أما بعد:
فإن هذا الدين الذي بعث الله به محمداً صلى الله عليه وسلم للناس كافة هو أصدق الأديان وأفضلها وآخرها، وقد جاء هذا الدين لصلاح الإنسان في نفسه وماله وحياته بأكملها، فإنه لا صلاح للإنسان ولا هداية له ولا طمأنينة ولا سعادة ولا سرور إلا بالالتزام بدين الله سبحانه وتعالى والاستقامة على هديه، يقول الله عز وجل: هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ [التوبة:33]، فالهدى والدين الحق: هو العلم النافع والعمل الصالح، فسمى الاهتداء بهذا الدين هدى؛ لأن الإنسان في ضلال وفي عماية إلا إذا اهتدى بهذا الدين والتزم به، وقد سمى الله سبحانه وتعالى القرآن وما تضمنه من العقائد والمفاهيم بمجموعة أسماء، كل اسم من هذه الأسماء يدل على صفة من هذه الصفات، وكلها تدل على الثناء على هذا الدين، فسماه سبحانه وتعالى هدى، وسماه شفاء، وسماه روحاً؛ لأن الحياة الحقيقية موقوفة على هذا القرآن، وسماه أيضاً بأنه نور؛ لأن الإنسان في عماية وفي ضلال إلا إذا اهتدى بهذا القرآن وما جاء فيه من الأحكام والعقائد، ولهذا كل الأديان غير هذا الدين باطلة وفاسدة وغير مقبولة، وكل المناهج والفلسفات والآراء والمذاهب غير ما وافق كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم هي آراء ومذاهب وفلسفات باطلة ضالة، وهي ناتجة عن هوى متبع، سواء كان هذا الهوى في أصله دين، كما هو الحال في تفرق الأديان، أو كان هذا الهوى في قاعدة من قواعد هذا الدين كما هو حاصل في انحراف الفرق الضالة التي افترق إليها المسلمون، فالنبي صلى الله عليه وسلم بعد أن ذكر افتراق اليهود والنصارى قال: (ستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة)، فلما سئل عنها النبي صلى الله عليه وسلم، قال: (هي الجماعة) وفي بعض الروايات قال: (من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي)، فهذا الحديث العظيم فيه دلالات كثيرة، منها: أن هذه الأمة لابد أن تفترق، وأن هذا الخلاف والافتراق الذي نشاهده لا ينبغي أن يحزن الإنسان وأن يشغله، بل لا ينبغي أن يتصور أن هذا الخلاف المحتدم بين هذه الأمة أنه علامة على ضياعها وعدم انتصارها وظهورها، فإن النبي صلى الله عليه وسلم بين أن هذا أمر قدري، وأنه لابد من حصول هذا الاختلاف وهذا التفرق، لكنه في نفس الوقت بين صلى الله عليه وسلم المنهاج الذي يضبط الإنسان والذي ينجيه في الدنيا والآخرة، فقال: (من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي)، يعني: من كان على طريقة النبي صلى الله عليه وسلم في العقيدة، وفي التعامل مع الكتاب والسنة، وفي السلوك، وفي الدعوة، وفي أي باب من أبواب هذا الدين.
أولاً: بحفظ الكتاب والحكمة اللذين هما المصدر الأساسي لهذا الدين.
والأمر الثاني: بحفظ أهل العلم لمناهج الاستدلال بهذا القرآن، وبهذه الحكمة التي هي السنة، وبما يتعلق بهذا القرآن من العقائد والآراء والمناهج.
فهذه الأمة -ولله الحمد- متميزة عن غيرها من الأديان الأخرى، فاليهودية والنصرانية لم تحفظ كتبهم، وإنما تفرقت في أيدي الناس وأصبحوا يروونها، ولهذا عندما تقرأ ما يسمونه بالكتاب المقدس، سواء العهد الجديد أو العهد القديم، تجد أنها عبارة عن حكايات يحكونها، وليست هي من كلام الله عز وجل، ولا من كلام الرسل الذين بعثهم الله سواء موسى أو عيسى أو غيرهم من الرسل الذين أرسلهم الله إلى هاتين الأمتين، وإنما يقوم تلاميذ هؤلاء أو تلاميذ تلاميذهم بحكاية هذه الحكايات بدون أي إسناد وبدون أي برهان يقيني يدل على صحة هذه العقائد أو هذه الأفكار أو هذه الآراء الموجودة في ما يسمونه بالكتاب المقدس.
إذاً: منهج هذه الأمة محفوظ، والاهتداء بهدي النبي صلى الله عليه وسلم ممكن حتى لو تأخر الزمان، وحتى لو نسق العالم عن نهايته كما يقولون.
وللأسف الشديد أنك تجد كثيراً من الناس قد يدخل في نفسه شيء من الشك أو شيء من الشعور بأنه لا يمكن للإنسان أن يهتدي بالهدي الرباني المميز للعقيدة الصحيحة عن غيرها؛ بسبب البعد الشاسع في الزمان والتفرق في البلاد، وهذا لا شك أنه تصور فاسد، بل يجب على الإنسان أن يعتقد عقيدة جازمة بأن هذا الدين محفوظ إلى قيام الساعة، ولهذا يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين) والظهور معناه: أنه يمكن للإنسان أن يعرفه؛ لأنهم ليسوا مستترين عن الأنظار أو مختفين أو أن عملهم وعقائدهم سرية لا يدركها أحد، وإنما هم كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في وصفهم: (ظاهرين)، وفي بعض الألفاظ قال: (منصورة)، وفي بعض الألفاظ قال: (يقاتلون على دين الله عز وجل، لا يضرهم من خذلهم، ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك).
هناك الكثير من الزنادقة الذين يريدون إفساد الدين بعقائد باطلة هم لا يعتقدونها، لكن لهم هدف من وراء نشر هذه العقائد بين الناس من أجل إضلال الخلق ومن أجل إفساد عقائد الناس، سواء كانت أهدافهم سياسية أو اجتماعية، وكان أكبر من مثل هذا الاتجاه هم اليهود الذين يريدون إفساد عقائد الناس من أجل أن تبقى لهم السيطرة والمكانة، هذا على المستوى العام، وهناك زنادقة اضطروا إلى إخفاء الكفر وإعلان الإسلام من أجل انتشار منهاج المسلمين، ومن أجل الخوف على أنفسهم من القتل، فكانت ظاهرة الزندقة، ومجال الحديث هنا ليس عن ظاهرة الزندقة وكيفية نشأتها وتطورها، لكن الذي يهمنا هو أن هناك من الزنادقة ومن المستشرقين ومن الذين لديهم قراءات في كتب المسلمين أصبحوا يأتون بالعقائد الضالة والمناهج الفاسدة ويستدلون عليها بالكتاب والسنة، مثلاً الشيعة الذين يسبون أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم تجدهم يحاولون أن يجمعوا بعض الشواهد من القرآن ومن السنة، ومن السير والأخبار ومن غيرها حتى يظهروا بصفة الأشخاص الذين لديهم حجة وبيان، وفي كتاب (كشف الشبهات) بين الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله خاصية معينة في الشبهات التي تنشر، وهي أن أصحاب الشبهات لا يتكلمون اعتباطاً، وإنما يتكلمون بعلم، لكنه علم فاسد مضلل، ليس علماً يقينياً وصحيحاً، والمشكلة أن هؤلاء يؤثرون على عقائد العامة وعلى عقائد أنصاف المثقفين، فتجد بعض الأحيان كتاباً مليئاً بالأدلة وبأقوال العلماء وبنصوص الفقهاء، حتى إن هذه السمة صارت منتشرة، فتجد أحدهم يبدأ بجمع بعض أقوال العلماء ويأخذ النص فيبتره ويتأوله، ثم يأتي إلى عالم من العلماء نقل مذاهب شاذة مثلاً ثم رد عليها، فينقل هذه المذاهب ويترك الرد عليها، ومعروف أن أي أمة من الأمم لديها أشخاص عندهم آراء شاذة وآراء غير صحيحة، فهذا يحرم على النساء الحجاب، وذاك يحرم صيام الست من شوال بشكل مستمر قائلاً: أخشى أن تتحول إلى بدعة، فمن حرصه على السنة حرم على الناس أن يصوموا الست من شوال، زاعماً أنها قد تتحول إلى بدعة يعتادها الناس، وتصبح كأنها في حكم الواجب، ثم يبدأ بنقل نصوص كثيرة من هنا وهناك يجمعها عن طريق بتر النصوص والتلاعب بها.
فالشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله يقول: إن هؤلاء يتكلمون بنصوص سواء قرآنية أو نبوية أو أقوالاً لأهل العلم يخدعون بها العوام ويضللونهم، ويضللون الأشخاص غير المتخصصين، كأحدهم أفنى عمره كله في الطب لا يعلم شيئاً من الأحكام الشرعية فمستواه ضحل وضعيف جداً، فعندما يقرأ مثل هذا يقول: يا أخي! انظر إنه ينقل كلام العلماء، مع العلم أن هذا الطبيب أو المتخصص في أي تخصص من التخصصات الأخرى أو العامي الجاهل، لن يتوقع منه أنه سيرجع إلى هذه الكتب لأنه قد لا يعرفها، وقد لا يدري ما هي، لكنه يبهر بكثرة المراجع، وكثرة أرقام الصفحات والمجلدات، وكثرة النقول التي ينقلها، وكثرة الآيات والأحاديث التي يوردها، وبهذه الطريقة يضللون الخلق.
إذاً: يجب أن نتعلم التمييز بين هذه المناهج، ويكون ذلك بدراسة أصول الفقه وبتعلم طريقة الصحابة رضوان الله عليهم في الإفتاء، وفي كيفية التعامل مع القرآن ومع السنة، وبهذا تكون كل أمور المسلمين وأهل السنة منضبطة، فليس هناك قول من الأقوال إلا وله حكم شرعي، وليس هناك عقيدة إلا ولها حكم شرعي، وليس هناك فكرة إلا ولها تقويم شرعي، ومن الخطأ الكبير الذي نعايشه خصوصاً مع موجة الإعلام المعاصر الآن الذي يدندن حول الرأي والرأي الآخر كما يسمونه، أرادوا أن يفقدوا أهل السنة والدعاة والمصلحين هذه الخاصية التي تميزهم عن غيرهم، فنحن أهل السنة لدينا خاصية مميزة وهي أنه إذا حكمنا على كاتب من الكتاب أنه مبتدع فنحن لا نحكم عليه بالهوى، وإذا حكمنا على شخص بأنه كافر فنحن لا نحكم عليه بالهوى، وإذا حكمنا على شخص بأنه مخطئ فنحن لا نحكم عليه بالهوى، فالإنسان كما يكون ملتزماً في سلوكه وفي أخلاقه بالشريعة، يجب أن يكون ملتزماً في أحكامه وفي عقائده بالشريعة أيضاً، ولهذا هناك باب كبير من أبواب العقيدة اسمه: باب الأسماء والأحكام، هذا الباب تابع لباب الإيمان والكفر، فهناك أسماء شرعية لها حدود منضبطة في القرآن والسنة، فهناك اسم الكافر، والمشرك، والفاسق، والضال، والمبتدع، والزنديق مثلاً، وهناك أيضاً أحكام: خارج عن الإسلام يجب أن يقتل، أمة محاربة يجب أن تقاتل، مستأمنون، أهل بدع يجب هجرهم، أشخاص مجتهدون أخطئوا لهم أجر، لكنهم ملتزمون بالسنة، وهكذا أمور كثيرة في الشريعة يجب أن نتعلمها حتى نعرف كيف نكون ملتزمين بالكتاب والسنة في أحكامنا وفي إطلاقنا للأسماء على الناس.
والحقيقة: أن هذا يدل بشكل مؤكد على أهمية تعلم العلم الشرعي، فإن العلم الشرعي إذا تعلمه الإنسان والتزم بكلام الله وكلام الرسول صلى الله عليه وسلم فإنه سيكون منضبطاً في ما يطلقه من أسماء وأحكام على الخلق.
وأكثر الخلافات التي نسمعها الآن هي متعلقة بالأسماء والأحكام، فهناك طائفة متسرعة في إطلاق الأسماء والأحكام على الخلق بشكل غير منهجي وغير شرعي، وهناك طائفة أخرى تطالب باحترام الآخر، ويجعلون كلمة الآخر هكذا مفتوحة، وهذه (كلمة الآخر) كلمة جديدة لها عشر سنوات، صار الناس يرددونها: ما هو موقفك من الآخر؟ يجب أن تكون متسامحاً مع الآخر، الرأي والرأي الآخر، وكأن الآخر هذا ليس له تقويم، الآخر هذه كلمة عائمة بحسبه، إن كان كافراً فحكمه الكفر، وإن كان مسلماً فهو بحسب حاله، وإن كان مبتدعاً فهو مبتدع، وإن كان من أهل السنة فهو من أهل السنة، ثم أهل السنة يختلفون، فمنهم من يصيب فله أجران، ومنهم من يخطئ فله أجر، فالفوضى التي نلاحظها في ما يتعلق بالأسماء والأحكام سببها عدم التأصيل الشرعي، فتجد مثلاً من مهنته وبضاعته الأساسية القراءة في الصحافة وفي المجلات ثم يتكلمون عن قضايا عميقة وصعبة بدون علم شرعي، كذلك تجد من ليس لديهم معلومات شرعية كافية، بل هم من المبتدئين من طلاب العلم، تجد أنهم يتكلمون في قضايا حساسة وخطيرة، ويطلقون الأسماء والأحكام في هذا الموضوع.
ولهذا نحن بحاجة إلى التعلم بشكل مستمر.
أولاً: أن نعلم حجية الكتاب والسنة والأدلة الدالة التي تجعل الإنسان يطمئن بشكل كبير على أن الكتاب والسنة حجة في ذاتهما.
والأمر الثاني: أن نتعلم المناهج الشرعية في طريقة التعامل والاستدلال بالكتاب والسنة.
والأمر الثالث: أن نتعلم ضوابط وحدود الأسماء الشرعية، وضوابط وحدود الأحكام المترتبة عليها، وحينئذ يتكلم الإنسان بعلم، أو يجب عليه أن يسكت إذا كان الحال في قضية ليس لديه علم شرعي فيها، فالتخبط والحيرة والفوضى التي نراها اليوم في كثير من الناس، سواء على مستوى شباب الدعوة أو على مستوى أعم وأشمل من ذلك، سببه هو عدم الدارسة الكافية، أو أنه في بعض الأحيان قد يظن الإنسان أن طريقة طلب العلم هي: أن تدرس متناً، ويدرسه بطريقة آلية، يعني: يعرف صاحب الكتاب ويعرف المسائل الموجودة والأدلة فقط بدون أن يفهم ويتفقه، ولهذا تحدث أهل العلم كثيراً في الكتب التي صنفوها في العلم أن العلم ليس هو حفظ المسائل وتكرار المسائل واجترارها بشكل مستمر، وإنما العلم الفقه، أي: أن يفهم الإنسان حدود الأسماء الشرعية، وحدود الأحكام المترتبة عليها، وأن يتكلم الإنسان بعلم أو يسكت بدون أن يكون عليه مسئولية شرعية بسبب كلمة يتكلم بها.
إن بعض أهل السنة السابقين وافقوا طوائف من أهل البدع في بعض الآراء الجزئية، ومع ذلك لم يعتبرهم أحد أنهم من أهل البدع والضلالة، ثم ينزل عليهم كل الأوصاف المتعلقة بأهل البدع والضلالة والعياذ بالله.
فالإمام الطبري رحمه الله إمام وعالم كبير: كان يؤول الكرسي بأنه العلم، وهذا تأويل صريح، مع أن آية الكرسي، وحديث ابن عباس رضي الله عنه: في أن الكرسي موضع قدمي الرب صريحان في المسألة، ومع هذا أولها بأنه العلم، ولم يقل أحد بأن الطبري رحمه الله من المؤولة ومن المعطلة، ثم ينزل عليه أوصاف المعطلة والمؤولة جميعاً، هذا مظهر من المظاهر.
مظهر آخر من مظاهر الفوضى التي نعايشها بسبب عدم الالتزام بالعلم الشرعي: هو أن تجد إنساناً في خطابه الدعوي أو في خطابه الفكري، تجد أنه يعيش في حالة كما يسمونها من الانفلات، فتجد أن كلامه ليس له حدود، قد يصدق كلامه الذي فيه مدح أو ثناء على طوائف من أئمة الكفر، يصدق كلامه في الذم على طوائف من أهل الإيمان، فأصبح الكثير لا يعرف حدود مقصوده أو رأيه، وهذا الانفلات في الخطاب سببه أيضاً عدم الالتزام باللغة الشرعية، والضوابط الشرعية في ما يتعلق بالأحكام والمفاهيم وحدودها وضوابطها، ولهذا لا تجدون مثلاً في خطاب عالم كشيخ الإسلام ابن تيمية تسيباً، بل تعرفون حدود كلامه وانضباطه، كذلك الحال فيما يتعلق بمشايخ وأئمة أهل السنة سواء في العصر الحديث أو المتقدمين، تجد أنهم من أضبط الناس في ما يتكلمون به، ومن أدق الناس عبارة في ما يتحدثون به، ولهذا نؤكد على أهمية دراسة العلم بالطريقة التي سبق أن أشرنا إليها، وهي أن تعرف أدلة حجية الكتاب والسنة حتى تستطيع أن تبطل، وعلى الأقل أن يتميز لديك بشكل يقيني ودقيق فساد العقائد الأخرى التي جعلت أدلة مصافة للكتاب والسنة، ثم تدرس المناهج المنضبطة الشرعية التي يكون الاستدلال من خلالها بالنصوص الشرعية استدلالاً صحيحاً، ثم تعرف حدود الأسماء والأحكام في ما يتعلق بالخلاف الذي يحصل بين الناس، سواء خلافاتنا مع الكفار أو خلافاتنا مع أهل البدع، أو خلافات أهل السنة فيما بينهم، بحيث يتكلم الإنسان أو يعتقد بشكل دقيق وصحيح وموافق للنصوص الشرعية.
هذه المقدمة أرى أنها ضرورية في مقتبل درس يتعلق بالعقيدة، لأننا سنجد طوائف انحرفت في العقائد وسنذكر بعض الآراء والمناهج والأفكار، وقد نذكر بعض الأحيان أعلاماً مشهورين خالفوا السنة في هذه المسألة أو تلك ونرد عليهم، وهذا أمر طبيعي فإن هذه هي طريقة أهل العلم من القديم أن الحق أحق أن يتبع وأن التقليد مذموم، وأنه يجب على الإنسان أن يكون متبعاً لنصوص الكتاب والسنة بشكل دائم ومستمر.
ومن القصص التي تذكر في حفظه: أنه لما جاء إلى سجستان طلبوا منه أن يحدث، فقال: ليس عندي أصل، يعني: ليس عندي كتاب أحدث منه، فقالوا: ابن أبي داود ويحتاج إلى أصل؟! فاستفزوه فأملى عليهم ثلاثين ألف حديث، فلما رجع إلى بغداد لم ينتقد منها إلا ستة، وهذا يدل على سعة حفظه وعلمه رحمه الله، وقد كان من أئمة أهل السنة، وهذه الأبيات التي ستأتي معنا تدل على ذلك، وقد كان أبو بكر بن أبي داود عالماً مصنفاً مشهوراً، له مجموعة من الكتب، منها (المصاحف) وهو مطبوع، وأيضاً: كتاب (البعث) وهو مطبوع أيضاً، وهذه الحائية تقريباً ستة وثلاثون بيتاً، أو ثمانية وثلاثون بيتاً موزعة على مجموعة من الأبواب، وسيأتي الحديث عنها إن شاء تعالى.
وحائية ابن أبي داود شرحها الآجري رحمه الله صاحب (الشريعة)، لكن شرحه غير موجود الآن، وشرحها أيضاً السفاريني صاحب (لوامع الأنوار) المشهور، وصاحب الدرة المضيئة، وشرحه مطبوع، وهذه الحائية ثابتة من حيث الإسناد عن أبي بكر بن أبي داود فقد نقلها عنه مباشرة تلميذه ابن شاهين ضمن كتابه (شرح مذاهب أهل السنة)، وهو مطبوع، وقد نقل عنه القصيدة كاملة في أربعين بيتاً تقريباً نقلها مباشرة عن شيخه، وأيضاً نقلها ابن أبي يعلى في (طبقات الحنابلة)، وكذلك نقلها الحافظ الذهبي رحمه الله في (سير أعلام النبلاء) في ترجمة ابن أبي داود نقلها بإسناده عن ابن شاهين الذي سبق أن أشرنا إليه.
وهذا المتن قد شرحه كثيرون، لكن من أفضل الشروح تقريباً هو شرح الشيخ العلامة محمد بن عثيمين رحمه الله تعالى.
الباب الأول: باب الصفات، والباب الثاني: باب القدر، والباب الثالث: باب الإيمان، والباب الرابع: باب الغيبيات، والباب الخامس: باب الصحابة وكرامات الأولياء، والباب السادس: باب السلوك.
وهذه الأبواب الستة موجودة في الكتب الثلاثة بنسب متفاوتة، فيوجد في كتاب ما لا يوجد في كتاب آخر، ولهذا بدلاً من أن ندرس هذا مستقلاً وهذا مستقلاً وهذا مستقلاً، مع أن الموضوعات متقاربة ومتداخلة، أردنا دراستها جميعاً في مكان واحد، فالمكرر سنأخذه في الأماكن الثلاثة جميعاً، والمميز سندرسه إن شاء الله، بحيث نخرج من هذا الدرس وقد درسنا ثلاثة كتب في وقت واحد بالطريقة التي أشرت إليها بإذن الله تعالى.
أسأل الله عز وجل أن يرزقنا وإياكم العلم النافع والعمل الصالح، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
الجواب: هذه إحدى علامات أو نقاط الضعف في شباب الدعوة الإسلامية، فتجد أحياناً أن المنهج يكون واحداً وهو منهج السنة، لكن تجد رأي هذا الشيخ يختلف عن رأي هذا الشيخ، فيتعصبون لرأي هذا الشيخ ويذمون هذا الشيخ، وبناء على هذا يصنفون المشايخ، وهذا لا شك أنه خطأ، صحيح أن الإنسان لا يجوز له أن يتبع الشيخ أو العالم في خطئه، لكن لا يجوز له أيضاً أن يسبه ويذمه، ونحن نقول: تقويم الآراء لها ميزان في الكتاب والسنة، فأنت إذا سمعت أن الشيخ الفلاني له رأي انظر إلى رأيه، وقبل أن تنظر إلى رأيه اطلب العلم الشرعي حتى يكون ميزانك ميزاناً صحيحاً، فإذا تعلمنا العلم الشرعي وسمعنا رأياً لشيخ من المشايخ نأخذ هذا الرأي بشكل هادئ بعيداً عن الظلم والاعتداء، ثم نزنه، وحينئذٍ لا يخلو رأيه من عدة حالات: إما أن يكون رأيه كفراً والعياذ بالله، أو بدعة، أو اجتهاداً اجتهده، وكل واحدة من هذه الحالات لها أحكامها الخاصة بها، فلو افترضنا أن رأيه كان كفراً والعياذ بالله، فإذا جئنا إلى هذا الإنسان المعين فلابد أن توجد فيه الشروط وتنتفي عنه الموانع، كحال بعض الصحابة الفضلاء الأخيار وقعوا في الكفر ولم يكفروا، ومنهم حاطب بن أبي بلتعة الذي حضر يوم بدر، ووقع في الكفر، لكنه لم يكفر، ولهذا لا يستغرب أن يقع مثلاً عالم فاضل في مقالة من المقالات، قد تكون هذه المقالة كفرية في حد ذاتها، لكن هو نفسه لا يكفر، وقد يكفر إذا قالها غيره، فبعض الأحيان يكون هناك رأي واحد يقول به عشرة؛ سبعة يكفرون وثلاثة لا يكفرون، لأنهم يتفاوتون بحسب: هل هذا الإنسان عنده علم بهذا الحكم؟ هل هو متأول؟ هل هو جاهل بها؟ على تفصيلات مشهورة عند أهل السنة في مسألة عوارض الأهلية.
كذلك لو أن القول الذي قاله من صنف البدع، ننظر هل هذه البدعة عند هذا الإنسان منهج بدعي يسير عليه ويدعو الناس إليه، أو أنها مقالة أخطأ فيها، فإذا كانت مقالة أخطأ فيها فلا يجوز للإنسان أن يجعلها منهجاً له، ثم إن الاجتهاد بعض الأحيان قد يكون اجتهاداً يثاب عليه الإنسان إذا كان اجتهاداً شرعياً بذل فيه غاية الجهد، وقد تكون زلة من ضمن الزلات كما سماها ابن تيمية رحمه الله في (رفع الملام عن الأئمة الأعلام)، وهذه الزلة من جنس الذنوب والمعاصي، وقد يكون لديه من الجهاد والصدق والصبر والبذل والحب لله ولرسوله ما يمحو عنه هذه الزلة.
إذاً: يجب على الإنسان أن يكون منضبطاً من الناحية الأخلاقية والأدبية، ولا ينبغي للإنسان أن يشغل نفسه بالكلام عن الناس وذمهم ونقدهم والقدح فيهم، بل يجب أن يهتم بالمكاسب الأساسية للدعوة الإسلامية وهي الدعوة إلى السنة، والالتزام بها وحياطتها والمحافظة عليها، وأما الخلافات التي تكون بين أهل العلم فيما بينهم فلا يجوز أن يبني عليها الإنسان موقفاً أو منهجاً أو رأياً عنيفاً أو متشدداً.
الجواب: الرد على هؤلاء أمر ضروري، لكن هنا قضية مهمة، وهي أنه لا يصلح أن يرد على مثل هؤلاء إلا من يملك الحجة والبرهان والدليل الصحيح، وأن يكون الإنسان إذا أراد أن يرد عليهم أن يكون مستعداً للرد؛ لأنه في بعض الأحيان قد يأتي إنسان منحرف ينشر بدعته ولديه لسان وقوة، وثقافة واسعة، فيأتي شاب بسيط يتهجم عليه يسبه فقط، فيكون هذا فتنة للآخرين الذين ينظرون إليه، فهم ينظرون إلى أن كلام ذلك منظم ودقيق وقوي، وأن كلام الراد كله سب وشتم وليس فيه فائدة، وبهذه الطريقة يكون قد هيأ مجالاً لانتشار هذه الفكرة، وحقيقة أنا لي تعليقات على كثير من الإخوة الذين يشاركون في مثل الحوارات التي تكون عن طريق الإنترنت:
التعليق الأول: أنه لا ينبغي للإنسان أن يشغل نفسه بمثل هذا، بل عليه أن يشغل نفسه بالنافع والمفيد، فكون الإنسان لديه منهج في طلب العلم يرتقي فيه ويشتغل بما ينفعه، أفضل من الاشتغال بالكلام الذي لا داعي له في المنتديات، وحال هذه المنتديات كحال الجلسات التي تكون على الأرصفة، ولو أن إنساناً جعل يومه وليلته للجلسات هذه التي على الأرصفة من جلسة إلى جلسة أخرى فلن يستفيد.
التعليق الثاني: أن الإنسان ينبغي له أن يكتب بشكل مفيد، وإذا كان هو نفسه ليس عنده أهلية أو قدرة على الكتابة بشكل قوي فلا يتعرض للكتابة وهو غير مقتدر، وأفضل الأحوال ألا يشتغل الإنسان بمثل هذا، وإنما يشتغل بما ينفعه في دراسة العلم ونحوه.
الجواب: الأصل أن الاحتفال بالمولد في حد ذاته يعتبر منكراً وبدعة، أما مجرد المشاركة حتى لو لم يكن فيه اختلاط، أو موسيقى فإنها تعتبر مخالفة للسنة؛ لأن الصحابة رضوان الله عليهم كانوا من أكثر الناس محبة للنبي صلى الله عليه وسلم ولم يتخذوا يوم مولده عيداً، كما هو الحال عند أصحاب هذه الموالد.
الجواب: مبدأ الموازنة بين الحسنات والسيئات ليس على إطلاقه في كل موضع وفي كل شخص، وإنما الصحيح أن الموقف من الآراء والأفكار المخالفة للسنة يختلف باختلاف الشخص وباختلاف الوقت وباختلاف الحال، ولهذا فرق العلماء بين المبتدع الداعي لبدعته، والمبتدع الذي لا يدعو لبدعته، كذلك هناك فرق بين المبتدع الذي بدعته مؤثرة ورائجة في الناس، وبين المبتدع الذي بدعته مقصورة عليه ولا يستجيب لها أحد، وهناك فرق أيضاً بين المبتدع الذي يبتدع بدعة في قضية عامة تشغل الناس وتتعلق أنظار الناس بها، وبين من يتكلم بكلام عابر ثم يكون ضمن كلامه بدعة يقول بها، ولهذا مثل هذه الأشياء توزن بميزان المصلحة والمفسدة، وهذا الميزان لا يستخدمه بشكل جيد إلا أهل العلم، فهم الذين يستطيعون أن يزنوا الأمور بميزان المصلحة والمفسدة، فبعض الأحيان قد يكون من المصلحة أن تنتقد صاحب هذه البدعة وألا تذكر له حسنة؛ لأنه ليس المجال مجال ذكر الحسنات، ولهذا نجد كلام شيخ الإسلام رحمه الله مختلفاً من كتاب إلى كتاب، ومن حالة إلى حالة، ومن مسألة إلى مسألة، وكل ذلك بحسب الظرف والوقت والحال والشخص والتأثر، فهناك اعتبارات أخرى، فليس هناك لهذه القضية قاعدة واحدة يمكن لكل الناس أن يطبقها في كل الأحوال، وإنما هي تختلف بحسب الحال، ولهذا نجد بعض الناس مثلاً يأخذ بمبدأ الموازنة بين السيئات والحسنات، فيأتي إلى شخص ينشر بدعته على الناس جميعاً ثم يقول: لابد أن نوازن بين الحسنات والسيئات وألا نرد عليه إلا بذكر حسناته، وهذا غير لازم، فنحن عندما نقرأ كلام أهل العلم لا نجد أنهم في كل حال يذكرون حسنات هؤلاء، وإنما بحسب الحال، مثلاً ابن تيمية عندما يرد على الأشاعرة، في بعض الأحيان يغلظ عليهم حتى يقول: إنهم مخانيث المعتزلة، ولا يذكر لهم في ضمن كلامه في تلك اللحظة ثناء، لكنه عندما يتكلم على النصارى والرد على النصارى، تجده يذكر مواقف علماء الأشاعرة في الرد عليهم ويثني عليهم في ردودهم، فتجد أن الحال يختلف من هنا إلى هناك، لذلك قد تجلس مثلاً مع أشخاص معجبين برأي من الآراء وتريد أن تغلظ حتى تبين أن هذا القضية غير صحيحة وأنها خطأ، وبعض الأحيان قد تجد شخصاً متشدداً في موضوع من الموضوعات، فهذه القضية راجعة إلى مسألة المصالح والمفاسد وحكمة الداعية، لكن الأصل هو أن الإنسان يبتعد عن تجريح الخلق إلا إذا كان عنده علم، وإذا لم يكن لديه علم فلا يشتغل بالنقد وإيذاء الخلق بدون علم، وأحياناً قد تجد أن المسألة اجتهادية يضعها إنسان وكأنها مسألة من مسائل الكفر وهذا لا يجوز، بل يجب على الإنسان أن يكون عاقلاً متزناً لا يتكلم إلا بعلم.
الجواب: كتب الأصول في الجملة هي التي تتحدث عن مثل هذه المناهج، وهذه العلوم تسمى علوماً معيارية، يعني: تحدد المعايير والأسس والقواعد الأساسية التي تضمن للإنسان السير الصحيح، فمصطلح الحديث مثلاً علم معياري للنقل عن الرسول صلى الله عليه وسلم، وعلم أصول الفقه علم معياري لطريقة التعامل مع الكتاب والسنة.
الجواب: لا شك أن الفتن منتشرة انتشاراً كبيراً جداً، وكلما تقدم الزمان كلما راجت الفتن والعياذ بالله، وليس هناك عاصم بعد توفيق الله عز وجل من الفتن إلا بالالتزام بالكتاب والسنة، هذا فيما يتعلق بالفتن العلمية والفكرية، أما الفتن العملية مثل: (الحروب) وتشتت أمر الناس، وانفصام عقد اجتماعهم، فمثل هذه الفتن العملية التي يكثر فيها القتل والهرج والمرج، ينبغي على الناس أن يلتزموا مع علمائهم ومع المصلحين فيهم، فموضوع الفتن يحتاج إلى وقت طويل حتى يكون هناك حديث عنه، لكننا نتكلم هنا من حيث الجملة.
الجواب: لا، ليس فيه خلاف للسنة إذا كنت ممن يقتدي بالشيخ عبد العزيز بن باز فهو إمام وعالم من العلماء المسلمين، لكن بشرط: ألا تكون عندك معرفة بدليل صريح من القرآن والسنة يخالف قوله، فطريقة أهل السنة فيما يتعلق بالعلاقة مع العلماء: هي احترامهم ومحبتهم وتقديرهم وتعظيمهم وقبول فتواهم، إلا ما علمنا أنه مخالف للكتاب والسنة، فما علمنا أنه مخالف للكتاب والسنة فلا يجوز قبوله أبداً.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر