إسلام ويب

تفسير سورة فصلت [30-32]للشيخ : المنتصر الكتاني

  •  التفريغ النصي الكامل
  • أهل الاستقامة الذين استقاموا على منهاج ربهم ففعلوا من الأوامر الشرعية ما قدروا عليه، وتركوا جميع ما نهى الله عنه، تتنزل عليهم الملائكة عند الموت فتبشرهم بالجنة وما سيتبعها من النعيم الذي هو فضل الله على عباده المؤمنين.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا ...)

    معنى قوله تعالى: (إن الذين قالوا ربنا الله)

    قال الله ربنا جل جلاله: إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ * نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ [فصلت:30-32].

    بعد أن عرض ربنا جل جلاله أقاويل الكافرين وجحود الجاحدين ذكر من هم أعلى من ذلك مقاماً، وهم من قد رضي الله عنهم والمؤمنون، فذكر هناك أهل النار وهنا أهل الجنة ووصفهم ونعتهم وعرّف بهم ودعا لمثل أعمالهم؛ ليكون من أراد الجنة ورضا الله على علم بالطرق الموصلة إلى ذلك، فقال ربنا: إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا [فصلت:30].

    فقوله: إِنَّ الَّذِينَ أي: إن الخلق والقوم والجن والإنس الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ، أي: اعترفوا بالله رباً وإلهاً وخالقاً وواحداً وقادراً على كل شيء، ثم بعد أن آمن لسانهم عملت جوارحهم فاستقاموا على الطريقة المثلى اللائقة بالموحدين والجديرة بمن يقول: ربنا الله، لا كأولئك الذين أشركوا بالله وعملوا على معصيته ومخالفته ومخالفة كتبه ورسله الذي أرسلهم.

    والاستقامة هي العمل بالأركان وبالجوارح والقيام بالوظائف الإسلامية من صلاة وصيام وزكاة وحج، وهي التخلق بالأخلاق الكريمة والابتعاد عن الأعمال الذميمة، وهي فعل الخيرات وترك المنكرات وملازمة ذلك في الحياة إلى لقاء الله، فمن كان كذلك تتنزل عليه ملائكة الرحمن مبشرة له وبالفضائل وحسن العاقبة، كما قال تعالى: تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا [فصلت:30].

    أي: تنزل عليهم بأن لا يخافوا العاقبة ولا النار ولا الغضب، فهم على طريق مستقيم، ولا يحزنوا على ما يتركون في الدنيا الفانية من ولد وديون وتبعات، فالله جل جلاله يبعث إليهم ملائكته؛ لكي لا يخافوا وليطمئنوهم بأن لا يخافوا العاقبة، فهم آمنون بوعد الله وآمنون من عذابه، وأن لا يحزنوا، أي: فلتقر أعينهم بما وعدهم الله به وبما بشّرهم من القيام بأولادهم وإغنائهم والقيام على خدمتهم وإلهامهم عمل الصالحات.

    ثم قال تعالى: وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ [فصلت:30]، أي: أبشروا بكل خير وبالجنة التي وعدكم الله بها في الدار الدنيا في كتبه وعلى لسان رسله، فلهم الجنة منزل ومثوى ومقام خالدين فيها أبداً، لكم فيها ما تشتهي أنفسكم من أطايب ولذات وكرامات وكل ما لا يخطر في البال وفي النفس.

    وقوله: وَلَكُمْ فِيْهَا مَا تَدَّعُونَ [فصلت:31] أي: ما تدعونه وتطلبونه يكون حاضراً لديكم.

    نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ [فصلت:32]، أي: فهذه ضيافة من الله ونزل من فضله، وهو تكريم من كرامته ومن رحمته بعباده المؤمنين.

    قوله تعالى: نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ فهو غفور قد غفر لكم ذنوبكم، رحيم بكم، فقد أكرمكم بالجنة وبالرحمة وبالرضا.

    تعريف الاستقامة

    وفي صحيح مسلم وسنن النسائي عن سفيان بن عبد الله الثقفي قال: (قلت: يا رسول الله! قل لي في الإسلام قولاً لا أسأل عنه أحد بعدك قال: قل: ربي الله ثم استقم، وتلا هذه الآية: إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ [فصلت:30] ثم قال: آمنوا بالله ثم لزموا ذلك وثبتوا عليه وماتوا عليه، وقال: قال ذلك قوم ثم كفروا).

    وصدق ما قاله عليه الصلاة والسلام، فعند الوفاة النبوية ارتد الكثير من المسلمين، وعادوا إلى الكفر والجحود، وظهر بينهم متنبئون كذبة رجال ونساء، فهم من الذين قالوا يوماً: ربي الله ولكنهم لم يستقيموا ويستقروا على ذلك إلى الموت، فكان عملهم ذلك هباءاً منثوراً لا أجر عليه ولا ثواب؛ لأن الخاتمة كانت سيئة وقد بين النبي عليه الصلاة والسلام بأنه لا تتم الاستقامة إلا بأن يقول المؤمن: ربي الله ويبقى على ذلك إلى لقاء الله.

    وقال أبو بكر رضي الله عنه: الاستقامة أن لا تشرك بالله أبداً.

    وقال عمر رضي الله عنه: الاستقامة أن تأمر بالمعروف وتفعله، وأن تنهى عن المنكر وتتركه، وأن لا تروغ روغان الثعلب. أي: أن لا تتلاعب بدينك، فيوماً يماني ويوماً تميمي، بل ابق مؤمناً مسلماً قائماً بالطاعات مدة حياتك بلا تلاعب إلى لقاء ربك.

    وقال عثمان رضي الله عنه: الاستقامة أن تؤمن بالله في سرك وعلنك وتبقى كذلك.

    وقال علي رضي الله عنه: الاستقامة القيام بالفرائض، فمن قام بما فرض الله عليه من أقوال وأفعال فهو على خير، ويدخل في عموم هذه الآية الكريمة.

    وقال ابن عباس رضي الله عنهما: الاستقامة أن تقول لا إله إلا الله بحقها.

    وقد ركبنا يوماً في باخرة فيها جماعة من المريدين ومن العبّاد والزهّاد، فكانوا يذكرون الله صباحاً ومساء ويؤذنون ويقيمون ويصلون جماعة، وظلوا على الباخرة البحرية أياماً يسافرون من خفر إلى خفر، وكان ظاهر قبطان الباخرة أنه ليس بمسلم، بل كان وثنياً أو نصرانياً، ثم في وقت اجتماعهم استأذن أن يجلس معهم فأذنوا له، فسأل شيخهم وكبيرهم الذي يظهر أنه مقدّمهم في الكلام والوعظ والإرشاد عن الاستقامة وقال له: ما الاستقامة عندكم معاشر المسلمين؟

    فقال له: استقام فعل ماض، ويستقيم فعل مضارع، واستقم فعل أمر، والاستقامة مصدر، والسين والتاء للطلب، وأصل الكلمة أقام يقيم، أي: استقر. فمد يده إلى جيبه وأخرج ذهباً وقال له: هذا ثمن تعريفك للفظ الاستقامة، ولو علمت معناها وعرّفتها وقُمت بها لزدناك. ثم تبين أن ذلك الرجل كان مؤمناً يكتم إيمانه ويعلم الاستقامة، وقد أراد منه العمل لا القول، وأرد أن يعلم هل هذا القول معه عمل أو لا؟ فامتحنه بالسؤال عن معنى الاستقامة لا عن لفظها، وهو أخذ يجيبه باللفظ نحواً ولغة وترك معناها الذي فسرها به رسول الله صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدون.

    الأقوال في وقت تنزل الملائكة على المؤمنين

    قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ [فصلت:30].

    قال علماؤنا ومفسرونا: تأتيهم الملائكة عند الاحتضار وقت خروجهم من الدنيا إلى الآخرة؛ لتبشرهم وهم لا يزالون قدماً في الدنيا وقدماً في الآخرة؛ لأنهم يخافون على الأولاد كما يخافون على مستقبلهم بعد الموت، فيأتوهم مبشرين من الله بعدم الخوف من الآخرة من عذاب ولعنة وغضب، وعدم الحزن على ما يخلفونه من أولاد وذرية محتاجين للمال، فهم يخافون أن يمدوا أيديهم للناس، فيطمئنونهم عليهم وعلى أموالهم وعملهم.

    وقال قوم: يكون ذلك في القبر عندما يأتيه الملكان يسألانه ويستفسرانه من قبل الله جل وعز، من ربك؟ ومن نبيك؟ وما دينك؟ فبعد جوابه وكونه من الذين قالوا: ربنا الله ثم استقاموا يطمئنونه ويبشرونه من الله بالجنان وبعدم الخوف يوم القيامة عند العرض على الله، وأن لا يحزن على أولاده.

    وقال قوم: يكون ذلك من الملائكة عند القيام من القبر، وعند البعث والنشور والناس تقبل على الله وهم على غاية الهلع والفزع أهم من أهل اليمين أهم من أهل اليسار؟ وهل سيرضى الله عنهم أو يغضب؟ فيأتونهم أحوج ما يكونوا لهذه البشريات، فيبشرونهم بعدم الخوف من غضب الله وبعدم الحزن من الحساب والعرض على الله، وأنهم من أهل الجنة، وهم سكانها وأهلوها.

    وقال الله: تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ [فصلت:30] وأطلق ذلك ليعم، فهم تتنزل عليهم الملائكة عند الاحتضار وعند النزول إلى القبر وعند البعث والنشور والقيام من القبر، وتلك المواقف الثلاثة يحتاج المؤمن فيها إلى اطمئنان وبشريات وعدم تخويف وحزن بالبشرى، فتتنزل عليهم الملائكة لذلك.

    وعلى هذا الاعتبار فكل ما قاله المفسرون من التنزل عند الاحتضار وعند الموت أو في القبر أو عند القيام كله صحيح. فالملائكة تتنزل على هؤلاء المؤمنين في هذه المراحل والمنازل الثلاثة، فيكون الاطمئنان في الآخرة وفي الدنيا على الأولاد والأسباط والذراري من الأولاد.

    الملائكة التي تتنزل على المؤمنين

    وأما الملائكة فهم الملائكة الرفقاء الأقران الذين يكونون على اليمين وعلى الشمال، فهم المكلفون بهذا العبد المؤمن الذين علموا حياته وصلاحه وقيامه بالفرائض، وعلموا أنه ممن يدخل ضمن هذه الآية، وأنه ممن دعا إلى الله، وممن آمن بالله رباً، وكان من المستقيمين في حياته وطاعته في دينه وإسلامه.

    قال تعالى: (( تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا ))، أي: بأن لا تخافوا، فهي تتنزل عليهم بهذا القول وحذفت الباء للدلالة عليها، وذلك من تمام فصاحة القرآن وبلاغته وإعجازه.

    وقوله تعالى: (( أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا )) أي: لا تخافوا ما بين أيديكم من العذاب يوم القيامة، فأنتم آمنون بأمان الله، ولا تحزنوا على من تتركونهم من ذرية خلفكم، فإن كانوا فقراء فسيغنيهم الله من فضله، وإن كانوا أغنياء يشرفون على مالهم فلن يبذروه ويضيعوه ويصرفوه فيما لا يحل من حرام ومن مخالفات.

    معنى قوله تعالى: (أبشروا بالجنة التي كنتم توعدون)

    قوله: (( وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ )).

    أي: أبشروا يا هؤلاء الذين قالوا: ربنا الله ثم استقاموا على الطريقة المثلى دواماً واستمراراً إلى لقاء الله وقاموا بالفرائض، فكل تلك المعاني التي ذكرها الخلفاء الراشدون وغيرهم من التابعين والصحابة هي جميعها بيان وتفسير لكلام رسول الله عليه الصلاة والسلام في الاستقامة، فهي: أن تقول: لا إله إلا الله وتطيع ربك، وأن تقول: ربي الله وتستمر على ذلك إلى لقاء الله ولا تنقطع عن هذا ولا ترتد كما ارتد مرتدون وكفر كافرون وسلب مسلوبون.

    ثم قال تعالى: (( وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ ))، أي: أبشروا يا هؤلاء! بالجنة التي وعدكم الله بها في كتابه وعلى لسانه رسله، وأبشروا بأنها منزلكم ومقامكم ومثواكم أبد الآبدين ودهر الداهرين.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (نحن أولياؤكم في الحياة الدنيا ...)

    قال تعالى: نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ [فصلت:31]، أي: كما كنا أولياءكم وأنصاركم وأصدقائكم وأحبابكم في دار الدنيا حيث كُلِّفنا بكتابة أعمالكم في ليلكم ونهاركم، وفي حضركم وسفركم وإلى لقاء ربكم، فلن نترككم كذلك يوم القيامة، بل نبقى معكم إلى أن تتجاوزوا الصراط والحساب والعرض على الله وتدخلوا الجنة وأنتم مطمئنون آمنون فرحون بما آتاكم الله من فضله ومن خيره ومغفرته ورضوانه فتقول لهم الملائكة: نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا زيادة في البشريات.

    قوله: وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ .

    أي: في الجنة كرماً من الله وعطاء غير مجذوذ، بل أبداً سرمداً إلى ما لا نهاية له وَلَكُمْ فِيهَا أي: لكم في الجنة ما تشتهيه أنفسكم ويخطر ببالكم وتحن إليه أنفسكم من كرامة الله ومن اللذات والطيبات، ومن كل ما يخطر لكم ببال مما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، وتطلبونه وتدعونه يحضر لكم، فما طلبتم ورغبتم فيه وجدتموه.

    وتجدون الغلمان الذين كأنهم اللؤلؤ المكنون ينتظرون أوامركم ونواهيكم، وستجدون الحور العين والقصور الشاهقات والمياه التي تتخلل بين أيديكم ومنازلكم، وما تشتهونه من طير ومن لحم ومن فاكهة، ومن ماء غير أسن ومن خمر لذة للشاربين، لا فِيهَا غَوْلٌ [الصافات:47]، أي: ليس فيها ما يضيع العقل ويغيبه ويؤذي الجسد ويمرضه، فليس فيها أذى ولا مرض.

    والغول كلمة عربية، ويقصد بها السكر والعربدة التي توجد في خمر الدنيا.

    قوله: نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ [فصلت:32].

    أي: حال كون ذلك نزلاً، أي: ضيافة ومنزلاً وعطاء وكرامة من الغفور الذي غفر ذنوبكم، والرحيم الذي رحمكم وأكرمكم بالجنة وبالرضا وبالرحمة، وهذه المنازل الطيبات والجنات الدافقات والبشريات من أنه لا حزن ولا خوف عليكم لا في آخرتكم ولا فيما خلفتموه من أولاد كلها بشريات أمر الله ملائكته قرناء ذلك المسلم أن يبشره بها، وكل ذلك كرامة وضيافة ومنزلة من الغفور الرحيم الكريم الحنان المنان التواب.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    الأكثر استماعا لهذا الشهر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756387935