إسلام ويب

تفسير سورة النور [40-43]للشيخ : المنتصر الكتاني

  •  التفريغ النصي الكامل
  • ضرب الله تعالى هنا مثالاً لما يعيش فيه الكافرون من ظلمات في العقيدة والأخلاق والمعاملات، فشبه حاله وظلماته بالبحر اللجي العميق الذي تغشاه الأمواج العظيمة المتراكمة في الليلة الظلماء، والليلة الملبدة بالغيوم والسحب السوداء، فذلك ظلام في ظلام في ظلام، وهكذا حال الكافر، فهو لا يرى نور الحق ولا نور الهدى، ولا يشم رائحة الهدى الزكية.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (أو كظلمات في بحر لجي يغشاه موج...)

    قال الله جل جلاله: أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ [النور:40].

    يضرب الله جل جلاله في الآية السابقة مثلاً لنور هدايته، ونور رسالته، ونور ما أرسله من أنبياء وكتب إلى الناس كافة، ضرب لذلك مثلاً بمشكاة فيها مصباح، المصباح في زجاجة، إلى أن قال جل جلاله: يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ [النور:35]، فالله يهدي لهذا النور من يشاء من عباده، فقد هدى في الأمم السابقة واللاحقة ثلة من الأولين، وقليلاً من الآخرين.

    وهنا يضرب جل جلاله مثلاً لظلمات الشرك، وسواد الشرك وريبه وضلاله، يقول سبحانه: وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ [النور:39]، فشبه ظلمات الشرك والكفر بالسراب الذي لا ظل له ولا حقيقة له، وإنما هو خداع للنظر والرؤية، فليس هو ماء حقاً، ولا غياثاً حقاً، وإنما هو سراب وشعاع تأتي به الشمس فيظهر في الأرض المتسعة وكأنه ماء، فيأتيه الصادون فلا يجدون شيئاً.

    وفي الآية الثانية: ضرب الله لهم مثلاً آخر، فقال عنهم: أَوْ كَظُلُمَاتٍ [النور:40] مثال ظلمات الكفر، وسراب الشرك، وضلال من لم يؤمن بالله، ولم يعمر قلبه بذكر الله ورسوله، والإيمان بهما، والامتثال لأمر الله ورسله، فوق السراب الذي لا حقيقة له، مثاله كظلمات في بحر لجي، واللجي: البحر العميق المتلاطم الأمواج، الكثير المياه، وهو مع ذلك يغشاه موج، أي: يركبه موج ويغطيه، (يغشاه موج من فوقه موج) فهي أمواج متلاطمة متضاربة وكأنها الجبال، فحتى الأمواج نفسها تتلاطم فتعلوها أمواج (يغشاه موج من فوقه موج من فوقه سحاب) فهي أمواج متراكبة متلاطمة كأنها الجبال، يغشى بعضها بعضاً، ويركب بعضها بعضاً، ثم فوق الكل سحاب وغمام، كما قال جل جلاله: ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ [النور:40] أي: ظلمات البحر، وظلمات الموج، وظلمات السحب، وظلمات الليل، فهي ظلمات بعضها فوق بعض، ومن شدة هذا الظلام: إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا [النور:40] و(يكد): من أفعال المقاربة، أي: يقارب ولا يصل، كما نقول: كاد النعام أن يطير، وهو لا يطير ولكنه قارب ذلك؛ إذ هو من أنواع الطيور وله جناحان، ولكن جسمه أثقل من جناحيه، وجناحاه أقصر من جسمه، حتى ولو حاول الطيران فلن يستطيع، وهكذا هذه الظلمات، فهو يحاول أن يمد يده لشدة الظلمة المتراكبة ليراها لكنه لا يستطيع؛ لشدة الظلمة، فهو تشبيه وضرب مثل من الله تعالى لظلمات الكافر، فقوله ظلمة، وعمله ظلمة، وسيرته ظلمة، ويعتقد الظلم والظلام، فهو في ظلمات الشرك، وظلمات الفواحش، وظلمات العقائد، وظلمات الظلم والإيذاء، ومعاكسة أوامر المؤمنين والمسلمين، والصد عن الله وكتابه، وعن الرسول وسنته، فهو ظلمة مركبة، ظلام متراكب، ومن هنا يحذرنا الله من الاتصال بأمثال هؤلاء قبل أن يعدوا المؤمنين، فإن لم يعدوهم بالقول كانت العدوى بالفعل أو بالعقائد أو بظلمة من هذه الظلم، فإنه لا تكاد ظلمة تصيب مؤمناً إلا وسرت فيه بقية الظلمات كما نرى في واقع الحال الذي نراه في عصرنا.

    فترى الطالب أو العامي أو الرحالة العالم يبتدئ لأول مرة في قراءة كتاب معين أو مقالة أو محاضرة أو محاورة إنسان، هكذا يبتدئ وهو مصمم على عقائده وعمله، ولكنه لا يكاد يتصل بهم بشكل من الأشكال وإذا بآرائهم، وإذا بظلمتهم تتسرب إليه، وإذا بك تفاجأ بهؤلاء يقولون بعض ذلك في دروسهم، وفي كتابتهم، وفي محاضراتهم، وهكذا عم الفساد وطم في البحر والجو، والأرض والسهل والجبل، والله ما أعلن لنا ذلك إلا ليحضنا على تركه، وينفرنا منهم، فالضياء لا يليق أن يضيع نوره وشعاعه بسبب هذه الظلمات المتراكبة.

    وضياع هؤلاء إما سراب لا حقيقة له، وأوهام باطلة لا وجود لحقيقتها، أو ظلمات بعضها فوق بعض: كلاماً وعملاً وعقيدة وسلوكاً وكلما يصدر عنهم، فهم في ظلمات بعضها فوق بعض، ومن شدة هذا الظلام وتراكمه، والتفافه، وتجمع بعضه ببعض يكاد الكافر إذا أخرج يده لم يراها، فإذا أراد أن يتلو آية، أو أن يسمع حكمة، أو أن يجالس مؤمناً فشدة الظلام التي هو فيها تبعده عن أن يفهم ذلك، ولذلك كان يقول الإمام مالك رحمه الله: إن هذا العلم دين فانظروا عمن تأخذون دينكم. فيبعد عن الفساق، ومن باب أولى عن المنافقين والكفار، أن يتخذهم الإنسان شيوخاً، وأن يتخذهم دعاةً، وأن يهتم بأقوالهم وبكتبهم وبرسائلهم وما إلى ذلك.

    إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ [النور:40]، من لم يهده الله ويعطه من نوره، وهو نور السماوات والأرض، (مثل نوره) مثل هدايته التي يهدي بها من شاء، ولمن شاء وكيف شاء جل جلاله، ومن يهده الله فلا مضل له، وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ [النور:40]، من لم يهده الله ويعطه من نوره وهدايته وحكمته، ومن كتابه المقدس المعجز، ومن نبوءة أنبيائه، ومن هدايتهم، ومن سنتهم، فسيبقى ضالاً مضلاً يخبط في ضلاله خبط عشواء.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (ألم تر أن الله يسبح له من في السماوات والأرض ...)

    قال تعالى: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ [النور:41].

    ألم ترَ يا محمد! وهو المكلف بالأصل، وهو أول المسلمين، وأول المؤمنين برسالته، وذلك قبل أن يؤمن بها غيره، ألم ترَ يا محمد! والرؤية هنا رؤية علم ورؤية بصيرة، ورؤية عقيدة، وفي معنى ذلك: ألم ترَ أيها المسلم! ألم ترَ أيها المؤمن! أن الله يسبح له ويدعوه ويعبده ويوحده السماوات ومن فيها، والأرضون السبع ومن فيها، حتى الطير المصطف في الأجواء وفي السماء، ولذا كان الجماد خيراً من هؤلاء الكفار، وكان الطير خيراً منهم، وكان الحيوان خيراً منهم، فهم كالأنعام، بل قال الله وأضرب عن الكلام الأول: بَلْ هُمْ أَضَلُّ [الأعراف:179]، أي: أضل من الأنعام؛ لأن الأنعام تسبح الله، وتوحد الله، ويوحد الله الملك والجن والإنس ممن أنار الله بصائرهم، والحيوان والطير، وحتى الجماد والجبال، فتسبح له السماوات السبع والأرض ومن فيهن: وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ [الإسراء:44] كما قال ربنا وكرر وأعاد ليستقر في الأذهان: أنها تسبح له السماوات السبع ومن فيها، والأرضون السبع ومن فيها، يسبح له كل مخلوق عاقل ملكاً وجناً وإنساً، وكل الطير، وكل الحيوانات، وحتى الجماد: وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ [الإسراء:44] (من) إذا دخلت على النكرة على قواعد اللغة العربية فإنها تدل على العموم، أي: كل شيء، وهو ما في هذه الآية: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ [النور:41]، فالسماوات ومن فيها، وفيها الملائكة، وفيها كثير من خلق الله، والله أعلم بحقائقهم، وتسبح له الأرض، الأرضون السبع ومن فيها: من إنس وجن، وبهائم وحشرات، لكن هنا نجد الكافر، ونجد الإنسي والجني عندما يشرك بربه فكل شيء أشرف منه، وكل شيء أكرم منه، حتى الجماد وحتى الحيوان وحتى الطير: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ [النور:41]، فيسبح له من في السماء ومن في الأرض، ومن بين السماء والأرض كالطير، فالطير عندما تكون أجنحتها مصطفة في الأجواء هي كذلك تسبح ربها، وهي إذ ذاك ليست في الأرض، وليست في السماء، ولكنها في الأجواء والفضاء، فهي تذكر الله، ومن هنا ينبغي للمسلم عندما يركب الطائرات في الأجواء إذا دخلت أوقات الصلاة أن يصليها وهو في الأجواء، والطائرة تعتبر مدينة مستقرة في مكانها، فليؤذن للصلاة، وليقم الصلاة، وليصلها جمع تقديم أو جمع تأخير، حسب الأوقات التي هو فيها، وينبغي أن يتلو كتاب الله، وأن يذكر الله بكل ما ألهمه الله، وبكل ما فتح عليه به، ولا يليق أن يعتبر الطير خيراً منه عبادة، وخيراً منه طاعة، فالطير تعبد الله وهي في الأجواء، فالإنسان أولى منها بذلك، وهو الذي خلقت له السماوات والأرض ليعبد ربه، وليتمتع بما متعه الله به، فإن كان عن إيمان فذلك له حق حلال، ولنعم الله يوم القيامة أجمل له وأكمل وأدوم.

    قال تعالى: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ [النور:41] وإذا كنا لا نعلمها فالله يعلمها، فيعلم صلاة المصلي من خلقه وعباده: من ملائكته وجنه وإنسه، ويعلم تسبيح الطير، وتسبيح كل شيء، وكل يسبح بما ألهمه الله، فالطير وهو صاف جناحه في السماء هو في هذه الساعة أيضاً يسبح الله، وتسبيحه عبادته، وتسبيحه تقديسه، وتسبيحه تمجيده، وتسبيحه توحيده، فهو إلهام ألهمه الله إياه، ومن هنا كان الكل أشرف وأكمل وأصلح وأتم من الإنسان الكافر والجني الكافر.

    قال تعالى: كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ [النور:41] التنوين هنا تنوين عوض عن كلمة، والتقدير: كل موجود، فكل من في السماء ومن في الأرض قد علم الله جل جلاله صلاته وعبادته له، وتسبيحه له، وذكره له جل جلاله، و(من) في لغة العرب تطلق عادة على العاقل، و(ما) في لغة العرب تطلق عادة على غير العاقل، تقول: من في الدار؟ أي: من الرجال أو النساء العقلاء الذين في البيت؟ فإن كان في البيت هوام ودواب وطير قلت: ماذا في البيت؟ فإذا اجتمعا غلب أحياناً العاقل على غير العاقل، وأحياناً غير العاقل على العاقل، وهنا في الآية هذه وما بعدها غلب العاقل على غير العاقل:

    أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ [النور:41]، وفي الأرض عاقل وغير عاقل، فغلب العاقل على غيره.

    كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ [النور:41] عليم بفعل عباده، عليم بفعل خلقه: أناسي وملائكة وجناً وطيراً وحيواناً ودواباً وحشرات، علم عبادتهم، وأدرك عبادتهم، وجازاهم عليها، فجازى المؤمن بإيمانه، وجازى الكافر بكفره، وأحسن إلى هؤلاء بأن متعهم زمناً؛ متعهم بالعيش وبالعافية، لكن هؤلاء لم يخلقوا إلا للدنيا وانتهوا.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (ولله ملك السماوات والأرض وإلى الله المصير)

    قال الله تعالى: وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ [النور:42].

    كل هؤلاء عبيد من خلق الله، وهم ملك من أملاك الله، فالسماوات ومن فيها وما فيها، والسبع الأرضون من فيها وما فيها، ما في الكل وما بينهما من ملك وإنس وجن، وما سوى ذلك من أنواع المخلوقات كلهم يأتي الله يوم القيامة عبداً، وهم في الدنيا كذلك عبيد ومماليك لله، فلا أمر لأحد منهم ولا نهي مع الله، فالكل عبد لله سواء كان مطيعاً مؤمناً، أو عاصياً متمرداً كافراً، فمنذ وقف صلى الله عليه وسلم في هذه الأرض المقدسة وقال: (يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعاً) كانت هذه الأمم منذ دعا لذلك أمماً محمدية، فمن أطاع فهو من أمة الاستجابة، ومن تمرد كان من أمة الدعوة.

    وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ [النور:42] فمصيرنا بعد ذلك إلى الله، حيث نموت ثم نحيا ونبعث ونحاسب على ما قدمناه في حياتنا، فمن كان مؤمناً فقد فاز وأفلح، وسيعيش العيشة الأبدية في نعيم من الله ورضوان، ومن حشر وعرض كافراً فله الخزي والغضب والخلود في النار، ولذلك فكلمة المصير هنا فيها نذارة وتهديد ووعيد، والمعنى: يا هؤلاء الذين تمردوا على الله وعصوه وعصوا رسله! مصيركم مهما طالت حياتكم، وامتدت أزمانكم إلى البعث والنشور، فسيبعثون ليحاسبوا على ما قدمت أيديهم: إن خيراً فخير، وإن شراً فشر.

    ثم قال تعالى في بيان قدرته على كل شيء ليفكر المفكر، ويتدبر المتدبر، ويزداد المؤمن بذلك إيماناً، وتعود إلى الكافر يوماً بصيرته، ويعود إليه فهمه، فيؤمن ويقول: رب اغفر لي يوم الدين.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (ألم تر أن الله يزجي سحاباً...)

    قال الله تعالى: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالأَبْصَارِ [النور:43].

    يرشد الله في هذه الآية الكريمة عباده على أن يقفوا عندها قليلاً ويفكرون، فقال تعالى مرة أخرى: (ألم ترَ) أي: يا محمد! ألم ترَ أيها المؤمن! أيها المسلم! ألا ترى بصيرتك ويرى بصرك: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا [النور:43] يسوق ويدفع، والسحاب: هي هذه السحب التي نراها في السماء، فترى السماء صافية، وتراها زرقاء وكأنها قطعة من ماء البحر عند صفاء الجو، وإذا بها تصعدها سحابة هنا وسحابة هناك، وإذا بها تتصل ببعضها، وتتجمع وتتراكم، وإذا بها يعلو بعضها بعضاً، وإذا بالأمطار تخرج منها، وإذا بالبروق والرعود تسمعها تكاد تهز الأرض، ويكاد سنا هذه البروق يأخذ بالأبصار: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا [النور:43] أي: يجمعه: ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ [النور:43] هذا السحاب الذي يرتفع إلى الأجواء متفرقاً يجمعه الله تعالى ويؤلفه، فتجتمع هذه السحابة إلى هذه، وهذه إلى هذه، ثم يجعله متراكماً متجمعاً يعلو بعضه بعضاً، ويركب بعضه بعضاً، ولما ركبنا الطائرات الساعات الطوال ونحن بين السحب من فوقنا، والسحب من تحتنا، والسحب أمامنا، والسحب خلفنا، متراكمة بعضها على بعض، والطائرات عادة تتعب في مثل هذه السحب، وتعرض للهز وللاضطراب وقد يصيبها ما يصيب إن تزايد ذلك، ولكن الله يحفظ ويصون جل جلاله، وهكذا يؤلف بينه، ثم يجعله ركاماً بعضه على بعض.

    فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ [النور:43] فترى المطر يخرج من خلاله، وينزل مِنْ خِلالِهِ [النور:43] جمع خلل، أي من ثناياه ووسطه، فَتَرَى الْوَدْقَ [النور:43] ترى المطر ينزل من هذه الغيوم المتراكمة والسحب المتراكبة، هذه الأمطار التي تنزل تنتقل بعد ذلك إلى نوع آخر فتصبح برداً، فقال تعالى: وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ من العلو مِنْ جِبَالٍ هذه السحب تتراكم حتى تصبح كالجبال، حتى تصبح وكأنها جبال، ثم هذه الأمطار وهذا البرد يتراكم ويعلو ويصبح متجمعاً مع هذه السحب وكأنها الجبال: وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ [النور:43] فيصيب بهذا البرد من يشاء، ويصرفه عمن يشاء، ونزول البرد يعتبر رجماً، فإذا نزل كسر الأشجار، وأسقط الثمار، وأضاعها قبل نضجها، ويكون نزوله بلاءً من الله جل جلاله، فمن أراد إصابته وأراد عقوبته أنزله عليه كالحجارة، فيفسد الزرع، وقد يفسد الضرع، وقد يضرب الرءوس فيميتها، وقد ينزل كالحجارة من السماء.

    فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ [النور:43] يصاب به فيصبح في مصيبة، وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ [النور:43] يدفعه فلا يمسه ولا يضره.

    يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالأَبْصَارِ [النور:43] هذه السحب المتراكمة، وهذا المطر الوافر الذي يخرج من بينها، يخرج معه برق، هذا البرق من شدة ضوئه وإشعاعه ونوره يكاد يأخذ الأبصار، (يكاد سنا برقه) السناء: هو الضياء، والسنا: شدة الضوء، وشدة الشعاع وكثرته، والإنسان بعادته لا يستطيع النظر إلى الأضواء الكثيرة؛ لأنها تؤذيه في بصره، وإن هو زاول ذلك مرة بعد مرة فقد يصاب بالعمى أو بالمرض.

    يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ [النور:43] هكذا يقول تعالى: (يكاد) من أفعال المقاربة، أي: يكاد البصر يذهب، ويكاد ضوءه ينحل ويتحلل فيصبح الناس عمياً، فمن الذي صنع هذه النتيجة؟ ومن الذي رفع هذه السحب، ثم جمعها، ثم أخرج منها الأمطار، ثم أخرج من الأمطار هذا البرد، ثم أنزله فأصاب قوماً فأضاع زروعهم وضروعهم، وصرفه عن أقوام فحفظهم وصانهم؟! هل فعل هذا الشركاء؟! حاشاه ومعاذ الله فهم أعجز من ذلك، سواء كانوا إنساً أو ملائكة أو جناً، فضلاً عن الجمادات.

    أليس للإنسان عقل يدرك ويعي ويفهم، وبصيرة تعي وتفهم وتدرك؟ وإذا كان الأمر كذلك أين هؤلاء الكفار مع أبصارهم، ومع أسماعهم، ومع قلوبهم؟ كيف لا يبصرون بعين، ولا يسمعون بأذن، ولا يعون بقلب؟! وهذا يعرضه الله علينا، ويلفت إلى تدبره أنظارنا، وهو بذلك يرشدنا وينصحنا في دار الدنيا والإنسان لا يزال يملك أمر نفسه، فليفكر يوماً من الذي خلق هذه السماوات العلى؟ ومن الذي بسط هذه الأراضي؟ ومن الذي أخرج ماءها ومرعاها؟ وثمارها وأشجارها؟ ومن الذي خلق هؤلاء الخلق: أبيض وأسود وطويلاً وقصيراً وصغيراً وكبيراً وامرأة ورجلاً؟ أليس الله جل جلاله؟ وإذا كان الأمر كذلك -وهو كذلك- فمن الذي يستحق منا العبادة؟ ومن الذي يستحق منا التسبيح والتعظيم والتمجيد والطاعة أليس الله جل جلاله؟ أليس الله هو واجب الطاعة، وأن يعبده خلقه على كل نوع وشكل.

    هذه الفقرة من الآية ذكرت فيها (من) ثلاث مرات: وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ [النور:43] (من) الأولى مِنْ جِبَالٍ [النور:43] (من) الثانية، فِيهَا مِنْ بَرَدٍ [النور:43] (من) الثالثة، وكل حرف من هذه الأحرف لها معنى قائم بنفسه، وليست مكررة.

    وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ [النور:43] (من) الأولى بداية الغاية، أي: إنزال هذه الأمطار وهذا البرد من هذه السحب التي يجمعها ويؤلفها ويخلقها قبل ذلك، ثم تتراكم بخلقه وإرادته، ثم يخرج المطر من بينها بقدرة الله، ثم بعد ذلك يخرج البرق والرعود منها، ثم يصيب بذلك من شاء من عباده، ويصرفه عمن يشاء من عباده، فـ(من) الأولى وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ هي لبداية الغاية.

    مِنْ جِبَالٍ هذه تبعيضية، فليس الجبال كلها ينزلها، فلو نزلت لأصبحت الأرض قاعاً صفصفاً، ولصار للناس ما صار لأهل لوط عندما رفع الأرض عاليها ورماها إلى الأرض رأساً على عقب، وأصبح القوم كالعصف المأكول، كما يخرج من بطون الدواب عندما تأكل العصف، ولكن الله قد رحم أمة محمد خاصة، وأما الأمم الأخرى فعاقبها في الدنيا قبل الآخرة: عاقبها بالغرق، وعاقبها بالريح، وعاقبها بالرجم، وعاقبها بالمسخ، وأما أمة محمد فمرحومة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ما أرسله الله إلا رحمة للعالمين: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ [الأنبياء:107]، فإنما هو رحمة مهداة كما يقول نبينا عليه صلوات الله وسلامه، ورحمته عمت المؤمن والكافر، فأما المؤمن فيزيد إيماناً وطاعة وعملاً يكافأ بذلك ويجازى يوم القيامة، وأما الكافر فيمتع بحياته وسمعه وحواسه جميعها، ويعطى فرصة من عمره، ولا يمسخ قرداً كما كان يمسخ أسلافه، ولا ترسل عليه صواعق من السماء، ولا تخسف به الأرض، بل يعطى فرصة في حياته لعله يوماً يفكر في ربه، ويفكر في قدرته، ويفكر في إرادته، ويفكر فيما أنزل على أنبيائه من كتب، وما نطق به الأنبياء من بيان وشرح لهذه الكتب من السنة المطهرة، فهو رحمة مهداة كما قال عليه الصلاة والسلام، وهو رحمة للعالمين: عالم الإنس والجن، عالم المرأة والرجل، عالم المؤمن والكافر معاً.

    ثم قال: وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ [النور:43] و(من) الثالثة للتبيين، أي: لا ينزل من الجبال حجارة ولكن من جنس الماء، فقد جمد وأصبح كالحجارة يرجم به من شاء من عباده، ويصرفه عمن يشاء من عباده، أولئك لعقوبتهم، وهؤلاء رحمة بهم، وقد يحصل ذلك للمؤمن فيكون كفارة للمؤمن التقي، ويكون عقوبة للمؤمن الفاجر، قال تعالى: مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالأَبْصَارِ [النور:43]، يكاد سنا برقه يذهب بالبصر، فيخطف البصر، ويعمي العين ويذهب ضوءها، كل هذا خلقه الله، وكونه الله سبحانه.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    755961170