إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله، بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين.
أما بعد:
فإن إثبات رؤية المؤمنين لربهم سبحانه وتعالى يوم القيامة وفي الدار الآخرة من المسائل التي اتفق عليها أهل العلم، وأجمعوا عليها، وهي كذلك مما دل عليه القرآن الكريم، وتواترت النصوص الشرعية وأحاديث النبي صلى الله عليه وسلم فيها.
وإنكار رؤية الله عز وجل يوم القيامة أو في الدار الآخرة كفر مخرج عن الإسلام، فإذا كان صاحب هذا الإنكار جاهلاً فيعلم وتبين له الأدلة وتوضح من كتاب الله ومن سنة النبي صلى الله عليه وسلم، فإن أبى ورفض وأعرض كفر وخرج من الإسلام؛ لأنه أنكر ما أجمع عليه أهل الإسلام، وما دل عليه القرآن الكريم وتواتر في السنة النبوية، وإنكار ذلك تكذيب للوحيين، وهو كفر يخرج عن الإسلام، كما نص على ذلك أهل العلم.
فرؤية الإنسان لله عز وجل في الدنيا بعيني رأسه غير حاصلة بالنسبة لعامة المسلمين والمؤمنين. وقد اتفق أهل السنة والجماعة على أن الله عز وجل لا يُرى في الدنيا بالعين واستدلوا على ذلك من القرآن ومن السنة.
فمما جاء في القرآن: قول الله عز وجل: وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ [الأعراف:143]، فهذه الآية تدل على أن الله عز وجل لا يُرى في الدنيا بالعين التي تكون في الرأس.
ووجه الدلالة من ذلك: أن موسى طلب الرؤية في الدنيا، عندما كلمه ربه فطمع في رؤيته، فطلب هذا الطلب، وهذا يدل على أن الله عز وجل يمكن أن يرى، وهي من الأدلة التي استدل بها أهل السنة على: أن الله عز وجل يمكن أن يرى وقد قال الله عز وجل: لَنْ تَرَانِي [الأعراف:143].
فبين أنه لا يراه الإنسان في الدنيا بالعين الحقيقية، قال تعالى: وَلَكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا [الأعراف:143].
ومما يدل على ذلك أيضاً: ما ثبت في صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن أحدكم لن يرى ربه حتى يموت)، فقوله: (حتى يموت)، يعني: في الدنيا، فلن يرى الإنسان الله عز وجل في الدنيا بعينه حتى يموت، وهذا الحديث رواه مسلم في صحيحه.
وهذه المسألة مما اتفق عليها أهل السنة والجماعة، وخالف فيها الصوفية، فإنهم قالوا: إنه يمكن أن يرى الله عز وجل في الدنيا، ولهم حكايات وقصص يروونها في كتبهم على أنها من الكرامات، وأن بعض أوليائهم رأوا الله عز وجل، وهذه كلها من الخرافات والأباطيل التي يرويها الصوفية في العادة.
وروي عن أبي ذر أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم: (هل رأيت ربك؟ قال: نور أنى أراه؟!).
وروي عن بعض الصحابة أنهم أنكروا أن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى ربه بعينيه التي في رأسه، ومنهم عائشة رضي الله عنها عندما سئلت: هل رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ربه بعينيه؟ فقالت: لقد وقف شعري مما قلت، أو قالت -كما في رواية أخرى-: من زعم أن محمداً صلى الله عليه وسلم رأى ربه في الدنيا فقد أعظم على الله الفرية. يعني: الكذبة.
والتحقيق في هذه المسألة هو: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم ير ربه بعينيه التي في رأسه على الصحيح، وما روي عن ابن عباس من إثبات رؤية النبي صلى الله عليه وسلم لربه في الدنيا بعينيه روي مطلقاً ومقيداً، فالرواية المطلقة قوله: (إن النبي صلى الله عليه وسلم رأى ربه)، وأما المقيدة فقوله: (إنه رآه بقلبه).
والقاعدة هي: أنه إذا وردت نصوص مطلقة ونصوص مقيدة، فإنه يحمل المطلق على المقيد.
فيكون معنى رأى ربه بهذا الإطلاق: رأى ربه بقلبه، كما في الرواية المقيدة.
فالصحيح في هذه المسألة هو: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم ير الله عز وجل بعينيه في الدنيا. وما روي عن ابن عباس فيها يحمل المطلق فيه على المقيد، وهذا هو تحرير شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله لهذه المسألة، وهو تحرير رائع وممتاز، وفيه جمع للأقوال، فيصبح حينئذ الخلاف في هذه المسألة خلافاً لفظياً، وإذا وجد خلاف حقيقي في هذه المسألة فهو من الخلاف الذي يعذر الإنسان فيه.
والخلاف ينقسم إلى قسمين: خلاف تنوع، وخلاف تضاد.
وخلاف التضاد ينقسم إلى قسمين:
خلاف تبنى عليه الموالاة والمعاداة: مثل الخلاف في أصول العقائد، وما أجمع عليه أهل السنة.
وخلاف يعذر صاحبه ويؤجر عليه إذا كان مخطئاً أجراً واحداً، أو يكون له أجران إذا كان مصيباً، كما في قاعدة: المجتهد المخطئ والمصيب، وهي معروفة.
وفي صحيح مسلم أيضاً عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال: (رآه بفؤاده مرتين).
وأما الرواية التي فيها: (أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى ربه مرتين، مرة ببصرة ومرة بفؤاده)، فلا تصح، وهي معارضة لما ثبت في صحيح مسلم : (أنه رأى ربه بفؤاده مرتين).
ومعنى رؤية النبي صلى الله عليه وسلم لربه بقلبه: أن الله سبحانه وتعالى جعل في قلبه بصراً يرى ربه به حقيقة، وهذا ما ذكره شراح هذا الحديث.
وأما رؤية المؤمنين لربهم في الدنيا: فإن الصحابة والتابعين والأمة من بعدهم على جواز رؤية المؤمنين لربهم بقلوبهم، وأنها جائزة وواقعة، وأنها ليست لكل أحد، وإنما تكون لبعض الناس، وهذه الرؤية تكون بالقلب لبعض المؤمنين، وهي ليست رؤية لذات الرب وصفاته حقيقة، وليس المرئي بقلب الإنسان هو نفسه الرب تعالى، ولهذا تختلف الرؤية القلبية عن بعض المؤمنين من شخص لآخر.
وقد بحث هذه المسألة شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله وأشار إليها عند حديثه عن الكشوفات في المجلد الخامس من الفتاوى صفحة (251)، فقال: [ومن رأى الله عز وجل في المنام فإنه يراه في صورة من الصور بحسب حال الرائي، إن كان صالحاً رآه في صورة حسنه، ولهذا رآه النبي صلى الله عليه وسلم في أحسن صورة، والمشاهدات التي قد تحصل لبعض العارفين -يعني: الأولياء والصادقين- في اليقظة كقول ابن عمر لـابن الزبير لما خطب إليه ابنته في الطواف: أتحدثني في النساء ونحن نتراءى الله عز وجل في طوافنا؟! وأمثال ذلك، إنما يتعلق بالمثال العلمي المشهود، لكن رؤية النبي صلى الله عليه وسلم لربه فيها كلام ليس هذا موضعه، فإن ابن عباس قال: رآه بفؤاده مرتين.
فالنبي صلى الله عليه وسلم مخصوص بما لم يشركه فيه غيره، وهذا المثال العلمي يتنوع في القلوب بحسب المعرفة بالله والمحبة له تنوعاً لا ينحصر].
فمقصود شيخ الإسلام رحمه الله: أن الإنسان عندما يكون مؤمناً بالله عز وجل إيماناً عظيماً، ويكون قلبه قريباً من الله سبحانه وتعالى فإنه يشعر في قلبه بقرب عظيم من الله عز وجل، ويوضح ذلك حديث جبريل الطويل الثابت في الصحيحين: فإنه لما سأله عن الإحسان؟ قال: (أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك)، فقوله: (أن تعبد الله كأنك تراه)، المقصود: رؤية القلب، يعني: استحضار مراقبة الله عز وجل وعظمته، وأسمائه وصفاته في القلب استحضاراً عظيماً، يشبه الرؤية الحقيقية بالعين. وليس هو رؤية حقيقية ولكنه يشبهه، وهذه تحصل عند خواص المؤمنين الذين يعملون الصالحات، ويجتهدون في تطبيق الأوامر الشرعية، ويحذرون من المناهي، حتى يرتفع إيمانهم إلى درجات عالية جداً، فيحصل عندهم هذا الشعور، وهذه الرؤية القلبية، وليست هي رؤية حقيقية لصفات الله سبحانه وتعالى، بل الله عز وجل له المثل الأعلى في السماوات والأرض، لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ [الشورى:11].
يقول شيخ الإسلام : [وهذا المثال العلمي يتنوع في القلوب بحسب المعرفة بالله].
يعني: هو عبارة عن مثل، وأن الإنسان عندما يعبد الله عز وجل كأنه يراه، ويشعر بقرب عظيم من الله عز وجل إلى درجة أن تنكشف في قلبه معرفته بربه، فيحصل لقلبه مثال، فهذا المثال هو مثال علمي، وليس مثالاً حقيقياً يراه بعينه.
وهذا المثال العلمي هو نوع من القرب ونوع من الإحسان الذي يكون في قلب الإنسان.
قال شيخ الإسلام رحمه الله: [بل الخلق في إيمانهم بالله وكتابه ورسوله متنوعون، فلكل منهم في قلبه للكتاب والرسول مثال علمي بحسب معرفته، مع اشتراكهم في الإيمان بالله وبكتابه وبرسوله، فهم متنوعون في ذلك متفاضلون، وكذلك إيمانهم بالمعاد والجنة والنار، وغير ذلك من أمور الغيب، وكذلك ما يخبر به الناس بعضهم بعضاً من أمور الغيب هو كذلك، بل يشاهدون الأمور ويسمعون الأصوات، وهم متنوعون في الرؤية والسماع، فالواحد منهم يتبين له من حال المشهود ما لم يتبين للآخر، حتى قد يختلفون ويثبت هذا ما لم يثبته الآخر. فكيف فيما أُخبِروا به من الغيب؟!!].
فهذه الرؤية التي نثبتها ليست رؤية حقيقية لذات الله سبحانه وتعالى وصفاته.
ورواية معاذ بن جبل هي أنه قال: (احتبس لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات غداة عن صلاة الصبح حتى كدنا نتراءى عين الشمس، فخرج سريعاً فَثَوّبَ بالصلاة، فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وتجوز في صلاته، فلما سلّم دعا بصوته فقال لنا: على مصافكم كما أنتم، ثم انفتل إلينا فقال: أما إني سأحدثكم ما حبسني عنكم الغداة: إني قمت من الليل فتوضأت فصليت ما قُدِّر لي، فنعست فاستَثقَلتُ، أو فاستُثقِلتُ فإذا أنا بربي تبارك وتعالى في أحسن صورة، فقال: يا محمد! قلت: ربِ لبيك، فقال: فيم يختصم الملأ الأعلى؟) إلى آخر الحديث، وهو حديث طويل وفي قوله: (فنعست)، وقوله: (استُثقِلت، أو استَثقَلت)، وقوله: (رأيت ربي في أحسن صورة)، ما يدل على أن هذه الرؤية رؤية منامية، والرؤية المنامية قريبة من الرؤية القلبية، والإنسان بحسب طاعته وخوفه من الله عز وجل وتقواه وإيمانه وإخلاصه وإحسانه قد يرى في النوم صوراً وأحوالاً، وهذه الصور والأحوال ليست هي حقيقة ذات الله وصفاته؛ لأن الله كما قال: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى:11]. وكما قال: وَلَهُ الْمَثَلُ الأَعْلَى فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ [الروم:27]، وهذه الرؤى والأحوال التي يراها وهو نائم تعبر عن إيمانه، ويشعر في قلبه وهو نائم أن هذا هو ربه، وليس هو الله عز وجل حقيقة، ونحن نعلم أن الإنسان في النوم وكِّل به ملك من الملائكة يضرب له الأمثال، فما يراه الإنسان في منامه هي عبارة عن أمثال تُضرب له، ولهذا كان تعبير الرؤى مقبولاً، وقد أفرد البخاري رحمه الله في صحيحه كتاب: تعبير الرؤى، وقد عبّر النبي صلى الله عليه وسلم كثيراً من المنامات لأصحابه، وهو القائل: (رأيت في النوم أن الناس يُعرضون عليّ وعليهم قمص، ورأيت
ولهذا ليس كل ما يراه النائم تكون رؤيا ولها تعبير، فقد يكون أضغاث أحلام، وقد يكون المنام في بعض الأحيان له معنى وتعبير.
فالإنسان في نومه لا يرى حقيقة الله عز وجل وحقيقة صفاته، وإنما يضرب له المثل ويشعر في قلبه أن هذا هو الله، ويراه في صور مختلفة، وقد يرى فلان بن فلان صورة، ولا يرى فلاناً، وليس بالضرورة أن كل إنسان يُضرب له هذا المثل، وقد ينقل عن بعض العلماء أنه قال: رأيت الله في المنام فقمت وقال لي، فليس المقصود بهذا أنه رأى الله عز وجل بذاته وصفاته حقيقة؛ فالله ليس كمثله شيء، وإنما رأى شيئاً في المنام في صورة معينة ضربها له الملك بحسب إيمانه، فيشعر في قلبه أنها الله، وليست هي الله سبحانه وتعالى حقيقة.
فينبغي ملاحظة هذه القضية، فالنائم مثلاً يرى في نومه أنه يتكلم ويصيح ويُضرب أو يَضرِب ويفعل الفعل ويقوم ويتنقل ويسافر ويهاجر ويأتي هنا وهناك، وهو في الحقيقة لم يتكلم، بل لسانه صامت ولم يسمع شيئاً بإذنه الحقيقية، وإنما هي ضرب أمثال.
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في الفتاوى في المجلد الثالث صفحة (390): [وقد يرى المؤمن ربه في المنام في صور متنوعة على قدر إيمانه ويقينه، فإذا كان إيمانه صحيحاً لم يره إلا في صورة حسنة، وإذا كان في إيمانه نقص رأى ما يشبه إيمانه، ورؤيا المنام لها حكم غير رؤيا الحقيقة في اليقظة ولها تعبير وتأويل، لما فيها من الأمثال المضروبة للحقائق].
فمثلاً: في كتاب (مناقب الإمام أحمد ) لـابن الجوزي يذكر الإمام أحمد فيه: أنه رأى ربه في المنام، وقد يستعظم هذه المسألة بعض الناس ويستشنعها، فإما أن يضّعف النص، وإما أن يستغربها فلا يدري حقيقة معناها، في حين أنها رؤيا منام وليست رؤيا حقيقة، كرؤية اليقظة وليس ما يراه في المنام هو الله بذاته وصفاته حقيقة، وإنما هو ضرب مثل.
ويمكن في هذا مراجعة كلام شيخ الإسلام ابن تيمية في كتابه (تلبيس الجهمية)، وهو كتاب عظيم وكبير في الرد على الرازي في كتاب أساس التقديس. فـالرازي ألّف كتاباً سماه: (أساس التقديس)، ورد عليه شيخ الإسلام ابن تيمية بكتاب سُمي بعدة أسماء، فسمي مثلاً: بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية، وسمي: نقض التأسيس، والمطبوع منه جزء بسيط جداً، وأكثره مخطوط، وهذا المخطوط الموجود ناقص، وقد حقق في جامعة الإمام محمد بن سعود على شكل رسائل علمية، ماجستير ودكتوراه، ولم يطبع منه شيء فيما أعلم، وإنما المطبوع هو ما جمعه الشيخ محمد بن قاسم في مجموع الفتاوى.
يقول شيخ الإسلام رحمه الله في موضوع الاعتقاد: [من الاعتقاد والتوهم والتخيل الصحيح ما لا يذكر، فيقول: وإذا كان كذلك فالإنسان قد يرى ربه في المنام ويخاطبه].
ذكر هذا في المجلد الأول صفحة (73) فهذا هو الحق في الرؤيا، ولا يجوز أن يعتقد أن الله في نفسه مثل ما رؤي في المنام.
قال: [ولا يجوز أن يعتقد أن الله في نفسه مثل ما رأى في المنام، فإن سائر ما يُرى في المنام لا يجب أن يكون مماثلاً]. يعني: لا يجب أن يكون مماثلاً للحقيقة، فقد يكون مماثلاً وقد لا يكون مماثلاً، ولكن في رؤية الله ليس مماثلاً قطعاً، ولكن لا بد أن تكون الصورة فيها مناسبة ومشابهة لاعتقاده في ربه، فإن كان إيمانه واعتقاده مطابقاً رأى صورة وسمع كلاماً يناسب ذلك، وإلا كان بالعكس.
قال ابن تيمية رحمه الله: [قال بعض المشايخ: إذا رأى العبد ربه في صورة كانت تلك الصورة حجاب بينه وبين الله، وما زال الصالحون وغيرهم يرون ربهم في المنام ويخاطبهم، وما أظن عاقلاً ينكر ذلك، فإن وجود هذا مما لا يمكن دفعه؛ إذ الرؤيا تقع للإنسان بغير اختياره، وهذه مسألة معروفة، وقد ذكرها العلماء من أصحابنا وغيرهم في أصول الدين، وحكوا عن طائفة عن المعتزلة وغيرهم إنكار رؤية الله، والنقل بذلك متواتر عمّن رأى ربه في المنام، ولكن لعلهم قالوا: لا يجوز أن يعتقد أنه رأى ربه في المنام، فيكونون قد جعلوا مثل هذا من أضغاث الأحلام، ويكونون من فرط سلبهم ونفيهم نفوا أن تكون رؤية الله في المنام رؤية صحيحة كسائر ما يرى في المنام].
يعني: أن السلف اتفقوا على أنه يمكن أن يرى الله في المنام، ولكن هذه الرؤية ليست رؤية حقيقية لذات الله عز وجل، وأنكر ذلك المعتزلة لإنكارهم رؤية الله عز وجل مطلقاً.
قال شيخ الإسلام رحمه الله: [فهذا مما يقوله المتجهمة وهو باطل مخالف لما اتفق عليه سلف الأمة وأئمتها، بل ولما اتفق عليه عامة عقلاء بني آدم، وليس في رؤية الله في المنام نقص ولا عيب يتعلق به سبحانه وتعالى، وإنما ذلك بحسب حال الراوي وصحة إيمانه وفساده، واستقامة حاله وانحرافه، وقول من يقول: ما خطر بالبال، أو دار في الخيال فالله بخلافه، ونحو ذلك].
وهذه الكلمة ما خطر بالبال، أو دار في الخيال فالله بخلافه تحتمل أكثر من معنى، فتحتمل أن الله عز وجل ليس له مثل في صفاته وأسمائه، وهذا معنى صحيح، وتحتمل الإنكار، فإذا حمل على مثل هذا كان محملاً صحيحاً، فلا نعتقد أن ما تخيله الإنسان في منامه أو يقظته من الصور أن الله مثله؛ لأنه لا يمكن للإنسان أن يتصور الله عز وجل، بل الجن والملائكة لا يمكن أن يتصورها الإنسان ويتخيلها على حقيقتها، بل هي على خلاف ما يتخيله ويتصوره في منامه ويقظته، وإن كان ما رآه مناسباً ومشابهاً لها، فالله تعالى أجل وأعظم، ويمكن مراجعة هذا النص الطويل في (نقض التأسيس).
وأحاديث الرؤية الثابتة هي: أن الله عز وجل يُرى يوم القيامة، يعني: في عرصات يوم القيامة، ويُرى كذلك في الدار الآخرة في الجنة.
وهناك فرق بين الرؤية بالتاء المربوطة، وبين الرؤيا بالألف.
فالرؤيا: بالألف المقصود بها رؤيا المنام، والرؤية: التي تكون بتاء مربوطة رؤية العين.
المكان الأول: يوم القيامة.
والمكان الثاني: في الجنة.
وقد ثبتت في ذلك أحاديث صحيحة، ويمكن مراجعتها في صحيح البخاري، كتاب: التوحيد كحديث أبي هريرة وفيه: (قالوا: يا رسول الله! هل نرى ربنا يوم القيامة؟ قال: نعم، سترون ربكم يوم القيامة كما ترون القمر لا تضامون في رؤيته). ثم ساق حديثاً طويلاً فيه الكلام على الحشر والشفاعة.
وكذلك حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه بهذا المعنى. وهي أحاديث طويلة في صحيح البخاري.
فالجنة متفق على أنه لا يراه فيها إلا المؤمنون وأما في عرصات يوم القيامة في المحشر فقد اختلف أهل العلم: هل الكفار والمنافقون يرون الله عز وجل يوم القيامة أو لا؟
وأما المؤمنون فإنه متفق عليه بين أهل السنة أيضاً أنهم يرونه يوم القيامة، وهذا الخلاف هو خلاف فقهي أيضاً، كمسألة رؤية النبي صلى الله عليه وسلم لربه في الدنيا، وهو خلاف لا يترتب عليه قطيعة ولا معاداة ولا خلاف شديد.
وقد اختلف أهل البحرين في زمن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في مسألة رؤية الكفار لربهم يوم القيامة.
واختلفوا فيها اختلافاً شديداً وصارت بينهم قطيعة وبغضاء، حتى إنهم كادوا يقتتلون بالسيوف، فأرسلوا إلى شيخ الإسلام ابن تيمية يستفتونه في ذلك؟ فكتب لهم رسالة فيها، وهي مطبوعة ضمن مجموع فتاوى شيخ الإسلام التي جمعها ابن قاسم في المجلد السادس، بعنوان: رسالة إلى أهل البحرين في رؤية الكفار لربهم يوم القيامة.
وقد تحدث شيخ الإسلام رحمه الله في هذه الرسالة عن كيفية التعامل مع الخلافات؟
وقال رحمه الله: إن الخلافات التي تحصل في مسائل الدين تنقسم إلى قسمين:
* خلافات يترتب عليها الكفر أو البدعة وهذه هي الخلافات التي يكون فيها حرب بين أهل السنة وأهل البدعة، ونحن نتكلم على الجهمية والمعتزلة والأشاعرة والصوفية من هذا الباب.
وخلافات يحتملها الاجتهاد، مثل الخلاف في المسائل الفقهية، فالعلماء كما نلاحظ يختلفون في الإفتاء.
ومن الخلاف الذي يحتمل الاجتهاد: الخلاف في هذه المسائل، وكتب لهم رسالة علمهم فيها كيفية التأدب مع هذه المسائل؟ وقال: إن هذه المسائل من فروع المسائل، التي لا يترتب عليها كفر ولا بدعة، وقد اختلف فيها علماء السنة، ورأى بعضهم أن الكفار قد يرون الله يوم القيامة، وذكر شيخ الإسلام في هذه الرسالة الأمور التي اتفق عليها المختلفون، والأمور التي اختلفوا فيها.
فالمختلفون في رؤية الكفار لله عز وجل يوم القيامة ونفيها متفقون على عدة أمور:
* أولاً: اتفقوا على أن هذه الرؤية ليست رؤية لذة ونعيم وراحة وطمأنينة، بل إنهم يقولون: إنها رؤية عذاب؛ لأن الله سبحانه وتعالى يريهم نفسه ثم يحتجب عنهم، وفي ذلك أشد أنواع العذاب، هكذا قالوا.
* ثانياً: اتفقوا أيضاً على أنهم بعد الانتهاء من الحشر لا يرون الله عز وجل، وإنما يكونون من أهل الجحيم، والعياذ بالله.
واختلفوا هل يرونه بأعينهم في الحشر، حتى ولو كان في هذا عذاب لهم؟
واختلافهم مبني على فهم الأدلة، فقد ورد في حديث أبي سعيد الخدري وأبي هريرة ما ظاهره أن الله عز وجل يأتي الناس يوم القيامة فيرونه، يعني: يراه الكفار والمنافقون والمؤمنون، وهذه النصوص التي ظاهرها أنهم يرونه أشكلت على الذين أثبتوا رؤية الكفار لله عز وجل يوم القيامة، وبناءً على هذا قلنا: إن هذه المسألة ليست من المسائل التي يعنّف فيها المخالف، ولا من المسائل التي تعتبر من أصول الدين.
ومثل هذه المسائل: كرؤية الله عز وجل بالقلب، أو كرؤية الله عز وجل في الدنيا لا تعرض لعامة الناس الذين لا يفقهون العلم ولا يدرون ما هو، وإنما تعرض لطلاب العلم الذين يدرسون العلم ويتفهمون معانيه، وإذا أشكل على أحدهم شيء سأل؛ لأن الله عز وجل يقول: فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [النحل:43]، فهذه المسائل لا تعرض للعامة، بحيث أنها تضطرهم إلى الإنكار وإلى التشنيع.
والصحيح في مسألة رؤية الكفار لربهم يوم القيامة: أنهم لا يرون الله يوم القيامة، ويدل على ذلك قول الله عز وجل: كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ [المطففين:15].
ومما يدل على ذلك أيضاً: أن الرؤية سماها الله عز وجل زيادة ومزيداً، فقال: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ [يونس:26]. وقال: لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ [ق:35]، فلو أن الكفار والمنافقين يرون الله عز وجل يوم القيامة لما كان لاختصاص المؤمنين بالمزيد معنى، فلما اختص المؤمنين بالمزيد دل هذا على أنهم لا يرونه، وأوضح ما يدل على أنهم لا يرونه عموم قول الله عز وجل: كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ [المطففين:15].
والصحيح من أقوال أهل العلم هو: أن النساء يرين الله عز وجل في الجنة، والدليل على ذلك عموم النصوص؛ فإن النصوص التي في إثبات الرؤية مثل: قوله تعالى: لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ [ق:35]، وقوله: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ [يونس:26]، تدل على دخول المؤمنات في الجنة في هذه الرؤية؛ لأن العموم يشملهن.
وقد يقول قائل: إن قوله تعالى: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى [يونس:26]، الذين: صيغة مذكر، فلا تدخل النساء فيها؟ فنقول: إن مسألة دخول النساء في عموم النصوص الواردة بصيغة الذكور، مسألة معروفة ومشهورة عند أهل العلم، وهناك نصوص تدل على دخولهن في العموم، ومن ذلك قول الله سبحانه وتعالى عن مريم في سورة التحريم: وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ [التحريم:12]. والقانتين: جمع مذكر سالم لقانت، فجعلها داخلة في عموم جمع المذكر السالم، فلو قيل: إن القانتين جمع مذكر سالم، فكيف يدخل المؤنث فيه؟!
قلنا: هذا هو ما دل عليه النص، والقرآن جاء بلغة العرب، كما قال تعالى: بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ [الشعراء:195]، فهذا يدل على أن المؤمنات يدخلن في النصوص التي جاءت بصيغ المذكر، كقوله: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ [يونس:26]، ونحو ذلك من النصوص.
الجواب: نحن لا نتصور صفات الله عز وجل أصلاً، ولا نعرف ماهيتها، ولا نتصور أنه على شكل الإنسان، وهو سبحانه له وجه ويدان، ولا نعرف الكيفية، وصفاته ليست مثل صفات الخلق، وإنما تختلف، وأما معنى قوله تعالى: لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ [الأنعام:103]، فمعناه: أنه لا يمكن أن تحيط به، فالأبصار يمكن أن تدرك إنساناً، ولكن الله عز وجل لا يمكن أن تحيط به من كل مكان. مثل علمنا بالله عز وجل، فنحن نعلم أن لله صفات وأسماءً، ولكن لا نحيط به علماً، فكذلك إذا رأينا الله، وسنراه حقيقة، ولكن لا نحيط به رؤية، ولا نتخيل تكييفاً لذلك؛ فإن تخيل التكييف خطأ وباطل.
الجواب: مثل هذه الكلمات الغامضة نستعمل معها ما نستعمل مع المصطلحات، فنسأل عن مقصود صاحبها، فإذا كان يقصد معنىً صحيحاً قلنا: هذا معنىً صحيح، ولكن استعمل له أسلوباً واضحاً، وإذا كان المعنى باطلاً رددناه، وإذا كان المعنى مختلطاً بين الصحيح والباطل صححنا الحق وأبطلنا الباطل، ومنعناه من هذا الكلام المجمل المحتمل للحق والباطل، فقوله: طمس بصري في بصيرتي فرأيت الله، معنى مجمل له عدة معان.
الجواب: بلى، هذه الآية مع حديث أبي سعيد الخدري تدل على رؤية ساق الله سبحانه وتعالى يوم القيامة، كما يليق بجلاله، بدون أن يتخيل الإنسان ساقاً معينة، أو صورة معينة؛ لأن هذا التخيل باطل.
الجواب: هذا كلام مجمل، فإذا كنت تقصد بالعين المجردة فهذا شيطان، وأما إذا كنت تقصد في النوم فقد يكون هذا من ضرب المثل الذي أشرنا إليه، والأمثال التي تضرب في النوم أو في القلب ليست هي الله حقيقة.
الجواب: كتاب رؤية الله للدكتور أحمد الحمد لا بأس به في الجملة، والكاتب من أهل السنة ومعروف، ولكن كثيراً من المسائل تحتاج إلى تحرير أكثر.
الجواب: كلمة مكاشفة وكشف يمكن أن يكون معناها صحيح، ويمكن أن يكون معناها باطل، والصوفية يستخدمونها بالمعنى الباطل، وأما المعنى الصحيح للكشف فهو: اكتشاف الشيء الجديد، وقد يكون هذا الكشف علمياً، وقد يكون عملياً.
من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر