إذاً: لا بد مع الإقرار بالعبودية الشاملة أن يكون معه عبودية اختيارية يفعلها الإنسان، ويكون مقتضاها العملي الالتزام بالأمر فعلاً، والالتزام بالنهي تركاً وحينئذ يكون عابداً خاضعاً لله سبحانه وتعالى.
وبعض الشراح -من أهل العلم- فَهِمَ قول المصنف: وهذا العبد يسأل ربه ويتضرع إليه ويتوكل عليه، أن هذه هي العبودية الاختيارية.
والحقيقة أن هذا جزء منها؛ لكن هذا الجزء قد يوجد عند بعض من لم تتحقق فيه العبودية الاختيارية، التي هي الألوهية التامة لله عز وجل، فقد يوجد من الكفار من يستغيث بالله، وقد يوجد من الكفار من يتوكل على الله، لكن هذا لا ينفعه.
يقول الله عز وجل: وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ [يوسف:106] فأثبت للكفار نوعاً من الإيمان، لكن هذا الإيمان الذي أثبته لهم غير كافٍ، لا بد مع هذا الإيمان الجزئي أن ينضاف إليه:
* أولاً: طاعة الرسول، والائتمار بأمر الله والانتهاء عن نهيه.
* ثانياً: ترك الشرك. وحينئذٍ يكون الإنسان موحداً لله عز وجل خالص التوحيد له.
لأن أهل النار يعرفون أن الله عز وجل هو الخالق الرازق المحيي الميت كما سيأتي معنا، لكن هذه لا تفرق بينهم، قال: وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ [يوسف:106] فهم مشركون، لم ينفعهم هذا الإقرار المجرد بالربوبية والعبودية الاضطرارية.
قال: [ومثل هذه العبودية لا تفرق بين أهل الجنة وأهل النار، ولا يصير بها الرجل مؤمناً، كما قال الله تعالى: وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ [يوسف:106] فإن المشركين كانوا يقرون أن الله خالقهم ورازقهم، وهم يعبدون غيره، قال تعالى: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [لقمان:25]، وقال تعالى: قُلْ لِمَنِ الأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ * قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ * قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ [المؤمنون:84-89] وكثير ممن يتكلم في الحقيقة ويشهدها يشهد هذه الحقيقة، وهي الحقيقة الكونية التي يشترك فيها وفي شهودها وفي معرفتها المؤمن والكافر، والبر والفاجر].
يريد شيخ الإسلام ابن تيمية هنا بهذا المقطع من كلامه وما سيأتي أن يبين حالة الصوفية فإن الصوفية من أعظم الناس المشتغلين بالزهد والتعبد، ولكن العبودية التي يشتغل عليها ويعملها الصوفية ويفنون فيها ويهتمون بها، ويعظمونها هي العبودية الاضطرارية التي لا تفرق بين المسلم والكافر، فهم يشتغلون بتعظيم الله عز وجل، في كونه الخالق والرازق والمحيي والمميت، ويعلمون أن الله سبحانه وتعالى هو مدبر هذه الكائنات جميعاً، وأنه لا تصريف إلا لله عز وجل، وهو سبحانه وتعالى الذي بيده مقاليد كل شيء، وهذا جزء من ا لإيمان.
لكنهم يشتغلون به، ويهملون نوعاً آخر من الإيمان وهو: التعبد الاختياري له، بالمحبة والخضوع له، وأيضاً بالاتباع التام لرسوله في الأمر والنهي، فيهملون هذا النوع؛ ولهذا قد يورثهم هذا شيئاً من التوكل، لكنه بمفهوم سلبي سيأتي الإشارة إليه.
وخلاصة هذا الكلام -حتى نتصور المسألة تصوراً دقيقاً- هو أن العبودية نوعان: عبودية اضطرارية ومعناها: توحيد الربوبية، وعبودية اختيارية ومعناها: توحيد الإلوهية.
ومعنى لا إله إلا الله العبودية الاضطرارية التي يشترك فيها المسلمون والكفار والأحياء والجمادات، فكلهم مضطرون أذلاء لله عز وجل.
وأما العبودية الاختيارية: فهي التي يترتب عليها الثواب والعقاب، وهي التي يقوم الإنسان بها عن رغبة واختيار ويكون مقتضاها الإتيان بالأمر فعلاً والإتيان بالنهي تركاً.
ومعنى الشهود: حضور القلب والذهن بكامله، يعني: أن يكون قلبه وذهنه حاضراً بكامله في شهود الحقيقة، وهذه الحقيقة التي يقولون: نحن نشهدها هي حقيقة العبودية الاضطرارية وحقيقة توحيد الربوبية.
هذا النوع من الربوبية إذا شهده الإنسان فإنه يورث له جزء من العبودية الاختيارية وهي سؤال الله والتوكل عليه، لكنه غير كافي حتى ينقاد للأمر والنهي، وحينئذ يكون هذا الثناء وهذا التعظيم وهذا الشهود للحقيقة الكونية ولتوحيد الربوبية يكون اشتغالاً في ما لم يأمر الله عز وجل به إلا على سبيل الوسيلة.
فالله عز وجل يأمر بتدبر مخلوقاته وتدبر الكون ليترتب على ذلك محبة الله عز وجل والخوف منه والتوكل عليه والإنابة إليه والرجوع إليه في كل شأن.
قال: [بل وإبليس معترف بهذه الحقيقة وأهل النار، قال إبليس: قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ [الحجر:36]، وقال: رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ [الحجر:39] وقال: قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ [ص:82] وقال: أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا [الإسراء:62] وأمثال هذا من الخطاب الذي يقر فيه، بأن الله ربه وخالقه وخالق غيره وكذلك أهل النار قالوا: قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ [المؤمنون:106] وقال تعالى عنهم: وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى رَبِّهِمْ قَالَ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا [الأنعام:30].
فمن وقف عند هذه الحقيقة وعند شهودها، ولم يقم بما أمر به في الحقيقة الدينية التي هي عبادته المتعلقة بألوهيته وطاعة أمره وأمر رسوله كان من جنس إبليس وأهل النار، وإن ظن مع ذلك أنه من خواص أولياء الله وأهل المعرفة والتحقيق -الذين سقط عنهم الأمر والنهى الشرعيان- كان من أشر أهل الكفر والإلحاد، ومن ظن أن الخضر أو غيره سقط عنهم الأمر لمشاهدة الإرادة..، ونحو ذلك كان قوله هذا شر من أقوال الكافرين بالله ورسوله، حتى يدخل في النوع الثاني من معنى العبد، وهو العبد بمعنى العابد، فيكون عابداً لله لا يعبد إلا إياه، فيطيع أمر الله وأمر رسله، ويوالي أولياءه المؤمنين المتقين ويعادي أعداءه].
يبين شيخ الإسلام رحمه الله من خلال هذه اللوازم بطلان ما توصلوا إليه، فهناك قاعدة عند العلماء يقولون: إذا بطل اللازم بطل الملزوم، يعني: إذا كان الأمر تترتب عليه لوازم فاسدة، فإن ملزومه يعتبر باطلاً وفاسداً في ذاته.
فيقول ابن تيمية رحمه الله: إن العبودية الاضطرارية من اشتغل بها -وهي توحيد الربوبية- واعتنى بها وظن أنها هي كل شيء، وهي أول الأمر وآخره، وهي الواجب على كل العباد فإنه حينئذٍ لا يكون هناك فرق بينه وبين إبليس وغيره من الكفار، فإنهم يعرفون أن الله عز وجل هو الخالق وأن الله هو الرازق وأن الله هو المحيي والمميت.
وهذا لا شك أنه ليس هو المقصود ببعثة الرسل، لأنه لو كان هذا هو المقصود ببعثة الرسل لكان هؤلاء من الناجين، لكن الحقيقة أنهم من الهالكين؛ لعدم إتيانهم بألوهية الله عز وجل وعبوديته الاختيارية، فدل هذا على أن العبودية الاضطرارية ليست مقصودة في ذاتها، وإنما هي أمر معترف وأمر فطري يعرفه الناس من خلال فطرهم، ولا ينكره إلا الملاحدة؛ ولهذا يقول ابن تيمية في غير هذا الكتاب: ولا يوجد طائفة من بني آدم على أن هذا الكون له إلهان خالقان مدبران له في وقت واحد.
والاشتغال بهذا النوع من العبودية اشتغال بأمر مفطور عليه الناس، وأمر يتفق فيه المسلمون والكفار، والأحياء والجمادات، أما الأمر الأساسي الذي جاءت الرسل لتقريره فهو: العبودية الاختيارية، وأن الله عز وجل هو الإله وحده دون سواه.
ولهذا فإن الصوفية فسروا لا إله إلا الله بأنه لا خالق إلا الله، وهكذا أهل الكلام فسروا لا إله إلا الله بأنه لا خالق إلا الله، ويوجد بعض الدعوات الإسلامية اليوم عندما تأتي وتقرر التوحيد للناس تقول: إن التوحيد ومعنى لا إله إلا الله: إخراج اليقين الفاسد وإدخال اليقين الصحيح.
ويفسرون اليقين الصحيح بالربوبية والعبودية الاضطرارية، فهم يتفقون في هذا المعنى، وإن كانوا يختلفون في ما يترتب عليه.
والذين يشهدون الحقيقة الكونية أصناف سيأتي الإشارة إليهم بإذن الله تعالى.
بدأ في النوع الثاني: وهي العبودية الاختيارية.
وهذه العبودية الاختيارية هي توحيد الألوهية وهي معنى لا إله إلا الله، وهي التي عليها الأمر والنهي والثواب والعقاب، وهي التي من أجلها خلق الله عز وجل الناس وقسمهم إلى صنفين: مؤمنين وكفار، المؤمنون من آمن بها والكفار من جحدوها.
قال: [ولهذا كان عنوان التوحيد لا إله إلا الله بخلاف من يقر بعبوديته ولا يعبده، أو يعبد معه إلهاً آخر].
يعني: يقر بالعبودية الاضطرارية، ويقر بتوحيد الربوبية، لكنه لا يعبده وإنما يعبد معه إلهاً آخر.
قال: [فالإله: هو الذي يألهه القلب بكمال الحب والتعظيم والإجلال والإكرام والخوف والرجاء.. ونحو ذلك].
وهذا هو معنى الإله في لغة العرب وفي الشرع؛ ففي لغة العرب كما سبق أن أشرت إليه أن الإله: فعال بمعنى: مفعول، يعني: إله بمعنى: مألوه، ولهذا يقول رؤبة :
لله در الغانيات المده سبحن واسترجعن من تأله.
فجعل التسبيح والترجيع من التأله، والإله بمعنى: المألوه والمعبود، والألوهية: هي العبودية والتأله: هو التعبد، وهكذا معناها الاصطلاحي، فكل كلمة إله في القرآن فإن المراد بها المعبود وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الأَرْضِ إِلَهٌ [الزخرف:84] قال قتادة : معبود في السماء ومعبود في الأرض.
يعني: حتى لو أنكر أنه عبد لله فهو عبدٌ في الحقيقة حتى لو أنكر، فإذا اعترف فإنه يلزمه توحيد الألوهية والعبودية الاختيارية، فإن لم يلتزم به، فإنه يعيش في شقاء بين الاعتراف بربوبية الله عز وجل وعدم الالتزام بلازمها وهو توحيد الألوهية.
قال: [وبالفرق بين هذين النوعين يعرف الفرق بين الحقائق الدينية الداخلة في عبادة الله ودينه، وأمره الشرعي التي يحبها ويرضاها ويوالي أهلها ويكرمهم بجنته، وبين الحقائق الكونية التي يشترك فيها المؤمن والكافر والبر والفاجر التي من اكتفى بها ولم يتبع الحقائق الدينية كان من أتباع إبليس اللعين والكافرين برب العالمين، ومن اكتفى بها في بعض الأمور دون بعض، أو في مقام دون مقام، أو حال دون حال نقص من إيمانه وولايته لله بحسب ما نقص من الحقائق الدينية.].
والحقائق الدينية والحقائق الشرعية التي يحبها الله ويرضاها هي: توحيد الألوهية، وهي التي يسأل عنها العبد وهي حقيقة الإسلام.
وإذا قيل: الإسلام فإنه يراد به العبودية الاختيارية التي يحبها الله ويرضاها وهي توحيد الألوهية.
هذا هو الإسلام وهذا هو الدين.
وأما العبودية الاضطرارية فهي معنى توحيد الربوبية، وهي يشترك فيها المسلمون والكفار والأحياء والجمادات.
غلطوا فيه بأنهم جعلوا توجههم لتوحيد الربوبية والعبودية الاضطرارية التي يستوي فيها المسلمون والكفار والأحياء والجمادات، وجعلوا الفناء فيه والتعلق به هو أساس الدين وأساس الإسلام، واشتغلوا به وانصرفوا عن الحقيقة الدينية الشرعية التي هي الإسلام، والتي يحبها الله ويرضاها، والتي فيها أوامر تقتضي الفعل ونواهٍ تقتضي الترك.
ولهذا وجد منهم من يقول: إن الإنسان إذا وصل إلى اليقين فإن التكاليف تسقط عنه.
لأن المتعلق بهذا النوع يقول: إذا فنيت فيه فإنك ستصل إلى اليقين.
والمقصود باليقين: أن الله هو الرب الخالق الرازق المحيي المميت، إذا وصلت إلى هذا اليقين التام -وهذا اليقين طبعاً يحتاج إلى رياضات كما يقولون- فإنه تسقط عنك الأوامر والنواهي؛ وهذا يدل على عدم تعظيم الأمر والنهي، وعلى عدم الاشتغال بها.
ولهذا سيأتي معنا أن هؤلاء جبرية يعظمون موضوع الفعل أكثر من تعظيمهم لموضوع الأمر.
يقول: وإلى هذا أشار الشيخ عبد القادر الجيلاني وهو من علماء الحنابلة، كان في بغداد، وله كتاب الغنية، وله كتاب في ذم علم الكلام، وهو من علماء المسلمين الصادقين، ومن الأولياء الفضلاء الطيبين، وهو من أهل السنة والجماعة، لكن الصوفية تعلقوا به، ونسبوا إليه كثيراً من الأمور كذباً وبهتاناً، وما نسبوه إليه لا يصح عنه، وهو من شيوخ ابن قدامة المقدسي صاحب المغني، الكتاب المشهور في فقه الحنابلة.
يقول: إن الرجال إذا وصلوا إلى القضاء والقدر أمسكوا، يعني: كثير من الناس إذا وصل إلى باب القضاء أو القدر فإنه يمسك فلا يدري كيف يفهم هذا الباب، وهذا السبب فيه يرجع إلى عدم اتباع السنة والجماعة ومعرفة هدي النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الباب.
يقول: إلا أنا فإنه فتحت لي فيه روزنة، المقصود بالروزنة: النافذة، يعني يقول: فتحت لي نافذة في باب القضاء والقدر.
والنافذة هي قوله: فنازعت أقدار الحق، وأقدار الحق يعني: أقدار الله التي قدرها الله عز وجل، يعني: الأقدار السيئة، التي قدرها الله عز وجل اختباراً وابتلاءً للعباد بالحق وهو اتباع الأمر واجتناب النهي للحق، يعني: لغاية عظيمة وهي اتباع الحق، فالله عز وجل قدر أموراً كثيرةً مما يحب ومما يكره، فقدر مما يحب: الإسلام، والصلاة، اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم، والزكاة، والأعمال الصالحة بكل أنواعها، هذه من مقادير الله عز وجل.
وأيضاً قدر أموراً أخرى مما يكرهها: فقدر الكفر، وقدر أيضاً العصيان والذنوب، كل هذه بقدر الله عز وجل، فإنه لا يكون في هذا الكون إلا أمر قدره الله وقضاه، ولا يكون في هذا الكون إلا شيء أراده الله عز وجل؛ فهذه الأقدار التي يبغضها الله عز وجل يقول: نازعتها، مع أنها من قدر الله لكن أنا نازعتها بقدر الله الآخر الذي أمرني به، وجعلني مكلفاً به للحق يعني: لغاية الحق وهو الله سبحانه وتعالى؛ فالله عز وجل خلق في كونه ما يحب وما يكره، وأمر الإنسان باتباع ما يحب، ونهاه عن اتباع ما يكره، مع أنه من قدره.
إذاً: الواجب الشرعي:
أن أستعمل قدر الله الذي أمرني به في رد قدر الله الآخر الذي يبغضه وينهى عنه.
إذاً: ليس كل ما قدره الله عز وجل وقضاه في هذا الكون فهو محب له، فهناك أقدار يحبها وهناك أقدار لا يحبها.
فإن قال قائل: لماذا جعلها الله عز وجل وخلقها ما دام أنه لا يحبها؟
الجواب: ابتلاءً واختباراً ونحن في دار ابتلاء واختبار.
ولهذا ابتلانا الله عز وجل بالسراء والضراء، وابتلانا الله عز وجل بالنعمة والنقمة، وابتلانا الله سبحانه وتعالى بالخير والشر، وابتلانا الله سبحانه وتعالى بالأمر والنهي؛ لينظر من يختار ما يحب الله، ويبتعد عن ما يبغض الله عز وجل وينهى عنه.
قال: [والذي ذكره الشيخ رحمه الله هو الذي أمر الله به ورسوله، ولكن كثير من الرجال غَلطِوا فيه؛ فإنهم قد يشهدون ما يُقَدَّر على أحدهم من المعاصي والذنوب، أو ما يُقَدَّر على الناس من ذلك، بل من الكفر، ويشهدون أن هذا جارٍ بمشيئة الله وقضائه وقدره].
يعني: يفعلون المنكرات ويقولون: هذا قضاء الله وقدره؛ ولهذا سيأتي أن الذين يشهدون الحقيقة الكونية أنواع، منهم الذين يحتجون بالقدر ويقولون: هذا قضاه الله وقدره في الكون -يعني: الكفر الموجود الآن- ولو كان الله عز وجل لا يحب هذا الشيء فكيف يوجد في الأرض؟!
ولهذا توصلوا إلى مقالات باطلة، والله عز وجل يقول: وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ [الزمر:7] وهم يقولون: بل يرضاه لهم؛ لأنه خلقه.
فكون الله عز وجل خلق الكفر، هذا لا يلزم أنه يحبه.
فخلق الكفار وهو يبغضهم، وخلق أعمال الكفار وهو يبغضها، وخلق كل ما في هذا الكون من الأمور المختلفة المتضادة ابتلاءً واختباراً، وأمر الناس بأوامر، وأنزل عليهم كتباً، وأرسل إليهم رسلاً، وسيحاسبهم يوم القيامة. وإذا اعتذر إنسان بالمعصية مثلاً أو بالكفر، وقال: إنك يا رب خلقته في الدنيا. يقال له: وهل كل ما خلقه الله أمرك به؟
هناك ما خلقه الله عز وجل ونهى عنه، والمطلوب من العباد هو اتباع الأمر والنهي وليس اتباع الخلق، هذا هو المطلوب من العباد.
قال: [ويشهد أن هذا جار بمشيئة الله وقضائه وقدره، داخلٌ في حكم ربوبيته ومقتضى مشيئته، فيظنون الاستسلام لذلك وموافقته والرضا به ونحو ذلك، ديناً وطريقاً وعبادةً، فيضاهئون المشركين الذين قالوا: لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ [الأنعام:148] وقالوا: أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ [يس:47]،وقالوا: لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ [الزخرف:20].
ولو هدوا لعلموا أن القدر أمرنا أن نرضى به، ونصبر على موجبه في المصائب التي تصيبنا، كالفقر والمرض والخوف، قال الله تعالى: مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ [التغابن:11]].
فأما المصائب فإن المسلم يرضى بها ويصبر عليها ويحتسب عند الله عز وجل.
وأما المعائب وهي العيوب التي ينتقد الإنسان فيها فإنه لا يجوز له أن يمارسها.
والفرق بين المصائب والمعائب يكون من ناحيتين:
الناحية الأولى: أن المصائب هي الأقدار التي يقدرها الله عز وجل على الإنسان دون اختيار من الإنسان وإرادة منه، مثل حادث سيارة، مثل مرض جسدي أو نفسيَّ أياً ما يكون، فيصبر عليه الإنسان.
والنوع الثاني من الأقدار التي تكون من المصائب: هي التي تكون بعد الفعل، يعني: أحياناً الإنسان قبل الذنب يعتبر الذنب بالنسبة له من المعائب، لكن بعد فعل الذنب وتوبته منه يعتبر من المصائب.
يعني: مثلاً إنسان أراد أن يأكل الربا؛ لأنه محتاج إلى المال وذهب إلى البنك وأثناء ذهابه إلى البنك يحتج بالقدر ويقول: هذا قدر الله عليّ! كيف قدره الله عليك وأنت قادر على الرجوع عن البنك؟
هذا كلام غير صحيح أبداً، لأنك اخترت هذا الأمر بمشيئتك.
فإن قالوا: كيف والله عز وجل يشاء أن أفعل هذا العمل، وهو بقضائه وقدره؟
نقول: نعم كل فعل سواءً كان خيراً أو شراً بقضاء الله وقدره، لكن أنت اخترت الشر.
ولهذا لعل من القصص التي تبين هذه القضية بشكل دقيق كلام عمر بن الخطاب رضي الله عنه عندما سرق رجل. فلما جيء به إليه قال: سرقت بقدر الله. قال: وأنا أقطع يدك بقدر الله) وهكذا قد يقول شخص: أنا زنيت بقدر الله. ويحتج على الفواحش وعلى المحرمات بالقدر. نقول: ويعذبك الله عز وجل يوم القيامة وعليك الإثم كذلك بقدر الله.
فإذا قال: كيف يعذبني وقد خلق هذه الأشياء؟
نقول: خلق الله عز وجل أموراً محرمة، وخلق أموراً ضارة في الكون وخلق السمّ؛ فهل تشرب السمّ؟
خلق الله عز وجل نباتات مؤذية وضارة لحكم يريدها سبحانه وتعالى، قد تبدو لنا وقد لا تبدو، وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا [الإسراء:85] فهل يمكن أن تتناولها.
وخلق سبحانه وتعالى مجرمين، فهل تذهب إليهم؟
ولهذا سيأتي كلام ابن تيمية رحمه الله أنه لو أن شخصاً جاءك وأخذ مالك وسرق بيتك وأخذ سيارتك، فهل تسلم له كل هذا وتقول: هذا قضاء الله وقدره؟ حينئذٍ تكون عرضة للمجرمين، وستكون ميت الإرادة، ولن يكون لك أي إرادة؛ ولهذا مقتضى كلام هؤلاء أن يمسخوا إرادة الإنسان، ويقولون: يجب أن تفنى إرادة الإنسان في إرادة الله عز وجل، فكل ما يريده الله في الكون يجعله الإنسان مراد الله عز وجل.
فمقتضى ومعنى كلامهم: أنه لو أنك تمشي مثلاً في السوق وجاء رجل وأدخل يده في جيبك وأخذ النقود التي في جيبك، تقول: هذه إرادة الله؛ فلا بد أن أجعل إرادتي مع إرادة الله، وإلا لو ما أراد الله لما أخذ هذا الرجل النقود من جيبي! ولمَرَّ من جانبي من دون أن يأخذ مني شيئاًً.
وهكذا لو أنه جاءك وأخذ منك مفتاح السيارة، وأخذ السيارة وذهب. مع أن هذه أمور تأباها الفطر السليمة العقول الصحيحة، إلا أن هذا القول هذا لازمه، وقد يلتزم بعض الشيوخ الحمقى من الصوفية شيئاً من هذا القبيل، يعني: قد يأتي ويمر ويحذر من مصيبة دنيوية، ومع ذلك يقع فيها ويظن أنه بهذا العمل يتعبد لله عز وجل.
وهذا من جهله وضلاله والعياذ بالله.
لكن بالنسبة للمصائب، يصح للإنسان أن يحتج بقضاء الله فيها، فإذا قدر الله عليك مصيبة بدون إرادة منك! أو فعلت ذنباً ثم ندمت عليه ندماً شديداً بعد أن فعلته، وتبت إلى الله عز وجل؛ فإن هذا الذنب يعتبر في حقك بعد أن تبت وشعرت بالألم والحرقة بسببه مصيبة؛ لأنه أمر فات لا يمكن أن ترجع عنه، فيجوز أن تحتج بالقدر عليه، أما قبل أن يفعل الإنسان الفعل ويحتج بالقدر فهذا احتجاج فاسد غير صحيح.
وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (احتج آدم وموسى، فقال موسى: أنت آدم الذي خلقك الله بيده، ونفخ فيك من روحه، وأسجد لك ملائكته، وعلمك أسماء كل شيء، فلماذا أخرجتنا ونفسك من الجنة؟ فقال آدم: أنت موسى الذي اصطفاك الله برسالاته وبكلامه، فهل وجدت ذلك مكتوباً عليّ قبل أن أخلق؟ قال: نعم. قال: فحج آدم موسى).
هذا الحديث يعتبر حديثاً عظيماً في باب الاحتجاج بالقدر، وقد فهمه بعض الناس على غير وجهه.
والحديث هو أن موسى لقي آدم فاحتج عليه، قال موسى: أنت آدم الذي خلقك الله بيده، ونفخ فيك من روحه، وأسجد لك ملائكته، وعلمك أسماء كل شيء. فلماذا أخرجتنا ونفسك من الجنة؟
ومقصود موسى أنت عندما أكلت من الشجرة، كان أكلك من الشجرة سبباً في خروجنا من الجنة، ولو لم تأكل من الشجرة لبقينا نحن ذريتك في الجنة، هذا هو احتجاج موسى.
قال له آدم: أنت موسى الذي اصطفاك الله برسالاته وبكلامه، فهل وجدت ذلك مكتوباً عليّ قبل أن أخلق؟
قال: نعم.
قال: فحج آدم موسى، يعني: غلب آدم موسى؛ لأن موسى أنكر عليه الذنب بعد أن انتهى، وآدم بين له أن هذه مصيبة بالنسبة له.
هل الكلام بين آدم وموسى هذا قبل أن يأكل من الشجرة؟ وهل قال: يا موسى هذا أمر قدره الله عليّ أنا سآكل من الشجرة وسأنزل إلى الأرض؟ لو كان الأمر بهذه الصورة لكان احتجاج آدم غير صحيح، لكن الأمر مخالف لهذا الذنب الذي حصل، وندم آدم وتاب فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ [البقرة:37] وأصبحت هذه مصيبة بالنسبة لآدم فجاء موسى واحتج عليه، فلما احتج آدم بالمصيبة دل هذا على أن الاحتجاج بالمصائب صحيح، أما الاحتجاج بالعيوب والذنوب فغير صحيح.
قال المؤلف رحمه الله: [وآدم عليه السلام لم يحتج على موسى بالقدر ظناً أن المذنب يحتج بالقدر، فإن هذا لا يقوله مسلم ولا عاقل، ولو كان هذا عذراً لكان عذراً لإبليس، وقومِ نوح، وقومِ هود وكل كافر، ولا موسى لام آدم أيضاً، لأجل الذنب، فإن آدم قد تاب إلى ربه فاجتباه وهداه، ولكن لامه لأجل المصيبة التي لحقتهم بالخطيئة..].
إذاً: الموضوع كله يتعلق بالمصيبة، والمشكلة التي حصلت عند بعض الناس هو أن المسألة فيها ذنب والذنب هو أكل آدم من الشجرة، لكن الذي لم يتنبهوا له هو أن هذا الاحتجاج حصل بعد انتهاء الأكل، وبعد أن عوقب، فالمصيبة التي حصلت هي العقوبة؛ فموسى يلومه على هذه المصيبة، وآدم يحتج بالقدر على هذه المصيبة.
إذاً: إذا سألك سائل: ما هو نوع الاحتجاج في حديث آدم وموسى؟
تقول: على المصائب.
والذي جعل الخوض موجوداً في المسألة هو وجود ذنب في هذه المسألة، وهو أكل آدم من الشجرة، لكن إذا تبين للإنسان أن هذا الاحتجاج حصل بعد الأكل، وبعد العقوبة وبعد التوبة، عرف أن المقصود بها المصيبة.
قال: [ولهذا قال له: فلماذا أخرجتنا ونفسك من الجنة؟ فأجابه آدم: إن هذا كان مكتوباً عليّ قبل أن أخلق.
فكان العمل والمصيبة المترتبة عليه مقدراً وما قدر من المصائب يجب الاستسلام له فإنه من تمام الرضا بالله رَبَّاً].
يعني بعد حصولها، لكن قبل حصولها يدافع القدر بالقدر، أما بعد حصولها وبعد أن ابتلي الإنسان بها فإنه حينئذٍ يرضى ويسلم بها.
قال: [وأما الذنوب فليس للعبد أن يذنب، وإذا أذنب فعليه أن يستغفر ويتوب، فيتوب من المعائب ويصبر على المصائب قال تعالى: فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ [غافر:55]].
فجمع بين الصبر والاستغفار، فالصبر على المصائب، والاستغفار من المعائب.
قال: [وقال تعالى: وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا [آل عمران:120]].
الصبر على المصائب، والتقوى تكون من المعائب.
قال: [وقال: وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ [آل عمران:186] وقال يوسف عليه السلام: إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ [يوسف:90]].
يعني: الذنوب إذا كانت فردية فالإنسان يستغفر منها، وإذا كانت ذنوب العباد الآخرين فإنه يحتسب عليها بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
جهاد الكفار أحياناً يكون بالدعوة، وأحياناً يكون بالقتال، وجهاد المنافقين يكون بالرد عليهم وبيان خططهم وما يمكرون به لأهل الإسلام؛ وهذا كله من دفع القدر بالقدر.
قال: [ويوالي أولياء الله ويعادي أعداء الله، ويحب في الله ويبغض في الله، كما قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ * إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ * لَنْ تَنفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ * قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ.. [الممتحنة:1-4]..]
كل هذه النصوص تميز بين المؤمنين والكفار، وبين أهل الطاعة وأهل المعصية، وبين أهل البر وأهل الفجور.
وهذا يدل على أن المطلوب من الإنسان هو العبودية الاختيارية التي هي توحيد الألوهية، أي: معنى لا إله إلا الله.
قال: [وقال تعالى:
لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ [المجادلة:22] وقال: أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ [القلم:35]، وقال: أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ [ص:28] وقال تعالى: أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ [الجاثية:21] وقال تعالى: وَمَا يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ * وَلا الظُّلُمَاتُ وَلا النُّورُ * وَلا الظِّلُّ وَلا الْحَرُورُ * وَمَا يَسْتَوِي الأَحْيَاءُ وَلا الأَمْوَاتُ [فاطر:19-22]، وقال تعالى: ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا [الزمر:29]، وقال تعالى: ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا لا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ * وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهُّ لا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [النحل:75-76]، وقال تعالى: لا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ [الحشر:20].
ونظائر ذلك كثير مما يفرق الله فيه بين أهل الحق والباطل، وأهل الطاعة والمعصية، وأهل البر والفجور، وأهل الهدى والضلال، وأهل الغي والرشاد، وأهل الصدق والكذب.
فمن شهد الحقيقة الكونية دون الحقيقة الدينية سوّى بين هذه الأصناف المختلفة التي فرق الله بينها غاية التفريق، حتى تئول به هذه التسوية إلى أن يسوي بين الله وبين الأصنام].
هذا لازم له وقد التزمها بعض طوائف الصوفية وهم أهل وحدة الوجود والحلول والاتحاد كما سيأتي معنا.
قال: [كما قال تعالى عنهم: تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ * إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ [الشعراء:97-98] بل قد آل الأمر بهؤلاء إلى أن سووا الله بكل موجود.].
بالنسبة للتسوية الواردة في الآية إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ [الشعراء:98] يعني: نسويكم برب العالمين في العبادة، قال تعالى: فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ [البقرة:22] يعني: تعلمون أنه لا ند له؛ فهو الخالق الرازق سبحانه وتعالى، ومن عرف أنه هو الخالق الرازق عبده وحده دون شريك.
هؤلاء هم أصحاب وحدة الوجود، وفكرة وحدة الوجود: هي أن هذه المخلوقات جميعاً هي الله عزَّ وجل! وكل جزء من هذه الأجزاء هي من الله سبحانه وتعالى!
فالناس من الله والكائنات من الله والأرض كلها بما فيها من المخلوقات المتناقضة العجيبة هي من الله والكون كله من الله، وعندما قيل لهم: كيف تجعلون هذه الأجزاء كلها من الله عزَّ وجل مع أن الله واحد؟
قالوا: إن هذه أجزاء من نفس الجنس وهي كموج البحر، فأمواج البحر ما لا يحصى عدداً عندما تأتي موجة والثانية والثالثة وكلها من البحر؛ هكذا يصورونها.
ولهذا يقول زعيمهم زعيم الكفر ابن عربي الطائي :
وكل كلام في الوجود كلامه سواء علينا، نثره ونظامه
فنثر الأدباء وشعر الشعراء وكلام الحمقى والمغفلين، وكل ما يوجد في الدنيا من الكلام، هو من كلام الله عزَّ وجل! قبحه الله؛ ولهذا يقول:
العبد رب والرب عبد يا ليت شعري من المكلف
إن قلت عبد فذاك رب أو قلت: رب أنى يكـلف
يعني: كيف يكلف؟ فلا تكليف إذاً!
وعلى هذا المبدأ قامت الباطنية الذين أبطلوا الشرائع وألغوا الأحكام التكليفية، لما قام علي بن الفضل خطيباً واستحل المحرمات، فهي فلسفة واحدة اختلفت الفرق في التعامل معها، لكن الجميع يسقطون التكاليف ويجعلون الإنسان إلهاً.
ولهذا عند الصوفية عقيدة مشهورة تسمى الإنسان الكامل أو الحقيقة المحمدية، ويعتقدون أن الإنسان الكامل هو الله عزَّ وجل، وأن الله عزَّ وجل هو الكون وأن كل مخلوق فهو خالق، لا يفرقون بين الخالق والمخلوق؛ فهم أشد كفراً من النصارى الذين وحدوا بين عيسى وبين الله سبحانه وتعالى، لأنهم وحدوا بين الله وبين كل المخلوقات حسنها وقبيحها.
قال المؤلف رحمه الله: [.. إذ جعلوه هو وجود المخلوقات، وهذا من أعظم الكفر والإلحاد برب العباد.
وهؤلاء يصل بهم الكفر إلى أنهم لا يشهدون أنهم عباد الله، لا بمعنى أنهم معبودون ولا بمعنى أنهم عابدون، إذ يشهدون أنفسهم هي الحق، كما صرح بذلك طواغيتهم، كـابن عربي صاحب الفصوص وأمثاله..].
هذا كتاب اسمه فصوص الحكم وهو كتاب مطبوع ومشهور، ولشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله نقد لهذا الكتاب موجود في المجلد الثاني من الفتاوى اسمه الرد القويم على صاحب الفصوص، وهو رد رائع وممتاز بين فيه ما في هذا الكتاب من الضلال.
قال: [وأمثاله الملحدين المفترين، كـابن سبعين وأمثاله ويشهدون أنهم هم العابدون والمعبودون..].
حتى ابن سبعين يحكى عنه أنه ذهب إلى غار حراء، وجلس شهراً ينتظر النبوة هناك، لأنه أخذ فكرة من الفلاسفة وهو: أن الإنسان بالرياضة يمكن أن يحصل على النبوة.
قال: [وهذا ليس بشهود لحقيقة لا كونية ولا دينية، بل هو ضلال وعمىً عن شهود الحقيقة الكونية، حيث جعلوا وجود الخالق هو وجود المخلوق، وجعلوا كل وصف مذموم وممدوح نعتاً للخالق وللمخلوق، إذ وجود هذا هو وجود هذا عندهم!].
ولهذا فإن هذه الفلسفة فلسفة خبيثة، وهي مبنية بناءً فكرياً دقيقاً أساسه: أن الله هي القدرة الموجودة في هذه الأجساد جميعاً، هذه الأجساد وهذه الكائنات كلها تمتلك قدرة، هذه القدرة نافذة وقادرة ومؤثرة وحقيقة الإله عندهم القادر المؤثر.
وبناءً على هذا، فهؤلاء كلهم يوجد فيهم العنصر الإلهي القادر المؤثر، ولهذا دفعهم هذا إلى القول بأن الإنسان إذا كان عنده الرياضة والممارسة والقوة النفسية والبدنية يمكن أن يصل إلى النبوة.
ولهذا بدأت الآن تنتشر في الأوساط، ومع الأسف أن كثيراً من الإسلاميين والدعاة يتبنون مثل هذه الأمور، وهي خطيرة، فهذه الدورات التي تسمى البرمجة اللغوية العصبية، وغيرها من هذه الدورات، لها جوانب وأهداف سلبية وسيئة جداً.
- منها: أن الإنسان يمكن أن يمشي على الجمر دون أن يتأثر.
- ومنها: أنه يمكن له أن يطير في السماء.
- ومنها ما يسمونه بالتخاطب عن بعد.
وهو: أن يكون الإنسان مثلاً في جدة، والآخر في الدمام، ويمكن له أن يوجّه أسئلة نفسية وإرادية ويستقبلها ذاك ويجيب عليها وتكون هذه الإجابات وهذه الأسئلة حقيقة مائة بالمائة.
ولا شك أن هذا نوع من الكهانة والشعوذة، وهي مبنية في الحقيقة على فكرة فلسفية إلحادية.
طبعاً أنا لا أقول بأن كل دورات البرمجة اللغوية العصبية كذلك!.
هذه الدورات لها قسمان:
قسم فلسفي: مثل الكلام الذي يقولونه حول موضوع التخاطب عن بعد، وحول التأثير، وقدرة الإنسان، وصاحبها إلى الآن موجود وحي، وكثير من الناس يأخذ عليه دورات، حتى يكون إسناده عالياً.
سئل: هل يمكن للإنسان بتعامله الذاتي وقدرته الذاتية أن يصل إلى النبوة؟
فقال: يمكن أن يصل إلى النبوة بهذا.
وهذه فكرة أصلاً فلسفية مشهورة وهي: أن الإنسان بذاته وقدرته الذاتية يمكن أن يصل إلى النبوة، بل يفسرون المعجزات بهذه الطريقة، ويقولون: المعجزات -كانفلاق البحر لموسى- حقيقتها قوة إرادية عند موسى، فموسى ليس رجلاً طبيعياً كغيره من الناس! بل هناك قوة إرادية عنده أراد أن ينقذ قومه فنظر إلى البحر فانفلق هذا البحر!
وهكذا يفسرون التأثير مثلاً في القمر، وأن هذه قوة من النفس جعلت القمر ينفلق نصفين! طبعاً ليس كل من يتعلم هذه الدورات يقول هذا الكلام، وليس كل قواعد البرمجة اللغوية والعصبية كذلك، هناك قواعد قد يكون فيها فائدة فيما يتعلق بالاهتمام بالذات والعناية بها، وتنمية قدرات الإنسان الداخلية، وقد تكون هذه القواعد قواعد صحيحة وإنسانية ومعروفة، وهي تتعامل مع النفس البشرية تعاملاً صحيحاً؛ لكن يوجد في مثل هذه العلوم -وهي: البرمجة اللغوية والعصبية- جوانب وقواعد فلسفية لا أشك في كونها إلحاداً، وبعضها من جنس السحر والشعوذة؛ ولهذا يحكون أموراً غير طبيعية، مثل: طيران الإنسان في الهواء! وأن الإنسان قادر على هذا إذا نجح مع نفسه!
ولهذا فإنهم يفسرون أي حالة، مثلاً: شخص لا يقدر أن يمشي على النار، قالوا: هذا إخفاق في نفسك، لكن يمكن للإنسان أن يكون عنده جمر مبسوط يمشي عليه، ولا يشعر بالألم، قد تتمزق رجله! لكن لا يشعر بالألم! وهذه من جنس التصرفات ومخاريق الرفاعية الذين كانوا يأتون إلى ابن تيمية رحمه الله ويقولون: نحن ندخل في النار ولا نتأثر. فطلب منهم أن يغتسلوا وإذا اغتسلوا فإنه يدخل معهم في النار.
وهذا تهديد لهم، لأنهم كانوا يطلون أنفسهم بزيت يمنع احتراق أجسادهم بالنسبة للنار..
فهذه الفلسفات كثير من الأحيان مبناها واحد، وفكرتها واحدة يعبر عنها إنسان بطريقة ويأخذ منها مقالة، ويعبر عنها إنسان بطريقة أخرى، ويعبر عنها إنسان بطريقة ثالثة.
لكن مما أحب أن أؤكد عليه هو: أنه ليس كل من يتعامل مع البرمجة اللغوية العصبية، أو يدرب عليها، أو يتدرب فيها أنه يقول بهذه الأفكار، لكن يوجد في أصل الفكرة، ويوجد من الناس من يؤمن بهذا، وبالذات موضوع التخاطب عن بعد، وموضوع الطيران في الهواء، والسير على النار..، وما إلى ذلك من المخاريق التي يقولون بها عندما ينجح الإنسان مع نفسه وإرادته.
والنصارى إنما كفّرهم الله بأن قالوا بالحلول، واتحاد الرب بالمسيح خاصة، فكيف من جعل ذلك عاماً في كل مخلوق؟! ويعلمون مع ذلك أن الله أمر بطاعته وطاعة رسوله، ونهى عن معصيته ومعصية رسوله، وأنه لا يحب الفساد، ولا يرضى لعباده الكفر، وأن على الخلق أن يعبدوه فيطيعوا أمره، ويستعينوا به على ذلك، كما قال في فاتحة الكتاب: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:5].
ومن عبادته وطاعته: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بحسب الإمكان، والجهاد في سبيله لأهل الكفر والنفاق؛ فيجتهدون في إقامة دينه مستعينين به، دافعين مزيلين بذلك ما قدر من السيئات، دافعين بذلك ما قد يخاف من آثار ذلك، كما يزيل الإنسان الجوع الحاضر بالأكل، ويدفع به الجوع المستقبل، وكذلك إذا آن أوان البرد ودفعه باللباس، وكذلك كل مطلوب يدفع به مكروه، كما قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله! أرأيت أدوية نتداوى بها ورقىً نسترقي بها، وتقاةً نتقي بها، هل ترد من قدر الله شيئاً؟ فقال (هي من قدر الله)، وفي الحديث (إن الدعاء والبلاء ليلتقيان فيعتلجان بين السماء والأرض). فهذا حال المؤمنين بالله ورسوله، العابدين لله وكل ذلك من العبادة].
نلاحظ أن ابن تيمية رحمه الله لا يرى أن أصحاب وحدة الوجود هم جزء ممن يشهد الحقيقة الكونية، بل يرى أن أصحاب وحدة الوجود لا يقرون بالحقيقتين، لا الحقيقة الكونية التي هي توحيد الربوبية، ولا الحقيقة الدينية التي هي توحيد الألوهية، بل هم لا يقرون بالربوبية ولا الألوهية؛ لأنهم لا يميزون بين الخالق والمخلوق، ولا بين الإنسان وبين الله سبحانه وتعالى.
هذا الجزء المتعلق بهذا الموضوع في كتاب منهاج السنة النبوية، فإن ابن المطهر الحلّي صاحب (منهاج الكرامة) وهو من الشيعة، استدل بهذه الآية على أن المؤمنين حسب لله، فهو يستدل بها على الشرك.
ويقول ابن تيمية : فصل. قال الرافضي: البرهان الرابع والعشرون قوله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [الأنفال:64] من طريق أبي نعيم قال: نزلت في علي ، يعني: (ومن اتبعك من المؤمنين) المقصود بها: علي، فـعلي حسب للنبي مثل الله، وهذه فضيلة لم تحصل لأحد من الصحابة غيره فيكون هو الإمام.
يعني: ومن أخذ الإمامة كـأبي بكر وعمر قبله فهم ظالمون له، وبناءً على هذا كفّرهم الشيعة قبّحهم الله.
قالوا: والجواب من عدة وجوه:
* أحدها: منع الصحة، يعني: منع أن هذا الطريق صحيح، الذي هو من طريق أبي نعيم ، وتفسير الآية غلط، فليس قوله: من اتبعك من المؤمنين المقصود بها: علي وإنما هي عامة في المؤمنين.
* الثاني: أن هذا القول ليس بحجة.
* الثالث: أن يقال: هذا الكلام من أعظم الفرية على الله عز وجل، وذلك أن قوله: حسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين معناه: أن الله حسبك وحسب من اتبعك من المؤمنين، فهو وحده كافيك وكافي من معك من المؤمنين، وهذا كما تقول العرب: حسبك وزيداً درهم.
ثم أطال الكلام في هذا الموضوع، وهذا ما يتعلق بهذا الموضوع.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر