ينظر إلى هذه المثيرات بشكل مستمر فإن شهوته لن يضعفها الشاي ولا غير الشاي.
الجواب: الشهوة والمحبة لغير الله تزولان من القلب بمحبة الله والتعلق به سبحانه وتعالى، لكن الكلام في مسألة العشق، وأن الجماع يضعفه، هذا أمر طبيعي لا شرعي، والإنسان إذا كان قلبه معلقاً بغير الله -كفتاة مثلاً- ثم تزوجها زالت هذه المحبة في الغالب، ولا يعني هذا أنه يزني بها حتى يخف الذي في قلبه، فهذا ليس صحيحاً بل هو محرم، فالزنا جرمه عظيم، وفعل الفاحشة لن يعالج هذه المشكلة.
وهناك فرق بين من يزني بامرأة، ومن يتزوج بها، فالزنا يكون في فترة محدودة، لكن الزواج أمره مستمر، فإذا زنى بها مرة أخرى بعد شهر أو شهرين أو خمسة أشهر اشتاق إليها فرجع مرة أخرى، فيقع في كل مرة في الحرام بحجة أنه يريد أن يخفف ما في قلبه، فهذا أسلوب شيطاني، وهذا من تلاعب الشيطان بالإنسان.
والصحيح: أن يتعلق قلب الإنسان بالله، وأن يعتصم بالله، وأن يتوكل على الله، وأن يدعو الله عز وجل، وأن يقطع الطمع في التعلق بالمخلوقين، فعلاج العشق قطع الطمع، والعاشق متعلق بالمعشوق لأن عنده طمع في القرب منه والالتقاء به، لكن إذا قطع هذه العلاقة، وقطع هذا الطمع والرغبة، ووضع في باله استحالة الالتقاء بالمعشوق مائة بالمائة، فهذا سينقص مما في نفسه خمسين في المائة، والبقية يكمله الزمان إذا استمر بإذن الله تعالى.
نكتفي بهذا القدر، وصل اللهم وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر