إسلام ويب

أصول العقيدة [2]للشيخ : عبد الرحيم السلمي

  •  التفريغ النصي الكامل
  • أول واجب على المكلف هو توحيد الإلهية, وهو إفراد الله عز وجل بالعبادة, فمن اعتقد ربوبية الله تعالى لخلقه ولم يفرد الله تعالى بالعبادة فقد أشرك بالله تعالى, فالواجب على العبد توحيد الله تعالى في الربوبية وتوحيده في الإلهية وتوحيده في أسمائه وصفاته سبحانه, وتلك هي أقسام التوحيد الواجب بالنظر إلى الخالق جل وعز, وأما أقسامه بالنظر إلى المخلوق فتوحيد المعرفة والإثبات, وتوحيد القصد والطلب.

    1.   

    توحيد الألوهية أول واجب على المكلف

    بسم الله الرحمن الرحيم

    الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين، أما بعد:

    فأول واجب على المكلف بإجماع أهل السنة والجماعة هو توحيد الألوهية، والأدلة على ذلك كثيرة، ومن أصرح الأدلة وأوضحها الحديث الثابت في الصحيحين عن معاذ بن جبل رضي الله عنه: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما أرسله إلى اليمن معلماً لهم قال له: إنك تأتي قوماً من أهل الكتاب، فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة ألا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله)، وجاء في رواية أخرى: (فليكن أول ما تدعوهم إليه إلى أن يوحدوا الله)، وهذه الرواية في البخاري إلى آخر الحديث.

    فهذا الحديث صريح في أن أول واجب على المكلف هو توحيد الألوهية، والسبب في هذا هو أن توحيد الألوهية شامل لمعرفة وجود الله عز وجل ولتوحيد الربوبية ولتوحيد الأسماء والصفات، ولهذا يقول الله عز وجل: فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ [محمد:19].

    قال البخاري : فبدأ بالعلم قبل القول والعمل، والعلم مقيد بـلا إله إلا الله، ومعنى لا إله إلا الله هو توحيد الألوهية، فتوحيد الألوهية هو أول واجب، وهو الذي جاءت به الرسل وأنزلت من أجله الكتب، وهو الذي بدأ به كل رسول بعثه الله عز وجل إلى قومه أن: اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ [الأعراف:59]، ويقول الله عز وجل: وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ [النحل:36]، وتوحيد الألوهية معناه: إفراد الله بالعبادة.

    إذاً: أول واجب على المكلف أن يفرد الله عز وجل بالعبادة، فلا يعبد إلا الله سبحانه وتعالى ولا يصرف أي عمل من الأعمال التي هي من العبادات إلا لله سبحانه وتعالى، وهذا هو الإيمان المنجي، والاكتفاء بتوحيد الربوبية ليس منجياً عند الله سبحانه وتعالى.

    ولو أن إنساناً اعتقد أن الله الخالق الرازق المحيي المميت واكتفى بهذا، ولم يفرد العبادة لله عز وجل، بل عبد الله وعبد غيره، فإن هذا لا يكون كافياً، بل يكون من المشركين.

    ولهذا فإن أهل الشرك عندهم نوع من الإيمان، فكانوا يعترفون بأن الله موجود، وأنه الخالق الرازق المحيي المميت، ومع أن هذا من الإيمان إلا أنه لم يكن كافياً ومنحنياً، بل لابد من إفراد الله سبحانه وتعالى بالعبادة، يقول الله عز وجل: وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ [يوسف:106]، فأثبت لهم هنا نوعاً من الإيمان، لكنه ليس كافياً، قال ترجمان القرآن عبد الله بن عباس رضي الله عنه: إذا سألتهم من خلق السماوات؟ قالوا: الله، ومن خلق الأرض؟ قالوا: الله، ومن خلق الجبال؟ قالوا: الله، يعبدون غير الله سبحانه وتعالى.

    ولهذا كان حقيقة شرك المشركين هي عبادة غير الله سبحانه وتعالى مع الإقرار لله عز وجل بالربوبية، يقول الله عز وجل: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ [لقمان:25]، فهم يعرفون أن الله سبحانه وتعالى خالق السماوات والأرض، وهم يعرفون أن الله عز وجل هو المدبر وحده، ولهذا فقد كانوا يعظمون البيت والأشهر الحرم، ويمنعون القتال فيها، وكانوا يحلفون بالله، بل إن قوم عاد الذين أهلكهم الله سبحانه وتعالى أخبر الله عز وجل أنهم تقاسموا بالله، يعني: تحالفوا بالله، فهذا يدل على أنهم يعرفون الله عز وجل، وإلا ما حلفوا به، بل إنهم يزيدون على المعرفة بالله أنهم يعظمون الله، لكن هذا التعظيم لم يكن كافياً.

    إذاً: حقيقة الإسلام هو الاستسلام لله في العبادة، فمن فهم هذه القضية فهم الإسلام دين الله سبحانه وتعالى، وتعتبر هذه القضية من أصول الدين التي لا يقبل للإنسان عذر في جهلها، وأنه لا تكون نجاة عند الله إلا بإفراد الله بالعبادة وإثبات نبوة الرسول صلى الله عليه وسلم، وعدم وجود النواقض التي تنقض هذه الأمور.

    سبب الخلاف بين أهل السنة والقبوريين

    أول واجب على المكلف هو إفراد الله تعالى بالعبادة؛ لأن الأمور الأولية في العقيدة فطرية، فمعرفة الله عز وجل فطرية، ومعرفة ربوبية الله عز وجل فطرية جملة، والتأله لله عز وجل والحاجة إليه فطرية بالجملة، وهذا معنى الفطرة.

    وهذه القضية وقع فيها خلاف عميق في تاريخ المسلمين بين أهل السنة والجماعة الذين هم أهل الحق وبين أهل الكلام المذموم من الأشاعرة والمعتزلة والماتريدية وغيرهم، ولهذا فإن الخلاف القائم الآن بين أهل السنة من جهة وبين القبوريين من جهة أخرى فيما يتعلق بتعظيم القبور والطواف حولها والذبح والنذر لأصحاب هذه القبور ونحو ذلك من الشركيات أساسه عائد إلى هذه القضية أو المسألة، فأهل السنة تقريرهم للتوحيد كما سبق؛ ومعرفة الله عز وجل فطرية دلت عليها النصوص الشرعية الواضحة.

    وتوحيد الربوبية كما أنه فطري في الجملة فإنه لم يكن موطن إشكال أصلاً بين الأمم، فكل الأمم كانت تعترف بأن الله عز وجل هو الخالق والرازق والمحيي والمميت ونحو ذلك، بل إن أول أمة نزلت على ظهر الأرض آدم وأبناؤه، وقد كانوا على التوحيد لمدة عشرة قرون، أي: ألف سنة، كما جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنهم كانوا على التوحيد لمدة عشرة قرون، ثم حصل الشرك في قوم نوح، فأرسل الله عز وجل إليهم نوحاً وكان أول رسول أرسله الله عز وجل إلى الإنسانية، فدعاهم إلى الله، وكان شرك قوم نوح في العبادة، ولم يكن في معرفة الله عز وجل أو إنكار وجوده، أو ادعاء أن هناك خالقاً أو رازقاً مع الله، قال الله عز وجل: كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ [البقرة:213]، فقد قال ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (كان آدم وبنوه على التوحيد عشرة قرون).

    وقال الله عز وجل حاكياً عنهم: لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُوَاعًا وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا [نوح:23]، فهذه أسماء رجال صالحين كانوا في قوم نوح كما ورد عن ابن عباس رضي الله عنه، وكانوا مضرب المثل في العبادة لله عز وجل، فلما ماتوا حزن عليهم الناس حزناً شديداً، فجاء الشيطان إليهم ووسوس إليهم أن ينصبوا على أشكالهم تماثيل ويضعونها في الميادين والأماكن العامة، من أجل أن يذكروهم بالعبادة، ولم يقل لهم: اعبدوهم، فإنهم كانوا قريبي عهد بالتوحيد، ولا يمكن أن تنطلي عليهم مثل هذه الخطة.

    وأنتم تعلمون أن الشيطان له خطوات، فليست له خطوة واحدة بل مجموعة خطوات، فهو يقرب الإنسان من الحرام ثم يدخله في بداية الحرام، ثم قليلاً قليلاً حتى يقع في بطن الحرام.

    فأقنعهم بأن ينصبوا تماثيل ويجعلوها في الأماكن العامة، فلما هلك الجيل الأول وجاءت الأجيال القادمة ونسي العلم جاء الشيطان إليهم وقال: إن آباءكم كانوا يستسقون بهم المطر فيسقون، وكانوا يستدفعون بهم الشر فيندفع، فعبدوهم من دون الله، فكانوا يعرفون الله ويعظمونه، لكن المشكلة الحقيقة التي وقعت عندهم كانت في العبادة.

    وهذه القضية مهمة وأولية وأساسية في بناء العقيدة بالنسبة لطالب العلم إذا أدركها بهذه الطريقة، ومسألة فطرية المعرفة وأول واجب على المكلف من المسائل المهمة حتى يدرك الإنسان جذور الخلاف الذي وقع في حياة المسلمين، وكيف أن المسلمين اختلفوا في أصول دينهم، وأصبح هناك أشخاص يدافعون عن القبور والطواف حولها والنذر لغير الله عز وجل، ولهذا فإن الشيعة يعبدون القبور ويحجون إليها، حتى إن أحدهم ألف كتاباً وسماه حج المناسك، أي: مناسك زيارة القبور، والمناسك المشروعة: هي الطواف والسعي والذهاب إلى منى وعرفات ومزدلفة، والرجوع إلى منى ورمي الجمرات وطواف الإفاضة والوداع ونحو ذلك من المناسك التي هي نصوص صريحة في القرآن والسنة، أما المناسك عند الشيعة فهي زيارة القبور، بل نص بعض أئمتهم أن الذهاب إلى القبور والحج إليها أفضل من الحج إلى مكة والمشاعر المقدسة بألفي ألف مرة، أي: بمليوني مرة! ولهذا فإنهم يأتون إلى هذه القبور ويبكون عندها ويسجدون لها، ويدعون غير الله عز وجل كالأولياء والصالحين، ويطلبون منهم أموراً خاصة لا يقدر عليها إلا الله عز وجل، كالولد والرزق، والعفو من الذنوب، والبركة في الأموال والأولاد والأهل، ويمارسون الشرك حقيقة، ويقولون أنهم مسلمون، فأساس المشكلة في وقتنا الحاضر هو في فهم التوحيد، فينبغي علينا أن ندرك حقيقة التوحيد الشرعية من خلال القرآن والسنة.

    1.   

    أقسام التوحيد

    التوحيد ينقسم إلى ثلاثة أقسام باعتبار، وإلى قسمين باعتبار آخر، فهو ينقسم إلى توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية وتوحيد الأسماء والصفات، وهذا باعتبار النظر إلى الله سبحانه وتعالى.

    وينقسم إلى قسمين: توحيد المعرفة والإثبات وتوحيد القصد والطلب، وهذا باعتبار النظر إلى العبد، وقد يعبر عن توحيد المعرفة والإثبات بأسماء مختلفة مثل التوحيد العلمي الخبري، كما يعبر عن توحيد الإرادة والقصد بالتوحيد الإرادي الطلبي القصدي، وهذه كلها تعبيرات لمعان واحدة.

    وهكذا التقسيم هنا، فالتوحيد كحقيقة شرعية واردة في القرآن والسنة مفهومها واحد، لكن لما تطور العلم من زمن الرسول صلى الله عليه وسلم والصحابة والذين جاءوا بعدهم وأرادوا تعليم الناس قسموها بهذه الطريقة، فبعضهم نظر إلى مسألة من ناحية توحيد الله عز وجل فوجد أن توحيد الله ينقسم إلى توحيد في ربوبية الله وتوحيد في ألوهيته وتوحيد في أسمائه وصفاته.

    وبعضهم نظر إلى التوحيد من جهة العبد، فوجد أن العبد يوحد في مجالين، المجال الأول: في معرفته وإثباته، والمجال الثاني: في إرادته وقصده، يعني: إرادته القلبية وما يترتب عليها من العمل.

    وبعض العلماء يقسم التوحيد إلى قسمين: توحيد علمي وتوحيد عملي، فالتوحيد العلمي يتعلق بمعلومات الإنسان، والتوحيد العملي يتعلق بعمل الإنسان، وعمل الإنسان يشمل عمله الباطن مثل إرادته القلبية، وعمله الظاهر مثل الأعمال التي يمارسه بجوارحه.

    وهذا التقسيم وارد في كل العلوم حتى في العلوم العصرية الطبيعية، فالتقسيمات أمر فني، وأهم شيء حقيقة هذا المعنى، هل هو معنى صحيح أو معنى فاسد؟

    فمثلاً: في أصول الفقه، الواجب في اللغة: الساقط واللازم: فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا [الحج:36] يعني: سقطت إلى الأرض.

    والواجب في الشرع هو الأمر من الله عز وجل أو من الرسول صلى الله عليه وسلم على سبيل الإلزام، أي: إلزام العبد.

    فالواجب قسمه أهل العلم بأنواع مختلفة من التقسيم، فقالوا: ينقسم إلى واجب عيني وواجب كفائي، وإلى واجب معين وواجب مبهم، إلى واجب موسع وواجب مضيق.

    وعندما يبتدئ الطالب في طلبه للعلم وينظر إلى هذه التقسيمات فإنه يستغربها ويتعجب منها، وحتى يدرك هذه القضية يجب أن يعلم أن هذا التقسيم من جهة وهذا التقسيم من جهة ثانية، فالمقسم واحد، لكن جهاته مختلفة.

    عندما نظروا إلى الواجب من حيث الواجب على الفرد أو المجموع قسموا الواجب إلى قسمين: واجب عيني يجب على الأعيان، فكل مكلف تجب عليه الصلوات الخمس، فهذا واجب عيني يتعلق بأعيان الناس، بينما هناك في الشرع نوع آخر من الواجب، وهو الواجب الكفائي، فإذا فعله مجموعة سقط الإثم عن البقية، مثل صلاة الاستسقاء، فهي واجبة على عموم الأمة كشعيرة من شعائر الإسلام، فإذا كانت الأمة عشرين مليوناً وصلى مليون لا يأثم البقية، وهكذا صلاة الكسوف الجنائز، وإلا فصلاة الكسوف فيها قول آخر وهي أنها واجبة على التعيين.

    وعندما نظروا إلى الواجب من ناحية الزمن، وجدوا أن بعض الواجبات مضيق وقتها وبعضها موسع، فقسموا الواجب إلى قسمين: واجب موسع وواجب مضيق، وإلى واجب مبهم وواجب معين، واختلف أهل العلم هل يوجد هذا النوع من الواجب أو لا يوجد؟

    والتقسيم العلمي في اللغة: فالكلام ينقسم عند النحويين إلى اسم وفعل وحرف، وعند البلاغيين إلى خبر وإنشاء، وإلى حقيقة ومجاز، ويمكن أن يقسم باعتبارات مختلفة، فلا يقال: إن الكلام ينقسم إلى اسم وفعل وحرف وخبر وإنشاء وحقيقة ومجاز وغير ذلك، وهكذا غيرها من العلوم يمكن أن تقسم باعتبارات مختلفة.

    ويمكن أن تبحث في مسألة واحدة فتجمعها من عشرين كتاباً أو أقل أو أكثر، ومن هذا خمس ومن هذا عشر وهكذا، هذا يسمى البحث الموضوعي ويكون في موضوع معين.

    1.   

    دلالة الاستقراء للنصوص على أقسام التوحيد

    وتقسيم العلماء للتوحيد ناتج من استقراء الآيات والأحاديث الواردة في التوحيد؛ لأن المصدر في تلقي العقيدة هو القرآن والسنة، فالآيات الواردة في التوحيد تقسم إلى ثلاثة أقسام وهي: ربوبية الله وألوهيته وأسماؤه وصفاته، وهذا من جهة تعلقها بالخالق، ومن جهة تعلقها بالعبد تنقسم إلى قسمين: المعرفة والإثبات والقصد والطلب، فهذا التقسيم استقرائي، والاستقراء نوع من الأنواع اليقينية في منهج البحث والتحري.

    دلالة الاستقراء على توحيد الربوبية

    فالاستقراء في توحيد الربوبية مثلاً يقول الله عز وجل: أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ [الأعراف:54]، فهذه آية من آيات التوحيد، وعرفنا أنها من آيات التوحيد لأن مدلول التوحيد اللغوي هو الإفراد، والإفراد معناه الاختصاص، فأفردت الشيء أي أنه خاص بي، وليس عاماً للآخرين، فهذه الآية فيها معنى الاختصاص، ولهذا قد يمثل بهذه الآية في باب الحصر والقصر في البلاغة، ووجه الاختصاص في هذه الآية هو تقديم ما حقه التأخير، وإعراب هذه الآية كما يلي: (ألا) أداة تنبيه، و(له) اللام حرف جر والهاء ضمير متصل في محل جر بحرف الجر، وهو في محل رفع خبر مقدم، و(الخلق والأمر) الخلق مبتدأ مؤخر، والأمر: الواو حرف عطف والأمر: اسم معطوف على ما قبله مرفوع مثله. فتركيبة الجملة من حيث الترتيب اللغوي: الخلق والأمر له، فكل أنواع الخلق والأمر: لله عز وجل، فقدم (له) فصار (ألا له الخلق والأمر)، وهذا التقديم له معنى ومفهوم ومقصد فمقصده الحصر والقصر، وفي لغة العرب أساليب متعددة للحصر والقصر، فمنها: تقديم ما حقه التأخير، فتركيب الجملة في لغة العرب أن المبتدأ يكون قبل الخبر، فتقديم الخبر قبل المبتدأ أسلوب صحيح من أساليب اللغة العربية ويصح ذلك، وله فائدة بلاغية وهي: الحصر والقصر.

    إذاً: قوله تعالى: أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ نص في التوحيد؛ لأن عناصر التوحيد موجودة فيها وهي أمران: الخلق أولاً، والثاني: الأمر، فمعنى هذه الآية: لا يخلق أي شيء من الأشياء إلا الله عز وجل، فإذا وجدت شخصاً يقول: إن هناك خالقاً غير الله عز وجل فاعلم أنه مشرك.

    الأمر الثاني: الأمر، ويعني: ما يأمر به الله عز وجل وهو نوعان: أمر يتعلق بالكون ويسمى الأمر الكوني، وأمر يتعلق بالشرع وهي أوامر يطلب من العباد تنفيذها، وهذا يسمى الأمر الشرعي.

    والأمر الكوني القدري موافق لمعنى الخلق، والأمر الشرعي: هو ما أمر الله عز وجل به العباد من الفرائض، والحدود، وأحكام البيع والشراء، وقسمة التركات والمواريث، وفي مجال النكاح والطلاق، وفي مجال القضاء والفصل في الخصومات، وما أمر الله به العباد من العقائد، والآداب، والسياسات، وفي كل أمر من أمور الحياة، فلله عز وجل شريعة متكاملة وتسمى الشريعة، والشيء الذي يجب أن يطبق في حياة المسلمين هو تحكيم الشريعة.

    تحكيم الشرعية يعني: تحكيم أوامر الله في كل مجال من مجالات الحياة، كتحكيم أوامر الله في المال، فلا يجوز أخذ المال عن طريق أكل أموال الناس بالباطل، مثل التأمين المحرم، وهو أن يأخذ البنك -مثلاً- من المستفيدين مبلغاً من المال بحيث إنه إذا صار على أحدهم حادث من الحوادث فإنه يعوضه بشروط معينة، وإذا لم يصبه حادث فلا شيء له، والأموال المحرمة ثلاثة: الربا والغرر وأكل أموال الناس بالباطل، ومعنى بالباطل، أي: بالخديعة والاحتيال والنصب والوهم.

    وقد يكون هناك أشخاص تصير عندهم حوادث حقيقة ويترتب عليها أشياء أكبر من الشيء الذي دفعوه، فربما أنه دفع خمسمائة وصار عليه حادث كلفهم -مثلاً- ثلاثين ألفاً، فما هو المبرر الشرعي لدفع ثلاثين ألفاً مقابل خمسمائة ريال أو يأخذوا من شخص مثلاً عشرة آلاف ولا يدفع له أي شيء؟ ولهذا فإن شريعة الله عز وجل كاملة وشاملة، فالله عز وجل يقول: أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ [الأعراف:54] فالأمر الشرعي لله عز وجل، وأهل العلم يشنعون على القوانين الوضعية؛ لأن القوانين الوضعية معناها: إلغاء شريعة الله عز وجل وعدم تطبيق أوامر الله عز وجل ووضعها في الرف، ثم اختراع شرائع جديدة للناس تطبق في دمائهم وفي أموالهم وفي علاقاتهم وفي سياساتهم وفي أي باب من الأبواب، وهذا هو حقيقة الشرك، بل هو شرك في الربوبية، فهذه الآية نموذج ودليل على توحيد الربوبية؛ لأن الربوبية مأخوذة من الرب.

    ولو أن إنساناً زعم أنه يخلق النساء فقط، والرجال يخلقهم الله عز وجل، أو أنه خلق الأرض، وأن الله عز وجل خلق السماوات، أو أنه هو الذي خلق القمر وصنعه وأبدعه وجعله بهذا الأسلوب وبهذا الشكل؛ فهذا مشرك بدون أي شك.

    ولو أن إنساناً غير الأحكام الشرعية في الدماء، قال الله عز وجل: وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [المائدة:38]، والمعنى أي سارق شريف.. ضعيف.. حاكم.. محكوم، وإذا كان غير مكلف هناك أحكام تفصيلية، المهم أن الحكم الشرعي يطبق على كل الناس، فهذا أمر شرعي أمر الله عز وجل به العباد من زمن النبي صلى الله عليه وسلم ويستمر إلى قيام الساعة، فلو قال شخص: نحن لا نريد أن نقطع يد السارق، حتى وإن انطبقت عليه الأحكام الشرعية والضوابط الشرعية، بل نغرمه، فهذا يعارض أمر الله وشرعه، وليس هو رباً يملك شئون العباد حتى يغير أمر الله ويأتي بأمر من عنده، فالله عز وجل يعلم أن كثيراً من السرق ستقطع أيديهم، ولهذا اعترض أحد المنافقين قديماً من الزنادقة فقال:

    يد بخمس مئين عسجد وديت ما بالها قطعت في ربع دينار

    أي: أن دية اليد خمسمائة دينار من الذهب، فلو سرقت ما قيمته ربع دينار فإنها تقطع به، فرد عليه أحد العلماء برد مقنع فقال:

    عز الأمانة أغلاها وأرخصها ذل الخيانة فافهم حكمة الباري

    يقول: عز الأمانة هو الذي جعلها غالية بخمسمائة، فلو قطعت بالباطل فإن قيمتها وديتها خمسمائة دينار؛ لأنها كانت أمينة، لكن لما سرقت وخانت فإنها تقطع ولو في ربع دينار، ولو في بيضة تقطع.

    فلما يأتي إنسان ويعترض على أحكام الله عز وجل، كحكم الشرع في الزنا، فإذا زنى الرجل المتزوج بامرأة وكان الزنا بالضوابط الشرعية، إما اعترف هو بالزنا أو شهد أربعة شهود أنهم رأوا ذكره في فرج هذه المرأة، وهم شهود لا يقدح في عدالتهم، فإنه يرجم، فلو قال هذا المعترض: أنتم متوحشون؛ لأنكم ترجمون إنساناً بالحجارة حتى يموت، فنقول: الله عز وجل أمرنا أن نرجمه، والنبي صلى الله عليه وسلم رجم، فنحن نرجم في هذا القرن المتطور، ويجب أن نقيم شرع الله عز وجل في أي وقت، وشريعة الله عز وجل تمشي مع الإنسان في كل مجتمعاته؛ في المجتمع البدوي، وفي المجتمع الحضري، وفي المجتمع الرعوي الذي يعتمد على الرعي والغنم، وفي المجتمع الزراعي الذي يعتمد على الزراعة، وفي المجتمع الصناعي المتحضر؛ فهي شريعة الله عز وجل كاملة لكل الناس وفي كل الأحوال، فمن بدل شرع الله عز وجل فهو كمن ادعى أن غير الله عز وجل خالق، وهنا تبرز خطورة القوانين الوضعية في بلاد المسلمين، عندما تأتي -مع الأسف- أنظمة من الأنظمة التي تنتسب إلى الإسلام، ويجعلون برلماناً ولجنة للتشريعات ويأتون بقوانين مناقضة لأحكام الله عز وجل، فإذا قال لهم الناس: الله عز وجل أمر بهذا الأمر، فكيف تناقضون أحكام الله وتشرعون للناس بأهوائكم وعقولكم؟! قالوا: هذا من حقنا؛ لأن الديمقراطية تمنحنا هذه الخاصية، قلنا لهم: الديمقراطية إذاً جاهلية وكفر، مادام أنها تشرع وتأذن بالتشريع بغير ما أنزل الله فلا شك أنها كفر، وكما أن الله عز وجل أخبر أن العبادة خاصة له قال أيضاً: إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ [يوسف:40]، فجعل الحكم نوعاً من أنواع العبادة، فأنت تتعبد لله بهذه الأحكام التي تنزلها على الناس إذا كنت حاكماً أو قاضياً أو والياً أياً كانت ولايتك، فهذه أحكام شرعية أنت تتعبد لله بتنزيلها على الخلق، ولهذا فإن في هذا الزمان انتشر الشرك والكفر انتشاراً ذريعاً جداً، وسيأتي إن شاء الله في اللقاءات القادمة كلام مفصل في أنواع الشرك وأنواع الكفر ونواقض التوحيد تتعلق بهذه المعاني.

    دلالة الاستقراء على توحيد الألوهية وتوحيد الأسماء والصفات

    وأما بالنسبة لتوحيد الألوهية فمثل قول الله عز وجل: فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ [محمد:19].

    وأما توحيد الأسماء والصفات، فالله عز وجل يقول: وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا [الأعراف:180]، والحصر هنا من نفس نوع الحصر في قوله: أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ [الأعراف:54]؛ لأن الآية: وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى، فيها تقديم الجار والمجرور وهو (لله) ، وإعرابه في محل رفع خبر المبتدأ وهو (الأسماء)، وأصل الجملة في تركيبها اللغوي (الأسماء الحسنى لله فادعوه بها)، لكن الله عز وجل قدم ما حقه التأخير لفائدة معنوية وهي حصر الأسماء الحسنى لله عز وجل.

    والحسنى هي: التي بلغت الغاية في الحسن والجمال، والصفات داخلة في مدلول الأسماء، فإن كل اسم من أسماء الله يتضمن صفة من صفاته، وسيأتي الحديث في اللقاء القادم عن موضوع توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية، وسنتحدث عن معنى توحيد الربوبية وبعض أنواع توحيد الربوبية، وسنتحدث أيضاً عن توحيد الألوهية وفضائل هذا التوحيد ومفهومه ومعناه، وبعد ذلك سننتقل إلى توحيد الأسماء والصفات، ثم ننتقل إلى الكفر والشرك وما يتعلق بها.

    أسأل الله عز وجل أن يوفقني وإياكم لكل خير.

    وصل اللهم وسلم وبارك على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.

    1.   

    الأسئلة

    الفتن المعاصرة وما يجب على المسلم تجاهها

    السؤال: ما هو دور طالب العلم في الأزمات والفتن التي يواجهها؟

    الجواب: إن هذه الأوقات التي نعايشها أوقات أزمات، والتعبير الشرعي هو اسم الفتن، فإن الفتن اسم عام يشمل الفتن التي تحصل بالقتل والتدمير والشهوات التي تفتن الإنسان عن دينه، والشبهات التي تضل الإنسان عن دينه.

    ونحن في هذا العصر نواجه فتناً عظيمة وهي: فتنة الشبهات، فقد انتشرت المذاهب الإلحادية والعقائد الفاسدة، والفرق الضالة، والمذاهب الفكرية المنحرفة؛ وانتشرت في الأمة انتشاراً عظيماً.

    وأيضاً نواجه فتنة الشهوات عن طريق الفساد العظيم المنتشر، وخصوصاً استعمال المرأة كوسيلة من الوسائل في إفساد الشباب، ويسمونها بنت الليل، فيأتون بها في الأفلام لفعل الفواحش والأفلام الجنسية، ويأتون بها راقصة، ويأتون بها ممثلة في الدعاية، بل حتى في دعايات أشياء لا يقبلها الإنسان المدقق والمميز فيأتون بها في دعاية لجرافة من الجرافات، وأهم شيء عندهم أن تظهر المرأة لابسة اللباس القصير لتفتن الرجال.

    ولهذا أصبحت صور النساء اليوم لا يخلو منها بيت مع الأسف، والإنسان الذي يريد أن يحافظ على دينه ويكون بعيداً عن مثل هذه الصور، ربما تدخل عليه رغماً عنه، فربما تكون في كيس من الأكياس التي يأخذها من السوبر ماركت أو صيدلة من الصيدليات أو تكون على غلاف علاج من العلاجات الضرورية التي يستعملها الإنسان، أو تكون على غلاف لعبة من لعب الأطفال أو غير ذلك، حتى أصبح الإنسان يجد عناء في شراء حاجياته الأساسية التي يريد أن يشتريها بعيداً عن المحظورات الشرعية.

    وأيضاً نواجه في هذا الزمان فتن الحروب والأزمات والمصائب التي تسمعون عنها، من أعراضها وصورها الحرب الظالمة الموجودة الآن التي تشنها أمريكا وبريطانيا وحلفاؤها على العراق وتدمر هذا الشعب لسرقة ماله باسم الحرية.

    والمشكلة أن هذا التدمير وهذا الإيذاء وهذه المصائب التي يقومون بها تكون باسم تحرير الشعب العراقي! ومتى كان القتل وتدمير بيوت الناس تحريراً؟ وأفسدوا أجواء الناس عندما يرمونهم بقذائف مصنعة من اليورانيوم المنضب الذي يفسد الحرث، حتى إن الزراعة والأجنة في بطون أمهاتهم وحياة الناس تفسد، فمتى كان هذا تحريراً؟ ومع الأسف هناك من المرضى والمنافقين الذين هم في كل زمان ومكان من يعجب بالأمريكان أكثر من إعجاب الأمريكان بأنفسهم، فأكبر شعب أو أكبر دولة مغرورة بنفسها هي أمريكا، لكن مع هذا هناك أشخاص معجبون بالأمريكان أكثر من إعجاب الأمريكان بأنفسهم!

    اطلعت على مقال بعنوان أمريكا قوة خير، كتبه ممسوخ من الممسوخين يقول فيه: إن القوة الأمريكية هي قوة خير، فلا يمكن أن تقاتل أو تدمر بلد من البلدان إلا وهي تريد حقوق الإنسان، فهي تقتل الإنسان حتى تعطيه حقوقه! وتذله حتى يتحرر! وتدمر زراعة الإنسان وصناعته وثقافته وعقله وكلما يتعلق بالأمور المتعلقة بشخص الإنسان من أجل أن تحرر هذا الإنسان وأن تجعله ديمقراطياً! فهذه شعارات زائفة كاذبة، لكنها مع الأسف لم تجد رجالاً صادقين يستطيعون الوقوف في وجه هذه القوة الظالمة، ولهذا فإن من أبرز مظاهر هذه الأزمة، أن الأمريكان يضربون بلداً من بلدان المسلمين من بلد آخر من بلدان المسلمين أو من مجموعة بلدان من بلدان المسلمين، وهنا تكون المأساة، ويكون الجرح غائراً في حقيقته، ولهذا فإننا نواجه هذه الأزمة في عدة أمور ينبغي أن نلاحظها:

    الأمر الأول: يستحب للإنسان في وقت الفتن أن يجتهد في العبادة أكثر؛ ولهذا جاء في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (العبادة في الهرج كهجرة إلي)، وهو حديث صحيح رواه الإمام مسلم في صحيحه؛ والسبب في ذلك أن العبادة في وقت الفتن التي تطيش فيها العقول وتذهل فيها الفهوم دليل على الإيمان الموجود في قلب صاحبها، ولهذا ينبغي للإنسان أن يتوجه إلى الله سبحانه وتعالى وخصوصاً في أوقات الفتن وأوقات المصائب.

    الأمر الثاني: ضرورة العلم، فإن العلم -بإذن الله- يعصم به الله عز وجل صاحبه من الانحدار في الفتن، فإنه في بعض الأحيان قد يقع الإنسان في الكفر وهو لا يشعر، فمن أعان الكفار على المسلمين ولو بالكلام في المجالس فإنه يقع في الكفر الأكبر أو الأصغر، ولهذا ينبغي للإنسان أن يبتعد عن كل إعانة للكفار سواء كانت إعانة مادية أو بالكلام أو بالرأي أو بالسلاح أو بأي أسلوب من أساليب الإعانة، يقول الله سبحانه وتعالى مبيناً ذلك: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ [المائدة:51].

    قال العلماء: هذه الآية على ظاهرها: وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ أي: أنه ارتكب كفراً مخرجاً من الإسلام.

    والولاية لها معنيان: المحبة والنصرة، وأشد أنواعها النصرة؛ فإن نصرة الكافر على المسلم ردة بدون أي شك.

    الأمر الثالث: هو أن يدرك الإنسان في مثل هذه الأزمات أنه لا يصيب الأمة بلاء ولا فتنة ولا مصيبة ولا قتل إلا بسبب نفسها، ولا يصح أبداً أن نرد الفتن على أعدائنا، وهذا منهج قرآني مهم ينبغي للإنسان أن يعتني به، قال الله عز وجل: أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ [آل عمران:165]، فالمصيبة التي أصابت الصحابة هي الهزيمة في أحد، وقد انهزموا فعلاً في أحد، كما أخبر الله عز وجل بقوله: إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ [آل عمران:140]، فاعتبر ما حصل للصحابة في أحد قرح، كما أن ما أصاب المشركين في بدر قرح، فهذا صريح في كونهم انهزموا في أحد، قال تعالى: أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ [آل عمران:165].

    إذاً: ما تحصل فتنة من الفتن ولا مصيبة من المصائب إلا بسبب ذنوبنا ومعاصينا، والمصيبة إذا حصلت لا تحصل على أهل الذنوب فقط، وإنما تشمل الناس جميعاً، كما قال الله عز وجل: وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً [الأنفال:25]، فالفتنة لا تصيب الظالمين فقط، وإنما تشمل الأمة بأكملها، ولهذا نحن بحاجة إلى أمرين:

    الأمر الأول: الصلاح في النفس.

    الأمر الثاني: إصلاح المجتمع.

    فالأمر الأول: أن نصلح أنفسنا، فنحن بحاجة إلى أن نجتهد في الصلاح، فنرجع إلى الله، ونعود إلى قراءة القرآن، وإلى ذكر الله عز وجل، وأن نبتعد عن المحرمات والفساد والمعاصي، أما أن تقع الفتن من حولنا ونحن كما نحن لا نغير شيئاً، فيدل هذا على أننا لم نفهم ماذا يريد الله عز وجل منا.

    فيجب علينا أن نعود إلى الله عز وجل عودة صادقة، وأن نتوب إلى الله عز وجل من الذنوب والمعاصي.

    والأمر الثاني: أن نصلح الآخرين، فيصلح الإنسان نفسه وزوجته وأطفاله، ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر في المجتمع، فإذا رأيت منكراً من المنكرات يجب عليك أن يكون لك دور في إنكار هذا المنكر بالأسلوب الحسن الطيب، ولا تظن أن إنكار المنكر متلازم مع القوة وبأنه لا قوة لك، فأنت تستطيع أن تنكر بلسانك، فمن الذي ربط على لسانك وقال: لا تنكر المنكر، فيجب علينا أن ننكر كل منكر نواجهه، ولهذا جاء في حديث أبي سعيد الخدري المشهور أنه قال: (من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان).

    ومن المفاهيم الفاسدة في هذا الموضوع أن الناس يظنون أن التغيير باليد يكون للحكام، وباللسان يكون للعلماء، وبالقلب للعامة، وهذا فهم فاسد، والصحيح أن الإنسان يغير المنكر بحسب حاله، فأنت تستطيع أن تغير المنكر بيدك إذا كان في بيتك، أو تحت ولايتك كأن تكون مديراً في مكان من الأماكن أو رئيس قسم، أو عمدة في حي، أو مدرساً في مدرسة، أو في أي ولاية من الولايات حتى ولو كانت محدودة، فإن لم تستطع فبلسانك، وما هو الشيء الذي يربط ألسنتنا عن إنكار المنكر؟ وإذا رأيت شاباً يعاكس فتاة فلماذا لا تنصحه؟! وإذا رأيت فتاة متبرجة فلماذا لا تنصحها؟ وإذا عرفت أن في البيت المقابل لك -مثلاً- يوجد فيه نساء للدعارة أو خمور أو نحو ذلك فاتصل بالهيئة، وتعاون مع الصالحين لإنكار هذا المنكر.

    المهم أن يكون لنا دور في إنكار المنكر، أما أن نقف والفتن من حولنا كما هي، وننظر في شاشات التلفاز المسلمين يدمرون ويحوقل الإنسان وأحسن حال له هو أن يشعر بالهم والغم ولا يدري كيف يعالج هذه الأمور! والقضية واضحة جداً، ومازال كثير من المسلمين اليوم يذهب إلى البنوك الربوية ويضع ماله فيها ويأخذ عليها الربا والعياذ بالله الذي يقول عنه النبي صلى الله عليه وسلم: (درهم ربا أشد عند الله من ست وثلاثين زنية)، ومازال كثير من الناس ظالماً إما لزوجته أو لولده أو لجاره أو لأحد من أقاربه، وما يزال كثير من الناس والعياذ بالله ينشر الفساد إما بمقال في صحيفة، والآن كثير من الصحفيين بدءوا يكتبون عن أمريكا؛ لوضوح عوار أمريكا، لكن مع الأسف انتظر أربعة أشهر.. خمسة أشهر حتى تنتهي هذه الأمور فستجد من يطبل لأمريكا ومن يدافع عنها ومن يقول: إنها هي ربة الحرية في العالم، وإنها تريد نقل هذا النور لكل الناس!

    فيجب علينا أن نعرف كيفية التعامل مع الأحداث والأزمات، ومن ذلك وبه أختم في الإجابة على هذا السؤال؛ أن من الأمور المهمة التي ينبغي أن نهتم لها أن أمريكا ما جاءت في هذه المنطقة وتريد تدمير العراق إلا لأهداف موجودة لديها تريد تنفيذها في هذه المنطقة من بلاد المسلمين، فمنها: إضعاف المنطقة هذه حتى تصبح أمام إسرائيل مثل العصفور أمام النسر، وتصبح مثل أي ضعيف أمام أي متجبر ومتغطرس وقوي، فالهدف الأول إذاً إضعاف دول المنطقة أمام إسرائيل.

    والهدف الثاني: هو تغيير هذه المنطقة من الناحية الاجتماعية، والفكرية، ومن ناحية عاداتها وتقاليدها ودينها وآدابها، وهذا التغيير بالقوة، أو حرية بالقوة كما يقولون، ولهذا قد يطالبون بتغيير المناهج في بلدان كثيرة من بلاد المسلمين، وإذا كان يدرس في مناهجنا خمس مواد وهي: كتاب التوحيد والفقه والحديث والتفسير والقرآن فهم يريدون أن يجعلوها مادة واحدة، ولا فيها نجاح ورسوب، وتصبح مثل مادة الرياضة البدنية فالطالب لا يهتم ولا يعتني بها، وحينئذ سيتخرج لنا جيل ليس له أي ارتباط بدينه ولا يعرف حقيقة هذا الدين، وأنتم تلاحظون أن كثيراً من مجتمعات المسلمين تعتمد بالدرجة الأولى على التعليم، وهل الأسر في البيوت يعلمون أولادهم؟ فأسرنا لا يعلمون ولا لهم دور في التعليم، وإنما يعتمدون بعد الله سبحانه وتعالى على المدارس التي تعلم التوحيد والفقه، ولأن المناهج قوية وممتازة وفيها خير كثير، ولأنه فيها نجاح ورسوب فإن الطالب يهتم فيها ويتفهم هذه المناهج، لوجود مدرسين أكفاء يدرسون الطلاب، وأصبح هناك جيل -ولله الحمد- يفهم دينه إلى حد ما، لكن ليس هناك دور في داخل الأسرة، وحينئذ سيضغط على كثير من بلاد المسلمين لتغيير هذه المناهج، وسيضغط أيضاً لفتح مسارح ومراقص ودور للخمر والبغاء ونحو ذلك، وسيطالبون بهذا لن يردهم شيء إلا الرفض والإباء من الشعوب نفسها، فتمنعه بالمناصحة وبالكتابة بالتي هي أحسن، فينبغي علينا أن نكون واعيين للمرحلة القادمة التي تريدها أمريكا من هذه المنطقة، وأن نكون متآلفين متعاونين مجتمعين، فإن الفرقة والاختلاف هما أساس الداء والعياذ بالله، فينبغي مراعاة هذه الأمور، وهذه بعض النقاط التي تتعلق بدور طالب العلم في الأزمة، وطالب العلم بالذات ينبغي عليه أن يجتهد في طلب العلم وفي الدعوة إلى الله عز وجل والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وينبغي عليه أن يعرف ما هو الدور الذي يمكن أن يقوم به، أما أن يحطم طالب العلم نفسه ويظن أنه إنسان بسيط مسكين ليس له أي دور، ويضيع كثير من طاقاته وجهوده، ويتأخر عن كثير من الخير والفضل؛ فهذا لا شك فيه أنه خطر عليه.

    نصيحة للطالب المتقاعس والمنقطع في طريق الطلب

    السؤال: كثير من طلاب العلم يجتهدون عند الدروس الأولى، ثم يتأخرون ويتقاعسون عن الدرس، فهل من كلمة؟

    الجواب: لا شك أن الملل وعدم التعود على الاستمرار في الدروس هو من أبرز الأسباب التي تجعل طالب العلم لا ينضج في طلبه للعلم، فتجد أن طالب العلم يبدأ في درس من الدروس فيتحمس له ويحضر أوله ثم ينقطع عنه، فهذا الانقطاع وعدم الاستمرار من أبرز الأسباب التي تجعل الطالب لا يستفيد، فتمر عليه السنتان والثلاث إلى العشر السنوات، وهو كما هو في مكانه يتحرك ولا يتقدم، ولو أنه انضبط في الدروس التي التزم بها، وجعل له هدفاً، فدرس الفقه في المكان الفلاني، والعقيدة في المكان الفلاني، والنحو في المكان الفلاني، ثم يلتزم بها حتى تنتهي، بحيث يعرف كافة المسائل الموجودة التي طرحت في هذا الدرس ويقيدها، ولا يكتفي الطالب بمجرد التقييد؛ لأن هناك علة أخرى لطلاب العلم، فقد سماهم بعض المشايخ بالمتسولين على طلب العلم، فبعض طلاب العلم يشبه المتسولين، فيسجل معلومات سمعها، ثم يضعها في البيت ولا يتذكر الدفتر إلا في الدرس الآتي، ثم يحضر الدفتر معه ويسجل معلومات جديدة، والدرس الماضي لم يقرأه ولم يتفهمه ولم يستفد منه فائدة صحيحة، وحينئذ لا يمكن أن تنضج لديه المعلومات ويستفيد منها فائدة جيدة.

    إذاً: لابد من الحرص والعناية بالاستمرار على طلب العلم، لابد من الحرص على المذاكرة والمدارسة وحفظ الأدلة والمسائل وتصورها تصوراً صحيحاً، وإذا كانت هناك إشكالات يناقش فيها، بحيث يتصور المسائل تصوراً جيداً.

    توجيه بالحرص على الدروس العلمية اليومية ومراجعة العلم

    السؤال: هل الدرس الواحد في الأسبوع يكفي ليتلقى طالب العلم ما يكفيه في أي فن من الفنون؟

    الجواب: الحقيقة أن درساً واحداً في الأسبوع لا يكفي، وكانت الطريقة التي عليها العلماء قديماً هي الدروس اليومية، ولهذا تجد بعض الأحيان أن مادة علمية بسيطة يجلس الإنسان في تدريسها ربما سنة أو سنتين؛ بسبب أن الدرس أسبوعي، لكن الدرس اليومي هو أكثر ثمرة، لكن مع الأسف فإن كثيراً من طلاب العلم لا يصبر على الدرس الأسبوعي مع أن عنده فرصة في وضع مواعيد أخرى في غير هذا الأسبوع، فكيف لو كان الدرس يومياً؟ ولهذا فإن كثيراً من طلاب العلم ليسوا منقطعين للعلم ومشتغلين به، ولا أعني انقطاعهم عن العلم هو انقطاعهم عن الدعوة، فالدعوة لا يمكن الانقطاع عنها، فهي مثل بقية الفرائض، فلا يمكن أن تنقطع عن الصلاة باسم طلب العلم، وكذا الانقطاع عن الدعوة باسم طلب العلم، والدعوة ليس لها صورة واحدة، بل لها مجموعة من الصور، فينبغي للإنسان أن يوظف نفسه علمياً ودعوياً في المكان المناسب الذي يلائم طبيعته وشخصيته وينفع هذه الأمة بجهده.

    وكثرة الدروس مع المراجعة والملازمة لها هي التي تفيد طالب العلم، فكثرة الدروس في حد ذاتها ليست مقصداً، وإذا كان الطالب يحضر يومياً للدروس، ثم لا يراجعها في بيته لا يمكن أن يستفيد منها، فلابد من هذه الأمور مكتملة، وقد سبق أن أشرنا إليها فيما يتعلق بآداب طالب العلم.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    الأكثر استماعا لهذا الشهر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756015143