أما بعد:
في الدروس الماضية تحدثنا عن تعريف العبودية، وأيضاً تحدثنا عن حقيقة العبودية الشرعية وعن أهميتها وأمثلة منها، وعن العلاقة بين العبودية والدين والعلاقة بين العبودية والإسلام، كما تحدثنا أيضاً عن تعريف العبودية شرعاً والضابط في هذا، وتحدثنا في الدرس الماضي عن أنواع العبودية، والعبودية الاضطرارية الموافقة لمعنى الربوبية، والعبودية الاختيارية الموافقة لمعنى الألوهية، وتحدثنا عن انحراف الصوفية في هذا الباب وأنهم اشتغلوا بتوحيد الربوبية وأهملوا توحيد الألوهية مع أن توحيد الألوهية هو المقصد الأعظم من إنزال الكتب وإرسال الرسل وخلق الجن والإنس، وهو الذي يترتب عليه الثواب والعقاب، وهو الذي يسأل عنه العباد يوم القيامة، وهو الغاية العظمى، وهو أول الأمر وآخره، ومن مات وهو يشهد أن لا إله إلا الله - وهذا هو توحيد الألوهية - دخل الجنة كما جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.
ومع أهمية توحيد الألوهية ووضوح أن توحيد الألوهية هو الغاية، وأن توحيد الألوهية هو الأساس في دعوة الرسل؛ إلا أن أهل الكلام والصوفية انحرفوا في هذا الباب واشتغلوا علماً وعملاً بتوحيد الربوبية الذي لا يكفي وحده للإيمان، فقد أخبر الله سبحانه وتعالى أن هناك من يؤمن، لكن هذا الإيمان لا يكفي إذا كان معه الشرك، كما قال الله عز وجل: وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ [يوسف:106].
فأثبت لهم جزءاً من الإيمان، إلا أنه ليس الإيمان المنجي عند الله عز وجل، وهذا هو توحيد الربوبية.
والإيمان المنجي عند الله عز وجل هو توحيد الألوهية، وتوحيد الربوبية وتوحيد الألوهية ليس بينهما تضاد، وإنما بينهما اتفاق.
فتوحيد الربوبية هو الأساس لتوحيد الألوهية، فمن آمن بالربوبية فإنه يلزمه الإيمان بالألوهية، وتوحيد الألوهية يتضمن توحيد الربوبية، وكل موحد توحيد الألوهية فهو موحد توحيد الربوبية، إذ لا يمكن للإنسان أن يعبد الله عز وجل مع اعتقاد أن الخالق غيره، أو الرزاق غيره، أو المحيي غيره، أو المدبر غيره، فهذا غير موجود وغير واقع.
وعبر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في هذه الرسالة في رسالة العبودية عن الصوفية بقوله: إن هؤلاء هم الذين يشهدون الحقيقة الكونية.
وقد سبق أن بينا معنى الشهود، وقلنا: إن الشهود معناها: استغراق العقل والنفس والعمل في أمر ما، كأن الاستغراق النفسي شبه برؤية العين وهي المشاهدة، فسمي شهوداً، يعني: من شدة تعلق ومن شدة استحضار المعنى سمي شهوداً والشهود في العادة إنما يكون بالعين.
وأما الحقيقة الكونية فهي مقتضيات توحيد الربوبية: من الخلق والرزق والإحياء والإماتة والتدبير.. ونحو ذلك، فمعنى شهود الحقيقة الكونية: الاستغراق والهم والاستحضار الدائم والتعمق في هذا الباب للحقيقة الكونية وهي لخلق الله وتدبيره ورزقه وتصريف الكائنات.
وهذا المعنى وإن كان جزءاً أساسياً في الإيمان، إلا أنه ليس هو الإيمان الكامل الذي جاءت به الرسل؛ لأن شهود الحقيقة الكونية واستحضار الحقيقة الكونية ليس أمراً مختلفاً فيه بين الأمم، فالكفار الذين بعث إليهم الأنبياء كانوا يعترفون بأن الله هو الخالق الرازق المحيي المميت المدبر ولم ينفعهم هذا الاعتراف، ولهذا يقول الله عز وجل: فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ [البقرة:22].
قال المفسرون: وأنتم تعلمون أنه الخالق الرازق المحيي المميت.
وجاءت دعوة الأنبياء جميعاً لتقرير: أن الله سبحانه وتعالى معبود وحده، وأنه لا بد للعبد أن يشتغل في علمه وفي عمله، في إرادته وفي عمله الظاهري وعمله الباطني بالتعبد لله عز وجل.
فالمحبة والخوف والرجاء والإنابة والتوكل والاعتماد لا يكون إلا على الله سبحانه وتعالى، والتصديق والتعظيم إنما يكون لله سبحانه وتعالى، هذا هو التوحيد وهذا هو معنى شهادة أن لا إله إلا الله.
والصوفية اشتغلوا بأمر لم يكن هو موضوع دعوة الرسل، وهو شهود الحقيقة الكونية، وهذا الشهود ليس شهوداً عادياً، يعني: ليس نظراً عادياً واستغراقاً عادياً في معاني الربوبية وفي الحقيقة الكونية، وإنما هو اشتغال بالربوبية بطريقة مخصوصة أودى بهم إلى أنواع من الضلالات، وأنواع من العقائد المنحرفة التي ستأتي معنا.
وقد أشار المؤلف إلى أن دعاة وحدة الوجود هم الذين يرون أن هذا الكون وحدة واحدة، خالق ومخلوق في وقت واحد، ولا يفرقون بين الله وبين خلقه، ولا يفرقون بين الخالق والمخلوق، ولا يفرقون بين الرازق والمرزوق، ولا بين الفاعل والمفعول، لا يفرقون بين هذا جميعاً، وإنما يجعلونها حقيقة واحدة، وأن الله عز وجل هو هذه الكائنات الموجودة التي نشاهدها ونراها ونحن جزء منها، ولهذا قال بعضهم: ما في الجبة إلا الله، يعني: هو الله، هذا هو مقتضى كلامه، وهذا هو المقصود.
ولهذا قال ابن عربي الطائي :
العبد رب والرب عبد يا ليت شعري من المكلف؟!
إن قلت عبد فذاك رب أو قلت: رب أنى يكلف؟
يعني: كيف يكلف؟ فهو يرى أن الخالق والمخلوق حقيقة واحدة وهي حقيقة الألوهية، وأنه ليس هناك عابد ومعبود، بل هو الله عز وجل وحده تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً.
والذي حرره شيخ الإسلام أن هذه الطائفة ليست من الطوائف التي حصل فيها الانحراف بسبب شهود الحقيقة الكونية، وإنما هؤلاء مجموعة من الزنادقة جاءوا بنظريات فلسفية كانت موجودة عند أمم وثنية سابقة، وأرادوا إدخالها على المسلمين بهدف إفساد عقائد المسلمين، وإلا فإن هذه العقيدة التي جاءوا بها هي أشر على المسلمين من عقيدة اليهود والنصارى، فاليهود يفرقون بين الخالق والمخلوق، ويعرفون أن الله عز وجل موجود، وأنه خالق ومدبر، إلا أنهم يشركون في عبادة الله عز وجل ويحرفون الكتب ويعصون الأنبياء ويكذبونهم.
أما هؤلاء فإنهم زادوا في الأمر، فانحرفوا في توحيد الربوبية الذي يقر به غالب الأمم وعامة الأمم.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وهؤلاء الذين يشهدون الحقيقة الكونية -وهي ربوبيته لكل شيء- ويجعلون ذلك مانعاً من اتباع أمره الديني الشرعي على مراتب في الضلال].
يعني: يجعلون شهود الحقيقة الكونية مبرراً للاحتجاج المطلق بالقدر، فيرون أن ضلال هؤلاء وانحراف العصاة وكفر الكفار هم معذورون فيه؛ لأن هذا هو مقتضى إرادة الله عز وجل، وأنه يجب عليهم أن يوافقوا مقتضى هذه الإرادة، وقد سبق أن بينا أن الله عز وجل خلق في هذا الكون أموراً خيرة يحبها، وأموراً شريرة يبغضها ويكرهها، وإنما خلق الله عز وجل هذه الأمور السيئة والشريرة امتحاناً للعباد واختباراً لهم، فنحن في دار ابتلاء ولسنا في دار جزاء.
فهؤلاء جعلوا هذه الأمور السيئة مثل الذنوب والمعاصي ونحو ذلك من جنس المصائب، وأنه يجب على الإنسان أن يستسلم لها، وأن الإنسان إذا استسلم لها فإنه يكون معذوراً فيها، ولا شك أن هذا ضلال مبين.
قال: [وقول هؤلاء شر من قول اليهود والنصارى، وهو من جنس قول المشركين الذين قالوا: لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ [الأنعام:148].
وقالوا: لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ [الزخرف:20] ].
إذاً: المشركون يحاولون الاحتجاج لعقيدتهم، ويعتذرون عن هذا الشرك، ويبررون هذا الشرك، وأن هذا الشرك الذي يقومون به هو عين الصواب؛ لأنه لو كان هذا الأمر يريده الله فكيف يكون موجوداً؟ وأنه ما دام أنه وجد فمعنى هذا أنه حق، وأن معيار الصواب والخطأ والحق والباطل وجود الشيء، وهذا لا شك أنه باطل، فليس معيار الشيء في وجوده، فقد يوجد في الكون أمورٌ فاسدة وأمور باطلة وانحرافات وضلالات وأمور خطيرة على حياة الإنسان، فليس كل موجود معناه: أنه حق وأنه طيب وأنه خير.
فالسم موجود، فهل يحتسيه الإنسان؟ وأنواع الحيوانات المفترسة موجودة، فهل يعرض الإنسان نفسه لها؟ هذه في الأمور الطبيعية.
وفي الأمور الشرعية الكفر موجود فهل هذا كله حق؟ وهذه الأمور المتناقضة: من يعبد الشيطان ومن يعبد الأصنام ومن يلحد وينكر وجود الله عز وجل، ومن يتدين بدين خرافي لا أصل له، هل كل هؤلاء على حق لأنها موجودة؟ إذاً: ليس معيار الصواب والخطأ: الوجود في حد ذاته، لكن هؤلاء جعلوا الوجود معيار الصواب والخطأ، فقالوا: لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ [الزخرف:20].
إذاً: معنى كلامهم أنه لما عبدناهم دَلَّ على أن الله يحب هذا، وهذا لا شك أنه باطل، فإن الله عز وجل خلق أموراً كثيرة، هي من الأمور السيئة، سواءً في الأمور الطبيعية مثل الأمور الضارة بالنسبة للإنسان، وأيضاً في الأمور الشرعية، مثل الكفر والذنوب والمعاصي، وإنما خلقها للابتلاء، ولهذا أنزل الكتب وأرسل الرسل.
ولو كان الوجود هو معيار الصواب والخطأ فما هي الحكمة إذاً من إرسال الرسل؟ يتدين الإنسان بأي دين ويعتنق أي مذهب، فإذا وجد فهذا يدل على أنه صواب، هذا مقتضى قوله.
ولا شك أن هؤلاء عند التحقيق لا يثبتون على هذا القول، يعني: عند التحقيق والتمحيص لا يثبتون عليه؛ لأنك تجد الطوائف مختلفة، فكل طائفة تتهم الطائفة الأخرى بأن عقيدتها باطلة، وأن مذهبها باطل.
لماذا أنتم تعتقدون أن عقيدة هؤلاء باطلة مع أنها موجودة؟ لو شاء الله ما فعلوها. إذاً: الفكرة نفسها هي عبارة عن هروب في المناظرة، عندما يكون الحق قد حصر الباطل، ولم يستطع الباطل الفرار، وكان الواجب أن يعرف أنه باطل، فيخرج من مثل هذه المخارج الضيقة الباطلة التي يعرف الإنسان بمجرد التفكير فيها أنها باطلة.
و ابن تيمية رحمه الله في الرسالة التدمرية قسمها على قسمين:
قسم تحدث فيه عن الصفات.
وقسم تحدث فيه عن القدر.
فعندما تحدث عن القدر قسم أهل الانحراف في القدر إلى ثلاثة أقسام:
المجوسية، والإبليسية، والمشركية.
فهؤلاء الذين يحتجون بالقدر على أفعالهم وتصويب أعمالهم بأنها موجودة، هؤلاء هم الذين شابهوا المشركين في قولهم.
ويقال له: إن كان القدر حجة فدع كل أحد يفعل ما يشاء بك وبغيرك، وإن لم يكن حجة بطل أصل قولك: إن القدر حجة].
وهذا واضح في غاية الوضوح، ولهذا فإن الحقيقة أن مسألة الاحتجاج المطلق بالقدر لا يقف على قاعدة علمية دقيقة يمكن أن يناظر ويناقش فيها، وإنما هي عبارة عن مخارج يهرب منها بعض الناس إذا ضُيِّقَ عليه وبُيِّنَ له الحق.
قال: [وأصحاب هذا القول -الذين يحتجون بالحقيقة الكونية- لا يُطَرِّدون هذا القول ولا يلتزمونه].
يعني: لا يلتزمون به بشكل دائم، وإنما يحتجون فقط، فإذا ذكرت لهم نماذج أخرى أو أموراً أخرى تورطوا، ولهذا يقولون بقول يخالف الأصل الذي بنوا عليه مذهبهم.
قال: [وإنما هم يتبعون آراءهم وأهواءهم، كما قال فيهم بعض العلماء: أنت عند الطاعة قدري، وعند المعصية جبري، أي مذهب وافق هواك تمذهبت به].
يعني: إذا قلنا له: يجب عليك أن تطيع الله سبحانه وتعالى، قال: أنا حر، وإرادتي حرة أفعل ما أشاء وأترك ما أشاء، فلا يفعل الطاعة.
وإذا فعل المعصية قلنا: لماذا تفعل المعصية؟ قال: لو شاء الله عز وجل ما فعلتها، يعني: عند فعل الطاعة تصير قدرياً وحراً، وعند المعصية تصبح جبرياً وتؤمن بإرادة الله المطلقة؟ لا شك أن هذا تناقض.
وقد يقولون: من شهد الإرادة سقط عنه التكليف، ويزعمُ أحدهم أن الخضر سقط عنه التكليف لشهوده الإرادة، فهؤلاء يفرقون بين العامة والخاصة الذين شهدوا الحقيقة الكونية، فشهدوا أن الله خالق أفعال العباد، وأنه مريد ومدبر لجميع الكائنات].
خلاصة قول هؤلاء أنهم يفرقون بين الناس، ويرون أن الناس على قسمين:
قسم يسمونهم العامة، وقسم يسمونهم الخاصة.
ويرون أن العامة هم الذين لم يشهدوا الحقيقة الكونية شهوداً كافياً، وأن الخاصة هم الذين شهدوا الحقيقة الكونية شهوداً كافياً.
ويزعمون أن العامة هم الذين لاحظوا أن الأمر والنهي لازم لأفعالهم، يعني: لم تتمكن منهم شهود الحقيقة الكونية إلى درجة أنهم تسقط عنهم التكاليف الشرعية، وإنما العامة قوم يعرفون الحقيقة الكونية، لم يشهدوها إلى درجة اليقين، فيعرفون الحقيقة الكونية معرفة عامة، ويلاحظون أن الأمر والنهي متعلق بأفعالهم، وأنهم ملزمون بالأمر والنهي، وأن لهم صفات، وأن لهم أفعال يفعلونها بإرادتهم وقدرتهم واختيارهم قالوا: هؤلاء العامة.
وهذا الوصف الذي يصفون به هؤلاء الناس -يعني: العامة- وصف انتقاص؛ فإن هؤلاء لم يصلوا إلى مرحلة من التعبد والشهود لهذه الحقيقة الكونية إلى درجة أنه يشعر بأنه لا صفات له ولا أفعال له، وإنما الفاعل هو الله، وأنه عبارة عن محل لفعل الله، وليس هو فاعلاً في الحقيقة، وإنما هو محل لفعل الله، مثل الإناء عندما يكون محل للماء.
ومثل أي شيء يحرك كما يقولون في العصر الحاضر بالريمونت، يعني: ليس فاعلاً فعلاً اختيارياً، وإنما الله عز وجل هو الذي يحركه، وأن الإنسان لا إرادة له، وهو مسلوب الإرادة، يقولون: نحن توصلنا إلى هذه النتيجة من خلال شهود الحقيقة الكونية.
ويترتب على هذا القول أن الفعل الذي يقوم به الإنسان ليس فعله، هو فعل الله، وأن العمل الذي يقوم به ليس عمله، هو عمل الله.
ويترتب على هذا أيضاً: أنه بسبب شهوده لهذه الحقيقة تسقط عنه التكاليف لأنه لا فعل له، فالتكليف يكون عندما يكون للإنسان فعل، ويحاسب على هذا الفعل، لكن إذا كان ليس له فعل فكيف يحاسب؟ وكيف يكون الإنسان يجازى على عمله؟ هذا لا فعل له، وإنما الفعل الذي فيه هو فعل الله، وحينئذٍ تسقط عنه التكاليف، فلا يكون مطالباً بالأوامر والنواهي، ولا يطالب بالصلاة ولا بالصيام ولا بالحج ولا بالزكاة، ولا يطالب بترك الزنا، ولا يطالب بترك الشرك، ولا يطالب بترك الخمر، ولا يطالب بترك أي عمل من هذه الأعمال، فهو يعمل ما يشاء، لكن هذه ليست إرادته هي إرادة الله، وليس فعله هو فعل الله، فهو محل لإرادة الله ولفعله كما زعموا.
وهذا لا شك أنه قول في غاية الكفر، والسبب هو: أنهم جعلوا هذه الأفعال القبيحة التي يفعلونها، هي فعل الله، فإذا كفر نسبوه إلى الله، وإذا زنى نسبوه إلى الله، وإذا شرب الخمر نسبوه إلى الله، وجردوا الإنسان من إرادته، مع أن هذا مخالف لحقيقة الإنسان في الدنيا الآن، ومخالف لشعوره، ومخالف للواقع الذي يعايشه، وهو أن له إرادة وله عمل وهو محاسب على إرادته وعمله.
ولهذا تلاحظون أن الصوفية من الجبرية، إذا سئلت: من الجبرية؟ يعني: الذين يرون أن العباد والناس مجبورون على أفعالهم؟ فالصوفية تعتبر من أكبر طوائف الجبرية، فالجبرية طوائف منهم الصوفية ومنهم الأشعرية، ولهذا عامة صوفية الأشعرية يتفقون علماً وعملاً، فالجانب العلمي يغطيه المذهب الكلامي الذي يتبناه الأشاعرة.
والمذهب العملي يغطيه الجانب الصوفي الذي يركز على الجانب العملي، مع أنه في الحقيقة قد جرد الإنسان عن العمل.
إذاً: الخاصة هؤلاء لا يرون أن الناس كلهم يسقط عنهم التكليف، وإنما يرون الخاصة هم الذين يسقط عنهم التكليف.
وأما العامة يلزمون بالأمر والنهي حتى يشاهدوا الحقيقة الكونية.
والفرق بين الطائفة الأولى والثانية: أن الطائفة الأولى ترى أن الكل يسقط عنهم التكليف؛ لأنهم مجبورون على أفعالهم، وأنه لا أفعال حقيقة لهم.
والطائفة الثانية يجعلون الناس قسمين: قسم عامة وهم الغالب، هؤلاء لم يشهدوا الحقيقة الكونية، ويرون أنهم ملزمون بالأمر والنهي ويرون أن لهم صفات وأن لهم أفعالاً، والسبب الذي أوصلهم إلى هذه النتائج الباطلة حسب زعمهم هي أنهم لم يشهدوا الحقيقة الكونية شهوداً تاماً.
والقسم الثاني: الخاصة، وهم الذين شهدوا الحقيقة الكونية شهوداً تاماً، وهؤلاء لا صفات لهم ولا أفعال لهم ولا إرادة لهم، وإنما هي أفعال الله وصفات الله وإرادة الله، وأن هذه الأعمال التي يقومون بها ليس لهم أي شيء، فيها سواءً الخير أو الشر، وأنه يسقط عنهم التكاليف؛ لأن التكليف يكون لمن له إرادة، ولهذا شبَّة هؤلاء الإنسان الذي شهد الحقيقة الكونية حسب زعمهم بأنه خالٍ من الإرادة خلواً تاماً، وأنه لا مكان للإرادة والقدرة فيه.
قال: [وقد يفرقون بين من يعلم ذلك علماً وبين من يراه شهوداً، فلا يسقطون التكليف عمن يؤمن بذلك ويعلمه فقط، ولكن يسقطونه عن من يشهده، فلا يرى لنفسه فعلاً أصلاً].
يعني: يفرقون بين العلم -يعني: الفهم- وبين العمل الذي هو الشهود الحقيقي، ويرون أن السقوط إنما يكون للشهود الحقيقي.
فهؤلاء توصلوا لهذه النتائج بسبب الانحراف عن منهج الله عز وجل، وترك الاعتصام بالكتاب والسنة، فإن الإنسان لا يمكن أن يسقط عنه التكليف حتى الموت، فالأنبياء وهم أفضل البشر وهم أفضل بني آدم لا يسقط عنهم التكليف، والله عز وجل يقول لنبيه: وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ [الحجر:99] يعني: حتى الموت.
وقد عبد الله عز وجل حتى الموت، فإذا كان خيرة الناس وفضلاء الناس لم يسقط عنهم التكليف فكيف يسقط عن هؤلاء؟
ثم أنتم تعلمون أن من نواقض الإيمان العشرة التي عدها الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله: اعتقاد أنه يسوغ لأحد أن يخرج عن شريعة الإسلام ولا يكون مطالباً بها، حتى ضرب مثالاً بسقوط التكاليف، وقد ضرب هذا المثال لأن هذا المثال عملي في مثل هؤلاء.
قال: [وهؤلاء لا يجعلون الجبر وإثبات القدر مانعاً من التكليف على هذا الوجه، وقد وقع في هذا طوائف من المنتسبين إلى التحقيق والمعرفة والتوحيد].
المقصود بهؤلاء: الصوفية.
طبعاً الصوفية: اتجاه فكري كبير، فليس كل الصوفية يقولون بهذا، فإذا كانت مسألة شهود الإرادة الكونية في مجموع الطوائف فكيف بغيرها من المسائل؟ ولهذا دائماً من الأخطاء التي تكون عند بعض طلاب العلم التعميم، ففي شهود الحقيقة الكونية لاحظنا طوائف فكيف بغيرهم؟ ولهذا فإن هذا اعتقاد عدد كبير منهم من أئمتهم وكبارهم، لكن قد يوجد إنسان ينتسب إلى التصوف، وليس عنده مثل هذه العقائد، وقد لا يعرف التصوف معرفة تامة وكاملة.
يقول: كيف العبد يؤمر بشيء يقدر عليه خلافه؟
يعني: الأوامر الشرعية عامة لكل البشر، والنواهي عامة أيضاً لكل البشر، وكل البشر مطالبون بالأوامر الشرعية ومطالبون بترك النواهي التي نهى عنها الله عز وجل.
وأيضاً: الله عز وجل قدر لكل إنسان أجله ورزقه وشقي أو سعيد، وهذا من الغيب الذي لا يعلمه الإنسان، فالإنسان ليس مطالباً بكشف قدره، فهذا غيب لا يعرفه.
فالشيء المطالب به الإنسان هو العمل، ولهذا جاء الأمر والنهي عاماً لكل البشر.
والمشكلة التي وقع فيها هؤلاء هي أنهم لم يستطيعوا فهم كيف أن الله يأمر البشر جميعاً بأوامر، مع أنَّ كثيراً منهم قد كتب عليهم الشقاء، فيقولون: كيف يأمر هؤلاء بأوامر، مع أنه كتب عليهم الشقاء؟
نقول: بالنسبة للعبد ليس مطالباً أن يكشف القدر؛ لأنه غيب، ولو أراد أن يكشف القدر فلن يستطيع.
وكونه يعمل المعاصي ويحتج لهذه المعاصي على أن قدره أنه شقي هذا احتجاج فاسد؛ لأنه ادعاء ومحاولة لكشف علم الغيب بطريقة غير صحيحة؛ ولأنه بإمكانه أن يترك هذه الذنوب وأن ينقلب ويصبح من الصالحين.
ونحن نعرف أعداداً كبيرة جداً من الناس كانوا كفاراً فأسلموا، أو كانوا عصاةً فتابوا، فهؤلاء لو احتجوا وبقوا على كفرهم وقالوا: نحن كفار هل يمكن أن يتحولوا؟ لا يمكن أن يتحولوا، سيبقى على كفره ويحتج بكفره، لكن تحوله هذا يدل على أن هناك إرادة حقيقية عند الإنسان في التحول.
فأنت بإمكانك أن تقوم وتصلي لله عز وجل، وتبكي من خشية الله وتقرأ القرآن وتكثر وتصوم، وبإمكانك أن تذهب وتزني وتفعل الفواحش وتشرب الخمر، وكل هذا متعلق بإرادتك.
وعملك في حد ذاته ليس كشفاً للقدر، فالقدر غيب، فبالنسبة للعبد هو مطالب بالعمل؛ لأن القدر بالنسبة له غيب لا يمكن اكتشافه، فلهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم عندما ذكر القدر للصحابة رضوان الله عليهم: (إن الله كتب مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، قالوا: يا رسول الله! ففيم العمل؟) يعني: إذا كانت أقدارنا مكتوبة سابقاً فلماذا نعمل؟ (قالوا: ففيم العمل؟ قال: اعملوا فكل ميسر لما خلق له) لأنك لا تدري ما هو المكتوب لك، فيجب عليك أن تحسن الظن، وأن تشعر أن بإرادتك فعل الطاعة وحينئذٍ ستفعلها، فالمكتوب عليك سابقاً لا ينبغي أن تحدده بأنه مثلاً الشقاء وتعمل له، هذا خطأٌ كبير.
فأنت يجب عليك أن تعتقد أن هذا سر الله عز وجل لا يعلمه إلا هو، وبالنسبة لك أنت ملزم بالعمل.
وعندما خلق الخلق لم يظلم أحداً، فالله عز وجل غير ظلام للعبيد، خلق فيهم إرادات وخلق عندهم قدرات، وخلقهم في وضع وفي حال يمكن له أن يطيع، ويمكن له أن يعصي، كما قال الله عز وجل: وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ [البلد:10] قال المفسرون: طريق الخير وطريق الشر.
وجعل هناك أموراً تهديه للخير، وجعل هناك أموراً يمكن أن تدله على الباطل، لكن الأمور التي تهديه للخير أكثر، فجعل عنده الفطرة التي تجعله يشتاق إلى الخير ويحبه ويطمئن له، وجعل هناك ملكاً من الملائكة يدعوه إلى الخير، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث: (إن للشيطان لمة وللملك لمة، فلمة الشيطان إيعاد بالشر وتكذيب بالحق، ولمة الملك إيعاد بالخير وتصديق بالحق).
وأنزل كتباً تشرح للناس الحقيقة الشرعية التي يجب عليهم أن يستمروا عليها، وجعل لهم عقولاً يستطيعون أن يميزوا بها بين الصواب والخطأ والحق والباطل.
وأرسل إليهم رسلاً يهدونهم ويعلمونهم ويشرحون لهم هذه الحقائق الشرعية، وجعل لهؤلاء الرسل علامات تدل على نبوتهم، ففرق بينهم وبين الداعية الكاذب، وجعل لهم المعجزات، هذه عصا موسى تنقلب إلى حية، وهناك فرق كبير بين عصا موسى التي انقلبت إلى الحية وبين عصي السحرة، ولهذا عرف السحرة أن عمله ليس كعملهم، لا لأن العصيَّ مثل الحية التي انقلبت بالنسبة لعصا موسى، يعني: حية كبيرة جداً، لكنها حية حقيقية تغيرت العصا من عصا طبيعية إلى حية حقيقية، بينما عصيهم هم إنما خدعوا أعين الناس واسترهبوهم وجاءوا بسحر عظيم، وهم يرونها عصاً والناس يرونها حيات، وهذا هو الخداع الذي يقوم به السحرة.
فالسحر لا يغير حقائق الأشياء، يعني: عندما يأتي إنسان ويضع شيئاً ويرفع المنديل عنه وتكون حمامة لا يعني: أن هذا الشيء حقيقة، مثلاً إبريق، هذا الإبريق تغير تماماً، فتغيرت مكونات الإبريق وصارت مكونات حمامة وطار لا، وإنما هو خداع لأعين الناس، وهذا هو فن السحر.
لكن الشاهد هو أن هذا -يعني: السحر- لا يغير حقائق الأشياء، وهذا هو الذي دفع السحرة أن يؤمنوا مباشرة، فقد كانت مملكة فرعون من أعظم الممالك المتخصصة في السحر، وقد انتقى أجود السحرة وأحسنهم، وعندما رأوا المعجزة التي جاء بها موسى مباشرة: قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ * رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ [الأعراف:121-122] بل إنه هددهم بالقتل فأصروا على العمل الذي آمنوا به.
وهكذا في محمد صلى الله عليه وسلم عندما انشق القمر نصفين، وعندما خرج الماء من بين أصابعه عليه الصلاة والسلام.
وهكذا عندما يكلمه الشجر والحجر، وأنواع متعددة في معجزات النبي صلى الله عليه وسلم، منها: معجزات تتعلق بالأمور الحسية. ومنها: معجزات تتعلق بالأمور العلمية. ومنها: دلائل للنبوة على صدقه، وأنه لا يمكن أن يكذب.
الشاهد: أن هذه الأمور كلها أسباب تدعوه إلى الخير، كما أن هناك أسباب تدعوه إلى الشر مثل: وجود الشيطان، والنفس الأمارة بالسوء، والشهوات المرغبة في الحرام والتي تزين الحرام، قال تعالى: زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ [آل عمران:14] إلى آخر الآية.
ولهذا جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أن الله عز وجل خلق النار فأمر جبريل أن ينظر إليها، فقال: إنه لا يراها أحد من عبادك ويدخلها) فحفها بالشهوات، وحف الجنة بالمكاره.
والشاهد من هذا الكلام كله هو: أن العبد مطالب بالعمل، وهناك إرادة حقيقية عند العبد يشعر بها، ولهذا لا يمكن للإنسان أن يكتشف القدر إلا بعد حصول العمل، يعني: الآن هذا كتاب بين أيديكم، أنا بإمكاني أن أقوم وأمزق الكتاب كله وأرميه، هل هذا صعب من ناحية إرادية أو من ناحية عملية؟ فأخذ الكتاب باليد وتمزيق الكتاب ورميه هنا والتحرك بالرجلين ليس أمراً صعباً من الناحية العملية.
وممكن أن آخذ هذا الكتاب وأن أكمل هذا الدرس وأن أخرج والكتاب معي، كلها ممكنة وقبل أن أعمل أنا مختار اختياراً تاماً، ولو انتهيت من العمل سواءً أنهيت الدرس أو مزقت الكتاب وخرجت، بعدما أنتهي من العمل أعلم أن الله عز وجل كتب هذا أو هذا، لكن قبل العمل لا يمكن أن تقول: إن الله عز وجل كتب عليك أن تمزق الكتاب وتخرج، يعني: كأنه جبرك، يعني: كأن هناك أحد يرفع يدك بدون إرادة منك أنت، ويأخذ الكتاب وأنت غير راغب، وهذه يدك تتحرك بدون إرادة منك وترمي الكتاب وتخرج، بل هذا أمر يشعر به الإنسان، وهو أمر فطري فيه، وهكذا الحال بالنسبة للمعاصي، فلا أحد يأخذ إنساناً من بيته بيده، ويجره وهو يصيح وهو لا يريد حتى يدخله أماكن الدعارة ويأمره بالزنا، هذا غير ممكن، لكن بإرادته واختياره يقوم بهذا العمل، وهو قادر على أن يمتنع عنه.
والناس في هذه الدنيا في دار ابتلاء وفي دار امتحان، ولهذا ينبغي للإنسان أن يحرص على نفسه، ولهذا يتكلم الوعاظ كثيراً والصالحون عن هذه القضية، ولهذا قضية مثل قضية القدر يمكن أن تكون سبباً في هداية الإنسان، ويمكن أن تكون سبباً في ضلال الإنسان.
يمكن أن يهتدي إنسان بسببها؛ لأنه يشعر بقيمة الإرادة التي أعطاه الله عز وجل إياها، مع إيمانه اليقيني بأن الله كتب الأشياء السابقة، لكن هو لا يستكشف الغيب لأنه لم يصل إليه، ولا يستكشف الغيب لأنه قطعاً لن يصل إليه، وحينئذٍ يدفعه هذا إلى العمل، ولهذا أهل السنة وسط في باب القدر بين الجبرية الذين يكذبون على أنفسهم، فالواقع أنك لست مجبوراً، فهم يقولون: إن الإنسان مثل الريشة في مهب الريح.
وبين المعتزلة الذين يقولون: نحن دعاة حرية الإرادة، والإنسان مختار اختياراً مطلقاً، وأن الله لم يكتب شيئاً سابقاً.
وهذا تكذيب للنصوص الشرعية الواردة في الشرع والأخبار القطعية الواردة والمتواترة من حيث النقل ومن حيث المفهوم، فهل تكذب هذا كله من أجل أنك لم تستطع أن تفهم كيف أن لك إرادة، وأن الله كتب عليك سابقاً أموراً تتعلق بشقائك أو سعادتك؟ هذا فهم فاسد.
ولهذا نحن أهل السنة نؤمن بإرادة الإنسان الحرة واختياره، وإمكانية اختياره مع كتابة الله عز وجل له، وأن هذه الإرادة من خلق الله، وهذا الفعل الذي ينتج عن الإرادة من خلق الله سبحانه وتعالى، وأن أفعال العبد مخلوقة لله عز وجل؛ لأنه لا يمكن أن يكون في كون الله عز وجل أمر غير مخلوق.
وأحياناً قد يكون الإيمان بالقدر بالمفهوم الصحيح سبباً في اندفاع الإنسان للعمل، وبناءِ النفس وبناءِ الأمة وبناءِ الحضارة بأكملها.
وأحياناً يكون الفهم الفاسد في القدر سبباً في الخنوع والضعف والاستسلام المطلق، ولهذا من أعظم أسباب هزيمة الأمة في العصر الحاضر هو الفهم الفاسد للقدر، وهو الذي جعلها مستسلمة.
قديماً كان الصحابة يقاتلون في المعارك دون خوف؛ لأنهم يعرفون أن أرواحهم بيد الله ليست بيد البشر، وأنك إن لم تمت في المعركة مت على فراشك كما قال خالد بن الوليد : مثل موتة البعير.
فالموت سيأتيك سيأتيك، ولا محاولة للتأخير أو التقديم لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ [الأعراف:34].
فأنت لو اندفعت في صفوف الأعداء وقاتلت قد تجرح، وقد تتأذى، لكن إذا لم يقدر الله لك أن تموت فلن تموت، وإذا هربت وجلست في بيتك خوفاً من الموت وقدر الله لك أن تموت ستموت ولو في منامك، ولهذا كم من رجلٍ يأخذ الكأس ولا يستطيع أن يكمل شربها؛ لأن حياته انتهت، كما أن الذي يقاتل في المعركة ويضرب برصاصة في صدره ويموت انتهت حياته، والكل انتهت حياته.
جعله يبني نفسه، ويبني أمته، ويحقق المقصد الشرعي في العلم والعمل، والمقصد الشرعي في العلم هو معرفته بإرادة الله عز وجل المطلقة، وأن الله عز وجل كتب هذه الأمور سابقاً، وأنه عالم بشئون العباد جميعاً، والعمل بالقيام بما أمر الله عز وجل به في حياة الإنسان.
وأحياناً يكون القدر إذا فهمه الإنسان فهماً باطلاً سبباً في الخنوع والذلة، ولهذا لما انتشر هذا المذهب الرديء مذهب الجبرية -مذهب الصوفية- لما انتشر في الأمة وأصبحت تمارسه ممارسةً بشكل تشعر به أو لا تشعر به كان سبباً في استذلال العدو لهم، فلما دخل الاستعمار في القرن الماضي كانت بلاد المسلمين محتلة جميعاً مثل العراق الآن، نسأل الله عز وجل أن يخرج هؤلاء الكفار من العراق ومن فلسطين ومن أفغانستان ومن كل بلاد المسلمين.
هؤلاء كانوا يحتلون كل بلاد المسلمين، فكانت مصر محتلةً وليبيا محتلةً والجزائر محتلةً والمغرب الأقصى بما فيه تونس محتلة، وكانت العراق محتلة أيضاً، وسوريا محتلة، وفلسطين كلها محتلة، كان الاحتلال الفرنسي والبريطاني والإيطالي أحياناً يسيطر على هذه البلاد الإسلامية وكانوا تحت الاستعمار، ومع هذا لم تتكون فرق جهادية لمقاومة مثل هؤلاء.
وكان من أعظم الأسباب الذي جعل هؤلاء في حالة خنوع مع الضعف المادي الذي كان موجوداً، هو الجبرية، وهذا المذهب الرديء يشعرك أن هذا الأمر بقضاء الله وقدره، وأن سيطرة هؤلاء الكفار مكتوبة علينا، وأنه يجب عليك أن تلتزم بما هو مكتوب عليك، وأن تخنع وأن تضعف وأن تركن، بينما الواجب هو أن يركز الإنسان على العمل مع إيمانه بما هو مكتوب عليه.
نعم دخل الأعداء بلادنا، هذا قدر مكتوب علينا، لكن نحن نقاوم القدر بالقدر، أيضاً قدر الله عز وجل وأمرنا أن نقاوم العدو وأن نقاتلهم، وأن نجتهد في إخراجه من بلادنا، وأن نعتبر أن هذا من فروض الأعيان علينا.
وهكذا الحال في باب المنكرات مثلاً، أحياناً ينتشر المنكر قليلاً قليلاً في منطقة من المناطق، وهذه مشكلة تنتشر بيننا نحن، ونحن من أهل السنة، يعني: لسنا صوفية، تنتشر المنكرات في بلاد المسلمين قليلاً قليلاً حتى تعم، بل يبدأ المنكر صغيراً ثم يتسع المنكر حتى يصبح رسمياً وله قرارات، وله جهات تحميه، والسبب في هذا هو أن أهل الإيمان وأهل السنة وأهل العقيدة الصحيحة لم يقاوموا، وربما كثير من الناس يقول لك: هذا قضاء وقدر، قضاء وقدر أن الفاسق يعمل ما يشاء، وليس من القضاء والقدر أن تعمل أنت أيها الصالح على إنكاره؟ هذا فهم فاسد للقضاء والقدر.
ولهذا أحياناً قد يوجد في منطقة من المناطق مذهب أهل السنة، ويكون منتشراً فيها انتشاراً عظيماً جداً من الناحية العلمية، فالكتب التي تدرس هي كتب أهل السنة، والخطب التي تلقى هي خطب أهل السنة، لكنها نظرية مجردة، والعمل مختلف تماماً، وهنا تكون المشكلة.
ولهذا أهل السنة والجماعة هم الذين يستعصون على انقياد الظالمين وأصحاب الشهوات المحرمة والكفار، يستعصون على انقيادهم، لكن هذا لا يعني: أنهم لا يتعاملون وفق منهج دقيق منضبط بضوابط السنة.
يعني: ينبغي الاتزان في هذه القضية، فأهل السنة يستعصون على المعاصي فلا يعملونها ولا يقرونها، ولهذا سبق أن تحدث الشيخ عن موضوع العبادة، وأن العبادة قد تكون في فعلك أنت بالطاعة، وقد تكون في فعل غيرك بالإنكار عليه إذا فعل المنكر.
ولو أنني سألت كل شخص الآن وأتمنى على كل واحد أن يجاوب في نفسه: هل يوجد لدينا إنكار حقيقي للمنكرات؟ نسمع المنكرات دائماً، أحياناً الإنسان يتصفح جريدة من الجرائد وينظر فيها صور نساء، فيا أخي! اتصل بهذه الجريدة وانصحهم بالتي هي أحسن، وإذا رأيت أمراً من الأمور المنكرة اكتب للمسئول، اكتب لشخص مثلاً، أقل شيء أن ترفع عن نفسك الإثم بإقرار مثل هذا المنكر، لكن السلبية المطلقة بهذه الطريقة قد توصلنا إلى مذهب الجبرية ونحن لا نشعر.
قال: [ثم المعتزلة أثبتت الأمر والنهي الشرعيين دون القضاء والقدر اللذين هما إرادة الله العامة وخلقه لأفعال العباد].
سبق أن أشرنا إلى هذه القضية، وأن المعتزلة ركزوا على حرية الإرادة، وركزوا على الأمر والنهي، وترتب على هذا عندهم إنكار الخبر الذي أخبر الله عز وجل به، وأن الله عالم بشئون العباد وأنه كتب مقادير كل شيء إلى قيام الساعة.
قال: [وهؤلاء أثبتوا القضاء والقدر، ونفوا الأمر والنهي في حق من شهد القدر، إذْ لم يمكنهم نفي ذلك مطلقاً، وقول هؤلاء شر من قول المعتزلة، ولهذا لم يكن في السلف من هؤلاء أحد، وهؤلاء يجعلون الأمر والنهي للمحجوبين الذين لم يشهدوا هذه الحقيقة الكونية].
يعني: يجعلون الإسلام الذي هو أمر ونهي لغيرهم، يجعلون الإسلام للأشخاص الناقصين الذين لم يصلوا حتى لشهود الحقيقة الكونية التي تسقط عنهم التكاليف، فهؤلاء مساكين عامة، يعني: العوام هؤلاء المساكين الذين يعملون بأعمال الإسلام، وأما هم فهم الخاصة الذين لا يعملون بأعمال الإسلام وسقطت عنهم التكاليف لهذا الشهود الذي توصلوا له.
فاليقين عندهم هو معرفة هذه الحقيقة!].
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وقول هؤلاء كفر صريح، وإن وقع فيه طوائف لم يعلموا أنه كفر؛ فإنه قد علم بالاضطرار من دين الإسلام أن الأمر والنهي لازمان لكل عبد ما دام عقله].
يعني: من الملازمة، يعني: أن الأمر والنهي ملازمان للإنسان، ما دام أن له عقلاً وأنه بالغ؛ لأن هذا هو مناط التكليف.
قال: [ما دام عقله حاضراً إلى أن يموت، لا يسقطان عنه لا بشهوده القدر ولا بغير ذلك، فمن لم يعرف ذلك عُرِّفَهُ وبُيِّنَ له، فإن أصر على اعتقاد سقوط الأمر والنهي فإنه يقتل، وقد كثرت مثل هذه المقالات في المستأخرين، وأما المتقدمون من هذه الأمة فلم تكن هذه المقالات معروفة فيهم].
يعني: الزهاد المتقدمون، حتى من كان فيه بدع من أهل التصوف لم تكن عندهم مثل هذه المقالات، هذه مقالات شنيعة جداً وهي مقالات كما قال عنها ابن الجوزي في (تلبيس إبليس) قال: مثل هذا طي لبساط الشريعة. يعني: كأن واحداً يطوي الشريعة ويجعلها بجانبه، وأما هو فيشتغل كما يشاء، ولهذا تتفق كثير من الأفكار حتى مع اختلاف توجهات أصحابها.
ألا تلاحظون هذه الفكرة تتفق مع العلمانية؟ العلمانيون يقولون: الأمر والنهي المتعلق بالسياسة والاقتصاد هذا لا نعمل به، وإنما يكون العمل في خاصة النفس، وهؤلاء يقولون: الإسلام الأمر والنهي، طبعاً هؤلاء أشد، ومقالتهم أعنف في رد الإسلام.
قال: [وأما المتقدمون من هذه الأمة فلم تكن هذه المقالات معروفة فيهم، وهذه المقالات هي محادة لله ورسوله ومعاداة له وصد عن سبيله، ومشاقة له، وتكذيب لرسله، ومضادة له في حكمه، وإن كان من يقول هذه المقالات قد يجهل ذلك، ويعتقد أن هذا الذي هو عليه هو طريق الرسول وطريق أولياء الله المحققين، فهو في ذلك بمنزلة من يعتقد أن الصلاة لا تجب عليه لاستغنائه عنها بما حصل له من الأحوال القلبية، أو أن الخمر حلال له لكونه من الخواص الذين لا يضرهم شرب الخمر، أو أن الفاحشة حلال له؛ لأنه صار كالبحر لا تكدره الذنوب ونحو ذلك.
ولا ريب أن المشركين الذين كذبوا الرسول يترددون بين البدعة المخالفة لشرع الله وبين الاحتجاج بالقدر على مخالفة أمر الله، فهؤلاء الأصناف فيهم شبه من المشركين؛ لأنهم إما أن يبتدعوا، وإما أن يحتجوا بالقدر، وإما أن يجمعوا بين الأمرين، كما قال تعالى عن المشركين: وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ [الأعراف:28].
وكما قال تعالى عنهم: وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ [النحل:35].
وقد ذُكِرَ عن المشركين ما ابتدعوه من الدين الذي فيه تحليل الحرام، والعبادة التي لم يشرعها الله في مثل قوله تعالى: وَقَالُوا هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لا يَطْعَمُهَا إِلَّا مَنْ نَشَاءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا وَأَنْعَامٌ لا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا افْتِرَاءً عَلَيْهِ [الأنعام:138] إلى آخر السورة].
هذا فيما يتعلق بتحليل الحرام، يعني: أن شرك المشركين ينقسم إلى قسمين:
القسم الأول: عبادة غير الله.
والقسم الثاني: تحليل الحرام وتحريم الحلال.
طبعاً كلا هذين القسمين يتعلق بعضهما بالآخر، لكن هذا تقسيم للأعمال التي يقومون بها.
وَقَالُوا هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لا يَطْعَمُهَا إِلَّا مَنْ نَشَاءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعَامٌ [الأنعام:138] يعني: يحجرون على بعض الأنعام ويحرمون بعض الأنعام دون أي دليل شرعي من الله عز وجل في تحريم مثل هذه المباحات.
قال: [وكذلك في سورة الأعراف في قوله: يَا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ * وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ * قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ * فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ * يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ * قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ * قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ [الأعراف:27-33].
وهؤلاء قد يسمون ما أحدثوه من البدع حقيقة، كما يسمون ما يشهدون من القدر حقيقة، وطريق الحقيقة عندهم هو السلوك الذي لا يتقيد صاحبه بأمر الشارع ونهيه، ولكن بما يراه ويذوقه ويجده في قلبه مع ما فيه من غفلة عن الله جل وعلا ونحو ذلك].
نلاحظ أن شيخ الإسلام بين مقالة هؤلاء، وبيَّن أيضاً النتائج التي تترتب على قولهم، يعني: عندما تحدث عن موقف هؤلاء من الحقيقة الكونية قال: هؤلاء يرون أن شهود الحقيقة الكونية هو الغاية، ثم ترتب على شهود الحقيقة الكونية ضلالات وانحرافات، وأصحاب هذه الضلالات والانحرافات على مراتب، وبدأ يعددها، لكن لم يبين ما هو الطريق عندهم الذي يوصل إلى شهود الحقيقة الكونية، خصوصاً أنهم قسموا الناس إلى قسمين:
- العامة، هؤلاء لم يشهدوا الحقيقة الكونية.
- الخاصة، هم الذين شهدوا الحقيقة الكونية.
فالعامة ملزمون بالأمر والنهي؛ لأنهم يشهدون أن لهم أفعالاً وصفات، وأما الخاصة هؤلاء فهم لا صفات لهم ولا أفعال لهم، بل الأفعال هي أفعال الله، وهؤلاء يسقط عنهم التكليف.
الجواب: الطريق كما في قوله هو: السلوك الذي لا يتقيد صاحبه بأمر الشارع ونهيه ولكن بما يراه ويذوقه ويجده ونحو ذلك.
إذاً: الطريق يكون بالسلوك بأعمال يقوم بها، هذه الأعمال لا يشترط أن تكون عبادات، يعني: زيادة الإيمان عندنا تتم بالعمل الصالح، بالصلاة، بالصيام، بالزكاة، بالخوف من الله، بالبكاء من خشية الله، بقراءة القرآن، بالذكر، هكذا يزيد العمل الصالح.
أما هؤلاء الضُلال الخرافيون الصوفية؛ فإن شهود الحقيقة الكونية عندهم يكون بالسلوك وبأعمال معينة يقومون بها لا علاقة لها بالأمر والنهي، ولا علاقة لها بالشريعة.
وهي أعمال متنوعة كثيرة، فبعضهم أخذ بعض الرياضات الموجودة عند الهنود، يعني: ربما يجلس أحدهم في الشمس المحرقة على رأس البيت عريان ليس عليه ملابس حتى يسوَّد جلده، وحتى تصيبه الأمراض، وحتى يشرف على الهلاك، وحينئذٍ تحصل في نفسه إرادات وخواطر وأفكار، كثير منها تكون أوهاماً، وهذه الحالة فرصة مناسبة للشيطان أن يعبث بالإنسان، فالشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم.
يعني: الإنسان السوي الطبيعي الذي صفاته طبيعية وشخصيته طبيعية، وملتزم بأمر الله، ومبتعد عن ما نهى الله عز وجل، مع هذا يأتيه الشيطان ويوسوس له ويضله ضلالاً مبيناً، فكيف بالإنسان الذي وصل لهذه الحالة المزرية؟ ووضعه ليس طبيعياً، إنسان يجلس في الشمس حتى يحترق جلده، وبعضهم قد يقف على رأسه ويرفع رجليه الساعات الطويلة، إلى درجة أنه يدخله نوع من الهوس ونوع من الأمراض الهستيرية التي تحصل عند من يمارس مثل هذه الرياضات.
فهم يقومون بأعمال عبارة عن رياضات، وهذه الرياضات تؤثر في نفوسهم فتحصل عندهم إرادات نفسية، وتحصل عندهم أوهام، وتحصل عندهم خواطر معينة، هذه الإرادات وهذه الأوهام وهذه الخواطر يسمونها: شهود الحقيقة الكونية.
والحقيقة أنها توصل إلى الجنون، وعندما يقولون: إنه سقطت عنهم التكاليف قد يقول الإنسان: إنه فعلاً سقطت عنهم التكاليف، لكن من جهة أخرى، فهم يرون أن عملهم هذا عمل جليل أوصلهم إلى سقوط التكاليف عنهم.
نحن نقول: إن هذا العمل الذي يقومون به أوصلهم إلى الجنون، والمجنون لا تكليف عليه، إنسان يقف على رأسه الساعات الطويلة والليالي الطويلة وأحياناً يرافقها جوع، ويرون أن الجوع يصفي النفس، وأن التخم والأكل مضر، وقد يكون هذا له جوانب صحيحة من حيث الأمور الطبيعية، فالإنسان إذا كان بطنه ضامراً يكون أخف نفساً من الإنسان الذي يكون ممتلئاً مثلاً.
فالإنسان إذا كان ممتلئاً لا يرتاح نفسياً، لكن هم يبالغون في هذا الموضوع، فالواحد منهم يستمر يومين لا يأكل شيئاً ويذهب إلى المغارات ويعيش مع الوحوش، وبعضهم يذهب إلى القاذورات وقد يأكل من القمائم أكرمكم الله، وقد يأكل مأكولات وسخة، وبعضهم قد يأكل نوعية من النباتات المؤثرة في النفس، والنباتات هذه تؤثر، فهناك بعض من الأكل الذي يؤثر في نفسية الإنسان، ويجعله مكتئباً، والنفس والجسد متماسكان لا انفصال بينهما.
ولهذا فإن البنج أصله شجرة، والحشيش أصلاً شجرة من الخشخاش، يأخذونه ويخرجون منه مادة يشربها ويتغير الرجل تماماً، كان عاقلاً معك قبل نصف ساعة، فإذا هو مجنون بعد ذلك.
إذاً: قد يعتمدون على نوع من الأدوية يتعاطونه، إما شرباً أو أكلاً أو زيتاً يتمسحون به، ولهذا وجد من مثل هؤلاء من يمارس السحر، وأكثر من نشر السحر في البلاد الإسلامية هم الصوفية، يعني: نحن لم يأتنا كفار نشروا السحر في بلاد المسلمين، وإنما السحرة هم أئمة الصوفية، وأشهر كتاب في السحر هو كتاب: (شمس المعارف الكبرى) مؤلفه: أحمد بن علي البوني ، ويرون أن هذا الرجل من الصالحين، وقد ترجم له يوسف بن إسماعيل النبهاني في (جامع كرامات الأولياء) وقال: كان البوني من الأولياء الصالحين، وكان من كراماته أنه مجاب الدعوة.
ولهذا توجد طائفة عندهم وهم الرفاعية يمارسون السحر عملياً، ووجدت طائفة تجمع بين الرفاعية وبين التشيع يسمونها: البكداشية، هؤلاء سحرة تماماً، يأخذ الإنسان السيف ويدخله في بطنه ويخرجه من ظهره، ويقول: هذه من كرامات الأولياء، وهذه من ولايتي عند الله ومحبتي، ومن هذه الرياضات: أن ينقلب الإنسان على رأسه أياماً طويلة حتى يحبه الله، وبعد هذا العمل الذي يفعله يترك الصلاة ويترك الصيام ويترك العمل الصالح؛ لأن الله يحبه حسب ظنه، إلى درجة أنه يدخل السيف في بطنه ويخرجه من خلفه، وأن الله عز وجل أعطاه هذه الموهبة إكراماً له، إكراماً على الانتكاس على الرأس وترك الصلاة والصيام والزكاة وترك الأعمال الصالحة، ولهذا فإن هؤلاء من أضل الناس، ومن أجهل الناس.
وبعضهم قد يأكل الحشرات، وبعضهم قد يأكل أنواعاً غريبة، ومنهم من يشرب السم، وقد يفعلون ذلك في الأطفال، ومع الأسف تجد الفضائيات الآن تغطي بعض هذه الطوائف وتعرضها من باب التثقيف العام دون أن تبين حقيقة مثل هؤلاء، فقد رأيت برنامجاً في شريط فيديو جاء به أحد الإخوة، أخذه من قناة فضائية، يأخذون مسماراً كبيراً ويدخلونه في طفل من جهة ويخرجونه من الجهة الأخرى والطفل يمشي بينها، ومنهم من يأخذ حطباً مشتعلاً بالنار ويدخله في فمه ويخرجه ويقولون: إن هذه من ولاية الله.
لماذا لم يفعل الأنبياء ذلك من قبل؟ ولماذا لم يفعلها كرام الصحابة مثل أبي بكر وعمر وعثمان وعلي ؟ وهكذا الصالحون الذين كانوا يجاهدون الأمم الأخرى وبنوا هذه الحضارة العظيمة؟ فما كانوا يفعلون هذا العبث الذي يقومون به.
وبعض العلمانيين الآن يقولون: ماذا تريدون منا؟ الدين أي دين؟ أي دين تريدون منا أن نلتزمه؟ نجلس عند القبور التي بنيت عليها الأضرحة، وتأتي مجموعة تضع صناديق عند الأبواب، ويضعون فيها نذوراً ويسرقونها، ويتكلمون باسم الأولياء الموتى، وربما لا يكون هناك ولي أصلاً؟ هذا الدين الذي تريدون أن نرجع إليه ونترك التحديث ونترك الواقع المعاصر الآن؟ انظروا إلى ما وصلت إليه أمريكا الآن، وأصبحت عندها هذه الأسلحة والقدرة الهائلة، طبعاً هذا كلام، لكن عند الحقيقة نجد أن العلمانيين هؤلاء لا يركزون على التحديث التقني المعاصر، بل يركزون على الشهوات، وعلى إفساد المرأة، وفعل المحرمات، فهم أناس ليسوا جادين، وقد يوجد منهم جادون، لكن أكثر هؤلاء أناس أصحاب مصالح خاصة.
ويأخذون أسوأ ما في الحضارة الغربية ويريدون منا التطبيق، ويتركون كثيراً من القضايا التقنية الموجودة الأخرى التي يمكن أن نستفيد منها.
على كل حال الخلاصة من هذا الكلام: أن الصوفية والتصوف من أكبر أسباب تخلف الأمة، ومن أكبر الأمور التي جعلت الأمة تتأخر في ميدان التحديث والتقنية.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وهؤلاء لا يحتجون بالقدر مطلقاً، بل عمدتهم اتباع آرائهم وأهوائهم، وجعلهم لما يرونه ويهوونه حقيقة، وأمرهم باتباعها دون اتباع أمر الله ورسوله، نظير بدع أهل الكلام من الجهمية وغيرهم].
يعني: الجهمية الذين ينفون صفات الله، وينفون أسماء الله عز وجل، هؤلاء في باب العلميات مثل هؤلاء في باب العمليات.
قال: [الذين يجعلون ما ابتدعوه من الأقوال المخالفة للكتاب والسنة حقائق عقلية يجب اعتقادها دون ما دلت عليه السمعيات].
يعني: الجميع انحرف عن الكتاب والسنة، وجعلوا لهم طواغيت كما سماها ابن القيم رحمه الله، جعلوا لهم طواغيت تصدهم عن نصوص الكتاب والسنة.
هؤلاء الصوفية جعلوا الكشف وشهود الحقيقة الكونية صاداً عن الكتاب والسنة، والجهمية والمعتزلة والأشعرية جعلوا العقل وما يسمونه بالحقائق العقلية يصدهم عن الكتاب والسنة.
والشيعة جعلوا أئمتهم كأنهم أرباب، اتخذوهم وعبدوهم من دون الله عز وجل، فصدوهم عن الكتاب والسنة.
وهكذا المبتدعة أو أصحاب المذاهب المعاصرة جعلوا الاتجاه الغربي والذهاب مع الغربيين سبباً من أسباب الصد عن الكتاب والسنة.
فكلهم انحرفوا لبعدهم عن الكتاب والسنة.
قال: [ثم الكتاب والسنة، إما أن يحرفوا القول فيهما عن مواضعه].
يعني: يغيرون معاني الكتاب والسنة ويريدون تغيير اللفظة، لكن لا يستطيعون، جاء رجل من الجهمية إلى أبي عمرو بن العلاء وهو من القراء الكبار وقال له: اقرأ قول الله عز وجل: وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا [النساء:164] اقرأ بالنصب يعني: (وكلم اللهَ) حتى يكون المتكلم هو موسى، لا يريد نسبة الكلام إلى الله، لأنهم يرون أن الله غير متكلم، ولا يتكلم سبحانه وتعالى عما يقولون.
فقال: أرأيت لو فعلت لك ما تريد ماذا تصنع بقول الله عز وجل: وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ [الأعراف:143] ففي هذه الآية نسب الكلام إلى الرب مباشرة.
وأما تحريف المعاني فهي كثيرة، فمثلاً: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه:5] قالوا: استولى وملك.
و بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ [المائدة:64] قالوا: اليد النعمة، وهكذا.
قال: [وإما أن يعرضوا عنه بالكلية، فلا يتدبرونه ولا يعقلونه، بل يقولون: نفوض معناه إلى الله!! مع اعتقادهم لنقيض مدلوله.
وإذا حُقَّق على هؤلاء ما يزعمونه من العقليات المخالفة للكتاب والسنة، وجدت جهلياتٍ واعتقاداتٍ فاسدة].
يعني: عند التحقيق، عندما تأتي للأدلة العقلية التي جعلوها سبباً في تأويل النصوص الشرعية، تجد أنها ليست عقلية، بل فيها كثير من القضايا مصادرة عن العقل، وتجد أن كثيراً من العقلاء يخالفون فيها، وتجد أن القضية ليست قضية مسلمة، ومع هذا يتكلمون باسم العقل، وكأن عندهم تصريحاً ألا يتكلم باسم العقل إلا هم، وكأنهم احتكروا العقل لأنفسهم، مع أن الحقيقة العملية من خلال النقاش العملي معهم ليس عندهم إلا أدلة ركبوها، وظنوا أنها عقلية، لكن في الحقيقة هي مخالفة للعقل.
ولهذا نحن عندنا يقين تام أن خالق العقل هو الله، ومنزل النقل هو الله، ولا يمكن أن يتعارضا؛ لأن مصدرهما واحد، فالذي خلق العقل هو الله، والذي أنزل الشرع هو الله، فكيف يجعلون بينهما تعارضاً؟ أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ [الملك:14] لا يمكن أبداً.
ولهذا فإن الذين يقولون: إن الشريعة ليست صالحة لهذا الزمان المتحضر، نقول: الله عز وجل عندما أنزل الشريعة في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، أنزلها وجعلها عامة لكل الأمم إلى قيام الساعة، وهو يعلم أن هناك مجتمع متحضر، ولهذا فإن النصوص الشرعية بنت قواعد مقررة في الشريعة تشمل كل الأزمان، وهناك نصوص عامة تشمل أي وقت من الأوقات، ولهذا فإن العموم والقواعد الشرعية من أعظم الأدلة على صلاحية هذه الشريعة لكل زمان ومكان.
قال: [وإذا حق على هؤلاء ما يزعمونه من العقليات المخالفة للكتاب والسنة وجدت جهليات واعتقادات فاسدة، وكذلك أولئك إذا حقق عليهم ما يزعمونه من حقائق أولياء الله المخالفة للكتاب والسنة وجدت من الأهواء التي يتبعها أعداء الله لا أولياؤه].
نكتفي بهذا القدر، ونكمل إن شاء الله في اللقاء القادم.
سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر