إسلام ويب

القواعد الفقهية بين الأصالة والتوجيه - المدخل إلى القواعد الفقهيةللشيخ : محمد حسن عبد الغفار

  •  التفريغ النصي الكامل
  • الشريعة الإسلامية صالحة لكل زمان ومكان، وليس ذلك لورود نص في كل مسألة، وإنما لوجود قواعد كلية مستنبطة من الأدلة الشرعية، تدخل تحتها من الجزئيات ما لا حصر لها، وعليه يتعين على من رام الفقه أن يشمر عن ساعد الجد لضبط ودراسة هذه القواعد الفقهية؛ لأن معرفتها ستغنيه عن البحث عن كثير من الأحكام التي لم يعلمها من قبل، وهذا فضل الله يؤتيه من يشاء.

    1.   

    فضل العلم والعلماء

    إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.

    وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

    يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].

    يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء:1].

    يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71].

    أما بعد:

    فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

    إخوتي الكرام! إنا نحبكم في الله، وأسأل الله جل في علاه أن يجمعنا جميعاً مع النبي صلى الله عليه وسلم في الفردوس الأعلى، بجانب معاذ بن جبل الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: (أعلم هذه الأمة بالحلال والحرام هو معاذ بن جبل ) .

    وأذكر ثلاث مبشرات لطالب العلم:

    أولها: ما ورد في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما اجتمع قوم في مجلس يتلون كتاب الله ويتدارسونه فيما بينهم إلا حفتهم الملائكة، وغشيتهم الرحمة، ونزلت عليهم السكينة) فهذه أولى المبشرات.

    ثانيها: إن طالب العلم ينطلق من مجلس العلم إلى الجنان إن كان مخلصاً، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم -في السنن بسند صحيح كالشمس-: (من سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهل الله له به طريقاً إلى الجنة، وإن العالم ليستغفر له كل من في السماوات ومن في الأرض، حتى الحيتان في البحر والنملة في جحرها تستغفر لطالب العلم، وإن الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضاً بما يصنع).

    ثالثها: كفاك فخراً بأنك ستجتمع على خط واحد مع معاذ بن جبل إمام العلماء، وتكون وريثاً للنبي صلى الله عليه وسلم، يا للشرف! أنت أصبحت من النبي صلى الله عليه وسلم بمكان، ليست هناك منزلة يمكن أن تداني هذه المنزلة.

    يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (فضل العالم على العابد كفضلي على أدناكم).

    وأيضاً يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (العلماء هم ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورثوا درهماً ولا ديناراً، ولكن ورثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظ وافر) وأقول: طالب العلم هو أغلى ما يكون في هذه الدنيا، الأمة بأسرها لا تحتاج إلا لطلبة علم؛ لأن شمس البدعة قد بزغت، وجبال العلم قد ماتوا، نحن في يتم الآن، الدنيا بأسرها تتخبط يمنة ويسرة لموت ثلاثة كانوا جبالاً لأهل العلم، كانوا منارات كالنجوم يهتدى بهم، فلما قضوا نحبهم ترى الدنيا تتخبط، وكل يتصدر للفتوى، والله أعلم هل هو أهل لها أم لا؟!

    الحاصل: أن الدنيا بأسرها تتخبط لضياع أهل العلم، ونحن نقول ما قاله علي بن أبي طالب : (موت العالم يحدث ثلمة في الإسلام، وهذه الثلمة لا تنسد إلا بوجود الخلف)، ولذلك علمنا النبي صلى الله عليه وسلم عند موت أي أحد أن نقول: (اللهم أجرنا في مصيبتنا واخلف لنا خيراً منها)، وأحرى بنا أن نقول ذلك عند عند فقد العلماء، فنحن بحاجة إلى من يرفعون منارات العلم ويحفظون هذا الدين، كما قال ابن القيم مستقياً كلامه من حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يزال الله جل في علاه يغرس لهذا الدين غرساً).

    فقال رحمه الله: والله ما أرى الغرس إلا أهل العلم، ولذلك أول بعض العلماء حديث: (لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين) كقول أحمد وغيره: لا أعرفهم إلا أن يكونوا أهل الحديث.

    وقال ابن القيم : هم أهل العلم، وكفى أهل العلم فخراً بأن الله جل وعلا جعلهم من أولي الأمر.

    قال الله تعالى: وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ [النساء:83]، فهذه الآية تدل على أن العلماء هم من أولي الأمر، فكما أن عليك السمع والطاعة لأولي الأمر من الحكام والأمراء فأيضاً لابد من السمع والطاعة للعلماء، وهذه الآية تدل على ذلك. فطالب العلم ينظر في الدليل فيأتي أولاً بالشاهد، ثم يرى وجه الدلالة من هذا الشاهد، حتى يرى في نفسه قوة وهو يتكلم عن مسألة علمية، ووجه الشاهد في الآية السابقة قوله تعالى: وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ فمن هم أولو الأمر؟

    جاء الرد من الله جل في علاه مفسراً ومبيناً في قوله: لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ أي: أولو الأمر: الذين يستنبطون الأحكام من الأدلة التفصيلية، وهم العلماء المجتهدون.

    فهذا شرف ليس بعده شرف، فالعلماء هم من أولي الأمر، والله جل في علاه جعل لهم الصدارة في الدنيا؛ لأنهم الذين يوصلون الناس إلى ربهم، ورحم الله ابن عيينة حين قال: خير الناس الواسطة بين رب الناس وبين الناس.

    وعن معاوية بن أبي سفيان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من يرد الله به خيراً يفقه في الدين) متفق عليه، هذا منطوقه ومفهومه: أن الله جل وعلا إن لم يرد بعبد خيراً فلن يفقه في الدين، نعوذ بالله من الخذلان.

    حتى نتعرف على أهمية طلب العلم، وكفاك أخي شرفاً وفخراً بحديث النبي صلى الله عليه وسلم حيث يقول: (فضل العالم على العابد كفضلي على أمتي) أي شرف وأي منزلة بعد هذا!

    ورب السماوات والأرض لمداد العلماء أفضل من دماء الشهداء، وهذا باتفاق العلماء المحدثين والفقهاء، فالعالم له منزلة ليست كأي منزلة، وكما بينا في الحديث الذي سبق أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (وفضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب) ، وشتان شتان بين القمر وبين سائر الكواكب.

    أقول: فطلب العلم هو أفضل عبادة يمكن أن يتقرب بها العبد لله جل في علاه، وعلماؤنا كانوا يرون المدارسة خير من قيام الليل، فهذا ابن أبي حاتم يروي -في الجرح والتعديل- عن أبيه أنه كان يقول: مدارسة مسألة من العلم خير من قيام ليلة بأسرها. ولذلك كان يأتيه أبو زرعة فيتدارس معه المسائل ويقول: هذا عندي أشهى من كذا وكذا، فكانوا يرون المدارسة أفضل عبادة يتقرب بها العبد إلى الله جل في علاه.

    مكانة الإمام الشافعي

    هذه قصة وإن كان في سندها كلام: جاء الشافعي إلى أحمد ليلاً فقدم له أحمد الطعام فأكل كثيراً، ثم جلس طيلة الليل ما صلى ركعة واحدة حتى أوتر، ثم قام فصلى الفجر بنفس وضوء العشاء فجاءت بنت الإمام أحمد تقول لأبيها مستنكرة ما رأته من الشافعي الذي كان يقول أبوها فيه: إنه للناس كالشمس للدنيا وكالعافية للبدن، وكان الإمام أحمد بداية يقول لأهل الكوفة والعراق: لا تسمعوا للشافعي ، أي كان أحمد ينهى عن سماع الشافعي ؛ لأن أحمد كان من المحدثين ورأى أن الشافعي رحل من مكة إلى العراق وسمع من أهل الرأي؛ لكن الشافعي جمع بين الحديث وبين الفقه، فكان أحمد يحسب أن الشافعي لما كان يعامل أهل الرأي أنه من أهل الرأي الذي يقدمون القياس على الأثر، فلما جالس أحمد الشافعي علم أنه بحر، فالذين كانوا يتتلمذون على أحمد ينظرون لـأحمد وهو يمشي خلف بغلة الشافعي ، فقالوا له منكرين: يا أحمد ! تنهانا عن سماع الشافعي ونراك خلف بغلته، فقال أحمد : والله لو ما تكلم الشافعي وسرت خلف البغلة لا ستزدت علماً من هذا البحر أو هذا الحبر.

    ولذلك لا غرو ولا عجب أنه لما أتى إسحاق بن راهويه فقيه خراسان -وهو من المحدثين الأفذاذ ومن شيوخ البخاري - إلى مكة ولقيه الإمام أحمد فذهب به إلى مجلس الشافعي فقال: تعال سأريك رجلاً لم تر عينك مثله، يعني: الشافعي ؛ وذلك لقوة حافظة الشافعي وعلمه الذي جمع فيه بين الفقه والحديث؛ لأن الانفراد بالفقه يضعف صاحبه في الحديث، فتراه يحتج كثيراً بالأحاديث الضعيفة والموضوعة، قد تراه في كتاب مغني المحتاج للشربيني ، وهذا هو الذي أضعف كثيراً من الفقهاء، ومن انشغل بالحديث دون الفقه صار فيه ضعف في فتواه، فالجمع بين العلمين فيه قوة، ولذلك قال أحمد لـإسحاق : ائت لتسمع هذا الشيخ، فنظر إليه فوجده شاباً يافعاً، فقال: أأترك ابن عيينة وأذهب إلى هذا الحدث؟! وهذه كانت ملامة على إسحاق ، وقد تندم عليها وعض عليها أنامله، ولا حين مندم، فقد ضاع منه علم الشافعي .

    أنا أقولها الآن وأصرخ بها في آذان الإخوة: اعرفوا كيف تتعلمون وتطلبون العلم؛ لأن هذه هي البغية وهذا هو الهدف وأنت لن ترتقي إلا أن تكون طالباً للعلم حقيقة، أما إذا كنت من العوام أو شبيهاً بالطالب فلن تفيد ولن تستفيد.

    لا تحسبن المجد تمراً أنت آكله لن تبلغ المجد حتى تلعق الصبر

    بعض الإخوة عندهم ضيق في النظر لا يعرفون أن يميزوا بين العلم وغيره، والآن الصيت أو السمعة هي التي تأتي بالناس في هذا الزمن الذي نعيش فيه، وقد بين أنس رضي الله عنه حال الأزمنة المتأخرة بقوله: (أن ما من زمن إلا وبعده أشر منه) إننا في ضياع وفي تيه وفي تخبط؛ لأن العلم الآن يقبض بقبض العلماء.

    فلابد أن نعلم أن النجاة لا تكون إلا في العلم الصحيح، الذي يوصلك بحق إلى الله جل في علاه، ولذلك فالعبرة من هذه القصة أن إسحاق تندم كل الندم في كونه لم يصاحب الشافعي وقال: أأجلس لهذا الحدث وأترك ابن عيينة ؟ فقال له أحمد ناصحاً إياه إن فاتك الحديث من ابن عيينة بعلو خذه بنزول، وإن فاتك العلم من الشافعي لا تجده عند غيره.

    هذه نصيحة غالية تكتب بماء الذهب على السطور.

    إذاً: لا بد من محدثين فقهاء أصوليين، هذه الآلات يجب أن تشتبك لتستقبل الأمة فقيهاً محدثاً تنجو به.

    وهذا يحيى بن معين جبل وجهبذ من جهابذة الإسلام، قالوا له وهو في مرض موته ما تريد؟ قال: بيت خال وإسناد عال، الإسناد العالي هو الذي يكون بينك وبين النبي صلى الله عليه وسلم اثنان أو ثلاثة أو أربعة بالكثير، وهذه فاز بها كثير من علمائنا، وكانوا يرحلون من أجل هذا العلو.

    والنزول معناه كثرة العدد، كأن يكون بينك وبين النبي صلى الله عليه وسلم خمسة فأكثر، لكن فهم المتن وفقهه أولى من الإسناد العالي، فـإسحاق بن راهويه لما ناظر الشافعي وعرف علمه، خرج من مكة ثم بعد ذلك انكب على كتب الشافعي ، فتندم كل الندم أنه لم يصاحب الشافعي ليأخذ منه هذا العلم كما أخذ أحمد بن حنبل .

    فالغرض المقصود أنهم كانوا يرحلون ويجتهدون في مدارسة العلم، وقال أحمد رحمه الله: أفضل عبادة يتقرب بها العبد لربه جل في علاه هو طلب العلم.

    الأمة بأسرها تستبشر ببزوغ شموس العلماء والفقهاء المحدثين الذين ينقذون هذه الأمة، وما من أحد ينبغي له أن يبخس حقه أو ينزل قدره، بل يطمع في كرم الله جل في علاه، ما دامت المسألة ليست بيد أحد ولا يملكها أحد، بل المسألة من فوق العرش، فكن يأخي صاحب همة عالية، كن ذكياً في التعامل مع من فوق العرش، إن ربك يحب منك الطمع! أنت تطمع في فضله، والله يقول: (أنا عند ظن عبدي بي)، اطمع أن تكون كشيخ الإسلام ابن تيمية ، أو كـالعز بن عبد السلام أو كـالجويني أو كـالشافعي ، فكل ذلك ممكن ومتاح، وهو تحت قدرة من؟ تحت قدرة الله جل في علاه، والله جل في علاه يقول: وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنِ اللَّهِ [النحل:53]، ويقول: وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ [النحل:78].

    فهذه كانت مقدمة أبين بها شرف العلم وشرف العلماء وطلبة العلم، وأن طالب العلم إذا علم قدر هذا الطريق صبر عليه وصابر من أجله حتى يسير على الدرب، ومن سار على الدرب وصل.

    نحن درسنا بفضل الله سبحانه وتعالى المصطلح، ودرسنا أصول الفقه، ودرسنا أثر الاختلاف في القواعد الأصولية، ثم بعد ذلك نبين القواعد الفقهية، وأيضاً نأخذ أقسام التدليس، وهذه الدروس خاصة بالرجال، وإن كانت هناك دروس خاصة بالنساء وكثير من الإخوة يحتاجونها، ونسأل الله جل في علاه أن يوفقنا وإياكم في طريق طلب العلم.

    1.   

    أهمية الفقيه المحدث

    نفتتح بإذن الله دروس اليوم في القواعد الفقهية، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من يرد الله به خيراً يفقه في الدين) ، وقال شيخ الإسلام : إذا جاءك الحديث فلك فيه طريقان: إثبات سنده وفقه أو فهم متنه.

    أقول: وفهم المتن رأس الأمر، وما عاب كثير من الفقهاء على المحدثين مثل ما عابوا عليهم عدم الانشغال بفقه المتن، فالإمام أحمد بن حنبل كان محدثاً بارعاً وكان فقيهاً، لكن ابن جرير الطبري شيخ المفسرين له كتاب حافل في التاريخ اسمه (تاريخ الأمم والملوك) فـابن جرير لما ترجم للإمام أحمد قال: وكان محدثاً. وسكت ولم يكتب فقيهاً في الترجمة، فجاء الحنابلة فرموه بالحجارة حتى كادوا يقتلونه، حتى إنه انسد الباب من الحجارة التي رميت عليه وضرب بها، فلما مات عموا قبره على الناس، لكن كان رجلاً منصفاً، لما سألوه: ما تقول في أحمد ؟ قال: أحمد إمام أهل السنة والجماعة، وقيل لـيحيى بن معين : أتعرف أحمد بن حنبل ؟ قال: أوتسألوني أنا عن أحمد ؟! أحمد إمام الدنيا بأسرها، فـأحمد مشهور وغني، فـابن جرير لما ترجم لـأحمد في حيز المحدثين لا في حيز الفقهاء فسألوه عن ذلك فقال: لم أر له رأياً فقهياً، وهذا الذي أخذ على كثير من المحدثين، ولذلك يحيى بن معين وكان يتدارس مع بعض المحدثين بعض الأسانيد، فجاءت امرأة فقالت: أسألكم، فقالوا: سلي، فقالت: إني امرأة حائض وقد توفي زوجي، وقد وصى بأن أغسله، أيجوز لي ذلك؟ فتحيروا ولم يحيروا جواباً؛ لأنهم انشغلوا بالحديث وتركوا الفقه، فلم يجب يحيى ولا من معه، فمر أبو ثور الكلبي ، وكان من أصحاب الرأي ثم تفقه على مذهب الشافعية، فمر عليهم فقالوا: سلي هذا الرجل، فقال أبو ثور : نعم، أرى أنك تغسلينه؛ فقد كانت عائشة ترجل شعر النبي صلى الله عليه وسلم وهو معتكف وهي حائض، فهنا أبو ثور استنبطها بالقياس، وهذا القياس يسمى قياس جلي أو قياس الأولى، يعني: هو رأى أن الحي لا يحتاج إلى ذلك، ومع ذلك ترجله عائشة فالميت أولى؛ لأنه لا يستطيع أن يفعل ذلك لنفسه.

    فلما قاس هذا القياس الجلي نظر يحيى بن معين فقال: هذا الحديث جاءني من طريق فلان وفلان وفلان وفلان... وعدد مائة وخمسين طريقاً، فالمرأة اندهشت وقالت: أين أنت لما تعدد لي الآن الطرق؟! وهذه من المآخذ التي أخذها الفقهاء على المحدثين، ولذلك كان يقول ابن رجب الناس مراتب، وأعلى هذه المراتب فقهاء المحدثين، فلذلك سندخل بإذن الله على علم الحديث مع علم الفقه.

    أقول: علم الفقه هو أفضل العلوم، كما قال ابن الجوزي : العلم كثير والعمر قصير فأحرى بالإنسان أن يتعلم ما ينتفع به في حياته، يعلم ما يحل وما يحرم، وما يتقرب به إلى الله وما لا يتقرب به إليه، وهذا لا يكون إلا في الفقه، وهذا الفقه ـ الذي هو الفهم ـ طبقات وأعلى طبقات العلماء العالم الفقيه، وهذه كانت موجودة في الشيخ ابن عثيمين رحمة الله عليه، ونسأل الله أن يجعله مع النبي صلى الله عليه وسلم فقد كان رجلاً صاحب نظرة قوية في الفقه، وهو على فراش الموت سئل: من تزكي من العلماء، قال: لكن أين العالم الفقيه؟

    العالم الفقيه: هو الذي يرتكز على قاعدة قوية من الفقه والاستنباط، بحيث يستطيع أن يبني عليها الفروع، كلما أتاه فرع نقله أو رده إلى الأصل فجاءته النتيجة، وهذه أيضاً مستخلصة من كلام الفقيه الطبيب ابن رشد الحفيد في كتابه (بداية المجتهد)، وهو يقول: بائع الخفاف ليس كصانع الخفاف؛ صانع الخفاف هو المجتهد، أما بائعها: فهو الناقل وهو المقلد، وما أكثر النقلة الذين ينقلون، كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية : سهل أن تبين الحلال والحرام، وصعب جداً أن كل إنسان يعرف تحرير محل النزاع، ويعرف كيف يرجح ثم يرد على المخالف، هذا هو العلم، أي: العلم بخير الخيرين وشر الشرين، فلذلك قال: العالم الفقيه: هو الذي يرتكز على القواعد والأصول التي ترتقي به ليكون عالماً فقيهاً، ومن هذه الأصول: أصول الفقه، وأيضاً: القواعد الأصولية.

    1.   

    تعريف القاعدة الفقهية لغةً واصطلاحاً

    سنأخذ اليوم الجانب الثالث الذي يقوي الفقيه حتى نستبشر بخروج الفقهاء ألا وهو القواعد الفقهية، فسنبين ما معنى القاعدة الفقهية لغة واصطلاحاً، ثم الفرق بين القاعدة الفقهية والقاعدة الأصولية، ثم بعد ذلك الفرق بين القاعدة وبين الضابط.

    فأقول: دائماً يتقوى المرء في هذه القواعد، فما من فقيه تراه يستدل إلا ويقول: والقاعدة عند العلماء: اليقين لا يزال بالشك، القاعدة عند العلماء: الضرورات تبيح المحظورات، ما من مفت يستطيع أن يفتي إلا ومعه هذه الآلة، فما هي القاعدة في اللغة: هي الأساس التي يبنى عليها غيرها، يعني: هي التي يبني عليها الفقيه الفروع، فالقاعدة في اللغة هي: الأساس أو الأصل أو هي أساطين أو أعمدة البناء، قال الله تعالى: وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ [البقرة:127].

    أما في الاصطلاح فإن لها تعاريف كثيرة، لكن أجمع هذه التعاريف تعريفان: التعريف الأول الذي وصل إليه الجرجاني حيث قال: هي قضية كلية تنطبق على جميع جزئياتها.

    مثال على ذلك كما قال علماؤنا: اليقين لا يزال بالشك، فهذه قضية كلية تنطبق على جميع الجزئيات.

    وعندنا في الفقه عدة أبواب، فالفقهاء قسموا أبوب العلم إلى عبادات ومعاملات وحدود، فما من كتاب من كتب الفقه إلا ويبدأ بالعبادات فيبدأ بالطهارة ثم الصلاة ثم الزكاة، إلا في الموطأ فهو يرى غير هذا الترتيب، فقد بدأ بكتاب أوقات الصلوات ثم الطهارة ثم الصلاة ثم الزكاة.

    إذاً: القاعدة الفقهية هي قضية كلية تنطبق على كل الجزئيات، فالقاعدة الفقهية تدخل في العبادات وتدخل في المعاملات في العقود، وتدخل في الحدود.

    فقاعدة: اليقين لا يزال بالشك، تدخل في الطهارة، مثال ذلك: رجل توضأ لصلاة الظهر، ثم ذهب إلى المسجد فصلى الظهر ثم خرج، فهذا حكمه في الوضوء أنه على يقين من الطهارة، ثم ذهب إلى أعماله فسمع المؤذن ينادي لصلاة العصر وذهب مسرعاً إلى المسجد، فبعدما أن صلى تحية المسجد، جلس وقرأ القرآن، أقام المؤذن الصلاة فقام ليصلي، وبما أن عندنا عدواً لدوداً وهو الشيطان، فلا يريد أن تتم العبادة بحال من الأحوال، فبدأ يوسوس له ويقول: كيف تصلي بغير وضوء، فقد خرجت منك ريح! فقام الرجل يتحدث في نفسه ويقول: أخرجت ريحاً؟! لا ما أخرجت ريحاً! شممت رائحة؟! لا ما شممت رائحة! وهذا يسمى شكاً.

    إذاً: هو في صلاة الظهر كان على يقين، وفي صلاة العصر في شك، نأتي إلى القاعدة الكلية: وهي اليقين لا يزال بالشك، فهو قد توضأ في الظهر وصلى وكانت الطهارة على يقين، وإنما جاءه التردد في صلاة العصر، فهذا يسمى شكاً، والقاعدة عند العلماء: اليقين لا يزال بالشك، فعليه أن يمضي في صلاته.

    نأتي بمثال في الصلاة: صلى الرجل إماماً صلاة العشاء، وصلاة العشاء أربع ركعات، فصلى ثلاث ركعات، وهو في الرابعة جاءه الشيطان فقال له: هذه الثالثة، وهو يقول: هذه الرابعة، والشيطان يقول: هذه الثالثة، فشك الرجل فلما شك وقف، والإمام لا بد أن يكون فقيهاً، إذاً: فهذا الذي هو فيه تردد وشك، فعند العلماء قاعدة تسمى: اليقين لا يزول بالشك، فينبغي أن يقول الإمام: أنا قد استيقنت في الثالثة أما في الرابعة فقد جاءني الوهم، فأطبق القاعدة: وهي اليقين لا يزال بالشك؛ وذلك بأن أجعل تلك الركعة هي الثالثة، حتى ولو كانت الرابعة، فأصلي الرابعة ويسجد سجود السهو.

    إذاً: دخلت في هذه القاعدة جزئية ثانية، وهي تنطبق على كل الجزئيات، فتنطبق في الصلاة وتنطبق أيضاً في المعاملات، مثال ذلك في المعاملات: لو جلس رجل في مجلس البيع، وباع بيعاً مثلاً: جاء المشتري فقال: أنا اشتريت منك هذه السلعة بعشرين، فقال البائع: لا، ما بعتها إلا بخمس وعشرين، فنقول هنا: وقع الشك، فكيف نطبق قاعدة: اليقين لا يزال بالشك؟! فنقول: إذا دخل الشك بينهما فإن القول قول البائع؛ لأن اليقين مع البائع.

    أيضاً مثال ذلك في الحدود: لو جاء رجل وشهد على رجل فقال: أنا رأيته يسرق، وقال المشهود عليه: لم أسرق، نقول: الأصل هي براءة الذمة.

    وهنا قاعدة أخرى لكنها تدخل تحت قاعدة: اليقين لا يزال بالشك؛ لأنها كلها فروعات تتعلق بها، واليقين في المسلم العدل التقي الذي يصلي، أنه عدل، وأنه لا يسرق ولا يزني، فلو جاء مشككاً يشكك في عدالته، فنقول: اليقين أنه عدل، وهذا الشك لا يمكن أن يزيل اليقين.

    فإذاً: هذه القاعدة تمر على كل جزئيات الفقه. فهذا تعريف الجرجاني .

    أما المحققون فقالوا في تعريف القاعدة الفقهية: إنها حكم أغلبي أكثري لا كلي، وهي منطبقة على أكثر الفرعيات أو أكثر الجزئيات، وهذا التعريف الثاني هو الصحيح والراجح.

    الفرق بين تعريف الجرجاني للقاعدة الفقهية وتعريف غيره

    الفارق بين التعريف الأخير وبين التعريف الأول أن الأول قال فيه: هي قضية كلية تنطبق على كل الجزئيات، وقال في الثاني: هي قضية أغلبية؛ لأن هناك نوادر ومستثنيات تخرج منها، وبالمثال يتضح المقال: بيع المعدوم ما حكمه؟

    بيع المعدوم لا يصح، هذا حكمه والدليل ما ورد في صحيح مسلم : (نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع الغرر) ، والغرر: هو كل بيع غائب أو معدوم، فحكمه حرام.

    إذاً: فالقضية الكلية أو القاعدة العامة التي نتكلم عنها الآن: هي الغرر، وحكمه التحريم.

    فننظر في تعريف العلماء للقاعدة: هي قضية أكثرية أغلبية؛ لأنه يستثنى منها استثناءات، كبيع السلم، والسلم هذا بيع معدوم، والسلم كما في الصحيح أن ابن عباس رضي الله عنه وأرضاه قال: (دخل النبي صلى الله عليه وسلم المدينة وكانوا يسلمون -أو يسلفون- في التمر السنة والسنتين، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: من أسلف فليسلف في شيء معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم)، فضبطه عليه الصلاة والسلام بضوابط.

    والسلم معناه: أن تأتي برجل زارع ليس عنده الثمرة الآن لكن هو يصف لك هذا الثمر ويقول: هو كذا وكذا وكذا ويقول: أنا سأبيع عليك مثلاً: الوسق بخمسين أو الوسق بستين فتقول له: كم تخرج هذه المزرعة وسقاً؟ فيقول مثلاً: مائة وسق، أو ألف وسق، فيضرب لك الحساب وتعطيه الثمن.

    من شروط السلم: أن تعطيه الثمن مقدماً، ثم يأتيك هو بالسلعة بنفس الوصف الموصوف في الذمة وبنفس الوقت المحدود، وبذلك يتم البيع، فهذا السلم من بيع المعدوم، ولذلك قال العلماء: هذا مستثنى من القاعدة الكلية، وهذا الذي جعل الشافعي يقول: إن المستثنى لا يقاس عليه، أي: ما خرج عن القياس فغيره عليه لا ينقاس فمثلاً: لو أن رجلاً يعمل سائقاً عند رجل فقال له: لك (25%) من الربح، فقاسه على السلم، نقول: هذه إجارة ناقصة الشروط، فلا تصح، بل لا بد أن تعلن الإجارة، وهذه ترد -كما قلت- في قاعدة: ما خرج عن القياس، غيره عليه لا ينقاس، فالعلماء قالوا: السلم بيع معدوم وهو مستثنى من الأصل.

    أيضاً الاستصناع، وهو طلب الصنعة، وهو مشهور عندنا في الإسكندرية، ويعني: أن تشتري الشقة التي في الهواء، قبل بناء البيت، فهذا اسمه استصناع، يعني: يستصنع لك بالرسم الهندسي ويبين لك الشقة برسم معين.

    إذاً: فالتعريف الثاني هو الراجح الصحيح، وهو أن القاعدة الفقهية هي حكم أغلبي -أو حكم أكثري- ينطبق على أكثر الجزئيات.

    1.   

    الفرق بين القاعدة والضابط

    كثيراً ما نسمع من فقهائنا يقولون: وضابط المسألة كذا، والقاعدة عند العلماء كذا، فنقول: ليس هناك فرق بين الضابط والقاعدة الفقهية عند المتقدمين، لكن الصحيح أن المتأخرين ابتدءوا يفصلون المسألة، حتى تنضبط وتسهل على طلبة العلم، فقالوا: الفارق بين الضابط وبين القاعدة: أن الضابط يختص بباب واحد، والقاعدة تختص بأبواب شتى، فقول النبي صلى الله عليه وسلم: (الماء طهور لا ينجسه شيء إلا ما غلب على ريحه أو طعمه أو لونه). هذا الحديث رواه الخمسة، وهو ضابط في باب واحد، وليس في أبواب كثيرة، أما قولنا: الضرورات تبيح المحظورات، فهذه قاعدة كلية فالفارق بين القاعدة والضابط: أن القاعدة الكلية تدخل في المياه وفي الصلاة وفي البيوع وفي النكاح وفي الحدود.

    فقولنا: تدخل في المياه، مثال ذلك: رجل رأى خلخال امرأته في ضوء القمر، فأراد أن يكسب الأجر معها فجامعها، فقام ليغتسل فما استطاع؛ لأن البرد شديد، فنقول له الآن: محظور عليك أن تتيمم مع وجود الماء، لكن الرجل كان فقيهاً وقال: أنا مخير بين التيمم وبين الاغتسال، والتيمم أيسر، والمشقة تجلب التيسير، وديننا دين اليسر، والرسول عليه الصلاة والسلام يقول: (ولن يشاد هذا الدين أحد إلا غلبه)، بل وهناك دليل آخر وهو: (أن عمرو بن العاص كان في غزوة ذات السلاسل وهو أمير الجيش، وكان البرد عليه شديداً، فأجنب فتيمم وصلى بالناس، فتبسم صلى الله عليه وسلم لما علم بفعله، وأقره على هذه الصلاة)، فهنا دخلت القاعدة: المشقة تجلب التيسير، أو قاعدة: الضرورات تبيح المحظورات، وهذا هو الفرق بين القاعدة والضابط، أي: أن الضابط يكون في باب واحد، وأما القاعدة فتدخل في الطهارة، وفي الصلاة، وفي غير ذلك.

    مثال ذلك: رجل يصلي ثم حدث له حادث ابتلاه الله به؛ ليرفع درجاته فما استطاع أن يقوم، وعندنا القيام في الصلاة واجب من الواجبات، بل عند الحنابلة ركن، والدليل ما جاء في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (صل قائماً فإن لم تستطع فقاعداً)، وجه الدلالة من الحديث أنه لا يباح لك أن تصلي قاعداً إلا إذا لم تستطع القيام، فنقول له: تدخل هنا قاعدة: الضرورات تبيح المحظورات في باب الصلاة، فهنا الضرورة أباحت لك ذلك.

    أيضاً في مسألة الطعام يحرم على الإنسان أن يأكل الضبع؛ لأن له ناباً، لكن هذه المسألة خلافية، فعند الشافعية يجوز أكل الضبع، لأن الشافعي يقول: ما زلت على المروة والصفا أجدهم يأكلونه في مكة، والحديث: (أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل فيه شاة)، أي: جعله من الصيد، وهذه دلالة على أنه يحل أكله.

    أيضاً: يحرم أكل لحم الخنزير، لكن يجوز للمضطر أن يأكله؛ لأن الله قال: (وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ [البقرة:195]، فالخنزير وإن كان محرماً يجوز أكله عند الضرورة، والقاعدة الفقهية تقول: الضرورات تبيح المحظورات، لكن الضرورات تقدر بقدرها، فإذا كان يرى في نفسه الخفة، وأنه قد يصل إلى مكان يأكل فيه الطعام الحلال، فإنه يأكل أكلاً قليلاً حتى لا يموت ثم يذهب إلى مكان الحياة.

    إذاً الفارق بين القاعدة والضابط: أن الضابط يكون في باب واحد، والقاعدة تكون في أبواب شتى، وبينهما عموم وخصوم، فالقاعدة أعم من الضابط.

    1.   

    الفارق بين القاعدة الفقهية والقاعدة الأصولية

    الفارق بين القاعدة الفقهية والقاعدة الأصولية:

    لقد عز في هذا الزمان أن تجد فقيهاً عالماً بالأصول وعارفاً بتقعيد القواعد، فإن رأيت فقيهاً لا يعرف كيف يؤصل ولا يستنبط الحكم منه فاعلم أنه ناقل.

    لقد تكلمت مع أحد المشايخ الفضلاء النبلاء في مسألة معينة فلامني على الحكم في المسألة، فقال: هذه تحتاج إلى استقراء، ومعنى الاستقراء: أن تطلَّع على كثير من أقوال العلماء في الفروع التي فرعوها، فأضمرت في نفسي تأدباً وقلت: لا تحتاج إلى استقراء، لكن تحتاج إلى تقعيد وتأصيل؛ لأني أقول دائماً: الفرع إذا رددته على الأصل وجدت الحكم، ووالله الذي لا إله إلا هو لقد رأيت كثيراً من طلبة العلم يسألون عن مسألة ولم يكونوا قد اطلعوا عليها فيجيبون بالإجابة الصحيحة، وهذا الذي جعل بعض مشايخهم يحتفلون بهم، ويعطونهم إجازات خاصة؛ لأنهم كانوا يسألونهم السؤال فيجيبون بأجوبة صحيحة، فينظر الشيخ فيرى أن هذا جواب الحافظ ابن حجر أو جواب شيخ الإسلام ابن تيمية أو جواب النووي ، وهذا الطالب لم يكن قد قرأ ذلك، وإنما لأن الله حباه بفهم التقعيد والتأصيل.

    إذاً: فالذي عنده التأصيل القوي يستطيع أن يبني بناءً قوياً.

    والقواعد هي التي تقوي الفقيه وتقوي فتواه، والقواعد الأصولية والقواعد الفقهية يشتركان ويفترقان، ونحن الآن بصدد الفروق وهي كما يلي:

    أولاً: القواعد الأصولية منضبطة محدودة، وجزئياتها غير كثيرة، والقواعد الفقهية غير محدودة، بل هي كثيرة، وهذه والحمد لله تبين لنا ميزة هذا الفقه وأنه يسع كل النوازل كما سنبين.

    ثانياً: القواعد الأصولية تنطبق على جميع الجزئيات، مثل الضابط، أما القواعد الفقهية فالراجح: أنها أكثرية وأغلبية ولا تتفق على جميع الجزئيات.

    ثالثاً: وهذا الأوضح: القاعدة الأصولية تهتم بدلالات اللفظ، والقاعدة الفقهية: تهتم بفعل المكلف.

    مثال ذلك: القاعدة الأصولية تقول: الأصل في النهي التحريم ما لم تأت قرينة تصرفه إلى الكراهة، ويقولون: الأصل في الأمر الوجوب ما لم تأت قرينة تصرفه إلى الاستحباب، ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تشرب قائماً)، أو قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أتريد أن يشرب معك الهر؟ يشرب معك من هو أشر منه)، فهذا أسلوب نهي، والحديث الذي في الصحيحين عن ابن عباس رضي الله عنه وأرضاه قال: (ونهينا أن نكفت الثياب في الصلاة) ، فهذا نهي، والأصل في النهي عند الأصوليين التحريم، ونحن الآن لسنا بصدد المسألة الفقهية وإنما نريد أن نبين على أن الأصوليين ينظرون دلالات اللفظ.

    والأصل في الأمر الوجوب، قد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (كل بيمينك) فهذا أمر، الأمر ظاهره الوجوب ما لم تأت قرينة تصرفه إلى الاستحباب، وهذه مهمة الأصوليين.

    أما مهمة الفقهاء: فإنهم ينظرون إلى فعل المكلف أي: كيف يفعل في هذه الأوامر والنواهي، هل عنده ضرورات تدخل وتزيح عنه التحريم، أو تصرف النهي من التحريم إلى الكراهة، أو تصرف الأمر من الوجوب إلى الاستحباب؟ فهذا محل عمل القواعد الفقهية.

    1.   

    أهمية العلم بالقواعد الفقهية

    كل علم له أهمية وفن له أهمية، ومن أهمية هذا العلم: أن الأمة تحتاج إلى فقيه، ولن تجد فقيهاً يكون عارياً عن قواعد الفقه؛ فقواعد الفقه أولاً: تشمل فروعاً كثيرة يضبطها كلمة وجيزة، مثلاً تقول: المشقة تجلب التيسير، فهذه القاعدة تدخل معك في كل فروع الفقه، أو تدخل في كل شيء، في سفر وفي مرض وفي طعام وفي عمليات جراحية، فنقول: فروع كثيرة تجتمع فتلتئم وتنزل تحت كلمة وجيزة هي: المشقة تجلب التيسير، أو الضرورات تبيح المحظورات.

    ثانياً: إن من فائدة القواعد الفقهية أن تجعل المفتي أو القاضي أو الفقيه على أرض صلبة في الفتوى، ودائماً يرجع إلى ضابط وقاعدة فيستنبط الحكم منها مع الدليل الأصولي، فتكون الفتوى منضبطة وصحيحة، ولذلك ترى كثيراً من التخبطات في الفتاوى؛ لعدم ضبط القواعد والأصول، فأضرب لكم مثلين:

    المثل الأول: امرأة قيل فيها: إنها فقيهة العصر وحباها الله كل خير، أفتت بفتاوى كثيرة جداً من هذه الفتاوى أنها أفتت، -وهي تتكلم عن الأضحية علينا أهي سنة أم واجبة؟ هذا خلاف فقهي، لكن الأضحية قربة- فقالت: يمكن للإنسان أن لا يذبح وإنما يضحي ويخرج ثمن الأضحية مالاً ويجزئه ذلك، قلنا: الحمد لله على فقيهة العصر! أين فقهك أين دليلك؟! فقالت: دليلي القياس، قلنا: هات القياس، قالت: قياساً على جواز إخراج الزكاة مالاً لا عيناً.

    إذاً: فننظر في القواعد والأصول الآن، المرأة أتت بفتوى وهي فقيهة العصر، وقالت: إنه يجوز للإنسان أن يخرج ثمن الأضحية للفقراء؛ لأنها أنفع لهم؛ من اللحم، وقالت: هذه الفتوى جاءت قياساً على جواز إخراج الزكاة مالاً لا عيناً، نقول: هل القياس كان قياساً على مسألة متفق عليها أم مختلف فيها؟ وباتفاق الأصوليين: لا يجوز أن تلزم الخصم في مسألة مختلف فيها، وهذا ضابط وليس بقاعدة، وأنتِ عممتِ الضابط إلى أن جعلتيه قاعدة، ولا يصح لك ذلك للفارق بينهما، فأصبح قياساً مع الفارق.

    إذاً: أقول: ما الذي يجعلنا نقوى ونقف أمام هذا التيار القوي الغاشم من الفتاوى؟ ليس إلا التأصيل العلمي، والتقيد الصحيح، والله الذي لا إله إلا هو إن شمس البدعة قد بزغت بتأصيل وتقعيد، فهذا رجل أنزل ستة كتب كلها رد على الشيخ الألباني يؤصل فيها تأصيلاً حديثياً قوياً، ولا أحد يستطيع أن يرد عليه إلا من تأصل تأصيلاً علمياً.

    الفائدة الأخيرة: هي أن المرء المفتي أو الفقيه تنضبط فتواه بضبط هذه القواعد الأصولية أو القواعد الفقهية.

    يبقى الختام ألا وهو أن هذه القواعد لها مراتب: قواعد شاملة، وقواعد أضيق، وقواعد أضيق، تدور القواعد على خمس قواعد هي أهم القواعد، ولذلك أقول: لو ضبط طالب العلم هذه الخمس القواعد لأصبح نحريراً، وهي: الأمور بمقاصدها، الضرر يزال، الضرورات تبيح المحظورات، اليقين لا يزال بالشك، العادة محكمة.

    فهذه القواعد التي اتفق عليها أهل العلم؛ لأنها قواعد شاملة يندرج تحتها فروع كثيرة جداً، ومن أتقن هذه القواعد وضبطها أصبح فقيهاً ولا بد، إلا إذا شاء الله أمراً آخر.

    أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756490906