فالقضية أن هذا العلم عبادة شرعية ينبغي للإنسان أن يتعامل معها على هذا الأساس، ثم ذكر الشيخ أن شرط العبادة: الإخلاص، ومتابعة الرسول صلى الله عليه وسلم، وسننتقل في هذا الدرس بإذن الله إلى بقية الصفات التي ينبغي على طالب العلم أن يتصف بها في نفسه.
كن سلفياً على الجادة طريق السلف الصالح من الصحابة رضي الله عنهم فمن بعدهم ممن قفا أثرهم، في جميع أبواب الدين: من التوحيد والعبادات ونحوها، متميزاً بالتزام آثار رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتوظيف السنن على نفسك، وترك الجدال والمراء والخوض في علم الكلام وما يجلب الآثام، ويصد عن الشرع].
هذه الصفة هي: أن يعتني الإنسان بأن يكون سلفياً، سنياً، متابعاً لطريقة النبي صلى الله عليه وسلم، وقد سبق أن أشرنا أن هذه الأمة افترقت كغيرها من الأمم، كما أخبر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (ستفترق هذه الأمة -يعني: المسلمين- على ثلاثة وسبعين فرقة، كلها في النار إلا واحدة، فلما سئل عنها النبي صلى الله عليه وسلم قال: من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي).
فالفرقة الناجية هي ناجية من الاختلاف والتفرق، وناجية من الهلاك أيضاً، وهم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، والتابعون لهم بإحسان، ومن سار على منهجهم وترك التفرق وأسباب التفرق، واشتغل باتباع كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم.
إذاً فيجب على الإنسان أن يكون سنياً، وهذا ليس مجال اختيار، فليس للإنسان أن يختار في أن يكون سلفياً أو لا يكون، فالمنهج السلفي ليس مثل الآراء الفقهية، علماً أن الآراء الفقهية أيضاً ليست مجال اختيار فيما يتعلق بالوجوب والتحريم، أما في قضايا الندب فالأولى أن يفعل وإن لم يفعل فلا تثريب عليه، ولكن ليس الإنسان مخيراً في أن يكون على سنة النبي صلى الله عليه وسلم أو ليس كذلك، بل يجب عليه أن يكون سنياً وأن يكون سلفياً.
والمقصود بالمنهج السلفي هنا: هو ما كان في كتاب الله، وما أجمع عليه الصحابة والتابعون ومن جاء بعدهم من أهل الاتباع، وليست السلفية أو المنهج السلفي هو آراء خاصة، فمع الأسف أنه يوجد في الدعوة الإسلامية أشخاص يتبنون مواقف من بعض العلماء، ويظنون أن من وافقهم فهو سلفي ومن خالفهم فليس كذلك، وهذا خطأ، فإن المنهج السلفي هو الالتزام بالقرآن والسنة في قضايا الاعتقاد وقضايا الأعمال ومناهج الاستدلال وما يتعلق بها.
وأما المواقف من الأشخاص فهذا مما يختلف فيه الناس، إلا إذا كان هذا الشخص رجلاً متفقاً على أنه من المبتدعة، وأمره ظاهر مشتهر ليس فيه خلاف ولا شك ولا شبهة، فإنه والحالة هذه لا شك أن من تبناه واتبعه وسار على طريقته فهو مثله على البدعة، والعياذ بالله.
لكن عندما يوجد شخص من الأشخاص وهو في جملته على أصول السنة، وهو بشر قد يخالف السنة في مسألة أو مسألتين، لكن أصوله جملته واستدلاله وطريقته ليست مثل طريقة المبتدعة، ثم يخالفه أشخاص، ثم يمتحنون الخلق على ذلك فمن وافقهم فهو سلفي، ومن خالفهم فليس بسلفي، فهذا خطأ وليس بمنهج صحيح ولا مستقيم.
لكن إذا كانت بدعته ظاهرة وبينة وليس فيها إشكال كـالجهم بن صفوان ، فإنه من وافق جهماً وأحبه ووالاه فلا شك أنه ليس على السنة.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [قال الذهبي رحمه الله تعالى: وصح عن الدار قطني أنه قال: ما شيء أبغض إلي من علم الكلام، قلت: لم يدخل الرجل أبداً في علم الكلام ولا الجدال، ولا خاض في ذلك، بل كان سلفياً. انتهى].
علم الكلام من العلوم التي تناقش قضايا العقيدة في الإلهيات، وفي السمعيات كما يسمونها، وفي النبوات، أي: فيما يتعلق بأسماء الله وصفاته، وبالألوهية وما يتعلق باليوم الآخر، والإيمان، والقدر.
فهذا العلم نشأ بسبب المجادلات بين طائفة من المسلمين مع الفلاسفة، فنشأ من خلال هذا الجدل علم سموه علم الكلام، وقد اختلف الناس في سبب تسميته بعلم الكلام، فقيل: لأنه كلام فارغ ليس هناك فائدة منه، وقيل: لأنه كلام ليس فيه استدلال، وقيل: لأنه يعتمد على مجرد الكلام وليس فيه عمل، وقيل: لأن أول مسألة ناقشها هي مسألة الكلام.
وهو علم اتفق علماء الإسلام على ذمه، لأنه جاء بمصطلحات جديدة لم تكن معروفة سابقاً مثل الجوهر، والعرض، والتحيز، والجهة، والجسم، والمركب ونحو ذلك، ولكونه يتضمن معاني باطلة مخالفة لأصول السنة في باب الأسماء والصفات والقدر ونحو ذلك.
وعلماء الكلام هم المعطلة، وهم الجبرية، وهم القدرية، وهم المرجئة، وهم الذين خالفوا السنة في أبواب كثيرة من أبواب العقيدة، وهم الذين نناقشهم كثيراً في هذه الدروس.
فهذا علم فاسد ينبغي للإنسان أن يبتعد عنه، وأن يكون سلفياً على الجادة بعيداً عن الاختلاط بهذه العلوم المذمومة.
فالتزم السبيل: وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ [الأنعام:153] ].
خلاصة هذا الأدب الرفيع هو أن الإنسان ينبغي أن يلتزم سنة النبي صلى الله عليه وسلم في طلبه للعلم، فيطلب العلوم السنية مثل: قراءة القرآن، والقراءات، وحفظ القرآن، وتفسير القرآن، وعلوم القرآن، وكذلك السنة، والحديث، ودراسة مصطلح الحديث، ودراسة ما يتعلق بهذه العلوم الشرعية، ودراسة العلوم التي تفيد في فهم الكتاب والسنة وهي علوم الوسائل، وأن يبتعد الإنسان عن كل علم من العلوم التي أضيفت إلى العلوم الشرعية وهو ليس منها، مثل: علم الكلام، وعلم الفلسفة، والمنطق ونحو ذلك، فهذه كلها علوم مذمومة فرقت المسلمين إلى فرق، وجعلتهم فرقاً وأحزاباً والعياذ بالله.
فينبغي للإنسان أيضاً أن يوظف السنة على نفسه، فيلتزم بالسنة في مظهره ومخبره، فيلتزم بالسنة في ظاهره من ناحية تشمير الثياب، وإعفاء اللحية، والحرص على السنة في الصلاة، والحرص على السنة في التعامل مع أهل العلم، والحرص على السنة في كل أبواب الدين، والذين يسمون هذه السنن قشوراً مخطئون خطأ كبيراً، والذين يسمون هذا إغراقاً في الجزئيات هذا أيضاً خطأ كبير.
فينبغي للإنسان أن يحرص على السنة في الظاهر والباطن، ومثال السنة في الباطن: التوكل على الله، ومحبة الله، وتنمية الإيمان في القلب، والحرص على أسباب الإيمان، والبعد كل البعد عما ينقص الإيمان، ومما ينقص الإيمان أن ينظر الإنسان إلى ما حرم الله سبحانه وتعالى بحجة: متابعة الأخبار، فبعض الشباب قد يكون ملتزماً، وقد يكون صالحاً، وقد يكون من طلاب العلم، لكنه يكون عنده تفريط في هذه الزاوية، فقد ينظر إلى النساء، وقد يتجاوز في استعمال القنوات الفضائية فينظر بحجة متابعة أخبار المسلمين، علماً بأن أخبار المسلمين يمكن أن تتابع بغير هذا الطريق الذي يوصل إلى المحرم، فينظر الإنسان إلى امرأة تقرأ الأخبار وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم أن ينظر الإنسان إلى النساء، والنظرة توقع الفتنة في القلب والعياذ بالله، فحينئذ يصبح الإنسان قد توصل إلى الشيء الذي يريده وهو متابعة أخبار المسلمين بوسيلة غير صحيحة، أو التساهل مثلاً في الانترنت إلى درجة مثلاً الدخول إلى المواقع الخبيثة والسيئة.
ولهذا ينبغي للإنسان أن يحرص غاية الحرص على نقاء مظهره، وباطنه، وأن يحرص على غرس الإيمان في قلبه، وأن يبتعد عن كل وسيلة من الوسائل التي تفسد عليه إيمانه.
وبعض الناس قد يقول: يا أخي! المشايخ يشاركون في القنوات الفضائية، فنقول: إن المشايخ الذين يشاركون في القنوات الفضائية أشخاص اجتهدوا، ويرون أن هناك كثيراً من المسلمين لا يحضرون المساجد، ولا يستمعون إلى المحاضرات، ولا يستمعون إلى خطب الجمعة، ولا يقرءون شيئاً مما يكتبه الدعاة إلى الله سبحانه وتعالى، وهم أمام الشاشة بشكل مستمر، فهم يريدون مخاطبة هؤلاء، والحريص فعلاً على رؤية المشايخ وعلى الاستفادة منهم، فلهم منشورات كثيرة، ولهم كتب مطبوعة في الأسواق، فهل قرأها أحد؟ ولهم أشرطة يمكن الاستماع إليها، فهل لم تبقَ إلا هذه الزاوية وهي النظر إلى المشايخ في القنوات الفضائية؟!
وقد يأتي بعض الطيبين بشيء من هذه القنوات إلى بيته ويقول: هذا أمر لا بد منه، ونحن الآن في زمن الانفتاح ونحو ذلك من الكلام، وهذا كلام كله ساقط، ولو انفتحت الدنيا كلها على الحرام فيجب ألا تنفتح أنت، وهذا من استخدام العبارات المطاطة والعائمة مثل: قضايا الانفتاح، وقضايا التواصل العالمي وغير ذلك.
فهذه الكلمات كلها لا يمكن أن تؤثر علينا فنرتكب المحرم، فالمحرم يجب تركه مهما حصل.
فينبغي للإنسان أن يكون حريصاً، وكما قلت: فأهل العلم الذين لهم رؤية معينة في المشاركة لا يقصدون مخاطبة الصالحين الذين يمكن أن يحضروا إلى المساجد ليستمعوا إليهم، وإنما قصدهم الأول: مخاطبة الذي لا يمكن مخاطبتهم إلا من خلال هذه الوسيلة.
فالذين يحتجون بهذا يحتجون به في غير مكانه، وإن كان كثير من أهل العلم يرون أن المشاركة في مثل هذه القنوات الفضائية ليس فيها مصلحة لا من قريب ولا من بعيد، لكن على كل حال فالمسألة اجتهادية، وهي قابلة للأخذ والرد وليست مسألة قطعية، هذا ما يتعلق بهذا الأدب العظيم من آداب الإنسان مع نفسه: أن يكون على السنة في كل أحواله وشئونه.
الحقيقة يا إخوان! أن من تساهل في الواقع الذي نعيش فيه فإنه سيوصله إلى كثير من المحرمات والعياذ بالله، وسيجعله يرتكب كثيراً من الآثام بحجة الاستفادة أو بأي حجة من هذه الحجج، لكن يبغي للإنسان أن يحرص دائماً على نقاء نفسه وصفائها، وأن يحرص على التزامه بالسنة في الظاهر والباطن، وأن يبتعد عن كل وسيلة من الوسائل التي تفسد عليه قلبه والعياذ بالله.
ومن ذلك ملازمة خشية الله عز وجل، فالعلم ليس المقصود به الاستكثار من المسائل، وأن يكون عندك مسائل كثيرة ومحفوظات كثيرة، وعندك قدرة أن تسرد عشرات المسائل في وقت واحد، وإنما العلم الحقيقي هو الذي يؤثر فيك فيجعل عينك تدمع من خشية الله، ويجعل قلبك يخشع من خوف الله سبحانه وتعالى، ويجعل نفسك تشتاق إلى الجنة، ويدفعك إلى الجهاد في سبيل الله، ويدفعك إلى الدعوة إلى الله، ويدفعك إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ويدفعك إلى العمل الصالح.
فهذا هو العلم النافع الصحيح، ولهذا يقول السلف: العلم علمان: علم القلب وعلم اللسان، فأما علم اللسان فهو حجة الله على عباده، وأما علم القلب فهو العلم النافع.
فعلم اللسان هو: معرفة المسائل وتشقيقاتها وتفصيلاتها ونحو ذلك، وهذا ليس مذموماً إذا انضم إليه علم القلب، لكن إذا كان الإنسان يظن أن العلم وحده هو علم اللسان فقط دون علم القلب ولا ينتفع به في قلبه، فهذا غير مستفيد في الحقيقة من هذا العلم.
ولهذا قيل لأحد العلماء: أيها العالم! فقال: لا تقل ذلك؛ إنما العلم خشية الله يعني: العلم هو الذي يورث في القلب الخشية، والخوف من الله سبحانه وتعالى، وينفع الإنسان في قلبه بالإنابة إلى الله، ويدفعه إلى الأعمال الصالحة كلها.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [وملاك ذلك خشية الله تعالى، ولهذا قال الإمام أحمد رحمه الله تعالى: أصل العلم خشية الله تعالى، فالتزم خشية الله في السر والعلن فإن خير البرية من يخشى الله تعالى، وما يخشاه إلا عالم.
إذاً فخير البرية هو العالم، ولا يغب عن بالك أن العالم لا يعد عالماً إلا إذا كان عاملاً، ولا يعمل العالم بعلمه إلا إذا لازمته خشية الله].
العلم هو الذي يدعو الإنسان إلى خشية الله، ولهذا قال السلف: كل من عصى الله فهو جاهل حتى ولو كان من أعلم الناس، أي: جاهل بقدر الله، وجاهل بحق الله، وجاهل بواجبات الإنسان الشرعية نحو الله سبحانه وتعالى.
وكل من أطاع الله فهو من أهل العلم في هذا الباب، ولهذا ينبغي للإنسان أن يحاسب نفسه دائماً، وأن يراجع نفسه، وأن ينظر إلى نفسه هل هو ما زال في طريق طلب العلم الصحيح، أم أن الأهواء والحياة قد جرفته وأخرجته عن طلب العلم الصحيح واشتغل بغيره؟ فهذا أمر يحتاج منا دائماً إلى مراجعة ومراقبة وتفكير وتأمل وعناية وحرص؛ لأن الإنسان في بعض الأحيان مع زخارف الدنيا، ومع أشغالها، ومع تقلبات الأهواء وأدواء الحياة قد ينحرف عن طريق طلب العلم وهو لا يشعر، ثم يتخبط والعياذ بالله، فتكون نهايته نهاية سيئة للغاية.
ولهذا لا بد من العناية بهذا الباب.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [وأسند الخطيب البغدادي رحمه الله تعالى بسند فيه لطيفة إسنادية برواية آباء تسعة، فقال: أخبرنا أبو الفرج عبد الوهاب بن عبد العزيز بن الحارث بن أسد بن الليث بن سليمان بن الأسود بن سفيان بن زيد بن أكينة بن عبد الله التميمي من حفظه قال: سمعت أبي يقول: سمعت أبي يقول: سمعت أبي يقول: سمعت أبي يقول: سمعت أبي يقول: سمعت أبي يقول: سمعت أبي يقول: سمعت أبي يقول: سمعت علي بن أبي طالب رضي الله عنه يقول: هتف العلم بالعمل فإن أجابه وإلا ارتحل.
وهذا اللفظ بنحوه مروي عن سفيان الثوري رحمه الله تعالى].
دوام المراقبة هي نتيجة لخشية الله سبحانه وتعالى؛ لأن خشية الله إذا حصلت في القلب فإنه يحصل دوام لمراقبة الله عز وجل في قلب الإنسان.
ولهذا ينبغي للإنسان دائماً أن يحاسب نفسه، وأعظم منزلة كما تعلمون من منازل الإيمان والإسلام منزلة الإحسان وهي: أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك، وهذه منزلة عظيمة ينبغي للإنسان أن يحرص على الوصول إليها، نكتفي بهذا القدر.
فالتفويض عند السلف هو: تفويض الكيفية، وأما المعاني فإنها مفهومة لنا، فلا يصح للإنسان أن يقول: نفوض المعنى، فمعاني صفات الله عز وجل هي المعاني المأخوذة من لغة العرب، وهي المعاني التي يوصل إليها الكلام الموجود في القرآن أو في سنة النبي صلى الله عليه وسلم.
وأما الكيفية فإنه لا يعلمها إلا الله سبحانه وتعالى، ولم يعلمنا بكيفية صفاته سبحانه وتعالى.
وصفات الله عز وجل لها كيفيات معينة، لكننا نجهل هذه الكيفيات ولا نعرفها، ولم يخبرنا الله سبحانه وتعالى عنها، بل هي من الغيب بالنسبة لنا.
وصفات الله سبحانه وتعالى الواردة في القرآن والسنة لها معانٍ تفهم من خلال السياق العام للقرآن، ومن خلال السياق العام لحديث النبي صلى الله عليه وسلم، وينتفع الإنسان بما تتضمنه من المعاني والآداب، وما تحث عليه من الأخلاق ونحو ذلك، وصفات الله عز وجل تتضمن كثيراً من الآداب، وكثيراً من الأخلاق، وكثيراً من المعاني العظيمة.
ولهذا فالسلف رضوان الله عليهم كانوا يثبتون أسماء الله وصفاته؛ لأن الله أثبتها لنفسه، ثم ينتفعون بما فيها من المعاني، وسبق أن أشرنا إلى قصة لقيط بن صبرة رضي الله عنه عندما قال له النبي صلى الله عليه وسلم: (يضحك ربنا من قنوط عباده وقرب غيره، فقال
ومن هنا فنحن نناقش الفرق الضالة في هذه المسألة من هذا الباب، فصفات الله سبحانه وتعالى نفهم معانيها، وهذا هو مقتضى كون القرآن شفاء للناس، وقد وصف الله عز وجل القرآن بأكثر من ثلاثين وصفاً، كما ذكر ذلك السيوطي في (الإتقان)، فوصفه بأنه شفاء ونور وهدى وروح، ولا يوصف بهذه الأوصاف إلا لأن معانيه واضحة، وتدعو إلى هذه الحقائق.
وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا [الشورى:52]، قال ابن أبي العز الحنفي في (شرح الطحاوية): سماه الله عز وجل رُوحًا لأن الحياة الحقيقية تتوقف على هذا القرآن، وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [الشورى:52].
وسماه بياناً، والبيان معناه الأمر الواضح البين، وقال الله عز وجل: وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ [القمر:17]، فهو ميسر من حيث حفظ ألفاظه، ومن حيث إن معانيه واضحة، فيمكن للإنسان أن يستفيد منها، ولو كانت صفات الله عز وجل لا نعرف لها معنىً كما تقول ذلك المفوضة لكان هذا القرآن ألغازاً وأحاجي لا يمكن أن يفهم له معنىً.
وهذا بعيد عن كلام الله عز وجل، فهذا القرآن أنزله الله هدىً للناس، وأنزله الله عز وجل مرشداً لهم، ومعلماً لهم، وأنزله الله عز وجل من أجل أن يخرجهم من الظلمات إلى النور، فلا يمكن أن يكون غامض المعاني، نعم قد توجد هناك بعض الآيات في معناها غموض لكن القاعدة الشرعية أن كل آية لا يفهم الإنسان معناها بشكل دقيق فيردها إلى المحكم.
وهذا هو معنى المحكم والمتشابه، فالمحكم هو الأمر الواضح، والمتشابه هو الأمر الغامض، ولا يعني هذا أن الأمر الغامض لا يمكن أن يفهم، فيمكن أن يفهم لكن برده إلى المحكم، وبرده إلى ما يشبهه من النصوص الواضحة والبينة، وقد سبق أن أشرت إلى أن شيخ الإسلام رحمه الله فصل في هذا بصورة كبيرة في كتابه (الإكليل في المتشابه والتأويل)، وسبق أن أشرنا إلى أن التأويل يأتي بمعنيين شرعيين، ومعنىً بدعي.
فأما المعنيان الشرعيان فهما: الأول: حقيقة الشيء وما يئول إليه، والمعنى الثاني: التفسير.
وأما المعنى البدعي فهو المشهور عند علماء الكلام، وهو: صرف اللفظ عن ظاهره الراجح إلى معنى مرجوح لقرينة، وهذا لا شك أنه تغيير وتبديل وتحريف لكلام الله سبحانه وتعالى.
وأما المفوضة فهم يتفقون مع المؤولة -كما سبق أن أشرنا- في أنهم فرغوا النصوص الشرعية من مدلولاتها الصحيحة، ثم اختلفوا هل تفسر هذه الألفاظ التي بين أيديهم بتأويل يجتهدون فيه؟ أو يبقونها ألفاظاً مجردة لا معاني لها؟ فقال بالأول: المؤولة، وقال بالثاني: المفوضة.
فهم اتفقوا في الحقيقة ثم اختلفوا في كيفية التعامل مع هذه النصوص المشكلة بالنسبة لهم، وهم يرون أن ظواهر الآيات في القرآن تقتضي التشبيه، وأنها تقتضي التجسيم، وأنها تقتضي التمثيل، ثم يفرغونها من معانيها بعد هذا الظن الفاسد، ثم يحاولون التصرف في المعاني إما بطريقة التأويل أو بطريقة التفويض، وكلاهما مسلك فاسد منحرف عن السنة.
وقد أطال أبو يعلى بن الفراء الحنبلي في كتابه (إبطال التأويلات) في التقعيد لمسألة التفويض التي سبق أن أشرنا إليها، واستدل عليها بأدلة كثيرة منها: آية آل عمران التي سبق أن أشرنا إليها، ورد عليه كثير من أهل العلم، وبينوا فساد قوله، ولعل أجود كلام مركز هو كلام ابن تيمية رحمه الله في كتابه (الإكليل) كما سبق أن أشرنا إليه.
وبعد أن انتهينا بشكل عام من القاعدة العامة للسلف الصالح في أسماء الله وصفاته، ننتقل إلى الأسماء والصفات بصورة تفصيلية في الكتب الثلاثة التي ندرسها، ويمكن أن نقسم مسائل الأسماء والصفات في هذه الكتب إلى قسمين: القسم الأول: مسائل كبرى أطالوا فيها الكلام، والقسم الثاني: مسائل تفصيلية، وصفات مفصلة.
فأما المسائل الكبرى التي تكررت في هذه الكتب الثلاث فهي مسألة الكلام، ومسألة الرؤيا، ومسألة العلو، فهذه ثلاثة مسائل مكررة في الكتب الثلاثة بشكل موسع وطويل، ويحتاج أن نناقشها؛ لأنها مسائل اشتهرت عند أهل العلم وصنف فيها مصنفات كبيرة، وفيها مسائل دقيقة تحتاج المناقشة.
وهناك مسائل تفصيلية وهي: الصفات بشكل مفصل، يمكن أن نقسم الصفات الموجودة في هذه الكتب الثلاث الصفات المفصلة: إلى قسمين: صفات مشتركة بين هذه الكتب، وصفات غير مشتركة، فالصفات المشتركة غير مسألة الكلام والرؤيا والعلو، ويمكن أن نذكرها على النحو التالي:
صفة الوجه، واليد، والنزول، والمجيء، والإتيان، والرضا، والمحبة، والغضب، والسخط، والكره، والعجب، والضحك، والاستواء، والعلم، ونفي المثيل والشبيه.
وهذه الصفات مكررة في (لمعة الاعتقاد)، و(الواسطية)، وانفردت (لمعة الاعتقاد) بصفة واحدة وهي صفة النفس، وأما (الواسطية) فقد انفرد شيخ الإسلام رحمه الله بمجموعة كبيرة من الصفات لم تذكر في (لمعة الاعتقاد) ولهذا تخرج من هذا نتيجة وهي: أن العقيدة الواسطية من حيث كثرة الصفات أوسع من لمعة الاعتقاد.
ففي الواسطية مثلاً مجموعة من الأسماء وهي: الأحد، والصمد، والحي، والقيوم، والعلي، والعظيم، والأول، والآخر، والظاهر، والباطن، والعليم، والحكيم، والخبير، والرزاق، وذو القوة المتين، والسميع، والبصير، والغفور، والودود، والرحمن، والرحيم، والعفو، والقدير.
هذه مجموعة من الأسماء مذكورة في (العقيدة الواسطية) ضمن الآيات التي جاء بها شيخ الإسلام رحمه الله، وهي ليست مذكورة في (لمعة الاعتقاد)، وهناك مجموعة من الصفات مذكورة في (الواسطية) وليست مذكورة في (لمعة الاعتقاد) وهي: صفة السمع، والبصر، والمشيئة، والإرادة، والرحمة، والمغفرة، والقدرة، ونفي الشريك، والفرح، والرجل، والقدم، والقرب، والمكر، والكيد بأهله، ونفي الولادة، ونفي السنة والنوم، ونفي الإحاطة بعلمه، والربوبية، والألوهية، ونفي السمي، ونفي الأنداد، والإذن، والخلق.
وكما تلاحظون أن هذه الصفات كثيرة، ويمكن أن نأخذ كل صفة ونفرد الكلام عليها بشكل طويل، لكن يمكن أن نضع قاعدة تندرج تحتها عامة هذه الصفات.
وسبق أن أشرنا إلى أن الصفات تنقسم إلى قسمين: صفات ثبوتية، وصفات سلبية أو منفية، فالصفات الثبوتية، هي الصفات التي أثبتها الله عز وجل لنفسه، والصفات السلبية أو المنفية هي الصفات التي نفاها الله عز وجل عن نفسه، وقلنا: إن الصفات الثبوتية تنقسم إلى قسمين: صفات ذاتية، وصفات فعلية.
والفرق بين الصفات الذاتية والفعلية أن الذاتية ليست متعلقة بالإرادة والمشيئة، بل هي صفات ملازمة لله عز وجل لا تنفك عنه بأي وجه من الوجوه.
وأما الصفات الفعلية: فهي صفات اختيارية يفعلها الله متى شاء، وإذا شاء.
والصفات الفعلية -الاختيارية- تنقسم إلى قسمين: صفات متعدية، يعني: لها آثار على المخلوقات، وصفات لازمة لله سبحانه وتعالى.
والصفات السلبية تأتي بصورة إجمالية، وتتضمن كمال الضد، هذا كله سبق أن أشرنا إليه وناقشناه في الدرس السابق، فهذه الصفات التي سبق أن سردناها تدخل إما في الصفات الذاتية أو في الصفات الفعلية أو في الصفات السلبية، وقاعدتها واحدة، وسبب نفي أهل البدع لها واحد أيضاً، فعندما يأتون إلى الصفات الذاتية فإنهم يعللون بتعليل يطرد على كل الصفات الذاتية، ثم قد يتناقضون في بعض الصفات التي يسمونها العقلية -وهي من الصفات الذاتية- فيفردونها بالإثبات مثل الأشاعرة.
وأما بقية الصفات الذاتية فإنهم لا يثبتونها، مثل: الوجه، واليد، والقدم، والرجل، وأيضاً من الصفات العلم، ومن الصفات الذاتية: الحياة، والقيومية، والعلو، والأولية، والآخرية، فهذه الصفات ثابتة لله عز وجل وليست متعلقة بالإرادة، بل هي ملازمة لله عز وجل في كل وقت.
وأما الصفات الاختيارية الفعلية فهي مثل: النزول، والمجيء، والإتيان، والرضا، والضحك، والمحبة، والغضب، والعجب، والاستواء، والمغفرة، والرحمة.. ونحو ذلك، وأما الصفات السلبية -وهي الصفات المنفية- فمثل: نفي السمي، ونفي الأنداد، ونفي السِّنَة والنوم، ونفي الإحاطة بعلمه، ونفي المثيل والشبيه.. ونحو ذلك.
إذاً: فينبغي أن ندرك أن أصول الصفات هي التي سبق أن أشرنا إليها، فيمكن أن تندرج مجموعة من الصفات تحت قاعدة عامة، والأصل في هذه الصفات هو: إثباتها لله سبحانه وتعالى، يعني: الصفات الذاتية نثبتها لله عز وجل، مثل: العلم، والحياة، واليد، والقدم، والعينين..، وننفي عنها مماثلة المخلوقين، ونرى أيضاً أنها ملازمة لله عز وجل في كل وقت، وأنها لا يتطرق إليها النقص بأي وجه من الوجوه، والصفات الاختيارية كذلك، لكن أهل البدع لا يثبتون الصفات الذاتية، ويقولون: إن ذلك يقتضي التركيب، وينفون أيضاً الصفات الاختيارية ويقولون: لأن ذلك يقتضي الحدوث.
فنفوا الصفات الذاتية لأنها تقتضي التركيب، ونفوا الصفات الفعلية لأنها تقتضي الحدوث، وقد اضطربوا اضطراباً كبيراً جداً فيما يتعلق بصفات الله عز وجل الذاتية؛ لأنهم أثبتوا جملة منها كالحياة، والعلم، ونفوا نظيرها.
ولهذا نجد ابن تيمية رحمه الله في (التدميرية) قعد قاعدة ممتازة جداً ترد على هؤلاء المبتدعة، وهي: أن القول في بعض الصفات كالقول في بعض، فعندما أثبتوا صفة العلم ونفوا صفة اليدين قلنا لهم: لماذا؟ وما هو السبب؟ قالوا: إثبات اليدين يقتضي التمثيل، قلنا: وأيضاً يلزمكم أن يكون العلم يقتضي التمثيل، قالوا: لا، العلم يليق به، قلنا: وكذلك اليدان تلقيان به، لماذا العلم يليق به واليدان لا تليقان به؟ فهذا تحكم فاسد، قالوا: اليدان يقتضيان التركيب قلنا: كلمة التركيب هذه كلمة لم ترد في القرآن ولم ترد في السنة فهي اصطلاح، فأخبرونا ما معناه؟
فإن كنتم تقصدون بالتركيب أنه عبارة عن أعضاء كأعضاء الآدمي مركبة فهذا معنى ننفيه ولا نثبته لله سبحانه وتعالى، وإن كنتم تقصدون بالتركيب التركيب الذهني، يعني: أنكم تتخيلون أن له يدين وله علم وله سمع، وأن هذه الثلاثة ستقتضي التركيب فيلزمكم حينئذ التركيب في إثبات الحياة والعلم التي تثبتونها، فإن قالوا: هذا لا يقتضي التركيب، قلنا: وكذلك هذا لا يقتضي التركيب، والتركيب مصطلح حادث أنتم أتيتم به، فلا نحاكم النصوص الشرعية إلى مصطلحاتكم الحادثة التي جئتم بها.
ولهذا يا إخواني! فالمصطلحات الكلامية، والمصطلحات الصوفية، والمصطلحات الصحفية التي بدأت تظهر الآن لا يصح للإنسان أبداً بأي وجه من الوجوه أن يحاكم الناس إليها أو يحاكم النصوص الشرعية إليه، وإنما إذا تكلم بها أحد نقول له: ماذا تعني بهذا الكلام؟ وماذا تقصد به؟ فإن كان يقصد به معنىً صحيحاً شرعياً قُبل، وإن كان يقصد به معنىً مخالفاً للشريعة فإنه يرد.
ونقول أيضاً: إنه لا يصح للإنسان أن يستخدم المصطلحات المطاطية والمصطلحات العامة في القضايا الخاصة، فإن القضايا الدقيقة الخاصة ينبغي أن تستخدم لها ألفاظ دقيقة خاصة تدل عليها، فمثلاً كلمة حوار الآن أصبح يرددها كثير من الناس، وأننا الآن في عالم الحوار، والحوار مع الآخر، وحتى كلمة الآخر هذه ليس لها معنىً محدد، فالآخر يحتمل أن المقصود به: النصارى والملاحدة، ويحتمل أن يقصد به المخالف لي في مسألة فقهية؛ لأنه فعلاً آخر.
فالكلمات المطاطية العامة بهذا الأسلوب لا يصح استخدامها خصوصاً في القضايا العقدية الحساسة التي ينبغي فيها التفصيل والكلام الدقيق، والتي ينبغي أن يكون الإنسان فيها دقيقاً في ألفاظه؛ حتى يحدد الأمور بشكل دقيق، وأما استخدام الكلام العام الإجمالي الذي يحتمل حقاً وباطلاً فهذه ليست طريقة شرعية، وإنما الطريقة الشرعية استخدام المصطلحات الشرعية أو على الأقل استخدام الألفاظ الخاصة التي تدل على معناها دون أي إشكال.
فكلمة الحوار يمكن أن يفهم الإنسان منها التقارب مع الآخرين، فيقول لك: حوار الأديان، فكلمة حوار الأديان كلمة عامة جداً، ماذا تقصد بحوار الأديان؟ هل تقصد دين النصارى مثلاً أو اليهود أو غيرهم من أصحاب الأديان الأخرى ونتقارب بحيث نتنازل عن قضية العداء للكفار والولاء للمؤمنين، إن كان هذا هو المعنى فهذا معنىً فاسد تخالفه النصوص.
وإن كان معنى الحوار: الدعوة، فندعوهم ونكلمهم فهذا طبيعي، فالدعوة توجه إلى المسلم، وتوجه إلى الكافر، وتوجه إلى النصراني، وتوجه إلى الملحد، والأولى أن نستخدم كلمة الدعوة ولا نستخدم كلمة الحوار التي فيها إشكال.
وإن كان يقصد بالحوار أن نترك القضايا العقدية ونتحاور في المصالح المشتركة بيننا وبينهم مثل: نفي الفقر ونحو ذلك، فنقول: وما علاقة الأديان بهذا؟ لماذا سميته حوار الأديان؟ فهذا تتبناه بعض الدول وله ضوابط شرعية في السياسات الشرعية، وهو بالجملة بعيد عن السنة باعتبار أن الذي ينبغي على الإنسان نحو أصحاب الأديان هو دعوتهم إلى الله عز وجل، وبيان التوحيد، وإنكار الشرك ونحو ذلك.
ولهذا يا إخواني! أنا أتمنى من الإخوة جميعاً أن يقرءوا رسالة شيخ الإسلام رحمه الله إلى ملك قبرص، وهو ملك نصراني أرسل إليه شيخ الإسلام رحمه الله رسالة عجيبة جداً تمتلئ عزة، وهذا نموذج للحوار، وفيها بيان للتوحيد، وفيها رد للشرك، وفيها السؤال عن أسراء المسلمين، وفيها قضايا متعددة وكثيرة ومهمة.
فهذا نموذج من نماذج الحوار، فالحوار لا يقتضي مثلاً إلغاء قضية محكمة، ونحن لا نريد الإطالة في موضوع الحوار كقضية، وإنما الهدف هو أن الكلمات الإجمالية لا يصح استخدامها في المسائل التفصيلية الدقيقة، وإنما ينبغي للإنسان أن يستخدم الألفاظ التي توصل إلى معانيها بدون إشكال.
فهم قالوا: التركيب يقتضي نفي الصفات الذاتية، وقالوا: الحدوث يقتضي نفي الصفات الفعلية، ومعنى الحدوث عندهم وجود الشيء بعد أن لم يكن موجوداً، وقالوا: إن الصفات المتعلقة بالإرادة لا بد أن تدل على الحدث.
فإذا كان الله عز وجل ضحك بعد أن لم يكن يضحك سابقاً، ثم ضحك مرة أخرى ثم ضحك مرة ثلاثة، فهذه تقتضي أن كل صفة من الصفات تستلزم حدوث هذه الصفة، والحدوث هو صفة المحدثات والمخلوقات ولا يصح وصف الله عز وجل به.
والجواب أن نقول: كلمة الحدوث كلمة إجمالية وعامة ما هو مدلولها المعنوي؟ قالوا: معناها وجود الشيء بعد أن لم يكن، قلنا: أتقصدون بوجود الشيء بعد أن لم يكن أن الله عز وجل لم يكن قادراً عليه ثم قدر عليه؟ إن كنتم تقصدون هذا فهو معنىً باطل، فالله عز وجل قادر على كل شيء، وإن كان المقصود أن الله عز وجل ضحك، أو نزل، أو عجب سبحانه وتعالى، أو استوى في وقت دون وقت فهذا متعلق بإرادته سبحانه وتعالى، وهو: فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ [البروج:16]، وله الحكمة البالغة في كل ما يريد.
فحتى لو سميتم ذلك حدوثاً فهذا لا يغير المعنى، ونحن نسمي هذه الصفة اختيارية فقد فعلها الله سبحانه وتعالى في الوقت الذي أرادها سبحانه وتعالى، وليس فيها أي إشكال أو أي نقص بأي وجه من الوجوه، بل إن فيها تعظيماً وكمالاً لله عز وجل؛ لأنه فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ [البروج:16]، وأنه يفعل متى شاء وكيف شاء في الوقت الذي يشاء، وهو سبحانه وتعالى له الصفات الخاصة التي تليق به دون مشابهة أو مماثلة للمخلوقين.
إذاً فهذه الشبه شبه باطلة، وسببها أن هؤلاء لم يدرسوا العلم الشرعي بالمنهاج المستقيم، ولم يشتغلوا بدراسة الحديث، ولم يشتغلوا بدراسة القرآن وتفسير القرآن، لم يشتغلوا بهذه العلوم، وإنما هؤلاء أهل كلام، فطريقتهم في طلب العلم هو أنهم منذ أن ينشأ الإنسان وهو يشتغل بعلوم المنطق، والجدل، والفلسفة ونحو ذلك.
ولهذا يذكر ابن تيمية رحمه الله عن كثير من هؤلاء أنه كان لا يعرف الفرق بين بعض الآيات والأحاديث، بل إن بعضهم كان يقرأ: المص فيقول: (المص)؛ لجهله بالقرآن؛ لأنه ما يشتغل بقراءة القرآن، وكان بعضهم إذا استدل عليه بآية قال: لا نسلم بصحة هذا الحديث! فيظن أنها حديث؛ لأنهم تعودوا في الجدل والمناظرة أن إذا قيل لك: إذا استدل عليك بنص فأنت تقول: لا نسلم بصحته، فإن كان صحيحاً فتقول: لا نسلم بدلالته، فإن كانت دلالته في هذه المسألة فتقول: موقع الاستدلال ليس هنا، وإنما هو في مكان آخر، فهذا تركيب جدلي معين يستخدمونه في المجادلات التي تحصل بينهم.
فعندما يستدل عليه بآية فما يدري أنها آية فيقول: لا نسلم بصحة الحديث، ويظن أنها حديث!!
ولهذا يا إخواني! اشتغل هؤلاء بغير العلم الشرعي فتورطوا في هذه البدع وأصلوها، وجعلوها أساساً في حياة الأمة.
وأما الصفات السلبية فهم لا ينفونها؛ لأنها لا تتضمن معنىً ثبوتياً، ولهذا يكثرون منها، فكما سبق أنهم يكثرون من الصفات السلبية، ولا يشتغلون بالصفات الثبوتية؛ فيفصلون في السلب، ويجملون في النفي، وهذه خلاف طريقة القرآن الكريم.
قال الموفق ابن قدامة رحمه الله في كتابه (لمعة الاعتقاد): قال الإمام أبو عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل رضي الله عنه في قول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله ينزل إلى السماء الدنيا)، (إن الله يُرى في القيامة)، وما أشبه هذه الأحاديث نؤمن بها، ونصدق بها لا كيف ولا معنىً، ولا نرد شيئاً منها، ونعلم أن ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم حق].
ذكر الإمام أحمد الواجب نحو هذه الصفات فقال: نؤمن بها، ونصدق بها لا كيف، يعني: لا نحدد الكيفية، وليس المقصود نفي الكيف في نفس الأمر، وإنما المقصود: لا نعلم الكيف ولا نحدده؛ لأن هذا غير معلوم بالنسبة لنا.
قوله: (ولا معنىً) هذه الكلمة يوجد لها أشباه في بعض أقوال السلف، وهي من أعظم القضايا التي احتج بها المفوضة، فقالوا: هذا الإمام أحمد ينفي المعنى، وأنتم تقولون: إنه يجب أن نثبت المعنى وننفي الكيفية، فكيف تجمعون بين قول الإمام أحمد هذا وبين قولكم؟
فنقول: إن الإمام أحمد يقرر في كثير من كتبه أن هذا القرآن جاء بياناً وهدىً للناس، وأن معانيه واضحة، وأن معاني الصفات واضحة، فما أشكل من كلام الإمام أحمد هنا نحمله على الواضح من كلامه، فيكون معنى قوله: (ولا معنى) ولا معنى من المعاني الفاسدة التي ظهرت في زمانه.
فهناك معان فاسدة ظهرت، فحرفوا بها صفات الله سبحانه وتعالى، فهو ينفي هذا المعنى، وليس المقصود من كلامه رحمه الله: أن نصوص الصفات ليس لها معان؛ لأنه قد صرح في أماكن متعددة في كتاب (الرد على الجهمية) بأن هذه النصوص لها معانٍ، وأنّا نثبتها كما يدل عليها مقتضى لغة العرب.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ونعلم أن ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم حق، ولا نرد على رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا نصف الله بأكثر مما وصف به نفسه بلا حد ولا غاية].
كلمة: (بلا حد ولا غاية) من الأمور أيضاً التي أشكلت عند بعض الناس، فما معنى قول الإمام أحمد رحمه الله: بلا حد ولا غاية؟
قوله: (بلا حد) المقصود به نفي التماثل الذي جاء به المجسمة والمشبهة، فليس له حد محدود يمكن للإنسان أن يتخيل كيفية له، قوله: (ولا غاية) يعني: وليست له غاية محددة.
وهذا الكلام العام للإمام أحمد قد يستغله البعض في نصرة بعض أقوالهم وآرائهم، لكن نحن كما نعلم أن أهل العلم بشر، وأنه يوجد في بعض كلامهم كلام عام أو مشكل، ويوجد في بعض كلامهم كلام تفصيلي وبيِّن، فنحمل الكلام المشكل على الكلام البيِّن.
فنحن نعرف من خلال موقف الإمام أحمد في الفتنة، ومن خلال النصوص المنقولة عنه، ومن خلال كتبه مثل (الرد على الجهمية) فموقف الإمام أحمد رحمه الله من هذه المسائل على نحو ما سبق أن أشرنا وبيّنا.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ولا نصف الله بأكثر مما وصف به نفسه بلا حد ولا غاية، لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ [الشورى:11]، ونقول كما قال، ونصفه بما وصف به نفسه لا نتعدى ذلك، ولا يبلغه وصف الواصفين، نؤمن بالقرآن كله محكمه ومتشابهه، ولا نزيل عنه صفة من صفاته لشناعة شنعت].
يقصد بالشناعة هنا شبه أهل الكلام وشبه المعطلة مثل: التركيب، والتجسيم، والحدوث، والجهة ونحو ذلك من الأمور التي سبقت أن أشرنا لها.
قال المصنف: [ولا نتعدى القرآن والحديث، ولا نعلم كيف كنه ذلك إلا بتصديق الرسول صلى الله عليه وسلم، وتثبيت القرآن].
هذا الكلام من الإمام أحمد رحمه الله عام في طريقة السلف رضوان الله عليهم -وهو منهم- في التعامل مع نصوص الصفات.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [قال الإمام أبو عبد الله محمد بن إدريس الشافعي رضي الله عنه: آمنت بالله، وبما جاء عن الله، على مراد الله، وآمنت برسول الله، وبما جاء عن رسول الله، على مراد رسول الله].
تلاحظون أنه في هذا الكلام يقرب قاعدة عامة في الصفات وفي غيرها، وأنه ينبغي للإنسان أن يؤمن بما جاء عن الله؛ لأنه مؤمن بالله، فما دام أنه مؤمن بالله فإنه يلزمه أن يؤمن بكل ما جاء عن الله سبحانه وتعالى، وكذلك الحال مع الرسول صلى الله عليه وسلم.
قوله: (لتأويله) يعني: لصرفه عن ظاهره، وقد سبق أن أشرنا إلى أن ابن قدامة رحمه الله له كلام فيه نظر في قضية التعامل مع معاني صفات الله سبحانه وتعالى.
فيفهم من كلامه أنه لا يمكن لنا إدراك معاني صفات الله عز وجل، ولا شك أن هذا غير صحيح، لكن أيضاً لا يمكن للإنسان أن يقول: إن ابن قدامة رحمه الله من المفوضة، فهو وإن أخطأ في هذه المسألة إلا أنه ليس من المفوضة؛ لأن المفوضة ينفون الصفات أولاً، ثم ينكرون أن يكون لها معان ثانياً، فهو خالفهم في الصفات، حيث أثبت الصفات كما سيأتي معنا، لكنه أشكل عليه موضوع المعنى؛ لأنه ظن أن الصفات من المتشابه، وفهم آية آل عمران بأن الراسخين في العلم لا يمكن أن يعرفوا المعنى، وأن الوقف لازم، ففهم من هذا أن المعاني لا يمكن إدراكها، مع أنه يثبت الصفات.
ولهذا يعتبر هذا في حد ذاته تناقضاً، لكن لا يصح أن ننسب إماماً مثل ابن قدامة المقدسي رحمه الله إلى التفويض؛ لأن ابن قدامة رحمه الله كان على منهج السلف بدليل إثبات الصفات كما سبق أن أشرنا.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [وقد أمرنا بالاقتفاء لآثارهم، والاهتداء بمنارهم، وحذرنا المحدثات، وأخبرنا أنها من الضلالات، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، عضواً عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور؛ فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة).
وقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: اتبعوا ولا تبتدعوا فقد كفيتم!
وقال عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه كلاماً معناه: قف حيث وقف القوم؛ فإنهم
عن علم وقفوا، وببصر نافذ كفوا، ولهم على كشفها كانوا أقوى، وبالفضل لو كان فيها أحرى، فلئن قلتم حدث بعدهم فما أحدثه إلا من خالف هديهم، ورغب عن سنتهم، ولقد وصفوا منه ما يشفي، وتكلموا منه بما يكفي، فما فوقهم محسر، وما دونهم مقصر، ولقد قصر عنهم قوم فجفوا، وتجاوزهم آخرون فغلوا، وإنهم فيما بين ذلك لعلى هدى مستقيم].
سيأتي معنا إن شاء الله مبحث خاص عن موضوع الوسطية ومفهومها الشرعي ومعناها، وابن تيمية رحمه الله أفرد جزءاً من (الواسطية) للكلام على مفهوم الوسطية ومعناها، فما هو معنى الوسطية؟ ومتى يكون الإنسان وسطياً؟ لأن الدعاة الذين يتكلمون عن الوسطية كثر، وأصبح كثير من المتساهلين وكثير من الذين يركنون إلى الدنيا يسمون منهجهم وسطياً، في مقابل أنهم يعتبرون مثلاً المجاهدين من المتشددين، مع أن الحقيقة أن المجاهد لا يعتبر متشدداً بل هو الوسطي الذي وافق سنة النبي صلى الله عليه وسلم، وما دونه مقصر ولا شك.
قال المصنف رحمه الله: [وقال الإمام أبو عمرو رضي الله عنه: عليك بآثار من سلف وإن رفضك الناس، وإياك وآراء الرجال وإن زخرفوه لك بالقول].
الله أكبر، فالإنسان يحرص دائماً على النصوص الشرعية، وعلى ما تدل عليه من المعاني، وأما ما يزخرفه كثير من الناس ويزينه من الأقوال فينبغي عرضها على الكتاب والسنة، فإن كانت موافقة قبلت، وإن لم تكن موافقة فينبغي للإنسان ألا يشتغل بزخرفة هؤلاء عن الحق.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [وقال محمد بن عبد الرحمن الأذرمي لرجل تكلم ببدعة ودعا الناس إليها].
هو محمد بن عبد الرحمن الأذرمي بالذال، وقد ترجم له الخطيب البغدادي رحمه الله في (تاريخ بغداد)، وقال ذلك لرجل تكلم ببدعة ودعا الناس إليها، وهذا في مناظرة له مع ابن أبي دؤاد ، وقد تمت بين يدي الواثق ، والأذرمي هذا رجل من أهل السنة، وذلك عندما بدأت فتنة خلق القرآن واشتهرت، واستمرت في عصر المأمون ثم عصر المعتصم حتى جاء الواثق .
وكان المعتزلة يمتحنون الناس، ويتخذون السلطة وسيلة من وسائل الضغط على أهل السنة في تغيير مناهج الناس وعقائدهم، فثبت أئمة السنة وخصوصاً الإمام أحمد رحمه الله، واشتهر وصار معروفاً لثباته على السنة، فجاء الرجل الأذرمي وناقش ابن أبي دؤاد مناقشة دقيقة جداً، وابن أبي دؤاد ليس من أهل العلم، فالذي يرجع إلى أحداث الفتنة ويقرأ مناقشة الإمام أحمد رحمه الله لهم يدرك أن ابن أبي دؤاد لم يكن من أهل العلم، ولا كان يشتغل بالعلم، وكان الإمام أحمد رحمه الله يقول للمعتصم : يا أمير المؤمنين! أعطوني آية من كتاب الله أقول بها، أو حديثاً عن النبي صلى الله عليه وسلم، فكانوا يردون عليه ويقولون: وأنت ما تعرف إلا القرآن والحديث، وهنا تدرك العقلية التي يفكر بها هؤلاء.
فالمهم أن هذا الرجل الأذرمي جاء إلى الواثق وناظر ابن أبي دؤاد وأحرجه أمام الواثق ، وبعد هذه المناظرة انقطعت الفتنة.
فجاء وسأل ابن أبي دؤاد فقال له: مقالتك هذه التي تقول بها هل قال بها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر وعثمان وعلي أم أنهم لم يقولوا بها؟ قال: ما عرفوها ولا قالوا بها، فقال: مقالة لم يعرفها رسول الله، ولا أبو بكر ولا عمر ولا عثمان ولا علي عرفتها أنت يا ابن أبي دؤاد ؟! يعني: من أين عرفتها؟! فقال: أجزني، يعني: أعد علي السؤال.
فقال: مقالتك هذه التي جئت بها هل عرفها رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ وهل آمن بها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر وعثمان وعلي ؟ فقال: نعم عرفوها وآمنوا بها، يعني: قضية خلق القرآن، قال: فهل امتحنوا الناس بها؟ وهذا السؤال عن التاريخ، ولا يستطيع ابن أبي دؤاد مهما كان ومهما أوتي من الجدل أن يقول: نعم امتحنوا الناس بها؛ لأن سيرة النبي صلى الله عليه وسلم مكشوفة للناس، والناس كلهم يعرفون أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يمتحن الناس على قضية خلق القرآن، بل إنها لم ترد في نصوصه عليه الصلاة والسلام، فقال: لا، يعني: لم يمتحنوا الناس عليها، فقال له الأذرمي رحمه الله: أما وسعك يا ابن أبي دؤاد ما وسع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر وعثمان وعلياً ؟! يعني: لماذا لا تكون مثلهم؟! فأنت أصبحت تمتحن الناس، فألقى الواثق ظهره على الأرض وأصبح يردد كلامه ويقول: ما شاء الله.. ما شاء الله، مقالة لم يعرفها رسول الله، ولا أبو بكر ولا عمر ولا عثمان ولا علي وعرفتها أنت يا ابن أبي دؤاد ؟! ثم أمر بإيقاف الفتنة، ثم تحسن الوضع بشكل أكبر وهزمت المعتزلة تماماً في زمن المتوكل .
قال المصنف رحمه الله تعالى: [وقال محمد بن عبد الرحمن الأذرمي لرجل تكلم ببدعة ودعا الناس إليها: هل علمها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر وعثمان وعلي أو لم يعلموها؟ قال: لم يعلموها، قال: فشيء لم يعلمه هؤلاء علمته أنت؟! قال الرجل: فإني أقول: قد علموها، قال: أفوسعهم ألا يتكلموا به ولا يدعوا الناس إليه أم لم يسعهم؟ قال: بلى وسعهم، قال: فشيء وسع رسول الله صلى الله عليه وسلم وخلفاءه لا يسعك أنت؟! فانقطع الرجل، فقال الخليفة وكان حاضراً: لا وسع الله على من لم يسعه ما وسعهم، وهكذا من لم يسعه ما وسع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه والتابعين لهم بإحسان والأئمة من بعدهم والراسخين في العلم من تلاوة آيات الصفات، وقراءة أخبارها، وإمرارها كما جاءت فلا وسع الله عليه].
ثم بدأ ابن قدامة رحمه الله في التفصيل في صفات الله سبحانه وتعالى وننتقل إلى الواسطية.
[بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا [الفتح:28]، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إقراراً به وتوحيداً، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً مزيداً، أما بعد:
فهذا اعتقاد الفرقة الناجية المنصورة إلى قيام الساعة: أهل السنة والجماعة، وهو: الإيمان بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، والبعث بعد الموت، والإيمان بالقدر خيره وشره.
ومن الإيمان بالله الإيمان بما وصف به نفسه في كتابه، وبما وصفه به رسوله من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل، بل يؤمنون بأن الله سبحانه: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ [الشورى:11] ].
بدأ الشيخ في البداية بتقرير أن هذه العقيدة التي سيكتبها هي عقيدة الفرقة الناجية المنصورة إلى قيام الساعة، ثم بين أنهم يؤمنون بالأركان الستة، ثم بين أن من الإيمان بالله: الإيمان بأسمائه وصفاته.
والإيمان بالله يتضمن الإيمان بربوبيته، والإيمان بإلوهيته، والإيمان بأسمائه وصفاته، فبدأ بنوع واحد من هذه الأنواع وهو الإيمان: بأسماء الله وصفاته.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [فلا ينفون عنه ما وصف به نفسه، ولا يحرفون الكلم عن مواضعه، ولا يلحدون في أسماء الله وآياته، ولا يكيفون، ولا يمثلون صفاته بصفات خلقه؛ لأنه سبحانه لا سمي له، ولا كفء له، ولا ند له، ولا يقاس بخلقه سبحانه وتعالى، فإنه سبحانه أعلم بنفسه وبغيره، وأصدق قيلاً، وأحسن حديثاً من خلقه، ثم رسله صادقون مصدقون بخلاف الذين يقولون عليه ما لا يعلمون، ولهذا قال: سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ * وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ * وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الصافات:180-182].
فسبح نفسه عن ما وصفه به المخالفون للرسل، وسلم على المرسلين لسلامة ما قالوه من النقص والعيب، وهو سبحانه قد جمع فيما وصف وسمى به نفسه بين النفي والإثبات].
أثبت الله لنفسه بعض الصفات ونفى عن نفسه بعض الصفات، فجمع بين النفي والإثبات، وهذا هو الذي جعلنا نقول: إن الصفات تنقسم إلى ثبوتية، وسلبية أو منفية.
قال المصنف رحمه الله تعالى: [فلا عدول لأهل السنة والجماعة عما جاء به المرسلون؛ فإنه الصراط المستقيم؛ صراط الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين].
ثم شرع الشيخ بعد ذلك بالحديث المفصل عن صفات الله سبحانه وتعالى، وفي اللقاء القادم بإذن الله سنتحدث عن الصفات بشكل تفصيلي: صفة الوجه واليد والنزول والمجيء والإتيان وغيرها، ولا بد أن نربطها بالقاعدة التي سبق أن أشرنا إليها فيما يتعلق بالصفات الذاتية والفعلية، والصفات السلبية بإذن الله تعالى.
أسأل الله عز وجل أن يوفقنا وإياكم لكل خير؛ إنه على كل شيء قدير.
الجواب: هناك خلاف بين المفسرين: فبعضهم يرى أنه واجب، وبعضهم يرى أنه ليس بواجب، والمسألة فيها متسع ولله الحمد، والخلاف واسع في هذه المسألة، ويبدو والله تعالى أعلم أن الراجح: أن الوقف ليس بواجب وإنما هو جائز، ومن رأى من أهل العلم أن الوقف واجب فإن رأيهم محترم، ويكون التأويل حينئذ بمعنى حقيقة الشيء، وهذا هو الشيء الذي لا يعلمه إلا الله عز وجل.
وأما على رأي من يرى الوصل فإن التأويل يكون بمعنى التفسير، ولهذا يروى عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال: أنا من الراسخين في العلم الذين يعلمون تأويله، يعني: تفسيره، ولا يقصد كنه الشيء وحقيقة الشيء.
الجواب: الأشاعرة أثبتوا الصفات السبع بناء على الأدلة العقلية، فإنهم استدلوا بالعقل على أن الإله لا بد أن يكون حياً، ولا بد أن يكون عالماً، ولا بد أن يكون سميعاً بصيراً، ولا بد أن يكون مريداً.
ولا يمكن للحي إلا أن يكون متكلماً، فاستدلوا بالعقل على هذه الصفات السبع التي قالوا بها، ثم قالوا: إن ما عداها من الصفات التي لا تثبت إلا عن طريق النقل نؤولها؛ لأنها تقتضي التركيب أو الحدوث على نحو ما سبق.
إذاً: فليس دليلهم دليلاً شرعياً، وإنما هو دليل عقلي، وقد يأتون بالنصوص من باب الاعتضاد وليس من باب الاعتماد، فيستدلون بها على إثبات هذه الصفات.
الجواب: صفة الاستواء صفة اختيارية؛ لأنه لم يفعلها الله عز وجل إلا بعد أن خلق العرش ثم استوى عليه، فهي من الصفات الاختيارية الفعلية التي حصلت بعد خلق العرش، ولو كانت صفة ذاتية ملازمة لكانت موجودة منذ أن كان الله عز وجل قبل أن يخلق العرش، لكن هذه الصفة فعلها الله عز وجل بعد أن خلق العرش، ولهذا فهي من الصفات الاختيارية.
لكن قد يقول الأخ: هل معنى هذا أنها من الصفات الاختيارية بمعنى: أنه إن شاء استوى وإن شاء لم يستو؟ فنقول: نعم، هو إن شاء استوى وإن شاء لم يستو سبحانه وتعالى، لكنه أخبر عن نفسه بأنه استوى، وأما ما بعد ذلك فإنه لم يرد تفصيل يجعل الإنسان يحدد هل هو مستمر أم لا، فالأصل قوله: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه:5]، ففيه أنه مستوٍ كما يليق بجلاله.
لكن ليست هناك نصوص إضافية تبين أكثر من هذا، ولهذا نقف عند هذا الحد؛ لأن هذا من علم الغيب الذي لا يعلمه إلا الله سبحانه وتعالى.
الجواب: الذي يبدو -والله تعالى أعلم- أن الصفات الفعلية جميعاً هي ذاتية باعتبار، وفعلية باعتبار آخر، فذاتية باعتبار القدرة عليها، وفعلية باعتبار آحادها تفصيلاً، وهذا ليس خاصاً بصفة الكلام.
الجواب: تفسير القاسمي بالجملة معدود في تفاسير أهل السنة، لكن قد يقع في الخطأ، والإنسان لا يصح له أن يأخذ الخطأ حتى لو كان من عالم من علماء أهل السنة.
الجواب: الرسول صلى الله عليه وسلم لم يسمِّ هذه الفرق، وإنما ذكر أن هذه الأمة ستفترق إلى ثلاثة وسبعين فرقة، ولم يحدد هذه الفرق بأسمائها، لكنه ذكر أن هذه الأمة ستفترق وفعلاً حصل الافتراق، وهذه الفرق المذكورة هي من الفرق التي خرجت عن السنة.
لكن ينبغي أن يتنبه إلى أن الفرق التي ذكرها النبي صلى الله عليه وسلم هي الفرق التي تبتدع بدعاً، وليست الفرق الخارجة عن الإسلام؛ لأنه قال: (ستفترق هذه الأمة)، وهذه الأمة المقصود بها أمة الإجابة وهم المسلمون، فأما الدروز وغلاة الشيعة وغلاة الصوفية فإنهم ليسوا من هذه الفرق، بل هم من الفرق الكافرة الخارجة عن الإسلام.
الجواب: لا يلزم أن يكون هذا نفاقاً.
لكن يبغي للإنسان أن يجتهد في أنه إذا خرج من الدرس أن يستمر على الإيمان الموجود عنده، وأما الضحك فالضحك في حد ذاته ليس مخالفاً للإيمان، فقد كان الصحابة رضوان الله عليهم يضحكون وفي قلوبهم مثل الجبال من الإيمان، فالضحك ليس ملازماً لضعف الإيمان، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يضحك ويقول: (تبسمك في وجه أخيك صدقة).
فالخطأ ليس هو الضحك، وإنما الخطأ هو معصية الله عز وجل، فبعض الناس يظن أن الضحك علامة على الغفلة، وهذا غير صحيح؛ فالنبي صلى الله عليه وسلم كان يضحك، والصحابة كانوا يضحكون، وليس في الضحك مشكلة إلا إذا بالغ الإنسان فيه حتى خرج عن حده الطبيعي، فإنه قد يكون دليلاً ضعف الإيمان.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر