إسلام ويب

شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة - فضائل عمر بن الخطاب [1]للشيخ : محمد حسن عبد الغفار

  •  التفريغ النصي الكامل
  • عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان إسلامه عزاً، وهجرته نصراً، وخلافته عدلاً ورحمة، وحكمة وحنكة، ضرب أروع الأمثلة في علمه وفقهه وعدله وشدة بأسه في الحق، وقوة بديهته في الفراسة والإلهام، وتحريه في اتباع كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.

    1.   

    سيرة عمر بن الخطاب

    عمر بن الخطاب في الجاهلية

    الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

    يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].

    يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء:1].

    يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71] .

    أما بعد:

    فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

    ثم أما بعد:

    إخوتي الكرام! ما زلنا مع الشموس المشرقة، والأقمار النيرة، نقرأ في صفحات التاريخ بين سطوره فنستخرج الروائح الزكية، والنسمات العابقة من هؤلاء الأماجد الأكارم صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم.

    نحن اليوم على موعد مع خير هذه البرية، ومع خير هذه الأمة بعد خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، مع الرجل الذي فرق الله به بين الحق والباطل، مع الرجل الذي كان أقوى ما يكون في الأمة في الحق، كان حاسماً حازماً قوياً ليناً رقيقاً رضي الله عنه وأرضاه، مع عمر بن الخطاب أمير المؤمنين ، واسمه: عمر بن الخطاب بن نفيل بن عبد العزى بن كعب بن غالب القرشي العدوي ، يلتقي مع النبي صلى الله عليه وسلم في كعب بن غالب .

    عمر بن الخطاب بلغ عمره في الجاهلية خمسة وثلاثين عاماً، ثم عاش ثلاثين سنة على الإسلام، ثبت فيها عرش المسلمين، وثبت أركان الدولة الإسلامية، وطار بأجنحته مشارق الأرض ومغاربها، يدعو إلى الله جل وعلا، وينشر دين الله جل وعلا، وقد فتحت الدنيا بأسرها وخزائن كسرى وقيصر على عهده رضي الله عنه وأرضاه.

    عاش في الجاهلية جلداً صلباً صلداً وكان غليظاً فظاً رضي الله عنه وأرضاه، وكان أبوه الخطاب على نفس خلقه فظاً غليظاً، وكان خاله أغلظ من أبيه وهو أبو جهل عمرو بن هشام فرعون هذه الأمة، فكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه جلداً في الجاهلية، وكان سفيراً لقريش في الأحداث أو الاختلاف بين القبائل أو الحروب، ولكنه كان مغموراً أيضاً في قريش؛ لأن مقياس الناس عند قريش في تلك الأزمنة المال والولد، وكان عمر رضي الله عنه وأرضاه قليل المال والولد، فكان مغموراً في قريش، ولكن الله جل وعلا أعزه بالإسلام، وأعز الإسلام به، فكان بالنسبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم هو وأبو بكر السمع والبصر، وكانا وزيري رسول الله صلى الله عليه وسلم وأهل مشورته رضي الله عنهما.

    إسلام عمر بن الخطاب

    أما إسلام عمر رضي الله عنه وأرضاه، فيذكر أهل السير قصصاً عديدة لإسلامه، فقد شهر سيفه ذاهباً إلى رسول الله ليقتله، وكان فظاً غليظاً، وكان يقول: هذا الرجل الذي جاء يفرق بين الوالد وولده، وبين الزوج وزوجته، وسفه أحلامنا وآلهتنا، فأخذ سيفه مهرولاً إلى رسول الله ليقتله، فقال له رجل: إذا كنت فاعلاً فانظر إلى أهل بيتك، انظر إلى أختك وزوجها فقد صبئا.

    فذهب إليها فوجدها تقرأ القرآن فصفعها، فأدمى وجهها، فلما رأى الدم منها رق لها، ثم قال: أعطيني هذا الكتاب الذي بيدك، قالت: لا، إنك نجس، والنجاسة هنا نجاسة معنوية، لكنها أبت أن تعطيه الكتاب حتى يغتسل.

    وهنا أستأنس بهذه الواقعة على أمر مهم وهو خلاف فقهي، فالراجح أن القرآن لا يمسه إلا طاهر، لا يمسه إلى متوضئ.

    فقالت: لا حتى تغتسل، فدخل فاغتسل، فأخذ الكتاب فقرأ: طه * مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى * إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى * تَنزِيلًا مِمَّنْ خَلَقَ الأَرْضَ وَالسَّمَوَاتِ الْعُلى [طه:1-4] ، فرق قلبه فذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فلما رآه حمزة من بعيد قال: هذا عمر ، إن جاء لخير فهو له خير، وإن جاء لغير ذلك فقتله علينا هين، فلما دخل عمر رضي الله عنه وأرضاه على رسول الله صلى الله عليه وسلم قام رسول الله فأخذ بتلابيبه، وقال: الآن يا عمر ! الآن يا عمر ! فقال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتحققت فيه دعوة النبي صلى الله عليه وسلم (اللهم أعز الإسلام بأحد العمرين)، فأصابت الدعوة عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه.

    كان رجلاً طويلاً إذا مشى بين الناس كأنه على بعير من طوله رضي الله عنه وأرضاه، وكان أبيض مليحاً أصلع رضي الله عنه وأرضاه.

    بعدما أسلم عمر بن الخطاب قال ابن مسعود كلمات تحفر على السطور في منقبة عمر رضي الله عنه وأرضاه، قال: كان إسلام عمر فتحاً، وهجرته نصراً، وإمامته رحمة.

    كان إسلام عمر فتحاً، كما سنبين كيف نشر الله الإسلام بإسلام عمر ، وكانت هجرته نصراً، وكانت إمامته رحمة، لما دخل على رسول الله وأسلم ما خار، وإنما ظهرت قوته في دينه قال: يا رسول الله! ألسنا على الحق؟ قال: بلى ، قال: لم الإخفاء الآن؟! لا بد أن نعلنها صراحة أننا على الإسلام والإيمان، ثم قام فصف الناس صفين فتقدم الصف الأول عمر بن الخطاب ، ووضع على الصف الثاني أسد الله وأسد رسوله صلى الله عليه وسلم حمزة بن عبد المطلب ، ويتوسط الصفين رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذهبوا إلى مكة فأعلنوا الصلاة أمام قريش، فاشتاطت قريش غيظاً، وتألمت ألماً شديداً لما رأت عمر وحمزة كبيرا قريش في القوة والجلد، عمر وحمزة ورسول الله صلى الله عليه وسلم يتوسطهما.

    ثم بعد ذلك قام عمر فقال: من أشد الناس نقلاً للأخبار؟ قالوا: فلان، فأخذه وقال له: أما علمت أنني صبأت؟! يعني: أسلمت، فقام الرجل مسرعاً إلى جميع قريش ينادي: قد صبأ عمر ! قد صبأ عمر ! وهو يقول: لا، بل أسلمت! بل أسلمت!

    ثم قال: من أشد الناس تغيظاً لإسلامي؟! فقالوا: خالك أبو جهل ، ثم ذهب إليه فقرع عليه الباب، ففتح فقال: أهلاً بابن أختي! فقال له عمر : أما علمت أنني على دين محمد صلى الله عليه وسلم؟! فصفع الباب في وجهه رضي الله عنه وأرضاه تغيظاً.

    ومن قوته في إعلاء كلمة الله جل وعلا ونصرة الدين والحق أنه قام عند الهجرة إلى كبار قريش وسادتهم فأخذ الرماد وذره على أعينهم وقال: شاهت الوجوه! يعني: قبح الله هذه الوجوه إني مهاجر إلى ربي، فمن أراد أن تثكله أمه فليأت ورائي خلف هذا الوادي، وهاجر معلناً بهجرته رضي الله عنه وأرضاه.

    زهد عمر بن الخطاب

    نعم الرجل! ونعم الصاحب! ونعم الأمير رضي الله عنه وأرضاه! كان والله عابداً زاهداً متصدقاً فقيهاً ورعاً عالماً مجاهداً، لو جلسنا شهوراً وسنين نتكلم عن هذه الشخصية الفريدة فلن نعطيها حقها.

    لكن اليوم سوف نتكلم مع عمر الزاهد العابد الفقيه العالم، عمر رضي الله عنه وأرضاه أوجز وأعذب وألطف ما قيل في زهد عمر ما قاله بعض المؤرخين: إن الدنيا لم ترد أبا بكر ، وأبو بكر لم يرد الدنيا، لأن أبا بكر زاهد، ولم تفتح الدنيا عليه، ولا خزائن كسرى ولا قيصر فتحت عليه، قال: أبو بكر لم يرد الدنيا ولم ترده الدنيا، أما عمر فأرادته الدنيا ولم يردها رضي الله عنه وأرضاه، كان يقف خطيباً أمام الناس وثوبه مرقع، كان يأكل الزيت والخبز، ويقول لبطنه بعدما يربط عليها الحجر والحجرين: قرقري كما تريدين، والله لا تأكلين إلا هذا الطعام، زيت وخبز.

    وكان والله متصدقاً منفقاً، لما استنفر رسول الله صلى الله عليه وسلم الصحابة الكرام للإنفاق في سبيل الله ذهب بشطر ماله فوضعه أمام رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له الرسول: ما تركت لأهلك؟ قال: تركت لهم شطر مالي، فمدحه النبي صلى الله عليه وسلم وأثنى عليه.

    كذلك لما أصاب مالاً في خيبر قال ابن عمر كما في الصحيحين: أصاب عمر مالاً ما أصاب مالاً خيراً منه، وهو سهم في خيبر، فذهب إلى رسول الله وقال: ما عندي مال خير من هذا المال، ضعه فيما شئت يا رسول الله، فأشار عليه النبي صلى الله عليه وسلم أن يكون وقفاً لله، قال: (إن شئت حبست الأصل وسبلت الثمرة).

    يعني: أوقفته في سبيل الله، فأوقفه عمر في اليتامى ولذي القربى والمساكين، حتى ناظر هذا الوقف جعله يأكل منه غير متمول، فكان منفقاً في سبيل الله، حتى إنه مات وعليه ديون فكلف ابن عمر أن يسدد عنه هذه الديون بعد مماته رضي الله عنه وأرضاه.

    عبادة عمر بن الخطاب

    كان والله فقيهاً عابداً، كان عمر بن الخطاب لا يترك الليل أبداً، بينه وبين ربه ساعة يخلو فيها بربه، يتذلل ويدعو الله جل وعلا ويستغفر سحراً، ويتلو كتاب ربه والناس نيام، فبعدما يرخي الليل سدوله وتغور نجومه يقوم يناجي ربه.

    ذات مرة مر رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلاً فسمع عمر وهو يقرأ في صلاته بصوت جهوري، وكان قد مر بـأبي بكر ، فسمعه يقرأ بصوت منخفض، فسأل عمر : (يا عمر ! سمعتك تقرأ بالأمس بصوت جهوري! فقال: يا رسول الله! -انظروا إلى القوة في الحق، انظروا إلى الجواب البديع- أوقظ النومان وأطرد الشيطان)، بالقوة يطرد الشيطان رضي الله عنه وأرضاه، فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يخفض من صوته رضي الله عنه وأرضاه.

    فقه عمر بن الخطاب

    كان رضي الله عنه وأرضاه عابداً زاهداً فقيهاً عالماً يحرص على طلب العلم الذي ندر في هذا الزمان، ونحن في فتن والله ليس بعدها فتن، وأقسم بربي إنه آلمني ويدمي قلب كل مسلم أن الأصاغر يتكلمون في أمر عظام يتخبطون فيها خبط العشواء، وكأنهم يتقحمون النار على بصيرة، ويتكلمون بغير علم، والمستمع لا علم له، وهذا والله الذي لا إله إلا هو ما وقع إلا بترك العلم، وتصديقاً لنبوة النبي صلى الله عليه وسلم: (لن تقوم الساعة حتى يرفع العلم، ويظهر الجهل، ويتخذ الناس رءوساً جهالاً، فيسألون فيفتون بغير علم؛ فضلوا وأضلوا)، فتاوى تصل بالناس إلى شفير جهنم، بل تصل بالناس إلى الخروج من الدوائر الصحيحة التي يمكن أن تعتبرها في الدين بسبب الجهل، فالناس في غفلة مميتة مزرية لا يعلمون عن دينهم شيئاً، وأيضاً يتركون طلب العلم؛ لأنهم يحسبون أن العلم كلمة طيبة دون الدراسة التي تعلمهم كيف يتعبدون لله جل وعلا بتوحيد خالص دون أدنى شرك.

    فهذا عمر بن الخطاب أمير هذه الأمة كان طالباً للعلم، وكان يحرص على مجالس التحديث إذا جلس النبي صلى الله عليه وسلم بين أصحابه يعلمهم، وكان إذا شغله الزرع أو التجارة يتناوب مع أخيه الأنصاري حرصاً على العلم، فيجلس الأنصاري المجلس، فيأتيه فيقول: قد تحدث النبي صلى الله عليه وسلم بحديث كذا وكذا وكذا، وهو يأتي في اليوم التالي يتعلم من النبي صلى الله عليه وسلم ثم ينقل هذا العلم إلى أخيه الأنصاري، حرصاً على العلم؛ لأنه يعلم أنه لن يرتقي عند ربه، ولن ينجو من الفتن والمحن إلا بالعلم، ولذلك شهد له النبي صلى الله عليه وسلم بالعلم وحياً من الله، كما في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (رأيت في المنام أني أشرب اللبن، حتى بلغ الري أظفاري، ثم أعطيت فضلي لـعمر ، قالوا: يا رسول الله! وما أولته؟ قال: أولته العلم). وهذه شهادة من الرسول صلى الله عليه وسلم على فضل وفقه وعلم عمر بن الخطاب ، بل وعلى دين عمر بن الخطاب وورعه.

    كذلك جاء في البخاري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (رأيت في المنام الناس عليهم قمص -ثياب- ومنهم من يبلغ قميصه إلى ثديه، ومنهم من يبلغ دون ذلك، ورأيت عمر يجر قميصه، قالوا: يا رسول الله! وما أولته؟ قال: الدين) ، فشهد له النبي صلى الله عليه وسلم بالدين والعلم والفقه رضي الله عنه وأرضاه، ولم لا وقد آتاه الله مقومات العلم؟! فهو المهلم المحدث تتكلم الملائكة على لسانه، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (كان فيمن قبلكم محدثون، ولو كان في هذه الأمة لكان عمر) يعني: عمر بن الخطاب هو الملهم الذي تتكلم الملائكة على لسانه.

    فسرها بعض العلماء بالتفرد في شدة الذكاء، وهذا في عمر حق، وفسرها بعض العلماء بأن الملائكة تتكلم على لسانه بالحق، وإليكم بيان ذلك، فقد وافق ربه في أكثر من عشرين موضعاً من القرآن، قبل أن تنزل الآية يقولها عمر كما في البخاري قال عمر : وافقت ربي في ثلاث، أما الأولى: فقلت: يا رسول الله! لو اتخذنا من مقام إبراهيم مصلى؛ فأنزل الله جل وعلا: وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى [البقرة:125].

    والثانية: قلت: يا رسول الله! لو أمرت نساءك أن يحتجبن؛ فإنه يدخل عليهن البر والفاجر، قبل أن تنزل آية الحجاب، فنزلت: وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ [الأحزاب:53].

    والثالثة: أنه لما اجتمع النساء على النبي صلى الله عليه وسلم قلت: عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجاً خيراً منكن، بنفس نص الآية، فهو موفق رضي الله عنه وأرضاه.

    كذلك قال: وافقت ربي في ثلاث، ثم ذكر منها أسارى بدر، لما تشاور النبي صلى الله عليه وسلم مع أبي بكر ، وقال: نأخذ الفدية، وقال عمر : أرى يا رسول الله! أن تعطيني فلان ابن الخطاب فأضرب عنقه، ولاء وبراء، تحقيق لركن التوحيد لا إله إلا الله، وعمر يشهرها علناً ولاء وبراء، قال: يا رسول الله ! أرى أن تعطيني فلان ابن الخطاب فأضرب عنقه، وأرى أن تعطي عقيلاً لـعلي بن أبي طالب ، فيضرب عنقه، وأرى أن تعطي فلان ابن أبي بكر، فيضرب عنقه؛ ليعلم أنه لا هوادة في قلوبنا، ولا محبة لأهل الشرك والكفران، عمر رضي الله عنه وأرضاه لما قال ذلك مال النبي صلى الله عليه وسلم إلى قول أبي بكر في أخذ الفدية، فأنزل الله موافقاً لقول عمر : مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [الأنفال:67] فبكى رسول الله وأبو بكر ، ووافق الله جل وعلا عمر رضي الله عنه وأرضاه.

    كذلك عمر وافق الله في مسألة أخرى، لما دعي رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الصلاة على المنافق الأكبر عبد الله بن أبي بن سلول، قال عمر للنبي صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله ! هذا الذي قال يوم كذا كذا وكذا، يعني: في غزوة بني المصطلق لما رجع قال: ليخرجن الأعز منها الأذل، فقال: يا رسول الله تصلي على عدو الله؟ قال: (إليك عني يا عمر ! فإن الله خيرني: اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ [التوبة:80] ، فخيره فقال: استغفر لهم لعل الله يغفر لهم) فأنزل الله موافقاً لقول عمر : وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ [التوبة:84] .

    فكان ملهماً موفقاً رضي الله عنه وأرضاه، وأنفع ما يكون من ذلك لما احتار النبي صلى الله عليه وسلم جاءه يستشيره في حادثة الإفك، فقال: (يا رسول الله! من زوجك إياها؟ قال: الله)

    كيف زوج الله جل وعلا السيدة عائشة بالنبي صلى الله عليه وسلم ؟

    جاءه جبريل بصورتها وقال: هذه زوجك مرتين، فقال: (إن كان الله كتب ذلك فسيقضيه) ، فقال له عمر الموفق: (يا رسول الله! من زوجك إياها؟! قال الله، قال: أرأيت الله يدلس عليك؟!) ما هذا الفقه؟! سبحان الله! ولذلك عقب بعدما قال ذلك، فقال: سبحانك هذا بهتان عظيم! قال: يا رسول الله! أرأيت الله يدلس عليك؟! سبحانك هذا بهتان عظيم! فأنزل الله الآيات ثم ختمها بقوله تعالى: سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ [النور:16] ، موافقاً لـعمر رضي الله عنه وأرضاه.

    كذلك من مقومات فقه عمر وبيان أن عمر رضي الله عنه وأرضاه أفقه الصحابة على الإطلاق بعد النبي صلى الله عليه وسلم وخليفته أبو بكر رضي الله عنه قال حذيفة : كأن علم الناس كان مدسوساً في قلب عمر رضي الله عنه وأرضاه، ونظر إليه ابن مسعود فقال: هذا أفقه الناس بكلام الله جل وعلا.

    وقال أيضاً بعض الصحابة: لو وزن علم عمر في كفة، وعلم الأمة أجمعين في كفة لرجحت كفة عمر رضي الله عنه وأرضاه.

    عمر بن الخطاب صاحب الإلهام والفراسة

    انظروا إلى الإلهام والتوفيق، قام عمر خطيباً بعدما أرسل سرية إلى العراق، وأمر على هذه السرية سارية ، فلما كان يخطب الخطبة وتحته عبد الرحمن بن عوف ، والناس الجموع غفيرة تنظر إلى أمير المؤمنين وهو يخطب، قطع الخطبة وقال: يا سارية الجبل الجبل! يا سارية الجبل الجبل! ثلاث مرات! فاندهش الناس وقالوا: ما باله؟! كيف يتكلم في هذا؟! وعبد الرحمن بن عوف يتأفف ويتأسف: ماذا يفعل عمر ؟! ما الذي جرى له؟! فبعدما نزل عمر قال عبد الرحمن : يا أمير المؤمنين! خشيتُ أن يقول الناس شيئاً، كيف تقول: يا سارية الجبل الجبل! قال: والله لقد شعرت بأن السرية التي بعثتها انهزموا، وأن النصر لا يكون حليفاً لهم إلا إذا احتموا بالجبل، فقدم رسول الجيش فقال: يا أمير المؤمنين! انهزمنا أولاً، ثم سمعنا صوتاً مدوياً … إلخ.

    ولو كان عمر موجوداً في الأمة اليوم والله لانتصرنا، والله الذي لا إله إلا هو لرفعنا راية لا إله إلا الله، وكنا تحتها منتصرين أعزاء، لكن كتب الله جل وعلا أن الخيار يكون مع خير البرية؛ لأن الله جل وعلا حكيم يضع الشيء في موضعه، فهؤلاء الأماجد الأكارم لا يكونون إلا مع سيد البشر، فـعمر رضي الله عنه وأرضاه لما قال: يا سارية الجبل الجبل! قال الرجل: فسمعنا صوتاً مدوياً يقول: يا سارية الجبل الجبل! فرجعنا حتى احتمينا بالجبل؛ فكتب الله لنا النصر.

    هذه كرامة من الله جل وعلا لعبد من عباد الله رضي الله عنه وأرضاه عمر بن الخطاب، وكان من تفرسه إذا نظر إلى الشخص يعلم أنه كذاب أو صادق، فتكلم معه بعض الناس بكلام، فكلما عرض بكلمة قال له: احذف هذه، لا تكمل هذا الكلام، فيحذفه ثم يعرض عليه بكلمة أخرى، فيقول: احذفها، فيقول: أنت كذبت فيها فيقول الرجل: نعم يا أمير المؤمنين، وهذا من تفرسه وشدة فراسته رضي الله عنه وأرضاه.

    كذلك الرجل الذي جاءه فقال: اسمي جمرة بن لظى بن كذا بن كذا، قال: أدرك بيتك فقد احترق، فذهب الرجل إلى بيته وقد احترق!

    منهجية عمر بن الخطاب العلمية

    كيف شرب عمر العلم وارتقى إلى هذا المرتقى الصعب؟

    أقول: هناك منهجية اتخذها عمر علينا أن نأخذ بها والمنهجية موجودة حتى في السير، وهذه المنهجية التي استقى منها عمر علمه أجملها ابن القيم في قوله:

    العلم قال الله قال رسوله قال الصحابة ليس بالتمويه

    ما العلم نصبك للخلاف سفاهة بين الرسول وبين قول فقيه

    كان عمر بن الخطاب مشربه الكتاب والسنة، فإذا نزلت نازلة أو عمت مصيبة نظر في الكتاب والسنة، فإن لم يجد فيها الحل، أو لم يصل اجتهاده إلى الاستنباط العالي من الكتاب والسنة، نظر في اجتهاد أبي بكر ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اقتدوا باللذين بعدي أبي بكر وعمر) .

    فكان يأخذ من الكتاب والسنة، أو من كلام أهل العلم، فإن لم يجد يجتهد رأيه رضي الله عنه وأرضاه، وإليك البيان الذي صدقه واقعاً لما طعن رضي الله عنه وضع خده على التراب ثم قال: لئن أستخلف فقد استخلف من هو خير مني -يقصد أبو بكر رضي الله عنه- وإن لم أستخلف فلم يستخلف من هوخير مني، يقصد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهذا دليل على قوة مشرب عمر رضي الله عنه وأرضاه للعلم، وهنا قعدنا قاعدة في منهجية عمر في أخذ العلم، وهي: الكتاب والسنة، أو اجتهاد من سبقه الذي هو أعلم منه وهو أبو بكر رضي الله عنه وأرضاه.

    أنا أقول: هذه القصة دليل على ما أقول، عندما قال: لئن أستخلف فقد استخلف من هو خير مني، وإن لم أستخلف لم يستخلف من هو خير مني، فقال ابن عمر : فلما قال ذلك علمت أنه لن يستخلف، فهو نظر في كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم فوجد أن الرسول لم يستخلف، ووجد أن أبا بكر قد استخلف، فهو قال: من أقدم أبو بكر أو الرسول صلى الله عليه وسلم؟ يجوز أن يستخلف لأن أبا بكر سنته متبعة؛ لأنه قال: (اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر)، لكن سنة النبي صلى الله عليه وسلم لا يمكن أن يتعداها أحد، ولذلك قال ابن عمر : فلما قال ذلك علمت أنه لن يستخلف؛ لأنه يقدم سنة النبي صلى الله عليه وسلم ولم يستخلف، وجعلها مشورة في الستة الذين وقع الاختيار عليهم.

    كذلك من دلائل علم عمر وفقهه العالي أنه لا يتكلم إلا إذا وجد دليلاً ناصعاً صادعاً علم به، ولا يتكلف؛ لأن الله جل وعلا أمر نبيه أن يقول: وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ [ص:86] ، وأيضاً يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (هلك المتنطعون)، فكان يسير هو وعمرو بن العاص رضي الله عنه وأرضاه فوجد حوضاً يريد الشرب والوضوء منه، فقال عمرو : يا هذا! أترد السباع هذا الحوض؟

    فقال عمر : يا هذا! لا تجبه فإنه متكلف، وقد قال الله تعالى آمراً نبيه: وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ [ص:86]، ويستدل الفقهاء بهذا الفعل من عمر على تقعيد قاعدة مهمة جداً (اليقين لا يزول بالشك) يعني: هو في شك من مرور السباع، ولكن عنده يقين على أن الماء الذي في الحوض ماء طاهر، فلا يزول هذا اليقين بالشك، فانظروا إلى فقه عمر رضي الله عنه وأرضاه!

    كذلك من فقهه البديع مع أحفاد القردة والخنازير أنه -انظروا إلى فقهه وهو ينظر إلى الشرع والقدر ويصدق الشرع والقدر- جاء إلى يهود خيبر، فأمر بإجلائهم، فجاءه كبيرهم، فقال: أنت تخالف أبا القاسم، فقد ضرب لنا عهداً على خيبر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم شاطرهم على العمل، وأقرهم على الأرض فيعملون ويزرعون ولهم الشطر، فقال له عمر -كما في الصحيحين: أظننتني قد نسيت أن رسول الله قال: (كيف بك إذا أخرجت من خيبر تعدو بك قلوصك) يعني: تمشي بك بعيرك تخرج من هذه البلاد، قال: إنما كانت مزحة من أبي القاسم، فقال: خسئت وكذبت؛ فإن الرسول لا يقول إلا حقاً.

    كذلك من فقهه البديع أنه قال له: أقركم ما أقركم الله جل وعلا، وقال: قد أقركم رسول الله، وأقركم أبو بكر ، وشاء الله أن أجليكم.

    فطبق الشرع على القدر بحديث آخر، وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أخرجوا اليهود والنصارى من جزيرة العرب) ، وفي الحديث الآخر في مسند أحمد : (لا يجتمع دينان في جزيرة العرب) .

    فأول هذا الحديث بأن المشيئة هنا مشيئة كونية قدرية والفرق بين المشيئة الكونية والمشيئة الشرعية أن الكونية تكون فيما يحبه الله وما لا يحبه كمشيئة الله في خلق إبليس ، وإبليس لا يحبه الله، وكمشيئة الله لعلو الكفرة على المسملين، وهذا لا يحبه الله جل وعلا، لكن شاءه كوناً لحكمة عظيمة، وربك حكيم خبير.

    كذلك المشيئة الكونية لا بد أن تقع، فقد كتب الله في اللوح المحفوظ أن أهل الكفر تكون لهم الدولة على أهل الإسلام لحكمة عظيمة عند الله جل وعلا، ولكن والله الذي لا إله إلا هو لن تختم الدنيا حتى يعود الإسلام غريباً كما بدأ غريباً.

    فـعمر بن الخطاب نظر فوجد أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بإخراجهم، فقال: هذه مشيئة شرعية وطبقها، فوافقت المشيئة الكونية، فالأصل أن عمر رضي الله عنه وأرضاه من فقهه قال: هذه المشيئة ليست مشيئة كونية، هي مشيئة شرعية يقصد أنه أمر ونهي، يعني: النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا يجتمع دينان في جزيرة العرب) ، فأجلاهم رضي الله عنه وأرضاه.

    كذلك من فقه عمر العالي أنه يسوس الناس بسياسة شرعية حتى يقطع دابر المعصية والتعدي على حدود الله، مثال ذلك: كان النبي صلى الله عليه وسلم يضرب على شرب الخمر ويجلد عليه أربعين، وأبو بكر جلد عليه أربعين، وصدر من خلافة عمر كان يجلد عليه أربعين، حتى جاءه علي فقال: إن الذي يشرب الخمر يهذي، فإذا هذي افترى، وحد المفتري ثمانين؛ فجلده ثمانين رضي الله عنه وأرضاه، فهذه سياسة شرعية حتى يحد من التعدي لحدود الله جل وعلا، واستنبط العلماء من هذا أن ولاة الأمور لهم أن يأمروا بأمر فيكون واجب السمع والطاعة إن كان تحت دائرة الكتاب والسنة، قال تعالى: أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ [النساء:59]، وما قال: وأطيعوا أولي الأمر، فعلى المرء بالسمع والطاعة لأولي الأمر مقيداً بالمعروف: (إنها الطاعة في المعروف، لا طاعة لمخلوقٍ في معصية الخالق) .

    كذلك في حكم الطلاق ثلاثاً، كان في عصر النبي صلى الله عليه وسلم إذا قال الرجل لامرأته: أنت طالق طالق طالق في مجلس واحد، أو قال لها: أنت طالق بالثلاث، تحسب طلقة واحدة، وفي عصر أبي بكر تحسب طلقة واحدة، فجاء عمر وقال: اجترأ الناس على أمر كان لهم فيه سعة، لأمضينه عليهم، فجعل الطلاق ثلاثاً واقعاً وتبين منه بينونة كبرى، فهذه سياسة شرعية يسوس بها الناس؛ حتى تقام حدود الله جل وعلا.

    إن مواقف عمر البطولية وقوته في ضرب الأعداء وقتاله مع رسول الله حفاظاً على حياته صلى الله عليه وسلم، وجوانب العظمة في سياسة عمر وعدله، والقصص البديعة التي تبين هذا العدل الذي قال فيه عامل الروم لما دخل وسأل عن أمير المؤمنين، فأشاروا إليه تحت شجرة، قال: أريد قصر أمير المؤمنين، قالوا: هذا أمير المؤمنين عمر بن الخطاب ، وكان يتوسد نعله تحت الشجرة؛ فقال: هذا أميركم؟! قالوا: نعم، هذا أميرنا، فقال: يا عمر حكمت فعدلت؛ فأمنت فنمت.

    أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم وجزاكم الله خيراً.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756402870