أما بعد:
تحدثنا في الدرس الماضي عن موضوع الإيمان وعن أركانه الأساسية، وعما يتبع ذلك من الكلام في أدلته، وخلاف الفرق فيه لا سيما المرجئة الذين هم من أضل الطوائف في هذا الباب.
ويمكن في هذا الدرس أن نقرأ الفقرات التي تحدث فيها الإمام أبو جعفر الطحاوي رحمه الله في موضوع الإيمان ونعلق عليها بتعليق موجز، وما سبق أن تحدثنا فيه عن الإيمان فيه الغنية والكفاية بإذنه تعالى.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ونسمي أهل قبلتنا مسلمين مؤمنين ما داموا بما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم معترفين، وله بكل ما قاله وأخبر مصدقين].
هذه الفقرة فيها من الفوائد: أن المسلم يثبت له الإسلام بأعماله الظاهرة، مثل الإقرار بالشهادتين والإقرار كذلك بما يلزم من أحكام الإسلام وفعل الصلاة ونحو ذلك، والدليل على ذلك ما أخرجه البخاري رحمه الله تعالى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من صلى صلاتنا واستقبل قبلتنا وأكل ذبيحتنا فهو المسلم، له ما لنا وعليه ما علينا) ومما يبين أن الإنسان إذا أقر بالشهادة فإنه يكون من أهل الإسلام ويكف عنه ويكون معصوم الدم والمال ما جاء في حديث أسامة بن زيد رضي الله عنه أنه في كان في غزاة، فانطلق أحد المشركين هارباً، فلحقه أسامة ، فلما أدركه ورفع السيف عليه قال: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، فقتله أسامة ، فلما قتله أسامة رضي الله عنه جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقد بلغه الخبر، فقال له: (أقتلته بعد ما قالها؟) يعني بعد ما قال: لا إله إلا الله، فقال: نعم إنما قالها تعوذاً، يعني: إنما قالها يتقي بها السيف لا يريد القتل، فقال هذه الكلمة، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (كيف قتلته بعد ما قالها؟) وأصبح يرددها كثيراً، حتى إن أسامة رضي الله عنه قال: تمنيت أنني لم أسلم إلا في تلك اللحظة، أي: من شدة إنكار النبي صلى الله عليه وسلم عليه.
وهذا الحديث يؤخذ منه فائدة وهي: أن الإنسان يثبت له الإسلام ابتداءً بإقراره بالشهادتين وقوله: لا إله إلا الله محمداً رسول الله، ثم يطالب بعد ذلك بالعمل.
فثبوت الإسلام على نوعين: النوع الأول ثبوت ابتدائي، وهو أن يثبت له الإسلام ابتداءً، فهذا يثبت له الإسلام ابتداءً بالإقرار بالشهادتين: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله.
أما ثبوت الإسلام من ناحية استمرار هذا الوصف فإنه يطالب بالعمل، فإن عمل بأعمال الإسلام كالصلاة والخوف من الله ونحو ذلك فإنه يكون مسلماً، وإن جحدها وأنكرها أو أعرض عنها جملة فإنه يقتل ويكون كافراً، ويرتفع عنه هذا الوصف كما سبق أن بينا ذلك في مسألة تارك الصلاة.
وهذا فيه الرد على طائفة من الطوائف تقول: لا يثبت الإسلام للإنسان المستور إلا إذا تبينا، فهم يتوقفون في هذا الشخص حتى يتبين لهم إسلامه أو عدم إسلامه.
فمثلاً: إذا رأوا رجلاً لا يعرفون ما هو موقفه، وبالذات من قضية الحاكمية؛ لأن هؤلاء يدندنون على هذه القضية كثيراً، فإذا رأوا شخصاً لا يدرون ما موقفه من قضية الحاكمية، قالوا: حتى ولو كان ينطق الشهادتين وحتى لو كان يصلي مع الناس فلا نثبت له الإسلام حتى نتبين موقفه من هذا، ولا شك أن هذا هو رأي الخوارج، وعليه طائفة من الناس اليوم؛ فإنهم يتوقفون في مستور الحال ولا يثبتون له الإسلام حتى يتعرفوا عليه ويعرفوا موقفه من قضية الحاكمية، ثم بعد ذلك يثبتون له وصف الإسلام أو ينفونه عنه بحسب آرائهم وعقائدهم في هذا الباب.
يعني: لا نخوض فيه بالباطل كما خاضت الفرق الضالة، ولا نماري في دين الله يعني: لا نجادل في دين الله، ولهذا نهى السلف الصالح رضوان الله عليهم عن المجادلة، وعن مجادلة أهل البدع، فقد سئل الإمام أحمد رحمه الله عن الرجل يجادل أهل البدع فنهاه، ثم قيل له: حتى ولو كان يدافع عن السنة، فقال: حتى ولو كان يدافع عن السنة. ويقصد بذلك: أن الجدل ليس هي الطريقة الشرعية في الدعوة والإصلاح وفي الرد على أهل البدع، وإنما الطريقة الصحيحة هي تبيين الحق وتوضيح الحق للناس، أما الاشتغال بمجادلة أهل البدع لا سيما إذا كان ذلك بطرقهم ومسالكهم الكلامية والفلسفية ونحو ذلك فإن هذا من الجدال الذي نهى عنه السلف الصالح رضوان الله عليهم.
قوله: (ولا نجادل في القرآن) يحتمل أن يكون المعنى: ولا نجادل في مسألة القرآن، وإنما نقول: إنه كلام الله، فالقضية لا تحتاج إلى جدال، وإنما القرآن هو كلام الله سبحانه وتعالى غير مخلوق منه بدأ وإليه يعود، كما سبق أن شرحنا ذلك سابقاً، ويحتمل أن يكون المقصود: ولا نجادل في القرآن يعني: لا نضرب القرآن بعضه ببعض، فنأتي بالآية ثم نضرب بها تلك الآية ثم ننتقل إلى آية أخرى وهكذا، فهذا منهج عقيم، وهو منهج أهل البدع؛ فإن منهجهم المجادلات والمخاصمات ونحو ذلك.
ولهذا الذي يرجع إلى كتب الاعتقاد المسندة مثل (شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة) لللاكائي و(الشريعة) للآجري و(السنة) لـعبد الله بن الإمام أحمد وغيرها من الكتب يجد أن السلف رضوان الله عليهم بينوا أن الجدال سمة من سمات أهل البدع والعياذ بالله!
ولهذا يقول الإمام مالك رحمه الله: إذا أراد الله بقوم شراً منعهم العمل وألزمهم الجدل، وروي مرفوعاً: (أنه إذا أراد الله عز وجل بقوم شراً يمنعهم من العمل ويلزمهم الجدل) ولهذا كان السلف رضوان الله عليهم يكرهون من الكلام ما ليس تحته عمل، فالكلام الذي ليس تحته عمل ولا فائدة منه يكرهونه ويذمونه.
فكثرة الخصومات والمجادلات مذمومة لا سيما في قضايا العقائد وفي قضايا أصول الدين، ولهذا يتميز أهل السنة باتباع السنة، وأنهم لا يثبتون عقيدةً ولا عملاً إلا بسنة وبأثر إما من كتاب الله عز وجل أو من سنة النبي صلى الله عليه وسلم أو مما أجمع عليه السلف الصالح رضوان الله عليهم.
يعني القرآن، وقد سبق أن القرآن كلام الله سبحانه وتعالى وأنه بحرف وصوت، وهذا الكلام منه القرآن، القرآن من كلام الله، وليس هو كلام الله، فإن كلام الله لا يمكن أن يحصى، ولا يمكن أن يحد، فكلامه سبحانه وتعالى يتكلم متى شاء وكيف شاء وهي من صفاته الفعلية وقد سبق الحديث عن موضوع الكلام مفصلاً.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [نزل به الروح الأمين].
يعني: جبريل عليه السلام.
قال رحمه الله: [فعلمه سيد المرسلين محمداً صلى الله عليه وسلم].
وهذا فيه الرد على عقيدة الأشاعرة في موضوع الكلام، فإن مما انتشر عند الناس أن الأشاعرة يثبتون صفة الكلام لله عز وجل، وهم يثبتون صفة الكلام اسماً، أما حقيقة الكلام فلا يثبتونها لله عز وجل، وإنما يقولون عن الكلام: إنه معنى نفسي في الله سبحانه وتعالى، وإن هذا المعنى النفسي ليس بحرف ولا صوت، وإن هذا القرآن الموجود بين أيدينا هو إما من كلام جبريل على قول بعضهم أو من كلام محمد صلى الله عليه وسلم، ولا شك أن هذا ضلال، وهو وقول المعتزلة واحد، فالمعتزلة قالوا: إن القرآن مخلوق، وهؤلاء قالوا: إن كلام الله معنى، وإن هذا القرآن الذي بين أيدينا مخلوق.
ولهذا يقول شيخ المتأخرين منهم البيجوري في كتابه (تحفة المريد شرح جوهرة التوحيد): إنه يمكن لنا أن نقول: إن القرآن مخلوق، لكن على سبيل التعليم، يعني: في حلقات التعليم، وأما أمام الناس فلا نستطيع أن نقول هذا!
يعني: لأنهم إذا قالوا: إن القرآن مخلوق، ألزمهم الناس بمذهب المعتزلة، وقالوا: أنتم على مذهب المعتزلة، وهم لا يريدون ذلك، ولهذا فروا من مذهب المعتزلة بطريقة ملتفة.
وعموماً هذه هي طريقتهم وهذا هو أسلوبهم ومنهجهم؛ يحاولون أن يجمعوا بين المنهج الفلسفي والمنهج القرآني ويوفقون بينهما، وفي النهاية يميلون للفلسفة، يعني: في النهاية عند التحقيق تجد أنهم يميلون للفلسفة ويتركون المنهج القرآني.
يقول: [وهو كلام الله تعالى لا يساويه شيء من كلام المخلوقين، ولا نقول بخلقه، ولا نخالف جماعة المسلمين].
وكذلك كان أبو حنيفة رحمه الله تعالى يقول: القرآن كلام الله غير مخلوق، وينهى عن القول بخلق القرآن.
وقوله: (لا نقول بخلقه، ولا نخالف جماعة المسلمين) لأن جماعة المسلمين اتفقوا على أن القرآن كلام الله غير مخلوق منه بدأ وإليه يعود، وقد أفل نجم المعتزلة عندما أظهر الله سبحانه وتعالى السنة على يد إمام أهل السنة الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله؛ فإن الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله فتن وامتحن في قضية خلق القرآن، وكان عمره في تلك الفترة ثمانية وخمسين سنة تقريباً، وكان هذا الإمام قد ظهر علمه، وتبنى هذه العقيدة المأمون ، وامتحن الناس عليها، وصبر الإمام أحمد رحمه الله وجلد وسجن وأوذي بكل أنواع الإيذاء، لكنه صبر وكانت النتيجة - ولله الحمد - ظهور الحق، كما قال الله عز وجل: وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ [الأعراف:128]، فانتصر الإمام أحمد رحمه الله وانهزمت المعتزلة في الجانب العلمي وضعفت واضمحلت؛ حتى إنه اختفى الاعتزال كفرقة مجتمعة، وذابت في الفرق الأخرى، فأصبح الشيعة معتزلة والخوارج الإباضية معتزلة، ولا يوجد الآن في الواقع فرقة متكاملة تدعي الأصول الخمسة التي عندهم وتسمى المعتزلة، وإن كان يوجد في بعض بلاد الشام وبعض إفريقيا من يدعي ذلك، لكنهم قلة وليسوا مثل ما كانوا في بداية أمرهم.
وأهل القبلة هم: المسلمون الذين يصلون إلى القبلة في الظاهر؛ لأن الإيمان نوعان: إيمان الظاهر، وإيمان الحقيقة، والذي سبق أن تحدثنا عنه وقلنا: إنه مركب من قول وعمل، هو الإيمان الحقيقي النافع عند الله عز وجل، لكن الذي سبق أن أشار إليه الشيخ في قوله: (ونسمي أهل قبلتنا مسلمين) هذا في الإيمان الظاهر الذي تبنى عليه الأحكام العملية في الظاهر، فإن الأحكام العملية مثل التوارث والنكاح وأحكام المسلمين الظاهرة وحقوقهم مثل قضايا الجنائز ونحو ذلك، هذه تبنى على الإسلام الظاهر، حتى ولو كان الإنسان في نفسه منافقاً ما دام أنه لم يظهر نفاقه ويعلنه للناس، لكن إذا أظهر نفاقه وأعلنه للناس فإنه يكون مرتداً، ويكون مثله مثل اليهود والنصارى، لكن ما دام أن نفاقه مستتر وظاهره الإسلام فإنه يعامل معاملة المسلمين في الدنيا، وإن كنا نقول: إنه في الآخرة يكون في الدرك الأسفل من النار، كما أخبر الله سبحانه وتعالى بذلك.
وقوله: (بذنبٍ ما لم يستحله) هذا يدل على أن أبا جعفر الطحاوي رحمه الله يرى أن الذنوب ليست بمكفرة للإنسان، وإنما يبقى له الإسلام حتى مع وجود هذه الذنوب، إلا إذا استحلها، فإنه إذا استحلها ورأى أنها حلال فهو تكذيب لله سبحانه وتعالى الذي حرمها، وحينئذٍ يكون كافراً، وهذا الكلام فيه رد على الخوارج الذي كفروا الناس بالذنوب، فالزاني يقولون عنه: كافر، والسارق يكفرونه، ومن يشرب الخمر يكفرونه، فيكفرون الناس بالذنوب؛ حتى إنهم كفروا أكثر المسلمين، وأما الخوارج المتأخرون من جماعة التكفير والهجرة فهؤلاء كفروا أغلب أهل التاريخ الإسلامي تقريباً بسبب أن نظرتهم إلى التاريخ على أن هناك انحرافات وهناك ضلالات كانت موجودة، وحينئذٍ حصل منهم الكفر فهم كفار، والعياذ بالله! فهذا فيه الرد على الخوارج.
ولا شك أن الخوارج فرقة من فرق الضلال، سماهم الرسول صلى الله عليه وسلم كلاب أهل النار، وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن خروجهم وأنهم أحداث الأسنان سفهاء الأحلام يقرءون القرآن لا يبلغ تراقيهم، ثم قال: (يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية)، ثم قال صلى الله عليه وسلم: (من لقيهم فقاتلهم فله أجر يوم القيامة) ولهذا لما ظهر هؤلاء قاتلهم الصحابة رضوان الله عليهم مع انتسابهم للإسلام، وعرفوا أنهم الذين أرادهم الرسول صلى الله عليه وسلم بحديثه، وقاتلوهم واجتمعوا على قتالهم، فإن الفتنة كانت في بداية الأمر بين أهل العراق وأهل الشام، لكنهم اجتمعوا على قتالهم؛ لأن هذا مما اجتمع عليه أهل السنة، فإنهم اجتمعوا على قتال الخوارج الضالين الذين ظهروا بهذه العقائد الضالة.
ومن الذنوب المكفرة ما لا يشترط أن يكون صاحبها مستحلاً لها؛ لأنها هي كفر في ذاتها، مثل الطواف حول القبور والنذر لها والذبح، ومثل دعاء غير الله سبحانه وتعالى فيما لا يقدر عليه إلا الله، ومثل السجود للصنم، ومثل القوانين الوضعية، ونحو ذلك فذلك كله من جملة المكفرات التي لا يشترط فيها الاستحلال، لكن بقية الذنوب والمعاصي لا يكفر صاحبها إلا إذا استحل مثل الزنا وشرب الخمر وقتل النفس ونحو ذلك، فهو على الإيمان وعلى الإسلام إلا إذا استحل ذلك الفعل.
وفي قصة قدامة بن عبد الله رضي الله عنه - وكان صحابياً جليلاً - أنه كان هو وبعض الصحابة استحلوا شرب الخمر ورأوا أنه حلال، واستدلوا على ذلك بقوله تعالى: لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ [المائدة:93] فقالوا: ليس علينا جناح في أن نشربها ما دمنا متقين، فاستحلوا شرب الخمر، فاستتابهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وقال لـقدامة : أخطأت استك الحفرة، إنك إذا اتقيت لا تشرب الخمر، فأجمع الصحابة على أنهم يستتابون فإن لم يتوبوا يقتلون، وهذا ما أفتى به علي بن أبي طالب رضي الله عنه، واتفق عليه الصحابة جميعاً، والسبب في ذلك أنهم استحلوا المحرم، فالله عز وجل يحرم شيئاً وهم يقولون: هو حلال، وهذا فيه تكذيب، إلا إذا كان عند الإنسان شبهة فإنها تزال، تزال عن طريق الاستتابة، كما فعل الصحابة مع قدامة بن عبد الله ومن كان معه، فإن ترك صاحبها ورجع إلى حكم الله عز وجل فإنه يكون مسلماً ولا يكون كافراً، فإن عاند فهو كافر.
ولهذا لا بد أن يفرق الإنسان في الذنوب بين أمرين: الأمر الأول: من يفعل الذنب، والأمر الثاني: من يستحل الذنب، فمن يفعل الذنب هذا لا يعتبر كافراً، لكن من يستحل الذنب هذا يعتبر كافراً حتى ولو لم يفعل الذنب، ولو أنه رأى أنه حلال؛ فهذا يعتبر - والعياذ بالله - كافراً حتى لو لم يفعله، ولهذا من الأمور الخطيرة حقيقة أن يأتي إنسان فيستحل المحرمات بهذه الطريقة، وهذا لا شك أنه مكفر من المكفرات.
فقول الشيخ: (ولا نكفر أحداً من أهل القبلة بذنب)، جعل الذنب هنا عاماً، فهو يشمل الذنوب المكفرة وغير المكفرة، والحقيقة أن الذنوب المكفرة لا يشترط فيها الاستحلال، ولهذا ما كان ينبغي أن تكون العبارة بهذه الطريقة، ولو كانت العبارة: لا نكفر أحداً من أهل القبلة بكل ذنب ما لم يستحله، لكان هذا أصوب، ولكان هذا أدق.
لكن المشكلة هي أن الإمام أبا جعفر الطحاوي رحمه الله طريقته هي طريقة مرجئة الفقهاء، وطريقة مرجئة الفقهاء - كما سبق - هي تأخير العمل عن مسمى الإيمان، وحينئذٍ يصبح الكفر عندهم هو مجرد التكذيب فقط، والاستحلال تكذيب، وحينئذٍ يمكن أن يتبين لنا أثر تأخير العمل عن الإيمان في مسألة التكفير، فإذا أخر الإنسان العمل عن الإيمان أصبح لا يكفر بالذنوب المكفرة في الحقيقة إلا إذا استحل، وهذه هي الطريقة التي أتخذها أبو جعفر الطحاوي ومن معه من مرجئة الفقهاء مثل ابن أبي العز وغيره.
النوع الأول: مرجئة الجهمية الأوائل، وهؤلاء هم الذين كانوا يقولون: لا يضر مع الإيمان ذنب كما لا ينفع مع الكفر طاعة، وهذه الفرقة انقرضت، بل إن شيخ الإسلام رحمه الله في كتاب الإيمان يقول: لا يعرف بهذه الكلمة قائل، يعني: لا يعرف لها قائل محدد، وإن أثرت عن الجهمية، يعني: أثرت عن الجهمية بشكل عام، لكن لا يعرف من قائلها على التحديد.
وهذا القول هو الذي من أجله كفر السلف الصالح الجهمية وقالوا: إنهم كفار؛ لأنهم قالوا: لا يضر مع الإيمان - الذي هو التصديق عندهم - معصية، فكل المعاصي التي يعملها الإنسان ما دام أنه يصدق ولم يكذب فهي لا تضره أبداً، وإنما يدخل الجنة بدون حساب ولا عذاب، وحينئذٍ أصبحت الجنة عندهم يدخلها كل العصاة، وكل من انتسب إلى التصديق يدخل الجنة، ولا يدخل النار إلا من كان مكذباً، وهذا يدل على أن كثيراً من الكفار سيدخلون الجنة بناءً على هذا؛ لأن الكفار ليسوا كلهم مكذبين، بل بعضهم مصدق، كما قال الله عز وجل عن فرعون: وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا [النمل:14] يعني: جحدوا بسبب الظلم والعلو، ولم يجحدوا بسبب التكذيب الداخلي، فهم كانوا مصدقين، لكنهم جحدوا ظلماً وعلواً، وكما هو حال المشركين أيضاً؛ فإنهم كانوا يعرفون أن الله هو الخالق الرازق المحيي المميت، كما قال الله عز وجل عنهم: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [لقمان:25] وحينئذٍ سيدخل جماعات أيضاً من المشركين الجنة على مذهب الجهمية، ولهذا كفرهم السلف رضوان الله عليهم، وسبق أن نقلت قول عبد الله بن المبارك رحمه الله فيهم.
النوع الثاني من المرجئة: مرجئة الأشاعرة الذين يقولون: إن الإنسان إذا أذنب الذنب فإنه يعاقب به، لكن العمل ليس داخلاً في الإيمان، فلا يترتب على تركه كفر، وهذا القول هو قول مرجئة الأشاعرة، ومرجئة الأشاعرة عندما قالوا: إن العمل لا يدخل في مسمى الإيمان، ما قصدوا أن أصحاب الذنوب لا يعذبون، وإنما أرادوا أن العمل ليس من حقيقة الإيمان الذي يترتب على تركه كفر، فعندهم مثلاً: لو أن إنسان زنى يعذب، ولو إنسان شرب الخمر يعذب، ولو إنسان أكل الربا يعذب.
لكن الخلاف الذي بينهم وبين أهل السنة هو في مسألة لو أن أحداً ترك العمل كله فلم يصل ولم يصم ولم يحج ولم يزك، كما أنه ترك أعمال القلب جميعاً، مثل الخوف والرجاء ونحو ذلك، فهم لا يعتبرون هذا كافراً وإنما يعتبرونه عاصياً، وكذلك الحال فيمن يطوف حول القبور وينذر ويذبح لها ويستغيث بغير الله فيما لا يقدر عليه إلا الله ونحو ذلك من هذه المكفرات، لا يعتبرون ذلك كفراً، وإنما يعتبرونه من الذنوب والمعاصي.
بل إن بعضهم مثل صاحب كتاب (مصباح الظلام) الذي يقال له: الحداد قال: إن الأنبياء والصالحين لهم احترام في نفوسنا، والمبتدع محمد بن عبد الوهاب - كما يزعم - أظهر أن الاستغاثة بهؤلاء الصالحين شرك، فحينئذٍ - على قوله - يلزم أهل العلم والصالحين أن يستغيثوا بالأنبياء وأن يستغيثوا بالصالحين؛ حتى يبقوا للصالحين كرامتهم! انظروا كيف أوجب الشرك بهذه الطريقة! أوجب الشرك لأنه يعتقد أن الاستغاثة بهم إكرامٌ لهم وإكرامهم واجب، وحينئذٍ يجب الاستغاثة بهم، في الوقت الذي يرى الشيخ محمد بن عبد الوهاب بأنه يقول: هذا شرك.
فإلى هذه الدرجة حصل الخلاف والصدام بين أهل السنة من جهة وبين الأشاعرة والصوفية من جهة أخرى.
ولأجل هذا فالخلاف ليس بيسير ولا بسطحي، ولا يصح أن يقول أحد: نجتمع فيما اتفقنا فيه، ويعذر بعضنا بعضٌ فيما اختلفنا فيه، إذ كيف نعذر مثل هذا الذي اختلفنا فيه؟ فعندما يأتي شخص من هؤلاء ويجمع عشرات الأشخاص ويطوف بهم حول القبور، ويطلب منهم أن يستغيثوا بالله، ويطلب منهم أن يذبحوا لغير الله ويذبحوا للأولياء ويقول: هذا من إكرامهم وهذا واجب، في الوقت الذي أنت ترى أن هذا شرك، فكيف تقول: يعذر بعضنا بعضاً فيما اختلفنا فيه؟ لا يمكن أن يعذر بعضنا بعضاً فيما اختلفنا فيه في مثل هذه المسائل، لكن الذي يعذر بعضنا بعضاً فيما اختلفنا فيه هي المسائل الفقهية التي لا يترتب على الخلاف فيها بدعة أو شرك أو نحو ذلك، فالمسائل الفقهية التي تحتمل الاجتهاد وقد اختلف فيها الصحابة هي التي يعذر بعضنا بعضاً فيها، لكن مسائل الاعتقاد لا يعذر بعضنا بعضاً فيها.
فكيف يمكن حصول العذر في شخص هذا حاله وهذه طريقته؟
وبناءً على هذا نعلم أن قول الشيخ: (ولا نقول: لا يضر مع الإيمان ذنب لمن عمله)، يعني به: الرد على مرجئة الجهمية الأوائل، لكنه لم يرد على مرجئة الفقهاء ومرجئة الأشاعرة.
وأئمة الأشاعرة المتقدمين مثل الشهرستاني ومثل البغدادي في (الفرق بين الفرق) وغيرهما يذكرون المرجئة ويردون عليهم ويبينون خطأهم، لكن يقصدون الإرجاء الذي هو إرجاء الجهمية فقط، ولا يذكرون الإرجاء الذي عندهم وهو تأخير العمل عن مسمى الإيمان، بمعنى: أنه لا يترتب على تركه كفر، كما يعتقدون.
وهاتان الفقرتان فيهما التأكيد على عملين من أعمال القلب وهما: الخوف والرجاء، ولا بد أن يكون الخوف مع الرجاء، وأن يكونا كالجناحين للطائر، كما ذكر ذلك الأئمة.
وقوله: (ونرجو للمحسنين من المؤمنين أن يعفو عنهم ويدخلهم الجنة) يدل على ذلك قول الله عز وجل: أُوْلَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا [الإسراء:57] فجمع في هذه الآية بين الخوف والرجاء.
ولهذا صح عن مكحول وغيره من السلف أنهم كانوا يقولون: من عبد الله بالخوف وحده فهو حروري - يعني: من الخوارج -، ومن عبد الله بالرجاء وحده فهو مرجئي، ومن عبد الله بالحب وحده فهو زنديق، ومن عبد الله بالخوف والرجاء والحب فهو الموحد. رواه أبو نعيم في (حلية الأولياء) وإسناده صحيح.
ولا شك أن تغليب الخوف على الرجاء يوصل إلى اليأس والقنوط من رحمة الله، وتغليب الرجاء على الخوف يوصل إلى الأمن من مكر الله، وتغليب المحبة على الخوف والرجاء يوصل إلى ترك طلب الجنة، ولهذا صرح بعض الصوفية فقال: إننا لا نطلب من الله عز وجل الجنة، ولا نعبد الله عز وجل طلباً للجنة وخوفاً من النار، وإنما نعبده محبة فيه، وهذا خطأ، وهو من الضلال، ولهذا يقول الله عز وجل عن الأنبياء: إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ [الأنبياء:90] رغباً يعني: رغبة في الجنة، ورهباً يعني: خوفاً من النار، وهم أكمل الموحدين، والأنبياء أكمل الأولياء.
فالشاهد من هذا هو: أن الخوف والرجاء والمحبة لا بد أن تكون متوازية، وقد كان السلف الصالح رضوان الله عليهم يسمون غلاة الصوفية زنادقة، ولهذا قال مكحول : ومن عبد الله بالحب وحده فهو زنديق؛ لأن أصل دين التصوف ليس من ملة الإسلام، فأصل دين التصوف الذي عليه غالب المتصوفة المتأخرين ليس من دين الإسلام، وإنما أصله دين هندي كان موجوداً في الهند، وكان أولئك الهنود يريدون أن يصلوا إلى الكشف عن طريق بعض الرياضات التي يقومون بها، فكان بعضهم يقف على رأسه وقتاً طويلاً، وبعضهم يتعرض للشمس، وبعضهم يتعرض للهواء البارد، وبعضهم يجري في الصحراء ويعيش مع الوحوش ونحو ذلك! وكانوا يدعون أنهم إذا قاموا بهذه الرياضات التي عندهم فإنهم يصلون إلى مرحلة من الكشوفات، وتأتيهم بعض الروحانيات، والهنود الذين كانوا على هذا الدين وثنيون، وكانوا هؤلاء يسمون عند الهنود ثيوصوفية.
وقد ذكرهم البيروني في كتابه (تحقيق ما للهند من مقولة مقبولة في الذهن أو مرذولة)، ذكر دينهم وطريقتهم ومنهجهم، وهذا هو نفسه الذي يقرره الشعراني في كتابه (الأنوار القدسية)، فإنه عندما يذكر الرياضة التي توصل الإنسان إلى الكشف الذي هو الغاية عندهم الذي يطلبونه ويتمنونه ذكر من الرياضات عندهم ما تشبه رياضات الهنود، مثل: الوقوف على الرأس والتعرض للشمس ونحو ذلك من إيذاء البدن؛ لأنه كانت عندهم فلسفة المسألة، وهي: أن البدن إذا أوذي وأتعب ترتفع الروح، لكن إذا لم يؤذ البدن وإنما غلب الجانب الجسدي في الإنسان فإن الروح تكون ضعيفة ومنخفضة، وهذا هو أصل دين البوذية الذين يقولون: إنه بالرياضات يمكن أن نصل إلى مرحلة النربانا.
الشاهد من الموضوع هو: أن السلف كانوا يسمون هؤلاء زنادقة، والذي يقرأ في طبقات الشعراني عن بعض كرامات هؤلاء يجد عجباً، فمثلاً: يذكر من كراماتهم فيقول: ومن كرامات سيدي أحمد الرفاعي أن رجلاً - سماه -كان عنده فرأى رجلاً طائراً في الهواء حتى جاء إلى سيدي أحمد الرفاعي ، فقال له: أهلاً بوفد المشرق، ثم قال: أريد منك يا سيدي أحمد ! أن تعطيني حاجتي، قال: وما هي حاجتك؟ قال: حاجتي في كذا وفي كذا، وبدأ يعدد أصنافاً من الأكل، قال: فأخذ حصاة فحركها فانقلبت كوزاً فيه ماء، ثم نظر إلى السماء فإذا بعض الطيور تطير في السماء فأشار إليها فنزلت مشوية على طبق، ثم بعد ذلك أكل منها حتى شبع!
الشاهد هو أنه أكل منها حتى شبع، ثم بعد ذلك طار من حيث جاء هذا الرجل، فلما طار أشار إلى كوب الماء فرده حجراً، ثم أشار إلى هذه الطيور فعادت تطير في السماء كما كانت وكأنها لم تؤكل ولم يحصل لها شيء! وهذا إن ثبت فهو سحر واضح.
وشمس المعارف الكبرى، كتاب معروف من كتب السحر، صاحبه اسمه محمد البوني ، والبوني هذا ترجم له النبهاني في كتاب له اسمه جامع كرامات الأولياء فقال: كان محمد البوني هذا من الأولياء، وكان من كراماته أنه مجاب الدعوة!
ولهذا كان كثير منهم متصوفة، وكان كثير منهم سحرة، وهم الذين نشروا السحر في العالم الإسلامي.
فالشاهد: أن تغليب جانب على جانب من هذه الجوانب الثلاثة: الخوف والرجاء والمحبة، ليس هو طريق السنة ولا هو طريق الاعتدال، وإنما هو طريق الضلال والانحراف والعياذ بالله! وإنما الطريقة التوحيدية طريقة أهل السنة هي أن يكون الخوف والرجاء والمحبة في وقت واحد.
انظروا كيف ضبط الكفر! ضبط الكفر بالجحود فقط، يقول: (ولا يخرج العبد من الإيمان)، يعني: إلى الكفر، (إلا بجحوده ما أدخله فيه)، ولو أنه لم يجحد ولكنه أعرض عن العمل أو طاف بقبر أو ذبح لغير الله لا يكفر، ولهذا هذا يدلكم على أنهم لما ضبطوا الإيمان على أنه مجرد التصديق ضبطوا الكفر على أنه مجرد التكذيب فقط.
هنا قضية لا بد أن ننتبه لها، وهي أن هناك فرقاً بين طريقة الشيخ الطحاوي وبين طريقة الأشاعرة، فالشيخ الطحاوي الخلاف معه أخف بكثير من الخلاف مع مرجئة الأشاعرة، والسبب في هذا هو: أنه عند النقاش والتحقيق تجد أن الطحاوي رحمه الله يكفر الذي يعرض عن العمل جملة، لكن وقعت الشبهة عنده في التعريف، وسبق أن قلنا: إن الخلاف ليس لفظياً؛ لأن التعريف هذا تعريف شرعي، فإذا خالف فيه تكون مخالفته مخالفة للنصوص، ومخالفة النصوص خطأ وبدعة، لكن ليس هو كحال مرجئة الأشاعرة الذين بنوا على هذه العقيدة قضايا خطيرة سبق أن تحدثنا عنها، مثل: الطواف حول القبور والنذر لها ونحو ذلك.
وقوله: (والإيمان هو الإقرار باللسان والتصديق بالجنان).
قد سبق أن بينا أن الوقوف على هذين الركنين فقط خطأ، وإنما الصواب زيادة: (والعمل بالأركان).
وقوله: (وجميع ما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من الشرع والبيان كله حق والإيمان واحد)، الإيمان واحد يعني: لا يزيد ولا ينقص، وإنما هو شيء واحد، والسبب في هذا القول هو: أنه تصور أن الإيمان هو التصديق فقط، وأما قوله: (والإقرار باللسان)، فإنهم يرون أن الإقرار باللسان ركن زائد لإجراء الأحكام الظاهرة على الإنسان فقط، وأما حقيقة الإيمان فلا يدخل فيه حتى الإقرار باللسان.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [والإيمان واحد، وأهله في أصله سواء، والتفاضل بينهم بالخشية والتقى ومخالفة الهوى وملازمة الأولى].
قوله: (وأهله في أصله سواء) يعني: وأهل الإيمان في أصل الإيمان سواء، ويقصد بأصل الإيمان: التصديق، ولكن هذه العبارة مضطربة؛ لأن قوله: (الإيمان واحد)، ثم قوله: (في أصله) يدل على أن هناك فرعاً له، فهو على هذا يرى أن الإيمان أصل وفرع، وإذا كان له أصل وفرع فكيف يقول: والإيمان واحد؟ فمعنى هذا: أن الإيمان اثنان وليس بواحد، وأن الفرع يزيد على الأصل، فقوله: (وأهله في أصله سواء) مناقض لقوله: (والإيمان واحد)، والسبب في المناقضة هذه هو أنه كان يرى رأي مرجئة الأحناف، وهذه من الفقرات التي أخذت على أبي جعفر الطحاوي رحمه الله.
ومن الأمور التي تبين الفرق بين مرجئة الفقهاء ومرجئة الأشاعرة: أن مرجئة الفقهاء يرون أن ترك العمل بالكلية كفر يخرج عن الإسلام، ولهذا يقول ابن أبي العز رحمه الله في شرحه للطحاوية: والاختلاف الذي بين أبي حنيفة والأئمة الباقين من أهل السنة اختلاف صوري؛ فإن كون أعمال الجوارح لازمة لإيمان القلب أو جزءاً من الإيمان مع الاتفاق على أن مرتكب الكبيرة لا يخرج من الإيمان بل هو في مشيئة الله إن شاء عذبه وإن شاء عفا عنه نزاع لفظي، يعني: أنه يرى أن قول الأحناف: إن العمل لازم لإيمان القلب، وأن قول السلف: إن العمل من إيمان القلب، يرى أن هذا نزاع لفظي، والصحيح كما سبق أن بينا أنه ليس نزاعاً لفظياً.
وقد أطال الشيخ ابن أبي العز رحمه الله في شرح هذه الفقرة والتقريب بين مذهب أهل السنة ومرجئة الفقهاء في هذه المسألة.
وقد سبق الحديث مختصراً عن الولاية، واستدللنا عليها بقول الله تعالى: أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ [يونس:62-63] وأبطلنا فيها مذهب الصوفية في الولاية، وذكرنا أنهم يقولون:
مقام النبوة في برزخ فويق الرسول ودون الولي
فيرون أن النبوة والرسالة دون الولاية، ويستدلون عليها كما سبق أن بينا بقصة الخضر مع موسى، وسبق أن أبطلناها بأن الخضر كان نبياً، وأنه إن فضل على موسى في قضية فإن موسى أفضل منه في قضايا أخرى.
وأكرم المؤمنين عند الله أطوعهم وأتبعهم للقرآن، فأكرم المؤمنين هو المتبع لما جاء عن الله والمتبع للقرآن الكريم، وفي هذا رد على منهج الصوفية في مسألة الولاية، فإن الصوفية لهم طريق في السلوك غير طريقة أهل السنة، فأهل السنة طريقتهم في السلوك: أن الإنسان يزيد إيمانه عن طريق الأعمال الصالحة المشروعة: عن طريق الذكر المشروع.. عن طريق الصلاة المشروعة مثل النوافل وغيرها.. عن طريق الصيام المشروع.. عن طريق الجهاد في سبيل الله.. عن طريق الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى والإصلاح.. عن طريق العبادة والخشوع والخوف وتنمية أعمال القلب، هكذا يزيد الإيمان عند المؤمن حتى يبلغ أعلى الدرجات الممكنة، لكن الصوفية لهم خط آخر غير خط أهل السنة في مسألة الحصول على الولاية، فإنهم يرون أن الحصول على الولاية يكون بالإعراض عن القتال والجهاد، ولا يرون أن الجهاد يمكن أن يوصل إلى الولاية بأي وجه من الوجوه.
فمثلاً: يقول أبو حامد الغزالي في (إحياء علوم الدين): ينبغي على السالك إذا جاء إلى خلوته ألا يشتغل في خلوته بقراءة قرآن، ولا بكتب حديث، ولا بشيء من ذلك!
انظروا كيف يرون أن قراءة القرآن وأن دراسة الحديث لا توصل إلى السلوك، ولهذا كانوا يرون أن أهل الحديث قساة في القلوب، وهذه وجهة نظرهم، كانوا يرون أن أهل الحديث من قساة القلوب؛ لأنهم لا يشتغلون بالطريقة التي هم يشتغلون بها، ولا يأخذون الولاية كما يأخذها هؤلاء، فهم يأخذون اسماً من الأسماء يردده الواحد منهم، فيقول مثلاً: الله الله، ويردده آلاف المرات حتى يحصل له كشوفات، ثم يشترطون له شروطاً مثل الجوع وألا يكون ممتلئاً، ويذكرون فضل الجوع ونحو ذلك بذكر الأدلة في الفقر ونحوه.
الشاهد: أنهم يطيلون في مسألة كيف يبدأ السالك بالذكر، وهو ذكر مبتدع يشتغل فيه أحدهم حتى تحصل له الكشوفات، فإذا حصلت له الكشوفات فقد حصلت له الولاية، وكشوفات أكثرهم ولاية، وهم يستدلون على وجود الولاية عند أحدهم بالكشوفات وكثرة الإغراء، ولهذا يقولون: من كرامات إبراهيم العريان - وهو من أوليائهم - أنه كان يخطب بالناس عرياناً، ويوم من الأيام قال: أشهد أن محمداً عدو الله وأن إبليس نبي الله! وخرج على الناس بسيف وهرب الناس جميعاً، وقالوا: هذه من كراماته رحمه الله تعالى! ويقولون: ربما وجد هذا التصرف منه في وقت واحد بأكثر من مكان، وهذه من كراماته!
وهكذا يشتغلون بالخرافات والخزعبلات ويعتقدون أن هذا هو الطريق المنجي عند الله سبحانه وتعالى.
بل إن الشعراني في كتابه (الأنوار القدسية في الآداب الصوفية) يقول: إن الإنسان إذا سلم نفسه للشيخ فيكون بين يديه كالميت بين يدي مغسله، فهم يقولون: إن الذي ليس له شيخ فشيخه الشيطان، فلا بد أن يكون للواحد شيخ محدد يدرس عليه هذا الطريق، ولا يمكن عندهم أبداً أن يدرس إنسان هذا الطريق من غير هذا الشيخ، ثم إذا جاءوا إلى آداب التعامل مع الشيخ يذكرون شيئاً لا يطيقه العقل، ومن ذلك: ألا يكتم عن شيخه سراً، فإن الشيخ إذا كتم عنه هذا الإنسان سراً فإنه أولاً يكتشفه الشيخ، وهذه أكبر ورطة، والثانية أنه لا يصل إلى درجة الولاية المطلوبة، فإذا جاء الإنسان وعنده رغبة في الولاية فلا بد أنه يبوح بكل أسراره وكل فضائحه التي عملها في الدنيا، ولا شك أن هذا من كشف الأسرار التي ما أمر الله سبحانه وتعالى بها.
وكما سبق أن بينت أن طريقة مبتدعة، وهي طريقة الضالين، يذكرون أنه ينبغي للمريد عند شيخه أن يكون مثل الميت بين يدي مغسله، هكذا نص الشعراني ، فإنه قال: يجلس بين يدي شيخه كما يكون الميت بين يدي مغسله لا يحرك شيئاً!
ولهذا يا إخوان هؤلاء الصوفية عبثوا في الأمة عبثاً كبيراً، وكانوا سبباً في ترك كثير من المشركين لهذا الإسلام، فبعض النصارى - مثلاً - إذا أراد أن يسلم ورأى هؤلاء قال: خرافات النصارى أحب إلي من خرافات المسلمين، يعني: خرافات جماعتي أفضل من خرافات ناس ما أعرفهم، فأصبحوا فتنة والعياذ بالله! وأصبحوا سبباً للصد عن سبيل الله، وصاروا فتنة للذين كفروا؛ بحيث إنهم امتنعوا عن الدخول في الإسلام بسببهم.
هذا يدل أن العبرة في الإنسان هو بكونه طائعاً لله سبحانه وتعالى، ولهذا يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا فضل لعربي على أعجمي ولا لعجمي على عربي ولا لأبيض على أسود ولا لأسود على أبيض إلا بالتقوى).
إذاً: التقوى هي الميزان في الولاية والميزان في الكرامة، ولهذا لما اختلف السلف: هل الأفضل الفقير الصابر أو الغني الشاكر؟ كان أقوى الأقوال في هذه المسألة أن الأفضل هو الأتقى من أي الجانبين.
وإن كان ابن القيم رحمه الله في (بدائع الفوائد) له ترجيح آخر، وهو أنه يقول: إن التفضيل لا يصح بإطلاق، وإنما يمكن أن يكون الشيء فاضلاً باعتبار ومفضولاً باعتبار آخر، فذكر - مثلاً - هل الأفضل عائشة رضي الله عنها أو خديجة ؟ فقال: خديجة رضي الله عنها أفضل من عائشة باعتبار مؤازرتها للنبي صلى الله عليه وسلم في بداية الدعوة، وعائشة أفضل منها باعتبار أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحبها، وكان يقدمها على بقية نسائه بعد موت خديجة ، وهكذا في الأعمال الصالحة، فإن الأعمال الصالحة كل عمل منها أفضل باعتبار وغيره أفضل باعتبار آخر.
وهذا سبق أن تحدثنا عنه في الكلام على حديث جبريل وسبقت الإشارة إليه مفصلة.
ثم قال رحمه الله: [ونحن مؤمنون بذلك كله، لا نفرق بين أحدٍ من رسله، ونصدقهم كلهم على ما جاءوا به].
ومما يدل على أن الإيمان بالرسل جميعاً واجب وأنه لا يجوز أن يؤمن الإنسان ببعض الرسل ويكفر ببعض أن الله عز وجل يقول: وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ [النحل:36] فكل الرسل جاءوا بدين واحد وهو الإسلام، كما أن الله عز وجل يقول عن قوم نبي واحد أو رسول واحد وهو أول الرسل: كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ [الشعراء:105] ونوح هو أول رسول، فكيف كذبت المرسلين وهم لم يبعثوا؟ لكن لما كذبوا نوحاً ونوح طريقته هي طريقة المرسلين كان هذا تكذيباً لبقية المرسلين.
وهذه هي عقيدة أهل السنة، وأما الخوارج والمعتزلة فإنهم يقولون: إن أهل المعاصي من أهل الكبائر مخلدون في النار لا يخرجون منها أبداً، والخلاف بين المعتزلة وبين الخوارج هو في الحكم عليه في الدنيا، فإن الخوارج قالوا: أصحاب الكبائر كفار، وأجروا عليهم أحكام الكفر، وأما المعتزلة فقالوا: إنهم يخرجون من الإيمان بالكبيرة، لكنهم لا يدخلون في الكفر، وإنما يبقون في منزلة بين المنزلتين، وهي بدعة غريبة لم تعرف إلا عنهم.
وأما أهل السنة فإنهم يقولون: إن أهل الكبائر من أهل الوعيد قد يعذبهم الله سبحانه وتعالى في النار ثم يخرجون منها بالشفاعة أو بانتهاء العذاب أو برحمة الله سبحانه وتعالى، المهم: أنه لا يخلد أحد من أهل المعاصي في النار أبداً، وإنما تبقى النار للكفار الخالدين فيها، وأما في الدنيا فإن الله عز وجل وصف أهل المعاصي بالإيمان كما وصفهم في بعض النصوص بالكفر.
وهذا يدل يا إخوان على أن الكفر ينقسم إلى قسمين: كفر يخرج من الإسلام، وكفر لا يخرج من الإسلام، فأما الكفر الذي يخرج من الإسلام فهو الشرك، مثل: عبادة غير الله سبحانه وتعالى، أو التولي والإعراض، أو الاستكبار.. أو نحو ذلك من أنواع الكفر وأصنافه.
وأما الكفر الذي لا يخرج عن الإسلام فهو بعض الذنوب والمعاصي التي وصفها الله بالكفر وهي لا تخرج عن الإسلام، مثل قتال المسلم، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (سباب المسلم فسوق وقتاله كفر) وليس المقصود بالكفر في قوله: (وقتاله كفر) الكفر الذي يخرج عن الإسلام، والدليل على هذا قول الله عز وجل: وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا [الحجرات:9] فمع أنهم اقتتلوا سماهم الله عز وجل مؤمنين، وكذلك يقول الله عز وجل في آية القصاص: فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ [البقرة:178] قوله: (فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ) وصفه بالأخوة، ولا تنزع الأخوة الإسلامية إلا بالكفر، فإذا كان كافراً فإنه لا يكون أخاً له، وأما قوله تعالى في بعض الأنبياء: وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا [الأعراف:65] وغيرها من الآيات التي تشبهها فليس المقصود بأنه أخوهم في الولاية، وإنما المقصود بالأخ هنا: صاحب عاد، يعني: من قومهم ومن جماعتهم ومن أقربائهم.
وأما الدليل على أن أهل الكبائر لا يخلدون في النار فهو حديث الشفاعة الذي سبق أن أشرنا إليه، فإن فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يخرج من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان)، وجاء في رواية: (من كان في قلبه أدنى من مثقال الذرة من الإيمان)، وجاء في بعضها: (يخرج من النار من كان في قلبه أدنى أدنى مثقال ذرة من الإيمان)، وهذا يدل على أن أهل الذنوب لا يخلدون في النار ما دام أنهم من أهل التوحيد.
وقول الشيخ: [وأهل الكبائر من أمة محمد صلى الله عليه وسلم في النار لا يخلدون].
القيد هنا في قوله: (من أمة محمد صلى الله عليه وسلم) فيه إشكال؛ لأنه قد يفهم منه بعض الناس: أن أهل الكبائر من أصحاب الأمم الأخرى يخلدون في النار، وهذا ليس بصحيح، فإن أصحاب الكبائر عموماً من أمة محمد صلى الله عليه وسلم أو من غيرها من الأمم لا يخلدون في النار؛ بدليل العموم في حديث الرسول صلى الله عليه وسلم: (يخرج من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان)، وهذا عموم يشمل أمة محمد صلى الله عليه وسلم ويشمل غيرها من الأمم، وقد جاء في بعض نسخ متن العقيدة الطحاوية بحذف (أمة محمد) يعني: جاء بلفظ: (وأهل الكبائر في النار لا يخلدون) بهذا العموم.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [إذا ماتوا وهم موحدون وإن لم يكونوا تائبين بعد أن لقوا الله عارفين، وهم في مشيئته وحكمه إن شاء غفر لهم وعفا عنهم بفضله، كما ذكر عز وجل في كتابه: وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ [النساء:48] ].
وهذه الآية آية النساء: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ [النساء:48] دليل أيضاً على أن أهل الكبائر لا يخلدون في النار؛ لأنهم تحت المغفرة وتحت المشيئة.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وإن شاء عذبهم في النار بعدله، ثم يخرجهم منها برحمته وشفاعة الشافعين من أهل طاعته، ثم يبعثهم إلى جنته].
سبق أن تحدثنا عن الشفاعة، وأن المعتزلة لا يقرون بها، لا سيما شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين وغيرهم من الملائكة والأنبياء لأهل الكبائر، فإن عندهم قاعدة: أنه إذا دخل أحد النار لا يخرج منها أبداً، وهذه مبنية على قاعدتهم في حكم مرتكب الكبيرة، فإن حكم مرتكب الكبيرة عندهم كافر، ويصبح من أهل النار، وحينئذٍ لا يخرج منها؛ لأنه كافر، ولا يدخل النار إلا الكفار وأهل الكبائر، وأهل الكبائر والكفار عندهم سواء، وليس هناك فرق بين الاثنين، وحينئذٍ فهم أنكروا الشفاعة وقالوا: إن الشفاعة لا يمكن أن تحصل؛ لأن فيها مخالفة لمذهبهم ورأيهم.
ونرى الصلاة خلف كل بر وفاجر من أهل القبلة وعلى من مات منهم].
الصلاة المقصود بها: صلاة الجماعة، يعني: أن الصلاة تصلى خلف البر والفاجر، وفي هذه الفقرة يمكن أن نبحث مسألة وهي: ما هو حكم الصلاة خلف المبتدع وخلف الفاسق؟
الأصل أن صلاة المبتدع والفاسق في ذاتها صحيحة، فما دام أنه يأتي بأركانها ويأتي بشروطها وواجباتها فهي صلاة صحيحة، ولكن الأولى هو ألا يصلى خلف المبتدع والفاسق، وهذا لا لأن صلاته باطلة؛ وإنما للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإنه يجب على المسلم أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر بإنكار البدعة والذنوب والمعاصي، ومن إنكارها ترك الصلاة خلف أهلها، ولهذا فالمبتدع إذا صلى بالناس وأنت حاضر في المسجد لا بد أن تصلي وراءه؛ لأن صلاته صحيحة ولا إشكال فيها، والانصراف من الصف بسبب وجود مبتدع يصلي بالناس هذا بدعة في حد ذاتها.
والسلف الصالح رضوان الله عليهم بدعوا الذي يترك الجمعة والجماعة بسبب ترك الصلاة خلف الفاسق والمبتدع فإن هذه بدعة في ذاتها، فقد ثبت عن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم الصلاة خلف المبتدع وخلف الفاسق، فأما خلف الفاسق فيمكن الاستدلال بما رواه البخاري أن ابن عمر وأنس بن مالك صليا خلف الحجاج بن يوسف الثقفي وكان فاسقاً سفاحاً قتالاً للصالحين، ولم يكونوا يتركون صلاة الجماعة أو الجمعة لأن الحجاج هو الذي يصلي بالناس، فلا تترك الصلاة جماعة أو تترك الجمعة بسبب مبتدع يصلي بالناس.
وأما إذا وجد مبتدع فالدليل على ذلك ما ثبت في الصحيح أن أبا سعيد الخدري رضي الله عنه جاء في يوم العيد فرقى مروان بن الحكم من أجل أن يخطب قبل الصلاة في يوم العيد، فأنكر عليه أحد الحضور وقال: ما هكذا السنة يا مروان ! فقال له: يا فلان قد ترك ما هنالك، فقال أبو سعيد الخدري رضي الله عنه: أما هذا فقد برئ يعني: أعذر إلى الله عز وجل، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه؛ وذلك أضعف الإيمان) لكن أبا سعيد الخدري صلى خلف مروان بعد أن انتهى من خطبته ولم يترك الصلاة، وهذا مما يدل على أن السلف الصالح رضوان الله عليهم يرون أن المبتدع يصلى خلفه ويصلى خلف الفاسق؛ لأن صلاته صحيحة، ولا تترك الجمعة والجماعة بسبب صلاة المبتدع، وإذا تركها أحد أو خرج من الصف بعد أن كبر الإمام وهو مبتدع أو فاسق فهو مبتدع، فهذه بدعة لم يكن عليها سلف هذه الأمة من الصحابة والتابعين ومن بعدهم، إلا إذا كانت بدعته مكفرة، فإذا كانت بدعته مكفرة فلا يجوز الصلاة خلفه؛ لأنه لا يكون مسلماً، والصلاة يشترط لها الإسلام، وحينئذٍ إذا كانت بدعته مكفرة لا تكون الصلاة خلفه جائزة أصلاً، ولا تكون صلاته هو نفسه صحيحة، وإنما صلاته باطلة.
وهنا أحب الإشارة إلى قضية مهمة جداً وهي: قضية أن البدعة نوعان: بدعة مكفرة وبدعة ليست مكفرة، فالبدعة المكفرة هذه تدخل في عموم الكفريات، وأما البدعة غير المكفرة فهذه يكون صاحبها مسلماً له حق الإسلام والمسلمين؛ من رد السلام ومن تشميت العاطس ومن عيادته إذا مرض ونحو ذلك، لكن السلف الصالح رضوان الله عليهم عندما تكلموا عن أهل البدع ذكروا أنه لا يرد عليهم السلام، ولا يشمتون إذا عطسوا، ولا يعاد مرضاهم، ولا تتبع جنائزهم، ومقصودهم من ذلك هو: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
والهجر قاعدته: أنه إذا كان الهجر نافعاً فإنه يهجر، لكن إذا كان الهجر ليس بنافع فلا يهجر، فمثلاً: بعض الناس قد يمر بمبتدع وهو لا يدري عنه أصلاً فلا يرد عليه السلام، يعني المبتدع مثلاً أشعري أو صوفي يسلم، فإذا سلم لا يرد عليه السلام، ويحتج بأقوال السلف، وهذا غير سليم وغير صحيح، نعم إذا كنت لم ترد عليه السلام قد يتأثر ويترك بدعته نقول: لا ترد عليه؛ حتى يتأثر ويترك بدعته، لكن إذا كان لا يتأثر ولا يعرفك ولا يدري من أنت ولا يدري لماذا أنت لم ترد فهذا ليس بصحيح أنك لا ترد السلام، والدليل على ذلك: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (حق المسلم على المسلم خمس: - وذكر منها - عيادة المريض ورد السلام) وهذا مسلم، فلا يجوز أن يمتنع الإنسان من رد السلام أو من عيادة المريض أو نحو ذلك لهذا السبب، وبهذه الطريقة يفهم الإنسان نصوص السلف الصالح رضوان الله عليهم في هذا الباب.
وقد أشرت في كلامي السابق إلى أن صلاة المبتدع في ذاتها صحيحة، وكذلك صلاة الفاسق في ذاتها صحيحة، وذكرنا أن الصلاة خلف المبتدع صحيحة، والصلاة خلف الفاسق صحيحة، لكن ترك الصلاة خلف المبتدع وخلف الفاسق أولى وأحرى، وتقصد الصلاة خلف المبتدعة لا شك أنه مرض في القلب، والذي يتقصد الصلاة خلف أهل البدع ويبحث عنهم لجمال الصوت أو نحو ذلك لا شك أن هذا يدل على فساد في قلبه والعياذ بالله! والواجب على الإنسان أنه إذا عرف إنساناً في مسجد بعيد أنه صاحب بدعة فلا يتقصده ويذهب للصلاة خلفه لحسن صوته أو نحو ذلك.
فأقول: البحث عن مساجد أهل البدع والصلاة خلفهم فيها عمداً لا شك أنه يدل على مرض في القلب ويدل على ضعف جانب الولاء والبراء في النفس عند مثل هذا الإنسان، لكن إذا صادف الإنسان أن صلى في مسجد فوجد مبتدعاً يصلي بالناس فلا يجوز له أن ينصرف وأن يخرج من المسجد، وإذا خرج من المسجد فهو مبتدع، وكذلك الصلاة خلف الفاسق.
وأذكر أني استمعت إلى محاضرة لأحد العلماء، وسأله أحد الشباب الذين يرون أن المبتدع بهذا العموم لا يسلم عليه ولا يعاد إذا مرض ولا يصلى على جنازته ولا يصلى وراءه، فقال له هذا الشاب: هل يجوز أن يترحم على فلان من أهل البدع؟ سمى شخصاً، فقال: أنا أريد أن أسألك هل هو مسلم؟ ففكر قليلاً، ثم قال: نعم مسلم، فقال: طيب النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (حق المسلم على المسلم خمس: - منها - رد السلام).
فانظروا إلى الفقه العجيب عند هذا العالم، وانظروا تمام العلم وتمام الفقه عند هذا الشيخ وهذا الإمام؛ لأن بعض الناس تأخذه الحماسة عندما يقرأ في كتب السلف نصوصاً في (شرح أصول اعتقاد أهل السنة) لللاكائي ، ويقرأ نصوصاً في (الشريعة) للآجري ولا يعرف ظروفها، ولا يعرف طبيعتها، ولا متى حصلت وكيف حصلت، ولا يعرف تفسيرها، ويريد أن يقلدها فيخطئ، فيحمل المسلم ما لا يحتمل، ويخالف النصوص الشرعية الصحيحة، وهذه قضية ينبغي أن تفهم على وجهها الصحيح، وألا ينفخ فيها، وألا يبالغ في شيءٍ من ذلك.
قوله: (ولا ننزل أحداً منهم جنة ولا ناراً) المقصود بقوله: (منهم) يعني: من المسلمين من أهل القبلة، فلا يجوز لأحد أن يقول لأحد من أهل القبلة مات: هذا من أهل النار، كما لا يجوز أن يقول: هذا من أهل الجنة؛ لأن هذا من التعدي، فإنه ادعاء لما لم يعلمه إلا الله سبحانه وتعالى.
إلا أن السلف رضوان الله عليهم اختلفوا في مسألة الشهادة بالجنة، فإن للسلف فيها أقوالاً، فبعضهم قال: نشهد بالجنة للأنبياء، ومن شهد له الرسول صلى الله عليه وسلم بالجنة، وهذا هو الصحيح، وهو الذي عليه الأكثر.
وبعضهم قال: إن من شهد له المسلمون بالصلاح والتقوى فنشهد له كذلك، ويستدل على ذلك بحديث النبي صلى الله عليه وسلم عندما جاءت الجنازة الأولى فأثنوا عليها خيراً فقال: وجبت، فلما جاءت الثانية أثنوا عليها شراً، فقال: وجبت، فقالوا: ما وجبت؟ فقال: (هذا أثنيتم عليه خيراً فوجبت له الجنة، وهذا أثنيتم عليه شراً فوجبت له النار؛ أنتم شهداء الله في أرضه).
وأما الكفار الذين لا شبهة في كفرهم، يعني: لا ينتسبون إلى الإسلام بوجه من الوجوه مثل اليهود والنصارى والوثنيين فهؤلاء إذا ماتوا يصح للإنسان أن يشهد لهم بالنار، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا مررت بقبر كافر فبشره بالنار) ويقول الله عز وجل: مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُوْلِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ [التوبة:113] ثم قال: وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ [التوبة:114] يقول ابن عباس : تبين له أنه عدو لله لما مات، لكن قبل أن يموت كان يدعو له؛ لعل الله عز وجل أن يهديه، فلما مات تبين له أنه عدو لله، فترك الدعاء له.
يعني: أهل القبلة، فلا ينبغي للإنسان أن يتعجل، فبمجرد أن يفعل أحد من أهل القبلة فعلاً أو يقول قولاً يتعجل في تكفيره أو تفسيقه أو تبديعه أو نحو ذلك، فالتعجل لا شك أنه خطأ، ولا ينبغي للإنسان أن يتعجل في الحكم على الناس، وإنما عليه التأني، وعليه إحسان الظن في المسلمين، وأما البدعة في ذاتها فهي تنكر، فتنكر البدعة في ذاتها وينكر الشرك في ذاته، سواءً قال به فلان أو لم يقل به، لكن المقصود هنا: الحكم على الناس، وإن كان الحكم على الناس أصلاً ليس مقصوداً للمصلح، وإنما المقصود هو تبيين الصراط المستقيم للناس وحملهم عليه، وتبيين صراط الضالين وتنفير الناس منه، وفي هذا تكثير لأهل الصراط المستقيم وتقليل لأهل الباطل، وهذا هو حق أصل الدعوة التي ينبغي أن يكون عليها الدعاة والمصلحون.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ولا نشهد عليهم بكفر ولا بشرك ولا بنفاق، ما لم يظهر منهم شيءٌ من ذلك].
يعني: فإذا ظهر ذلك ووجدت شروطه وانتفت موانعه فإنه تحصل الشهادة عليهم بأي واحدة من هذه، لكن بالضوابط الشرعية بعيداً عن الاستعجال ونحوه.
قال رحمه الله: [ونذر سرائرهم إلى الله تعالى].
يعني: لا يجوز أن يحكم أحد على نيات الناس، فلا يجوز أن يحكم أحد على نية فلان أنه يريد كذا، وأن فلاناً يريد كذا، وإنما يحكم على الإنسان إما بقوله الصريح، وإما بلازم قوله الواضح الذي ليس فيه إشكال.
يعني: لا نرى القتل والقتال إلا على من وجب عليه، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يحل دم امرئٍ مسلم إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة) فالثيب الزاني يقتل بالرجم، والنفس بالنفس يقتل؛ لأنه قاتل، والتارك لدينه المفارق للجماعة يقتل لهذا السبب، ومن التارك لدينه المفارق للجماعة تارك الصلاة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم) هذه رواية ابن عمر ؛ وهي أتم رواية في هذا الباب.
وهذا يدل عليه قول الله عز وجل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ [النساء:59] ومن أوفى الأدلة في هذا الموضوع حديث عوف بن مالك الذي رواه مسلم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (خيار أئمتكم - يعني: حكامكم - الذين تحبونهم ويحبونكم، وتصلون عليهم ويصلون عليكم) والمقصود بقوله: (تصلون عليهم): تثنون عليهم وتمدحونهم ويمدحونكم بالحق وليس بالباطل، قال: (وشرار أئمتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم وتلعنونهم ويلعنونكم، فقلنا: يا رسول الله! أفلا ننابذهم بالسيف؟) يعني: نخرج عليهم بالسيف ونقاتلهم ما دام أنهم أشرار وما دام أنهم فجار، فقال: (لا؛ ما أقاموا فيكم الصلاة، ألا من ولي عليه والٍ فرآه يأتي شيئاً من معصية الله فليكره ما يأتي من معصية الله، ولا ينزعن يداً من طاعة) والخروج على الولاة الذين يخطئون لا يجوز؛ لدلالة هذه النصوص، ويجب طاعة ولاة الأمر إلا في معصية الله، فإنهم إذا عصوا الله عز وجل لا يجوز طاعتهم، ولا يجوز الاستماع لهم بأي وجه من الوجوه، كما هو ظاهر الحديث الذي سبق أن بيناه.
وأما الخروج عليهم بالسيف بسبب فسق فإنه لا يجوز، وهي طريقة غير سليمة، وهي مخالفة لسنة الرسول صلى الله عليه وسلم.
الطائفة الأولى: الخوارج، وهم الذين يكفرون الولاة بسبب ذنب من الذنوب، ويكفرون المسلمين، وهؤلاء الخوارج الذين يكفرون بسبب الذنوب لا شك أنهم من أهل البدع، وقد سبق أن بينا أنهم كلاب أهل النار، كما في الحديث.
الطائفة الثانية: قطاع الطرق الذين يخرجون على الحاكم إذا كانت لهم شوكة من أجل الفساد في الأرض، وهؤلاء تنطبق فيهم آية المحاربين المشهورة، وعقوبتهم بأن تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض، كما أخبر الله سبحانه وتعالى.
الطائفة الثالثة: البغاة، والبغاة هم طائفة لهم شوكة ولهم قوة ولهم منعة يخرجون على السلطان بتأويل، يعني: بسبب من الأسباب؛ إما لمظلمة من المظالم أو لأنه عصى أو لأنه جائر أو لأنه ظالم أو لأنه فاسق أو لأي سبب من الأسباب، فهؤلاء يسمون البغاة، وهؤلاء ترفع عنهم شبهتهم ويناقشون، فإن لم يرجعوا يقاتلون، وهؤلاء يشملهم قول الله عز وجل: وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي [الحجرات:9].
وهناك فرق بين الخوارج وبين البغاة؛ فإن الخوارج هم الذين يخرجون ويكفرون الناس بالذنوب، وهؤلاء فرقة ضالة مبتدعة، وأما البغاة فهم الذين يخرجون وهم من أهل السنة، لكن عندهم تأويل سائغ كما ذكر ذلك الحافظ ابن حجر رحمه الله في (فتح الباري)، فمثل هؤلاء تنطبق عليهم آية الحجرات التي سبق أن بيناها.
والكلام في هذا يطول، وربما سبق شيءٌ منه، والواجب أن يتبع الإنسان السنة لا يتعصب إلا للسنة، ولا يتحمس إلا لها ولا يجتهد إلا لها، ويبتعد كل البعد عن الفرقة وعن الاختلاف وعن الشذوذ ونحو ذلك.
وحقيقة أن هذه الفقرات فيها معان عظيمة، لكن المقام لا يكفي لتفصيل ما فيها، وإنما يكفي ما أشرنا إليه.
يعني: لا يتجرأ الإنسان على أحكام الله عز وجل فيتكلم فيها بغير وجه حق، فإن الله عز وجل قرن بين الشرك وبين القول على الله بغير علم، كما قال الله عز وجل: قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ [الأعراف:33].
والمسح على الخفين يعتبر من قضايا الاعتقاد، ولهذا يذكر في كتب الاعتقاد؛ لأن الروافض والشيعة لا يرون المسح على الخفين، وإنما يخالفون ذلك ويرون مسح الرجل مباشرة، والمسح على الخفين ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم في أحاديث كثيرة، ولهم شبهة في ذلك لا يتسع المجال لشرحها.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر