وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، الملك الحق المبين، وأشهد أن نبينا محمداً إمام المتقين، وقائد الغر المحجلين.
أما بعد:
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [والميثاق الذي أخذه الله تعالى من آدم وذريته حق].
أخذ الله سبحانه وتعالى من ظهر آدم ذريته، وجمعهم في مكان واحد، واستنطقهم سبحانه وتعالى، وأشهدهم على أنفسهم، وقال لهم: أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا [الأعراف:172] فقال الله عز وجل لهم: أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ [الأعراف:172]، وهذا الميثاق الذي أخذه الله سبحانه وتعالى على بني آدم من ظهر آدم هو قبل أن يخلق الناس، والميثاق فيه أربع مسائل كبار: المسألة الأولى: مسألة الفطرة، والمسألة الثانية: مسألة الأرواح، والمسألة الثالثة: مسألة القدر، والمسألة الرابعة: مسألة قيام الحجة.
والشيخ أبو جعفر الطحاوي رحمه الله أوردها في صدر الكلام على القدر، كأنه يشير إلى أن الميثاق نوع من أنواع القدر المكتوب، كما سيأتي ذكره.
ويدل على الميثاق قول الله سبحانه وتعالى في سورة الأعراف: وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ * أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ [الأعراف:172-173]، والإشهاد والاستنطاق وأخذ الميثاق أمر متفق عليه بين السلف الصالح رضوان الله عليهم، إلا أنهم اختلفوا في مسألة: هل آية الأعراف تدل على هذا الأمر الذي هو أمر الميثاق وإخراج الذرية واستنطاقهم وإشهادهم، أو أنها لا تدل؟
أما استنطاقهم وإخراجهم وإشهادهم على أنفسهم فقد دلت عليه جملة من الأحاديث، منها حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وحديث ابن عمر رضي الله عنه، وحديث أبي هريرة رضي الله عنه، وحديث أنس بن مالك رضي الله عنه، وكل هذه الأحاديث منصوصة في كتب أهل العلم في المسانيد والسنن والجوامع، وهي وإن كان كثير من طرقها فيه ضعف إلا أن بعضها يجبر بعضاً، وقد جمع طرقها الشيخ الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة واستفاض في تخريجها وأطال رحمه الله تعالى.
ويمكن أن نذكر من هذه الأحاديث حديث ابن عباس رضي الله عنه، وهو قوله: قال رسول صلى الله عليه وسلم: (إن الله أخذ الميثاق من ظهر آدم عليه السلام بنعمان -يعني: بعرفة- فأخرج من صلبه كل ذرية ذرأها، فنثرها بين يديه، ثم كليهم قبلاً، قال: أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ [الأعراف:172]... إلى آخر الآيات).
وكذلك روى الإمام أحمد في مسنده من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه نحو ما رواه عن ابن عباس ، إلا أنه زاد: (إن الله عز وجل مسح ظهر آدم بيمينه واستخرج منها ذرية، فقال: خلقت هؤلاء للجنة وبعمل أهل الجنة يعملون، ثم مسح ظهره فاستخرج منه ذرية، فقال: خلقت هؤلاء للنار وبعمل أهل النار يعملون، فقال رجل: يا رسول الله! ففيم العمل؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله عز وجل إذا خلق العبد للجنة استعمله بعمل أهل الجنة حتى يموت على عمل من أعمال أهل الجنة فيدخله به الجنة، وإذا خلق العبد للنار استعمله بعمل أهل النار حتى يموت على عمل من أعمال أهل النار فيدخله به النار) ونحو ذلك من الأحاديث التي تدل على أن الله عز وجل استخرج من ظهر آدم ذريته، وأشهدهم على أنفسهم.
لكن اختلف السلف الصالح رضوان الله عليهم في آية الأعراف، هل هي نفسها المقصودة في الأحاديث؟ يعني: هل الأحاديث وآية الأعراف شيء واحد، أم أن الآية تدل على معنى والأحاديث تدل على معنى آخر؟
جمهور أهل العلم يقولون: إن الآية هي نفسها المرادة في الأحاديث، ولهذا جاء نصها في حديث ابن عباس رضي الله عنه كما سبق.
وشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وتلميذه ابن القيم في كتابه الروح وأيضاً وافقهما الشارح يرون أن الآية التي في سورة الأعراف لا توافق الأحاديث الواردة في استخراج الذرية وإشهادهم على أنفسهم وإقرارهم بذلك.
وهذه المسألة التي في تفسير الآية الخلاف فيها سهل وبسيط، لكن أهل العلم اتفقوا على مسائل الاعتقاد التي تضمنها هذا الميثاق الوارد في الأحاديث، فقد اتفقوا على أن الميثاق يدل على الفطرة، ويدل على أن الله عز وجل خلق كل الناس وهم مفطورون على التوحيد، ولهذا لما استنطقهم وهم في عالم الأرواح قال: أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى [الأعراف:172]، ولهذا أخرجهم الله عز وجل بعد ذلك وهم مفطورون على التوحيد، ويؤيد هذا قول الله سبحانه وتعالى: فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ [الروم:30]، فقوله: فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ لما أضاف الفطرة إلى الله عز وجل دل هذا على أن هذه الفطرة فطرة ممدوحة، فإن المضاف إلى الله عز وجل على أنواع: منه ما يضاف إضافة صفة، مثل: يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ [الفتح:10]، بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ [المائدة:64]، ومنه ما يضاف إلى الله عز وجل إضافة تشريف، مثل: وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا [الفرقان:63]... إلى آخر الآية، ومثل: نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا [الشمس:13]، وبيت الله، ونحو ذلك من الإضافات، فهذه إضافات تشريف، وبعضها إضافات خلق مجرد، فإضافة الفطرة إلى الله عز وجل في قوله: فِطْرَةَ اللَّهِ [الروم:30] إضافة تشريف، فهي فطرة ممدوحة، ولهذا قال الله عز وجل: فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ [الروم:30]، فبين الله سبحانه أن هذه الفطرة مخلوقة في نفوسهم منذ أن يولدوا، وهذا يوافق الحديث المشهور في هذا الباب، وهو حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه، كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء هل تحسون فيها من جدعاء؟ حتى تكونوا أنتم تجدعونها، ثم قرأ
أيضاً ما رواه مسلم من حديث عياض بن حمار المجاشعي عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه: (إني خلقت عبادي حنفاء فاجتالتهم الشياطين عن دينهم)، وفي رواية: (إني خلقت عبادي حنفاء مسلمين) وفي رواية في حديث أبي هريرة : (كل مولود يولد على فطرة الإسلام) رواه ابن حبان وصححه.
والأدلة على الفطرة كثيرة جداً، ويمكن أخذ الفطرة من الميثاق؛ فإن الله عز وجل عندما نثر الناس من ظهر آدم استنطقهم بقوله: أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ [الأعراف:172]، فقالوا: بَلَى [الأعراف:172]، ولهذا فطروا عليها.
المسألة الثانية: هي مسألة القدر، والذي يدل على أن هذا الميثاق قد كان فيه القدر رواية عمر بن الخطاب رضي الله عنه التي سبق أن ذكرناها، وهي أنه عندما مسح على ظهر آدم فأخرج منه جملة من ذريته قال: (هؤلاء من أهل الجنة)، ثم أخرج جزءاً آخر فقال: (هؤلاء من أهل النار أو هم أهل النار).
المسألة الثالثة: مسألة الأرواح، وهذه مسألة طويلة اختلف فيها السلف رضوان الله عليهم، والصحيح: أن هذه الأرواح التي أخرجها الله سبحانه وتعالى لم تبق إلى أن خلق الله عز وجل الأجساد ثم أرسل إليها الأرواح، وإنما أخرج الله عز وجل من ظهر آدم ذريته، ثم عادت الأرواح، ثم يخلق الله سبحانه وتعالى بعد ذلك الأرواح مع الأجساد، ولهذا جاء في حديث ابن مسعود رضي الله عنه أنه إذا أرسل الملك إلى الجنين في بطن أمه ينفخ فيه الروح، فالروح تأتيه وهو في بطن أمه، وليست في مستودع كما ذكر ذلك ابن حزم ، وهذه المسألة مسألة طويلة الذيل.
المسألة الرابعة: هي مسألة قيام الحجة، وبعض الناس اعتقد أن هذا الميثاق يكفي في قيام الحجة على الناس، وقال: إن الناس قد قامت عليهم الحجة بمجرد الميثاق، ولهذا لو لم يبعث الله سبحانه وتعالى رسولاً فإن الفطرة قائمة في نفوسهم منذ أن أخذ عليهم الميثاق، وهي حجة كافية في تعذيبهم لو لم يوحدوا.
والصحيح: أن الميثاق هو مجرد زيادة بيان وليس هو لوحده كافياً في قيام الحجة على الناس، ولهذا يقول الله سبحانه وتعالى: وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا [الإسراء:15]. هذه مسألة الميثاق.
ثم ذكر بعد ذلك فقرات متعددة كل هذه الفقرات يجمعها أنها في موضوع القدر، يعني: من فقرة (50) إلى فقرة (60) تقريباً هذه كلها في موضوعات القدر، ويمكن أن نذكر الموضوعات الأساسية في القدر ثم نعرض لهذه الفقرات، ونطبقها على ما نذكره إن شاء الله.
والإيمان بالقضاء والقدر ركن من أركان الإيمان، كما جاء ذلك في حديث جبريل عندما سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الإيمان فقال: (أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله وباليوم الآخر وبالقدر خيره وشره)، فالقدر ركن من أركان الإيمان، كما أن القدر يعتبر من الإيمان بالله سبحانه وتعالى؛ فإن خلاصة القدر هو: الإيمان بصفات الله سبحانه وتعالى؛ الإيمان بالعلم والقدرة والإرادة والخلق، وكل ذلك سيأتي بيانه وتفصيله.
فالإيمان بالقدر متعلق بالإيمان بالله سبحانه وتعالى، وبالذات بتوحيد الأسماء والصفات، ولهذا تساءل البعض: لماذا لم يرد ركن الإيمان بالقدر في القرآن؟ والجواب عن هذا: أنه ورد في القرآن مفرداً عن بقية الأركان، كما قال الله عز وجل: إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ [القمر:49]، وقوله: وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا [الأحزاب:38] هذا أمر.
والأمر الثاني: أنه حتى لو لم يرد هذا الركن منفصلاً فهو تابع لركن الإيمان بالله، فإن القدر كما سبق أن بينا متعلق بالإيمان بالله؛ لأن الإيمان بالله يتضمن الإيمان بربوبية الله والإيمان بإلوهية الله، والإيمان بأسماء الله وصفاته، ومن الإيمان بأسماء الله وصفاته الإيمان بالقدر، فإن القدر يعود إلى توحيد الأسماء الصفات، كما سيأتي في مراتبه إن شاء الله.
والعلم من الصفات الثبوتية لله سبحانه وتعالى، فإن الصفات تنقسم إلى قسمين:
الصفات السلبية: وهي التي نفاها الله عز وجل عن نفسه؛ كقوله تعالى: لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ [البقرة:255].
والصفات الثبوتية: وهي ما أثبته الله سبحانه وتعالى لنفسه.
فصفة العلم هي من الصفات الثبوتية، والصفات الثبوتية تنقسم إلى قسمين:
صفات فعلية وصفات ذاتية، والضابط في التفريق بينهما هو: أن الصفات الفعلية هي ما تعلق بمشيئة الله سبحانه وتعالى وإرادته، وأما الصفات الثبوتية فهي الذي لا ينفك عن الله عز وجل بأي وجه من الوجوه، وليس متعلقاً بالإرادة.
فصفة العلم صفة ثبوتية ذاتية متعلقة بالله سبحانه وتعالى، لكن قد يقول قائل: ما هو الدليل على تقسيم الصفات؟ فنقول: الدليل على تقسيم الصفات هو أن هذه الصفات أصلاً موجودة في القرآن بمعناها، فمعنى الصفات الفعلية هو موجود، كقوله تعالى: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه:5]، وقوله: ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ [الأعراف:54]، فهذا يدل على أنه استوى وقبل ذلك لم يكن مستوياً، فلما خلق العرش استوى سبحانه وتعالى، وهذه صفة فعلية متعلقة بإرادته ومشيئته، وصفة العلم متعلقة بالله عز وجل؛ فإن العلم لا ينفك عنه بوجه من الوجوه، ولهذا لا يمكن أن يكون الله عز وجل يوماً من الأيام جاهلاً ومرة أخرى عالماً هذا لا يقوله أي مسلم، وصفة العلم يمكن أن نأخذها من اسم الله سبحانه وتعالى العليم، فإن القاعدة: أن كل اسم من أسماء الله سبحانه وتعالى يتضمن صفة؛ فالعليم يتضمن صفة العلم، ومما يدل على هذه الصفة في القرآن قول الله سبحانه وتعالى: وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ [الأنعام:59]، فهذه الآية وغيرها من الآيات تدل على إثبات صفة العلم لله سبحانه وتعالى، وأهل السنة يثبتون هذه الصفة التي هي العلم، ويقولون: إنه عالم بالماضي والمستقبل، وإن علمه سبحانه وتعالى شامل لكل شيء، لا يعزب عنه مثقال ذرة، ولا يعتريه نسيان ولا جهل بأي وجه من الوجوه.
الفرقة الأولى: الفلاسفة، والفلاسفة جمع فيلسوف، وفيلسوف كلمة يونانية مركبة من كلمتين: من (فيلا) و(سوف) يعني: محب الحكمة، والفلاسفة نوعان:
فلاسفة اليونان: مثل أرسطو وأفلاطون وسقراط وجالينيوس وغيرهم من الفلاسفة.
وهناك فلاسفة يسمون بالفلاسفة الإسلاميين، والحقيقة أنه ليس في الإسلام فلسفة، لكن نسبوا إلى الإسلام؛ لأنهم ينتسبون إليه، مثل: ابن سينا والفارابي والكندي ، فهؤلاء الفلاسفة ضلوا في صفة العلم، فقالوا: إن الله سبحانه وتعالى إنما يعلم الكليات فقط، وأما الجزئيات فلا يعلمها، وهذا أحد الأسباب التي جعلت الغزالي في كتابه (تهافت الفلاسفة) يكفرهم بسببه، فإن الغزالي كفرهم في كتابه (تهافت الفلاسفة) بثلاثة أسباب:
السبب الأول: أنهم قالوا: إن الله سبحانه وتعالى إنما يعلم الكليات ولا يعلم الجزئيات.
السبب الثاني: إنكارهم للنبوة.
السبب الثالث: أنهم أنكروا المعاد الجسماني، وقالوا: إن الناس لا يبعثون من قبورهم.
ويمكن أن يرد عليهم بآية في كتاب الله عز وجل وهي قوله: أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ [الملك:14] يعني: عقلاً لا يتصور أن يخلق الله عز وجل خلقاً لا يعرفه، فإن من يخلق الشيء لابد أن يعرفه، فكيف يقال: إن الله خلق الخلق ثم لا يعرف ما فيه إلا الكليات؟!
وهم أصلاً ضالون في صفة الخلق، فإنهم يقولون: إن الخلق لم يحصل بإرادة الرب سبحانه وتعالى، وإنما صدر الخلق عن الله عز وجل صدوراً مثل الشعاع عندما ينفصل عن الشمس، ولهذا يعتقدون أن الخلق قديم، وأن الخلق له جزء من صفة الباري! هكذا يعتقدون، وهم ضالون في ذلك، وكفرهم وضلالهم واضح.
الفرقة الثانية: هم القدرية الأولى، فإن القدرية الأولى يقولون: إن الله سبحانه وتعالى لا يعلم الفعل من العبد قبل وقوعه، وإنما يعلمه بعد أن يقع، وأول من قال بهذا رجل نصراني ظهر في البصرة في العراق يسمى سوسن النصراني أظهر الإسلام، ثم بعد ذلك تأثر به معبد الجهني ، وأخذها عن معبد غيلان الدمشقي ، والذي يدل على أن معبداً أخذها من سوسن النصراني هو حديث يحيى بن يعمر الثابت في صحيح مسلم وفيه: أنه ذهب هو وحميد بن عبد الرحمن الحميري والتقيا بـابن عمر رضي الله عنه في عرفة وكان حاجاً، فقالا له: إنه ظهر عندنا بالبصرة رجل يقال له: معبد ، ينكر القدر ويقول: إن الأمر أنف، فـمعبد الجهني كان هو وغيلان وسوسن الذي قبله ينكرون علم الله سبحانه وتعالى بالفعل قبل وقوعه، وإنما يقولون: إنه يعلم الفعل بعد وقوعه، وهؤلاء كفرهم السلف رضوان الله عليهم، لكن هؤلاء انقرضوا، ولم يبقوا بعد ذلك.
الفرقة الثالثة: المعتزلة: والمعتزلة أخذوا هذا الفكر عن القدرية، ولا شك أن عقيدة القدرية الذين ينكرون علم الله سبحانه وتعالى باطلة؛ لأن الله عز وجل يقول: إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا [طه:98]، فقوله: وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا يدل على أنه عالم بالماضي والمستقبل، عالم سبحانه وتعالى بالفعل قبل وقوعه وبعد وقوعه، كما سيأتي في الكلام على عقيدة الأشاعرة في هذا الأمر.
فالمعتزلة هم خلف القدرية، وجاء بعد معبد الجهني غيلان الدمشقي ، ثم غيلان الدمشقي قتله هشام بن عبد الملك كما هو مشهور، وقيل: قتله عمر بن عبد العزيز .
ثم بعد ذلك ظهر عمرو بن عبيد وواصل بن عطاء وأخذوا ضمن ما أخذوا إنكار القدر عن معبد ، لكن بشكل أقل غلواً من أولئك؛ فقد أثبتوا صفة العلم لله سبحانه وتعالى، لكنهم أنكروا الكتابة، وأنكروا الإرادة، وأنكروا خلق أفعال العباد كما سيأتي مفصلاً بإذنه تعالى.
والمعتزلة وإن كانوا يثبتون صفة العلم، إلا أنهم يقولون: إن الله عز وجل عليم بلا علم، كما يقولون: سميع بلا سمع، ويقولون: إن علمه هو ذاته، وقالوا بهذا القول هروباً من شبهة تعدد القدماء؛ فإنهم يعتقدون أن أخص وصف للإله أن يكون قديماً، والقديم لا يقبل التعدد عندهم، فإنهم يقولون: لو أثبتنا -مثلاً- للباري صفة العلم وأثبتنا له صفة الإرادة وأثبتنا له صفة الكلام فإنه يلزم في كل صفة من هذه الصفات أن تكون قديمة؛ لأن الإله قديم، ومادام يلزم أن تكون هذه الصفة قديمة فمعنى هذا: أنه لابد أن يكون لهذه الصفة سمع وبصر وعلم، فأصبحت إلهاً آخر، ولهذا أصبح عندنا آلهة متعددة، فيقولون: إذا أثبتنا الصفات أثبتنا الإله وأثبتنا معه إلهاً آخر اسمه العلم، وأثبتنا معه إلهاً آخر اسمه الإرادة وهكذا، فيقولون: إن إثبات الصفات يلزم منه تعدد القدماء وتعدد الآلهة، ولهذا ينصون على أن إثبات الصفات مبطل للتوحيد، ويعتبرون الأشاعرة أقل الناس إثباتاً، ويقولون: إنهم يثبتون سبعة آلهة؛ لأنهم أثبتوا سبع صفات، وأما رأيهم في السلف الصالح رضوان الله عليهم فهو رأي شنيع؛ لأنهم يعتقدون أن السلف أثبتوا ما لا يحصى من الآلهة كما يقولون!
وكلام المعتزلة هذا باطل من وجهين:
الوجه الأول: أن الله سبحانه وتعالى أعلم بنفسه سبحانه وتعالى، وهو مع هذا أثبت لنفسه صفة العلم، كما قال سبحانه وتعالى: وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ [البقرة:255]، فنص على صفة العلم وقال: وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ [البقرة:255]، فإذا كان الإله سبحانه وتعالى أثبت لنفسه صفة العلم فهذا يدل على أنه لا يلزم منه أن يكون العلم إلهاً آخر، هذا وجه.
الوجه الثاني: أن الصفات التي نثبتها ليست ذواتاً مستقلة منفصلة بائنة عن الموصوف حتى يلزم منها تعدد الآلهة كما يقولون، وإنما هذه الصفات هي صفات متعددة لموصوف واحد، وهذا أمر معروف حتى في حياة الناس؛ فإنك يمكن أن تصف الواحد بأكثر من صفة، فتقول في زيد مثلاً: طويل أبيض بدين، فهذه أكثر من صفة، ولا يقول أحد: إنك أثبت أربعة أشخاص، وهذا معروف في لغة العرب، لكن المعتزلة عندهم عقيدة باطلة في معنى الواحد، فإنهم يقولون: الواحد هو الذي لا يتعدد ولا يتبعض ولا يتجزأ ولا ينفصل، فهم ضالون أصلاً في مفهوم كلمة الواحد، فلما ضلوا في مفهوم كلمة الواحد ضلوا في كيفية تطبيقها على الإله وأنه واحد، ولهذا يقول الشارح في بداية الكتاب: (ومنهم من أدخل نفي الصفات في مسمى التوحيد)؛ لأنهم يعتقدون أن التوحيد هو الذي لا يتجزأ ولا يتبعض ولا ينفصل، وهذا أصلاً مخالف حتى للغة العرب؛ فإن العرب يطلقون الواحد على ما يسميه هؤلاء متبعض أو متجزئ أو منقسم، فالعرب تقول مثلاً: هذا فرس واحد، وله يد وله قدم وله رأس، وعلى مذهبهم أنه منفصل، وأنه متبعض، وتقول: هذا ثوب واحد، والله عز وجل يقول: ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا [المدثر:11]، وهو رجل واحد له صفات متعددة، ولهذا هم خالفوا العقيدة وخالفوا اللغة قبل ذلك، ولهذا قالوا بهذه البدعة المنكرة، وهي تصورهم أنه إذا أثبت الإنسان الصفات أنه يلزم من هذا تعدد الآلهة، وكما سبق أن بينا وقلنا: إنه لا يلزم من هذا تعدد الآلهة، فإن هذه الصفات هي صفات متعددة لموصوف واحد وهو الله سبحانه وتعالى.
أما الأشاعرة فإنهم أثبتوا صفة العلم لله سبحانه وتعالى، واستدلوا عليها بما استدل به أهل السنة والجماعة، لكنهم ابتدعوا بدعة أخرى في صفة العلم، حيث قالوا: إنه يمتنع أن تتجدد هذه الصفة؛ فإن الله سبحانه وتعالى يعلم الشيء قبل وقوعه بعلم، ثم يعلمه بعد وقوعه بعلم آخر غير العلم الأول، وهم يقولون: لا، علمه واحد قديم، فوجود المخلوق بعد أن لم يكن موجوداً لا يتجدد بذلك وصف ولا صفة، بينما يقول أهل السنة: أن الله عز وجل يعلم ما يخلقه قبل أن يخلقه بعلم، ثم بعد ذلك إذا خلقه وحصل مقتضاه فإنه يعلمه بعلم آخر، وهذا دل عليه القرآن، فإن الله سبحانه وتعالى يقول: وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ [البقرة:143]، فقال: إِلَّا لِنَعْلَمَ ، وهو أصلاً عالم قبل أن يحصل هذا الفعل، هذا يدل على أنه يعلم بعلم آخر، وهذا العلم الآخر لا يدل على أنه منفصل عن العلم الأول، وإنما هو علم آخر بسبب وجود الفعل الذي حصل، ويدل على ذلك قول الله سبحانه وتعالى: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ [آل عمران:142]، وقبل أن يخلق الخلق قد علم المجاهدين وعلم الصابرين ثم إذا وجد المجاهدون ووجد الصابرون، فإنه يعلمهم بعلم آخر هو من العلم الأول، لكنه لوجود المقتضى حصل هذا العلم الثاني.
الرأي الأول: أن المقصود بالكتاب: اللوح المحفوظ.
والرأي الثاني: أن المقصود به: القرآن.
لكن يبدو أن المقصود به اللوح المحفوظ كما ذكره غير واحد من السلف.
ومما يدل على ذلك -وهو أوضح من الاستدلال السابق- قول الله عز وجل: أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ [الحج:70]، وهذا نص على أن الله سبحانه وتعالى خلق السماوات والأرض وأن ذلك في كتاب، ويقول الله عز وجل: وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ [النمل:75].
ومرتبة الكتابة أنواع:
النوع الأول: الكتابة العامة، ويدل عليها حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (كتب الله مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، قال: وكان عرشه على الماء).
النوع الثاني: التقدير أو الكتابة حين أخذ الميثاق، وقد ذكرنا ذلك في حديث عمر بن الخطاب .
النوع الثالث: هي الكتابة العمرية أو التقدير العمري، ويدل عليه حديث ابن مسعود رضي الله عنه عندما قال: حدثني الصادق المصدوق.. إلى أن قال: (ثم يبعث الله إليه ملكاً بأربع كلمات: بكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أم سعيد)، فهذه كتابة عمرية، يعني: متعلقة بعمر الإنسان كله.
النوع الرابع: التقدير أو الكتابة التي تحصل في ليلة القدر، فإن الله عز وجل يقول عنها: فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ [الدخان:4].
النوع الخامس: الكتابة أو التقدير اليومي؛ كما قال الله عز وجل: كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ [الرحمن:29]، وكما قال النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الآية: (من شأنه أن يغفر ذنباً ويفرج كرباً ويرفع قوماً ويخفض آخرين)، وهذه الكتابة كما تلاحظون ثابتة بالقرآن والسنة، والمكتوب في هذه الكتابة هو ما علمه سبحانه وتعالى، وعلمه لا يحده حد، فهو يعلم الماضي ويعلم المستقبل، يعلم كل شيء سبحانه وتعالى، فقد علم ما سيفعله العباد قبل أن يفعلوه، وكتب ما علمه من فعل العباد الذي سيفعلونه قبل أن يفعلوه، وهذا من علمه سبحانه وتعالى الشامل التام، وهذه المرتبة ينكرها المعتزلة القدرية، ويثبتها الجبرية بكل طوائفهم، وسيأتي الإشارة إلى هذه الطوائف في المرتبة الرابعة.
وأما المعتزلة فإنهم يقولون: إن إرادة الله سبحانه وتعالى إنما تكون في الخير فقط، وأما الشر فإن الله لا يريده، والسبب في ضلال المعتزلة في هذه المسألة: هو أنهم لم يفرقوا بين الإرادة الكونية والإرادة الشرعية، فإن الإرادة الكونية هي ما أراده الله سبحانه وتعالى أن يكون في خلقه، ولا يمكن أن يحصل شيء في مخلوقات الله عز وجل وهو لم يرده، فهي موافقة لصفة الخلق، فكل شيء خلقه الله عز وجل فقد أراده قبل أن يخلقه.
وأما الإرادة الثانية فهي الإرادة الشرعية، والإرادة الشرعية المقصود بها: ما أمر الله سبحانه وتعالى به العباد وأوجبه عليهم وما أراده الله عز وجل منهم، بمعنى: أحب أن يفعلوه، فلما لم يفرق المعتزلة بين هذين ظنوا أن الإرادة لابد أن تكون محبوبة لله عز وجل، فلما ظنوا هذا الظن قالوا: كيف إذاً يريد الكفر مع أنه سبحانه وتعالى يقول: وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ [الزمر:7]؟ فلا يمكن أن يحصل منه أنه يريد الكفر وهو في نفس الوقت يكرهه، ولهذا يتساءلون بتساؤل مشهور وهو: كيف يريد الله تعالى أمراً ولا يرضاه ولا يحبه؟ وكيف يريده ثم يبغضه؟ يقولون: كيف يريد الله عز وجل شيئاً من الأشياء، ثم يبغض هذا الشيء؟ وكيف يريد الله عز وجل أمراً من الأمور ثم ينهى عنه وهو مريده؟ فلم يتصوروا أن المراد نوعان:
نوع مراد لذاته، وهذه هي الإرادة الشرعية التي أرادها الله سبحانه وتعالى من العباد.
ونوع مراد لغيره، يعني: ليس مراداً لذاته، وإنما هو مراد لغيره، وهذه هي الإرادة الكونية، فإن الله عز وجل خلق الكفر وخلق القبائح في الكون وقد أرادها سبحانه وتعالى، بمعنى: أنه خلقها، لكن جعلها للابتلاء والامتحان والاختبار، ولم يخلقها الله عز وجل وهو محب لها كما ظن المعتزلة، ولهذا ينقل كثير من أهل العلم مناظرات بين المعتزلة وبعض أئمة أهل السنة، وعندما يحصل النقاش بينهم إذا ذكر أحدهم هذا التساؤل وهو: كيف يريد الله عز وجل شيئاً ثم يبغضه؟ فيرد عليه السلفي بقوله: إنه لا يمكن أن يكون في كونه ما لا يريد؛ لأن المعتزلة يقولون: إن الله عز وجل لم يرد الشر ولم يرد الكفر، وأن الكفر حصل من الكفار بغير إرادة الله! هكذا يزعمون، ولا شك أن في هذا تنقيصاً لأفعال الله سبحانه وتعالى وقدرته؛ لأنهم يقولون: إن الكافر كفر بإرادته هو والله عز وجل لم يرد هذا، فكأن الكافر غلب الله عز وجل فحصلت إرادته!
ولهذا سماهم السلف: مشبهة الأفعال؛ حيث شبهوا الله عز وجل بخلقه، وهذا قدح في التوحيد الذي يظنون أنهم يدافعون عنه بمثل هذه العقائد الفاسدة.
وآراء الفرق في هذه المسألة يمكن أن نقسمها إلى رأيين مشهورين:
الرأي الأول: رأي القدرية، وهم المعتزلة.
والرأي الثاني: رأي الجبرية.
فأما المعتزلة فقالوا: إن الله سبحانه وتعالى لم يخلق أفعال العباد، وإن العباد يحدثون أفعالهم، واختلفوا هل يصح أن نسمي العبد خالقاً لفعله أو أنه محدث له؟ فأما المتقدمون فلقربهم من عهد السلف كانوا يتجنبون اسم الخلق ويقولون: إنه محدث لفعله، وأما المتأخرون فإنهم ينصون على أنه خالق لفعله حقيقة، وقال المعتزلة بهذا بسبب هو أنهم يريدون أن يفروا من الجبر، وأن الله عز وجل لم يجبر العباد على شيء من الأعمال، ولهذا يسميهم كثير من الكتاب المعاصرين: أتباع حرية الإرادة، يعني: الذين يطالبون بأن يكون الإنسان حراً مختاراً مريداً، والحقيقة أن الله عز وجل خالق لأفعال العباد وليس في هذا جبر عليهم، فإن مما خلق إرادتهم التي يريدون بها والتي يختارون بها، فإرادتهم مخلوقة له سبحانه وتعالى، ومشيئتهم مخلوقة لله عز وجل، لكن طبيعة هذه الإرادة هي أنهم يختارون ما يشاءون من غير جبر، ويتركون ما يشاءون من غير جبر، وأما الكتابة السابقة فإنه لا يوجد فيها جبر، وإنما الكتابة التي كتبها الله عز وجل هي ما علمه سبحانه وتعالى، والله عز وجل علمه واسع يشمل السابق واللاحق ويشمل كل شيء، ومما علم سبحانه وتعالى هو أن العبد سيختار الكفر أو سيختار الإيمان، فكتب ما علمه، ولهذا لا حجة للجبرية في كون الله عز وجل خالق لأفعال العباد، ولا حجة للقدرية في كونه خالق لأفعال العباد فيما وصلوا إليه من القولين المتناقضين، فهما يعني: أصل دعواهما واحدة، لكن لكل طائفة قول غير قول الطائفة الأخرى.
أما الجبرية فإنهم على نوعين:
جبرية خالصة، وهم الجهمية الأولون.
وجبرية تسمى جبرية جزئية وهم جبرية الأشاعرة.
فأما الجبرية الخالصة فإنهم قالوا: إن العبد مجبور على فعل نفسه، كما قال جهم ، وإن العبد مثل الريشة في مهب الريح، وإن أفعاله كلها اضطرارية، وليس فيها شيء اختياري، وإن العبد إذا فعل ما فعل إنما يفعله عن جبر وليس عن اختيار، وصار لهذا الرأي قبول عند المتأخرين من الصوفية ونحوهم؛ فإنهم يعتقدون أن العبد مجبور على فعل نفسه، وأنه ليس له اختيار فيما يفعله، ولهذا يعتقدون أن الأفعال التي يفعلها العبد هي أفعال صالحة؛ لأن الله يحبها، هكذا يظنون، فلما جاءت معها عقيدة وحدة الوجود، أصبح فعل العبد هو نفسه فعل الله عندهم، ولهذا يقول ابن عربي :
وكل كلام في الوجود كلامه سواء علينا نثره ونظامه
ويقول:
العبد رب والرب عبد يا ليت شعري من المكلف
إن قلت عبد فذاك رب أو قلت رب أنى يكلف
يعني: كيف يكلف؟ ولهذا كثير منهم يعتقد أن النصارى إنما وقع منهم الشرك لأنهم حددوا إلهاً معيناً، والواجب أن يكون كل شيء إلهاً! يعني: أنهم أكثر غلواً من النصارى وأكثر غلواً من اليهود، وهذه عقيدة ابن عربي وابن سبعين وغيرهم من الصوفية الملاحدة، وهم الذين يسمون بفلاسفة الصوفية.
وأما الأشاعرة فكما هي حالهم في كثير من مسائل العقيدة: يأتون ويريدون التوسط، ثم يضطربون ويميلون في آخر المطاف إلى أحد المذاهب الباطلة، فهم أرادوا التوسط بين مذهب القدرية ومذهب الجبرية، فأثبتوا أن الله خالق لأفعال العباد، فوافقوا السلف في هذا، ثم أرادوا أن يثبتوا للعبد فعلاً معها فتورطوا كيف يجمعون بين كون الله عز وجل خالق لفعل العبد، وبين كون العبد له فعل، فتوصلوا في النهاية إلى أن العبد له شيء سموه كسباً، والكسب هذا عند التحقيق وعند تحرير مذهبهم لا شيء، وإنما هو اسم الفعل، ولهذا شبهه إمام من أئمتهم وهو أبو منصور البغدادي في كتابه (أصول الدين) بأنه مثل الرجل الكبير الذي يحمل صخرة ومعه طفل صغير يحمل معه هذه الصخرة، ولو أن الطفل الصغير ما حملها لحملها الكبير، فلما حملها معه الصغير سمي حاملاً؛ لأنه يحملها معه، لكنه في الحقيقة ليس بحامل، وهذه هي عقيدة الأشاعرة في موضوع الكسب، ولهذا يقول أحد أئمتهم وهو الأيجي في كتاب له اسمه (المواقف): الجبرية نوعان: جبرية خالصة، وهم الجبرية، وجبرية متوسطة وهم الأشاعرة، فنص على أن أئمته يقولون بالجبر، بل إن الرازي وكثير ممن بعده قالوا: إن العبد مجبور بصورة المختار، يعني: هو مجبور في الحقيقة، لكن الصورة صورة المختار، وإن كان كثير من علماء الأشاعرة عندما يشرحونه لا يسكتون عنه ولا يوضحونه، حتى قيل:
مما يقال ولا حقيقة تحته معقولة تدنو إلى الأفهام
الكسب عند الأشعري والحال عند البهشمي وطفرة النظام
فهذه من الأمور التي عجز أصحابها عن تفسيرها، وهم يقولون بها لكنهم عجزوا عن توضيحها للناس، وإن كان في الحقيقة عندما ينظر الإنسان في كتبهم يشعر أنهم يئولون إلى الجبر مرة أخرى، ما هو السبب الذي جعل هؤلاء يقولون بالجبر؟
السبب الذي جعل هؤلاء يقولون بالجبر هو: أنهم ظنوا أن الإنسان إذا أثبت القدرة للعبد أن في هذا إثباتاً لتأثير العبد، وبناءً على هذا يكون فيه إثبات لخلق العبد، فيعتقدون أن هذا مناقض للوحدانية، يعني: عندنا الآن عبد وعندنا مقدور وهو الفعل، فهل الفعل هذا قدر عليه العبد أم أن العبد عنده قدرة على هذا الفعل، وأنه فعله ولو شاء لتركه؟ يعني: أن عند الإنسان الآن اختيارين: إما أن يفعل وإما أن يترك، والترجيح بينهما هل هو راجع للعبد أو راجع لله والعبد لا قدرة له؟ هذه أساس القضية عندهم.
ومن القضايا العقلية البدهية عندهم أنه لا يمكن أن يحصل ترجيح بدون مرجح، والآن عندنا فعل وعندنا ترك، فما يمكن أن يختار الفعل على الترك أو الترك على الفعل إلا بمرجح، فهل هذا المرجح هو قدرة العبد نفسه، يعني: هل العبد نفسه هو الذي يختار الفعل أو يختار الترك أو أن الله عز وجل هو الذي يجعل العبد يفعل أو يجعله يترك بدون اختيار العبد؟ هذه أصل القضية عندهم، فهم ظنوا أن الإنسان إذا قال: إن العبد اختار الفعل على الترك أو اختار الترك على الفعل ظنوا أن هذا من العبد خلق، وبناءً على هذا يكون قد شارك الله عز وجل في الخلق، وهذا اعتقاد باطل!
وسيأتي أن اختيار العبد للفعل على الترك ليس اختياراً مطلقاً عن الله سبحانه وتعالى، وإنما هو اختيار خلقه الله عز وجل له، لكنه أراد هذا الفعل، والله عز وجل خلقه له، وليس في هذا أي إشكال، وترجيح العبد للفعل على الترك هو سبب من الأسباب، فمثلاً: الإنسان لما يكون ظامئاً الآن ثم يشرب ماءً يروى، فهل الري فعله الماء؟! ولهذا ترتب على هذا عندهم إشكال في مسألة الأسباب، هل الري فعله الماء؟ فنحن نقول: إن الماء سبب من أسباب هذا الري، ومثل الإحراق بالنار، هل النار هي التي أحرقت بفعلها استقلالاً عن الله؟ نقول: لا، الله عز وجل خلق فيها خاصية الإحراق، فهي بناءً على هذا أحرقت؛ لأن الله خلق فيها هذه الخاصة، فهي سبب من الأسباب، وهكذا قدرة العبد، فالله عز وجل خلق له قدرة وإرادة، وهذه القدرة والإرادة مخلوقة له، ثم هو يختار الفعل على الترك أو الترك على الفعل كسبب من الأسباب ليس إلا، وليس في هذا خلق جديد كما يزعم هؤلاء، ولهذا يقول الدردير من أئمة الأشاعرة:
الفعل في التأثير ليس إلا للواحد القهار جل وعلا
ومن يقل بالطبع أو بالعلة فذاك كفر عند أهل الملة
ومن يقل بالعلة المودعة فذاك بدعي فلا تلتفت
ثم شرحها بأن العبد ليس له قدرة على فعله وليس له استطاعة عليه.
هذه خلاصة الكلام في موضوع القدر، والكلام فيها يطول، لكن يكفي ما أشرنا إليه.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وكل ميسر لما خلق له، والأعمال بالخواتيم، والسعيد من سعد بقضاء الله والشقي من شقي بقضاء الله].
وهذا سبق أن أشرنا إليه، وذكرنا أن الله عز وجل قد كتب أعمال العباد جميعها.
ثم قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وأصل القدر سر الله تعالى في خلقه].
والسبب في كونه سر الله تعالى: أنه متعلق بصفة العلم، وصفة العلم لا نعلمها نحن، ولهذا الذين يحتجون بالقدر على المعائب ويقولون: إن الله كتب علينا الأخطاء، هؤلاء اعتقادهم اعتقاد فاسد وباطل، والسبب في هذا هو: أنهم لا يعلمون ماذا كتب لهم أصلاً؛ فهو سر من الأسرار.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وأصل القدر سر الله تعالى في خلقه، لم يطلع على ذلك ملك مقرب ولا نبي مرسل، والتعمق والنظر في ذلك ذريعة الخذلان وسلم الحرمان].
ولهذا نهى النبي صلى الله عليه وسلم الصحابة الذين كانوا يتناظرون في القدر، خرج عليهم وهو مغضب ووجهه أحمر كأنما فقع في وجهه حب الرمان، فقال: (أتضربون كتاب الله بعضه ببعض؟!) ونهاهم عن ذلك.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ودرجة الطغيان، الحذر كل الحذر! من ذلك نظراً وفكراً ووسوسة؛ فإن الله تعالى طوى علم القدر عن أنامه ونهاهم عن مرامه، كما قال الله تعالى في كتابه: لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ [الأنبياء:23] فمن سأل: لم فعل؟ فقد رد حكم الكتاب، ومن رد حكم الكتاب كان من الكافرين].
ومن الطرائف في الحقيقة التي تذكر في هذا: أن أعرابياً جاء إلى عمرو بن عبيد ، وعمرو بن عبيد من المعتزلة الذين يقولون: إن الله عز وجل لم يرد الشر، وإنما حصل الشر بغير إرادته، فجاءه أعرابي وهو في بيته، وقال له: ضاعت إبلي فادع الله لي، وكان بين طلابه، فرفع يديه وقال: اللهم إنك لم ترد أن تضيع إبل فلان فردها إليه، فقال: لا حاجة لي بدعائك، قال: لماذا؟ قال: لأني أخشى أن يريد أن ترجع فلا ترجع، مادام أنه لم يرد أن تضيع فضاعت!
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فهذه جملة ما يحتاج إليه من هو منور قلبه من أولياء الله تعالى، وهي درجة الراسخين في العلم؛ لأن العلم علمان: علم في الخلق موجود، وعلم في الخلق مفقود، فإنكار العلم الموجود كفر، وادعاء العلم المفقود كفر، ولا يثبت الإيمان إلا بقبول العلم الموجود وترك طلب العلم المفقود].
والمقصود بالعلم المفقود هو علم الغيب، مثل حقائق أسماء الله وصفاته، ومثل القدر، ومثل حقائق ما في الجنة والنار ونحو ذلك، فكل هذه ليست مرامة بالنسبة للإنسان في هذه الدنيا، وإنما عليه أن يؤمن بالقدر الذي جاء في الكتاب والسنة فقط.
وفي هذه الفقرة مسألة من المسائل، وهي مسألة الأولياء، وسيذكرها الشيخ في آخر الكتاب، والأولياء بينهم الله عز وجل في قوله: أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ [يونس:62-63]، فأولياء الله عز وجل هم أهل التقوى من أهل العقيدة الصحيحة، وأما ما يعتقده الصوفية في الولي وأنه أفضل من النبي فهذا اعتقاد باطل، حتى إنه قال بعضهم:
مقام النبوة في برزخ فويق الرسول ودون الولي
يعني: النبوة أقل من الولاية، ويستدلون على ذلك بأن الخضر كان معلماً لموسى عليهما السلام، والخضر ولي، وبناء على هذا فالولي أفضل من النبي، وهذا استدلال فاسد؛ فإن الخضر نبي؛ لقوله: وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي [الكهف:82] يعني: وإنما فعلته عن أمر الله عز وجل، فقولهم هذا لا شك في بطلانه.
والباطنية لهم عقيدة خاصة في أولياء الله سبحانه وتعالى، لكن لا يكفي المجال لشرحها، حتى إن بعضهم يعتقد أن الولاية إنما تحصل بالكشف فقط، فقد نص الغزالي في إحياء علوم الدين على أن الكشف يمكن أن تؤول به النصوص الشرعية، وهذه علومهم، فعلومهم أنهم يجلسون في الأماكن القذرة والوسخة ويدعون أنهم تأتيهم كشوفات، حتى قال الشبلي :
إذا بارزونا بعلم الورق خرجنا إليهم بعلم الخرق
يعني: يعتقدون أن الخرقة -وهي الولاية التي تحصل لهم- لها إسناد.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ونؤمن باللوح والقلم وبجميع ما فيه قد رقم].
وهذه منزلة الكتابة، وهي الإيمان بما كتبه الله سبحانه وتعالى في اللوح، وهذه الكتابة بالقلم.
وقد أنكر الفلاسفة اللوح والقلم، قال ابن سينا : إن اللوح هو النفس الكلية، وأما القلم فهو العقل الكلي، ورفض أن يؤمن باللوح والقلم كما أراده الله سبحانه وتعالى.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [فلو اجتمع الخلق كلهم على شيء كتبه الله تعالى فيه أنه كائن ليجعلوه غير كائن لم يقدروا عليه، ولو اجتمعوا كلهم على شيء لم يكتبه الله تعالى فيه ليجعلوه كائناً لم يقدروا عليه؛ جف القلم بما هو كائن إلى يوم القيامة].
وقد سبق الكلام على مرتبة الكتابة مفصلاً.
قال رحمه الله: [وما أخطأ العبد لم يكن ليصيبه، وما أصابه لم يكن ليخطئه].
لأن ذلك مكتوب عنده سبحانه وتعالى.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [وعلى العبد أن يعلم أن الله قد سبق علمه في كل كائن من خلقه، فقدر ذلك تقديراً محكماً مبرماً ليس فيه ناقض ولا معقب ولا مزيل ولا مغير ولا ناقص ولا زائد من خلقه في سماواته وأرضه].
وقد سبق الحديث عن منزلة الكتابة ومنزلة العلم.
ثم قال رحمه الله: [وذلك من عقد الإيمان وأصول المعرفة والاعتراف بتوحيد الله تعالى وربوبيته].
وقد سبق أن بينا أن الإيمان بالقدر متعلق بالإيمان بالله سبحانه وتعالى.
قال رحمه الله: [كما قال تعالى في كتابه: وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا [الفرقان:2]، وقال تعالى: وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا [الأحزاب:38] فويل لمن صار لله تعالى في القدر خصيماً، وأحضر للنظر فيه قلباً سقيماً؛ لقد التمس بوهمه في فصح الغيب سراً كتيماً، وعاد بما قال فيه أفاكاً أثيماً].
وقد سبق أن بينا الكلام على مسألة القدر بمراتبه الأساسية، وهي الأربع التي سبق أن بيناها.
فأما العرش فقد ورد في آيات كثيرة، منها قول الله عز وجل: ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ [البروج:15]، وقوله: ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ [الأعراف:54]، وقوله: الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ [غافر:7]، وقوله: وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ [الحاقة:17]، فهذه الأدلة كلها وغيرها تدل على أن لله سبحانه وتعالى عرشاً، وأما الكرسي فهو الثابت في آية الكرسي، عندما قال الله عز وجل: وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ [البقرة:255]، فهو حق، لكن هنا مسألة: هل هناك فرق بين الكرسي والعرش؟
بعض أهل الكلام قالوا: إن الكرسي هو العرش، وهذا خطأ، فإن الكرسي هو موضع قدمي الرب سبحانه وتعالى؛ لما روى ابن أبي شيبة في صفة العرش عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال: (الكرسي موضع قدمي الرب سبحانه وتعالى، والعرش لا يقدر قدره إلا الله) وإسناده حسن، وهذا من المرفوع حكماً؛ لأنه مما لا يدخله الاجتهاد في الرأي، وقد فسر بعض أهل الكلام الكرسي بأنه الملك، وهذا تأويل باطل، لقوله تعالى: وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ [الحاقة:17]، فهل معنى هذا أنهم يحملون ملك الله عز وجل؟ ويقول الله عز وجل: وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ [هود:7] فهل كان ملكه على الماء؟ ولهذا لا يصح هذا التفسير للعرش، وإنما العرش هو: سرير الملك، وليس هو الملك، وهنا فرق بين السرير والملك نفسه.
والكرسي لم يرد إلا في آية واحدة وهي آية الكرسي المشهورة، وجاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ما الكرسي في العرش إلا كحلقة من حديد ألقيت في فلاة من الأرض)، وهذا الحديث يدل على أن الكرسي غير العرش، وهو رد على من جعل الكرسي هو نفسه العرش، فيضاف إلى أثر ابن عباس السابق.
وقد أول بعض السلف الكرسي بأنه العلم، وهذا خطأ، وربما يقع من بعض أهل العلم خطأ في مسألة من المسائل وهذا الخطأ لا يكون بدعة؛ لأن أصوله العقائدية وآراءه العقائدية هي ما أجمع عليه السلف رضوان الله عليهم، والذي قال: إن الكرسي هو العلم، هو ابن جرير الطبري رحمه الله تعالى، ولا يصح أن يقال: إنه العلم؛ لأن الله عز وجل يقول: وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ [البقرة:255]، ولا يمكن أن يكون العلم وسع السماوات والأرض فقط، وحينئذ فالكرسي هو موضع قدمي الرب كما ثبت ذلك عن ابن عباس رضي الله عنهما.
وهو مستغن عن العرش لأنه سبحانه وتعالى هو الغني الحميد، كما قال عن نفسه: إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ [العنكبوت:6]، وكما قال الله عز وجل: وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ [فاطر:15]، واستواؤه على العرش لا يدل على حاجته له، فإن الله عز وجل استوى عليه وهو غير محتاج له، وإنما هو غني سبحانه وتعالى عنه، وهاتان الفقرتان ذكرهما المؤلف في بداية الكلام على موضوع من أهم الموضوعات العقائدية، وهو موضوع إثبات علو الله سبحانه وتعالى، وإثبات علو الله عز وجل على خلقه من أعظم العقائد السلفية الثابتة بالكتاب والسنة وإجماع الأئمة، والثابتة بالعقل والفطرة، بل إن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله ذكر أن علو الله عز وجل على خلقه عليه ألف دليل،وقد ذكر ابن القيم أكثر من ثلاثين دليلاً فطرياً على إثبات علو الله سبحانه وتعالى على خلقه، وقد وزعها بعض العلماء إلى أنواع، وقبل ذلك صنف فيها بعض الأئمة كتباً مستقلة، مثل: الذهبي رحمه الله صنف كتاب (العلو للعلي الغفار) وقد اختصره الشيخ الألباني والأصل والمختصر كلاهما مطبوع، وقبل الذهبي ألف أبو محمد الموفق المقدسي كتاباً سماه (علو الله تعالى)، وممن ألف في علو الله تعالى الأستاذ موسى الدويش له رسالة ماجستير في إثبات علو الله تعالى على خلقه، وأسامة القصاص له جزءان في إثبات علو الله تعالى على خلقه.
وذكروا أنواعاً من الأدلة على علو الله عز وجل، منها: أن الله عز وجل صرح بالعلو، كقوله تعالى: سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى [الأعلى:1]، فهذا صريح في إثبات صفة العلو، ومنها قوله: تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ [المعارج:4]، ومن الأدلة قوله تعالى: إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ [فاطر:10].
ومن الأدلة قوله تعالى: أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ [الملك:16]، وقوله: ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ [الأعراف:54].
ومن الأدلة كذلك المعراج، فإنه صلى الله عليه وسلم أعرج به إلى السماء، وهكذا هناك أدلة كثيرة تدل على إثبات علو الله سبحانه وتعالى على خلقه، ومنها تنزل القرآن منه سبحانه وتعالى.
وأما العقل فقد دل على إثبات علو الله سبحانه وتعالى على خلقه، وقد استدل الإمام أحمد رحمه الله في كتابه (الرد على الجهمية والزنادقة) بدليل عقلي ظاهر، فإنه قال: إن الله عز وجل عندما خلق الخلق، هل خلق المخلوقات في نفسه أو خارجاً عنه؟ ثم قال: لا يخلو المعطل -يعني: لا يجيب المعطل- إلا بأحد ثلاثة أجوبة، إما أن يقول: خلق المخلوقات في نفسه، وهذا واضح الكفر، وإما أن يقول: خارجاً عنه، فإذا قال: خارجاً عنه، فنقول: هل هو خارج عنه ثم دخل فيه؟ فإن قال: هو خارج عنه ثم دخل فيه، فهذا كفر ظاهر؛ لأن فيه حصراً لله عز وجل ونسبة للأماكن القبيحة له سبحانه، فلا يبقى له إلا واحد وهو أن يقول: إن الله خلق الخلق وهو سبحانه وتعالى خارج عن هذه المخلوقات وهو في العلو سبحانه وتعالى.
الفرقة الأولى: الجبرية الحلولية، وهم الذين قالوا: إن الله سبحانه وتعالى في كل مكان، ولا يخلو منه مكان، وهم الذين قالوا: إن أفعال العباد هي أفعال الله، بل كل شيء في هذا الكون هو من فعل الله عز وجل، هكذا ظنوا، وهكذا يقولون! وهم يستدلون على ذلك بآيات المعية، كقوله تعالى: وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ [الحديد:4] وفهموا أن قوله تعالى: وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ يعني: أنه مختلط بكم، وهذا فهم فاسد، فإن قوله: وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ يعني: بعلمه وقدرته سبحانه وتعالى، فإن الذي قال: وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ قال: أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ [الملك:16]، وهو سبحانه وتعالى الذي نزه نفسه عن القبائح، وهو نفسه سبحانه وتعالى الذي قال: سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى [الأعلى:1]، وهو الذي أوجد في فطر العباد أن الإله لابد أن يكون عالياً، ولهذا يذكر أن إمام الحرمين الجويني وهو من أئمة الأشاعرة النفاة للعلو كان في أحد دروسه يقرر نفي العلو، فقال له أحد التلاميذ -وهو الهمداني -: أرأيت الشيء والحاجة التي نجدها في صدورنا أثناء الدعاء بالاتجاه إلى العلو؟ فماذا تقول فيها؟ فسكت، ثم فكر قليلاً، وقال: إنها الحيرة! إنها الحيرة! وجعل يضرب على رأسه، ويقول: حيرني الهمداني ؛ لأنه استدل عليه بدليل من نفسه، وهو وجود فطرة في نفس الإنسان أثناء الدعاء؛ حيث يجد الإنسان في نفسه الالتجاء إلى الله عز وجل، بل إنك لو أوقفت طفلاً صغيراً وسألته: أين الله؟ فإنه مباشرة يشير إلى السماء فهي فطرة موهوبة في نفس الإنسان.
الفرقة الثانية التي ضلت: الجهمية الكلامية، وهم أهل الكلام من الجهمية، فهؤلاء قالوا: إن الله لا داخل العالم ولا خارج العالم، ولا في العلو ولا في السفل، ولا عن اليمين ولا عن الشمال، وهؤلاء في الحقيقة ينفون الإله، إلا أنهم لم يأتوا بالتصريح في نفي الإله؛ لأن هذا لا يجوز بتاتاً، فإن الذي لا داخل العالم ولا خارج العالم ولا في اليمين ولا في الشمال هو العدم.
ويمكن مراجعة كتاب (الصواعق المرسلة) فقد شرح ابن القيم رحمه الله الرد على هؤلاء بالتفصيل.
الخلة: هي كمال المحبة، ويدل على ذلك قول الله عز وجل: وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا [النساء:125]، وقوله صلى الله عليه وسلم: (إن الله اتخذني خليلاً كما اتخذ إبراهيم خليلاً)، وهذا يدل على إثبات صفة المحبة لله سبحانه وتعالى.
وقوله: وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا [النساء:164] هذه الآية تدل على إثبات صفة الكلام لله عز وجل، وقد طلب بعض نفاة الصفات من أبي عمرو بن العلاء -وهو من الأئمة القراء- أن يقرأ: (وكلم اللهَ موسى تكليماً) بالنصب، حتى يكون المتكلم هو موسى، فقال لهم: أرأيتم إن صنعت لكم ما تريدون ماذا تفعلون بقول الله عز وجل: وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ [الأعراف:143] يعني: أن هذه ليس فيها خروج لهم، وليس فيها مهرب.
وأهل البدع لا يثبتون صفة المحبة لله عز وجل، وإنما يفسرونها بإرادة الثواب، حتى محبة العبد لربه لا يقولون: إنها محبة حقيقة، وإنما يسمونها محبة عقلية ويقولون: إن الإله يتصور أن يُحب كما أنه لا يتصور أن يُحِب، ولهذا جعلوا العبد بعيد الصلة عن الله عز وجل، يعني: لا هو يحب الإله ولا الإله يحبه، ولهذا كان شيخ الإسلام رحمه الله يقول: هؤلاء غلاظ أخباث، يعني: لأنهم فصلوا العبد عن ربه، فلا العبد يحب ربه ولا الرب يحب عبده والعياذ بالله! وانظروا كيف الإنسان إذا ضل في الاعتقاد يكون بضلاله في الاعتقاد أثر في سلوكه وأثر في أخلاقه وفي آدابه وفي تعامله، فالضلال في الاعتقاد له آثار عظيمة جداً في حياة الإنسان، سواء في سلوكه وآدابه أو في دعوته، أو في فهمه للإسلام، فلذلك خطر كبير جداً على الإنسان، كما أن الاعتقاد الصحيح له أثر عظيم جداً على الإنسان في أخلاقه وسلوكه وآدابه، كما في الحديث: (جاء
ولهذا يا إخوان! الكلام في الاعتقاد له آثار على السلوك وله آثار على الآداب وله آثار في التعامل الاجتماعي مع الناس، كما أن صحة الاعتقاد لها آثار إيجابية على الإنسان في سلوكه وآدابه وأخلاقه.
وقوله تعالى: وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا [النساء:164] هذه الآية فيها إثبات صفة الكلام، وقد تقدم بحث الكلام مفصلاً في الفقرات السابقة.
هذا فيه إثبات الإيمان بالملائكة والإيمان بالأنبياء والإيمان بالكتب المنزلة، وهذه ثلاثة أركان من أركان الإيمان، وهي الواردة في حديث جبريل؛ فإنه عندما سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الإيمان قال له: (أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله وباليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره).
والإيمان بالملائكة يمكن أن يكون على نوعين: إيمان مجمل عام، وهو إثبات أن لله عز وجل ملائكة، وأن لهم عدة وظائف، وأنهم لا يحصون عدداً، ويمكن أن يكون الإيمان مفصلاً، وهو أن نؤمن بكل نبي على حدة، أي: أن نؤمن بكل ملك على حدة، ونؤمن بوظيفته التي أخبر الله سبحانه وتعالى عنها؛ فملك الموت موكل بقبض الأرواح، وإسرافيل موكل بالصور، وإن كان في اسم إسرافيل خلاف، وجبرائيل موكل بالوحي، وميكائيل موكل بالقطر.. وهكذا، ولهم أعمال غير هذه، وهم لا يحصون عدداً.
والإيمان بالأنبياء أيضاً يكون مجملاً ومفصلاً، فالإيمان المجمل هو أن يؤمن الإنسان بأن لله عز وجل أنبياء، وأنهم بلغوا الرسالة وأدوا الأمانة، ويؤمن بهم على التفصيل بأسمائهم كآدم ونوح وإبراهيم وموسى وعيسى وغيرهم، والأنبياء بعضهم قص الله سبحانه وتعالى علينا في القرآن قصتهم، وبعضهم لم يقص سبحانه وتعالى قصتهم.
وأما الكتب المنزلة فكذلك يمكن الإيمان بها مجملة أو مفصلة على نحو ما سبق.
ثم بدأ المؤلف بعد ذلك في مسألة الإيمان وهي من أخطر المسائل، وأهمها، وسيكون إن شاء الله الكلام عليها تفصيلاً في الدرس القادم.
الجواب: صفة الكلام صفة فعلية، ويمكن أن تكون صفة ذاتية باعتبار، وتكون فعلية باعتبار آحاد الكلام، فإنه سبحانه وتعالى يتكلم متى شاء وكيف شاء سبحانه وتعالى، يتكلم في الأزل وسيتكلم يوم القيامة، وهذا يدل على أنها فعلية؛ لأنها متعلقة بمشيئة الله سبحانه وتعالى، لكنها ذاتية باعتبار تعلقها بذات الله عز وجل، وأنه سبحانه وتعالى يمكن أن يتكلم متى شاء كيف يشاء.
الجواب: أبو حامد الغزالي مر بمراحل متعددة، مر بمرحلة التصوف حتى إنه وصل إلى درجة القول بعقائد الباطنيين؛ وذلك عندما اختبأ في منارة دمشق زمناً طويلاً، وكتب في أثناء تصوفه كتاب (معارج القدس) وكتاب (المضنون به على غير أهله) وكتب كتباً متعددة في هذه الفترة، وهو في هذه الفترة قد قال بعقائد الباطنية إلى درجة أنه كان يجيد السحر، كما في كتاب (المضنون به على غير أهله)، والغزالي كان يؤمن بالأسرار، ويتحدث كثيراً عن الأسرار، فيقول: قلوب الأحرار قبور الأسرار، ويتكلم عن مسألة السر، ويدندن حولها كثيراً من أجل أن يبين أن هناك شيئاً من الدين خاصاً بطائفة معينة، هذا الشيء الخاص في طائفة معينة لو خرج للعامة لأنكروه، هكذا كان يظن، ثم بعد ذلك ترك عقيدة الباطنية وألف رداً عليهم كتاب (تهافت الباطنية) بعد أن كلفه نظام الملك بهذا الكتاب عندما درس في مدرسته النظامية في بغداد، ثم بعد ذلك اهتم بعلم الكلام، وألف فيه رسالة (الاقتصاد في الاعتقاد)، ثم رقى بعلم الكلام في كتاب سماه (إلجام العوام عن علم الكلام)، وكان مضطرب العقيدة؛ حتى إنه صرح بالشك في بعض كتبه، في كتاب (ميزان العمل) يقول في آخر هذا الكتاب: إن من لم يشك ولم يحصل له الشك فإنه لم يصل إلى الحقيقة! ويعتقد أن طريق الوصول إلى الحقيقة هي عن طريق الشكوك، فيقول: إن فائدة كتابي -يعني: ميزان العمل- لو لم يثمر إلا أنه يشكك في الموروث من عقائدك، لكان هذا كافياً! يعني: في أن يكون قد أدى دوره.
وبعض الباحثين يحاول أن يدافع عن الغزالي بأن هذا الشك يسمونه الشك المنهجي وليس الشك العقائدي، والحقيقة أن الشك المنهجي والشك العقائد متلازمان وهما شيء واحد في الحقيقة، فالذي يشك منهجياً لابد أن يشك عقائدياً، ولابد أن يشك في عقيدته.
وأما كتابه (إحياء علوم الدين) فهو كتاب مليء بالخير والشر، ومليء بالأحاديث الصحيحة والضعيفة، وهو كتاب تربوي يمكن للمتخصص الذي يستطيع أن يميز أن يستفيد منه، لكنه لا ينفع لمن لا يستطيع التمييز؛ فإنه صرح فيه بعقائد باطلة، منها العقيدة التي ذكرتها وهي أنه يقول: إن الكشف الصوفي يمكن أن تؤول به النصوص الشرعية، وكما قلت: إنه ملأه بكثير من الأحاديث الضعيفة والموضوعة، وبعض الناس يعظم كتاب (إحياء علوم الدين) إلى درجة أنه يقول: إن الغزالي في هذا الكتاب استطاع أن يحيي الأمة الإسلامية في الجيل الذي ظهر قبل صلاح الدين الأيوبي ، وإنه لما جاء صلاح الدين الأيوبي وجد أمة جاهزة للجهاد في سبيل الله، وهذا الكلام غير صحيح، فإن كتاب (إحياء علوم الدين) على ضخامته في أربعة مجلدات كبيرة لم يعقد فيه باباً للجهاد، ولم يتكلم عن الجهاد أبداً، وإنما كان يتكلم عن بعض السلوكيات، والحق يقال، ولا ينبغي كتم الحق، والواجب هو العدل، فالكتاب فيه الكثير من الجوانب الإيجابية والجوانب المفيدة، إلا أنه لا ينبغي لغير المتخصص ولغير الممحص أن يقرأه، فإنه إن قرأه تورط في بعض أخطائه.
الجواب: المتقدمون من الأشاعرة كانوا يرون أن علو الله عز وجل ثابت، كـأبي الحسن الأشعري والباقلاني والبغدادي وغيرهم من الأئمة السابقين من أئمة الأشاعرة، لكن من مرحلة الجويني أو قبله بقليل وما بعد الجويني بدءوا ينفون علو الله سبحانه وتعالى على خلقه، تأثراً بالمعتزلة، واستحكم الأمر أكثر في زمن الرازي والأرنوي الذين رد عليهم شيخ الإسلام في كتابه الجليل (درء تعارض العقل والنقل)، فإنه خصصه في الرد على مقالات الرازي والأرنوي وفصل مقالاتهم ورد عليهم بشكل مفصل، ومن أكبر المسائل التي رد عليهم فيها مسألة العلو، وأفرد في المجلد الثاني وبعض الثالث أكثر من مائة صفحة من الكتاب كلها في الحديث عن مسألة علو الله سبحانه وتعالى والرد على شبه الرازي التي ذكرها في كتابه الأربعين في هذه المسألة.
وأما المتأخرون منهم في زمن الشيخ محمد بن عبد الوهاب وفي أزماننا المعاصرة الآن فقد خلطوا بين نفي العلو وبين عقيدة الصوفية في وحدة الوجود، فأصبحوا يدندنون أن الله في كل مكان، حتى أن الشعراوي نص على أن الله عز وجل ليس في السماء وأنه في كل مكان، وصرح بهذه القضية، ونفى علو الله سبحانه وتعالى على خلقه، بينما لو أنه رجع إلى عقائد السابقين من أئمة الأشاعرة لوجد أنهم يثبتون صفة العلو ولا ينفونها.
الجواب: الظاهر -والله تعالى أعلم- أنها إلى الساعة فقط، كما هو نص الأحاديث في هذه المسألة، وأما ما بعد الساعة فلم يرد أنها مكتوبة في اللوح المحفوظ؛ لأن التكليف انتهى.
الجواب: لا شك أن الاحتجاج بالقدر على فعل الذنوب باطل ولا يصح، والشريعة جاءت بالأمر والنهي، والذي يحتج بالقدر على فعل الذنوب أعرض عن الأمر والنهي وأصبح فعله هو الذي يرى أنه القدر المكتوب عليه، ولا شك أن هذا قول فاسد، وأنه طي لبساط الشريعة كلها؛ لأنها جاءت بأمر ونهي وبيان للوعيد على من ترك الأمر وفعل النهي، وفي بيان الثواب لمن فعل الأمر وابتعد عن النهي وهكذا.
فأقول: الذي يحتج بالقدر على فعل معاصيه هذا منتقص لهذه الآيات والأحاديث الواردة في هذا الباب، وأما محاجة آدم لموسى وقول النبي صلى الله عليه وسلم: (فحج آدم موسى)، فإنما هو احتجاج بالقدر على المصائب وليس على المعائب، فإن الذنب الذي فعله آدم عليه السلام ثم تاب منه وتركه أصبح في حقه مصيبة، ولامه موسى بعد أن تاب من الذنب.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر