إسلام ويب

الصوتيات

  1. الصوتيات
  2. علماء ودعاة
  3. محاضرات مفرغة
  4. محمد حسن عبد الغفار
  5. سلسلة مسائل خالف فيها رسول الله أهل الجاهلية
  6. مسائل خالف فيها رسول الله أهل الجاهلية - التوكل على الله وأحكام التمائم

مسائل خالف فيها رسول الله أهل الجاهلية - التوكل على الله وأحكام التمائمللشيخ : محمد حسن عبد الغفار

  •  التفريغ النصي الكامل
  • التوكل على الله تعالى هو عصب الدين وركنه العظيم، وما حدث الشرك في الجاهلية إلا عند غياب التوكل على الله، فظهر بسبب انعدام التوكل التعلق بالأصنام والأحجار، والاستشفاء بالرقي والتمائم المؤدية إلى الشرك، فعلى المؤمن أن يكون حذراً مما يخدش عقيدته؛ سداً لذريعة الشرك، وحفاظاً على جناب التوحيد.

    1.   

    التوكل على الله تعالى

    أهمية التوكل على الله

    إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله.

    يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].

    يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء:1].

    يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71].

    أما بعد:

    فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، ثم أما بعد:

    إن التوكل على الله هو عصب الدين، بل إن امتلاء القلب بالإيمان لا يكون إلا بالتوكل على الله، كيف لا! وقد ربط الله الإيمان بالتوكل، قال الله تعالى: وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ [المائدة:23]، فجعل التوكل شرطاً لصحة الإيمان.

    وقد أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم به وهو أعبد الناس لله جل في علاه فقال له: فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ [النمل:79]، وقال تعالى حاكياً عن أنبيائه ورسله وخيرته من خلقه أنهم عندما حاجوا قومهم قالوا: وَمَا لَنَا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ [إبراهيم:12]، فالتوكل هو عصب الدين، ولب أعمال القلوب، فإن العبد إذا تفرق نظره ولم يتوكل على الله تاه في حياته، فالله يدبر كل يوم أمور خلقه كما قال تعالى: كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ [الرحمن:29]، قال ابن مسعود : يرفع أقواماً، ويخفض أناساً، ويذل آخرين، يمنح أناساً، فهو يحيي ويميت، وهذا من شأن الله جل في علاه وتدبيره في كونه.

    هدي رسول الله في التوكل

    لقد بين رسول الله صلى الله عليه وسلم أهمية التوكل وذلك بقوله صباحاً ومساء: (اللهم لك أسلمت، وبك آمنت، وعليك توكلت) وكان دائماً يقول: (يا حي يا قيوم! برحمتك استغيث، أصلح لي شأني كله، ولا تكلني إلى نفسي طرفة عين).

    وكان النبي صلى الله عليه وسلم أيضاً يأمر بالتوكل ويقول: (نفث في روعي الروح الأمين: أنه لن تموت نفس حتى تستوفي رزقها وأجلها، فاتقوا الله وأجملوا في الطلب)، وجاء عند الترمذي بسند صحيح عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وأرضاه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال (لو توكلتم على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير: تغدو خماصاً، وتروح بطاناً)، وجماع ذلك كله ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم لابن عباس عندما كان رديفاً له: (واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لن ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعت على أن يضروك بشيء لن يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف)،فالأمر كله بيد الله جل في علاه.

    انعدام التوكل على الله عند الجاهليين

    إن أهل الجاهلية لم يرضوا بهذا التدبير، وتكبروا عن أن يتخذوا الله وكيلا، بل اتخذوا الأصنام والأحجار، وعلقوا التمائم والخرز، واعتقدوا فيها ما لا يعتقد إلا في الله جل في علاه، فكانوا يعتقدون أن هذه التمائم والخرز تدفع البلاء، أو تجلب النفع، وكانوا يعلقون على الأولاد الحلق من الذهب والحديد والنحاس والفضة، وكانوا يربطون الخيوط الملونة، ويعتقدون أنها ترفع الحمى، وكانوا يعلقونها في الإبل لرفع العين والحسد، وكانوا يعتقدون في كعب الأرنب، وصدر النسر أو عظمه، وفي سن الضبع والذئب ومنقار الغراب عقائد باطلة.

    وقد كانت هذه في الجاهلية ورآها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاء ليمحو هذا الشرك، ويخبروهم أن هذه التمائم لا تجلب نفعاً، ولا تدفع ضراً، ثم بين لهم أن هذا من الشرك فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (من تعلق تميمة فقد أشرك) وهذا حديث حسن لذاته.

    فبين هنا زيف ما يفعله أهل الجاهلية من هذه التمائم، وفي رواية أخرى اختلف في إسنادها والراجح أن سندها حسن، وهي قول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الرقى والتمائم والتولة شرك)، وهذا الشرك إما أن يكون شركاً أكبر أو شركاً أصغر.

    وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك كما في بعض الآثار فقال: (لا تبقين قلادة من وتر ولا غيرها في إبل ولا بعير إلا قطعت)؛ لأنهم يتخذونها مادة لدفع الضر، ولجلب المنفعة.

    وهذه الأحاديث تبين ضلال اعتقاد أهل الجاهلية، ولم يسكت عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم بل بين أنها من الشرك.

    وجود الشرك في هذه العصور

    لقد تنطع بعضهم وقال: لا شرك في الأمة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل ستكون على تمام التوحيد، ونحن سنقارن وننظر في الشرك الموجود في الجاهلية قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم، والموجود بعدما بعث النبي صلى الله عليه وسلم؛ لنرى تواجده في هذه العصور من عدمه، فسنجد أن النبي صلى الله عليه وسلم قد أخبر بالوحي عن تواجد الشرك في عصرنا، وأن هذه الأمة ستقع في هذه العادات الجاهلية، كاتخاذ التمائم والتعاليق؛ لدفع الضر وجلب المنفعة، وإن كانوا لا يعتقدون أن النفع والضر من هذه التمائم، وأن النافع والضار هو الله، لكنهم يتخذونها سبباً للنفع.

    ومثال ذلك: الخرز الأزرق الموجود الآن الذي يعلق في رقاب الأطفال، وقد يعلقون الشيء من القرآن مخلوطاً بغيره، ويعلقون على الأبواب النجمة ويقولون: إن هذه النجمة تدفع العين، وأيضاً نعل الفرس يجعلونه على الأبواب، أو نعلاً صغيراً يجعلونه في مقدمة السيارة وخلفها، وكل هذه واقع مشاهد، فقد عاد الشرك من الجاهلية إلى عصرنا هذا كما كان في الجاهلية، وهذا نوع من الشرك؛ لأن فيه ميل القلب لغير الله جل في علاه، ومحوٌ لمسألة التوكل الذي هو قمة التوحيد، وحكم من علق تميمة من القرآن أو من غير القرآن سنأتي إلى الكلام عليه إن شاء الله.

    1.   

    حكم تعليق التمائم

    أما من يعلق التميمة من الخرز وغيره لدفع العين ودفع الحسد عن المولود، فلا يقال: إنه يكفر كفراً يخرجه من الملة، ولا يقال: إنه قد فعل فعلاً من أفعال الجاهلية، لكنه على الإسلام، وهو جاهل لذلك، بل إن المسألة فيها تفصيل، فيقال: إن كان يعتقد أنها تنفع بذاتها أو تضر بذاتها فهذا من الشرك الأكبر، أي: لو قال: إن الخرز أو الودعة التي توضع في عنق الطفل تدفع الحسد والعين بذاتها فهذا شرك أكبر؛ لأنه قد اعتقد في غير الله ما لا يعتقد إلا في الله، فإن النافع والضار هو الله، قال الله تعالى: وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ [يونس:107]، وقال الله تعالى أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ [الزمر:36].

    وقد بين تعالى أن قمة التوكل أن يعلم الإنسان أن النافع والضار هو الله، فقال تعالى: الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ [آل عمران:173]، ثم قال تعالى: فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ [آل عمران:174]، وقال ابن عباس: (حسبنا الله ونعم الوكيل قالها إبراهيم حين ألقي في النار، وقالها محمد صلى الله عليه وسلم حين قالوا له: إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً [آل عمران:173]، فإذا انقلب القلب من التوكل على الله جل في علاه، إلى التوكل على الخرز والودعة وغيرهما فقد اعتقد في غير الله ما لا يعتقد إلا في الله، وهذا شرك أكبر، ومنه الذبح على السيارة أو على مكائن المصنع؛ ليستجلب بها الرزق، ويبعد النحس، فهذا أيضاً شرك أكبر في الربوبية، ويمكن أن يقال: إنه شرك في الإلهية، فإن الله هو الذي يجلب الرزق، وهو الذي يمنعه سبحانه وتعالى، وهو شرك في الإلهية من حيث إنها عبادة صرفت لغير الله، لكن قد يقال: تعليق الخرز أو النعل ليس فيه صرف للعبادة إلى غير الله، وذلك لا يلبس على نقاء هذه العقيدة الصافية، وهي عقيدة النبي صلى الله عليه وسلم، وعقيدة صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن الله قال عن هذه العقيدة: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ [الحجر:9]، وهذه العقيدة حفظها الله جل في علاه، ويخلق لها أناساً يحفظونها، كـأحمد بن حنبل الذي قام مقام الأمة بأسرها عند فتنة القول بخلق القرآن، ووجد علماء ألبوا على الإمام أحمد المعتصم والمأمون والواثق، فهؤلاء ثلاثة خلفاء عاصرهم الإمام أحمد بن حنبل وهو يقف صابراً محتسباً؛ لتصحيح هذه العقيدة، وهذه العقيدة تصاب الآن بشرك في الربوبية وشرك في الإلهية، فعلى كل طالب علم أن يعرف ذلك، حتى لا يلبس عليه الملبسون.

    وجود الشرك في هذه الأمة

    لو قال متنطع: لا يوجد شرك في هذه الأمة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد قال: (إن الشيطان قد أيس أن يعبد في جزيرة العرب)، وإذا أيس من الشرك بقيت له المعاصي فقط. والرد على هذا الكلام أن يقال: هذا الحديث حديث مختلف في إسناده، فبعض رواته حديثهم حسن، وبعضهم ضعفاء، فالضعف فيه محتمل، والنبي صلى الله عليه وسلم قد وجد عمران بن حصين وعليه حلق من حديد فقال له: (ما هذه؟ قال: هذه من الواهنة -يعني: هذه تدفع عني الوهن، هذا مع أنه تربى على مائدة رسول الله صلى الله عليه وسلم- فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: انزعها، فإنها لا تزيدك إلا وهناً، ثم قال له: فإن مت وهي عليك ما أفلحت أبداً) فنفى عنه الفلاح، وأيضاً قال بعض الصحابة للرسول صلى الله عليه وسلم: اجعل لنا ذات أنواط، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (الله أكبر إنها السنن، قلتم ما قال أصحاب موسى لموسى: اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة)، فكيف يقول أحد: أنه لا يوجد شرك في هذه الأمة؟!

    وقد قلنا: إن الاعتقاد في الخرز أنها تدفع الضر وتجلب المنفعة، أنه شرك في الربوبية كما بينا، وهو أيضاً شرك في الإلهية، فهو قد أشرك في الربوبية لأنه اعتقد في الجمادات ما لا يعتقد إلا في الله، وهذا اعتقد في الخرز والنعل دفع الضر وجلب النفع، وذلك لا يكون إلا لله، فهذا الوجه الأول لكون هذا العمل شركاً، وشرك الربوبية يستلزم الشرك في الألوهية.

    والوجه الثاني: أن التوكل على غير الله جل في علاه يعتبر شركاً، والتوكل أمر خفي، إذ أن المرء إذا تعلق قلبه بغير الله فقد توكل على غير الله جل في علاه، حيث يخاف من غير الله جل في علاه، أو يرجو غير الله جل في علاه، وإذا علق التميمة وقلبه معلق بها ونزعت فسيكون خائفاً وجلاً؛ لأن المانع له من هذه الأخطار قد نزع، وهذا تعلق للقلب بغير الله جل في علاه.

    إذاً: الوجه الأول: استلزام الربوبية للإلهية، والوجه الثاني: تعلق القلب بغير الله جل في علاه.

    فإن اعتقد في غير الله ما لا يعتقد إلا في الله، فقد أشرك شركاً أكبر، وأما إذا كان يعتقد أن الله هو النافع والضار، وأن الذي يجلب الخيرو يدفع الضر هو الله، وإنما وضع هذه الخرزة أو نحوها لدفع العين ودفع المرض، فيكون شركاً أصغر؛ لأنه اتخذ سبباً لم يشرعه الله جل في علاه لا شرعاً ولا قدراً، فكونه اتخذ سبباً لم يجعله الله سبباً، ولم يشرعه الله جل في علاه سبباً، فكأنه أشرك مع الله غيره، ولكن هذا شرك أصغر؛ لأنه وسيلة إلى الشرك الأكبر، ولقول الله تعالى: أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ [الشورى:21]، وكثير من الناس إن لم يكونوا كلهم يفعلون ذلك، فيميلون ميلاً لهذه التمائم والرقى، وسنبين أن القلب أيضاً يميل لتمائم من القرآن، فالأمة تدور إما بين شرك أكبر أو شرك أصغر، وإن كان الشرك الأكبر منتفٍ؛ لأننا لا يمكن أن نظن في مسلم أنه يعتقد في غير الله ما لا يعتقد إلا في الله، بل إن العامي الذي يعلق التميمة على الولد الصغير لو قلت له: هل هذه تنفع وتضر؟ لقال: إن النافع الضار هو الله، لكننا وجدنا من قبلنا يقولون: إن هذه سبب لدفع البلاء واستجلاب النفع، ولذلك فإنهم غارقون في الشرك الأصغر.

    تعليق التمائم من القرآن والخلاف فيها

    إن القرآن شفاء للناس بنص كلام الله جل في علاه إذ قال: وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ [الإسراء:82]، فإذا جاء رجل وقال: إن ابني يصرع دائماً، ولا يلتقم ثدي أمه، والقرآن شفاء كما قال الله تعالى: وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ [الإسراء:82]، فقام هذا الرجل وكتب آية الكرسي؛ لأنها شديدة على الشيطان، ثم علقها ويجعلها في عنق ابنه، أو يد ابنه، فهل هذه التميمة تدخل في التمائم المحرمة، أم هي تميمة من التمائم الجائزة؛ لأن القرآن كله شفاء؟

    هذه المسألة لا نحجر واسعاً فيها، فقد حصل الخلاف فيها بين السلف الصالح، فبعضهم يقول: يجوز، وبعضهم يقول: لا يجوز، وقال بالجواز جم غفير منهم: عبد الله بن عمرو بن العاص وهو قول عائشة رضي الله عنها وأرضاها، وكثير من الصحابة، وهو ترجيح شيخ الإسلام ابن تيمية وابن القيم وابن حجر العسقلاني، فكل هؤلاء يقولون بجواز كتابة التميمة من القرآن وجعلها على عنق الولد للشفاء أو لدفع الضر أو العين، ويستدلون على ذلك بعدة أدلة منها: عموم قول الله تعالى: وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ [الإسراء:82]، ويستدلون أيضاً بمفهوم المخالفة في قول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الرقى والتمائم والتولة شرك)، ويقولون: إن كانت كل تميمة شركاً فهي محرمة، وإن لم تكن شركاً فهي مباحة، والقرآن ليس بشرك بل هو كلام الله جل في علاه.

    ويستدلون أيضاً بقول عائشة رضي الله عنها وأرضاها: أن التمائم حرمت قبل نزول القرآن تعني: أنه بعدما نزل القرآن الذي هو شفاء للناس أبيحت التمائم.

    واستدلوا أيضاً بما أُسند إلى عبد الله بن عمرو بن العاص أنه كان يكتب دعاء الفزع الذي علمه النبي صلى الله عليه وسلم له، والذي رواه عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه علمه هذا الدعاء: (أعوذ بكلمات الله التامات من شر غضبه وعباده)، فكان عبد الله يعلمه للكبير من أولاده، وإن كان الولد صغيراً لا يقدر أن يعلمه كتبه في ورقة، ويجعل تلك الورقة معلقة على رقبة ذلك الطفل.

    قالوا: وهذه الأدلة الكثيرة وقعت على مرأى ومسمع من الصحابة، فيدل ذلك على أن النبي صلى الله عليه وسلم علم ذلك ولم ينكره، ولو جيء بالمصحف الصغير وعلقه على السيارة صح على قولهم، ولو أتى بآية الكرسي وعلقها على الحائط دفعاً للعين فهذه أيضاً جائزة على قولهم، ولو وضع على باب البيت ورقة مكتوبة فيها: قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ * مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ [الفلق:1-2] جاز ذلك؛ لأنه يعتقد أنها سبب لدفع العين ودفع الحسد على قول هؤلاء.

    القول الثاني: وقد تزعم هذا القول ابن مسعود رضي الله عنه وأرضاه، وجمع غفير من الصحابة كـابن عباس حبر الأمة وترجمان القرآن، ورجحه ابن العربي وغيره من المحققين من السلف، فكل هؤلاء يقولون: إن هذه التمائم حرام، وعندهم أدلة كثيرة على ذلك، منها:

    عموم الأحاديث كقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من تعلق تميمة فقد أشرك) و(من) هنا نكرة في سياق الشرط فتفيد العموم، وفي سياق الإثبات تفيد الإطلاق، وهناك فرق بين العام والمطلق، فالعام: هو الذي يعم جميع أفراده، وأما المطلق فهو الذي يقصد بالحكم فرداً من أفراده لا معيناً، كأن أقول: أكرم طالباً، وعندي من الطلبة محمد وأحمد وسمير وعزيز وكريم ومجيد مثلاً، فلو قلنا: أكرم طالباً، فهو مطلق، لأننا لو أكرمنا أي واحد منهم فقد وقع الحكم.

    وأما العام كأن يقال: أكرم الطلبة، فلو أكرمت محمداً وعزيزاً وسميراً ولم أكرم مجيداً لم أكن قد حققت الحكم، بل لا بد من إكرام الكل، فهذا هو الفرق بين العام والمطلق، فالنكرة في سياق الإثبات تفيد الإطلاق ولا تفيد العموم.

    فهذا الحديث استدل به هؤلاء على العموم؛ إذ أن النكرة في سياق الشرط عند علماء الأصول تفيد العموم، فـ(من) من الأسماء الشرطية، أي: فلو علق أحد أي تميمة سواء من القرآن أو من غير القرآن فقد وقع في الشرك، وهذا عام لا مخصص له، فلا يوجد دليل من أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم يخصص هذا، فلم يأت أن النبي صلى الله عليه وسلم جاء إلى مريض من المرضى فقال: اكتبوا له القرآن فإنه شفاء، وعلقوه على صدره.

    ويستدلون أيضاً بعموم قول النبي صلى الله عليه وسلم (إن الرقى والتمائم والتولة شرك)، والتمائم اسم جنس معرف بالألف واللام، فيفيد العموم، سواء التمائم من القرآن أو من غيره. واستدلوا أيضاً بسد الذرائع، فإن من مقاصد الشريعة سد الذريعة التي تصل بالإنسان إلى المحرم، فالله جل وعلا حرم على الإنسان أن ينظر للمرأة؛ لأن النظر إلى المرأة وسيلة إلى الزنا، فسد الله هذه الذريعة وقال: قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ [النور:30]، وقد سد النبي ذريعة الشرك، وحافظ على جناب التوحيد بقوله صلى الله عليه وسلم للرجل الذي قال: (من يطع الله ورسوله فقد وشد، ومن يعصهما فقد غوى)، مع أن الكلام صحيح، لكن النبي صلى الله عليه وسلم سدا لذريعة الشرك، وحتى لا يساوى النبي بالله جل في علاه، قال له: (بئس خطيب الأمة أنت، أجعلتني لله نداً)، ولما قالوا له: أنت سيدنا، قال: (إنما السيد الله)، مع أن النبي صلى الله عليه وسلم حقاً هو السيد، لكن سداً للذريعة وحسماً للمادة منع ذلك.

    وهؤلاء قالوا: إذا قلنا بجواز التميمة التي فيها شيء من القرآن فإننا نكون قد فتحنا الباب ليختلط القرآن بغيره، فسيأتي المشعوذون والدجالون وما أكثرهم، ويكتبون آيات من القرآن، ويدخلون في ذلك طلاسم لا تعرف، فيختلط الحق بالباطل، وكثير من الناس لا يعرف الحق من الباطل.

    واستدلوا كذلك بأن قالوا: لو كان خيراً لسبقنا إليه السلف.

    ثم ردوا على ما استدل به الأولون وقالوا: الحديث الذي أسند إلى عبد الله بن عمرو بن العاص حديث ضعيف، ولا حجة لكم فيه، إذ الأحكام مناطة بالصحيح.

    وأما قول عائشة فهو تفسير منها، وهذا التفسير إذا خالف فعل النبي صلى الله عليه وسلم وفعل الصحابة فلا يؤخذ به؛ لأن الحجة بالرواية لا بالاجتهاد والرأي، والقياس هنا ممنوع؛ لأنه قياس فاسد الاعتبار ومصادم لعموم قول النبي صلى الله عليه وسلم (من تعلق تميمة فقد أشرك).

    فهذا قولان، ولهما أدلة، والمسألة العلمية هذه لا نأتي فيها بقول واحد ونحجر غيره، فبالإنصاف نصل إلى الأقرب والصواب، ولكن الراجح في ذلك والله تعالى أعلم القول الثاني أن هذا حرام خلافاً لشيخ الإسلام ابن تيمية ، وخلافاً لـابن القيم ، وخلافاً للشيخ ابن عثيمين ، ولا يجوز بحال من الأحوال أن يعلق المرء التمائم ولو كانت قرآنا، لا على الإنسان، ولا على حائط الباب أو الجدران أو غيرها، وحتى المرأة لا يجوز أن ترتدي السلسلة أو الخاتم أو الأسورة المكتوب فيها آية من آيات القرآن، وكثير من النساء يفعلن ذلك، وهو محرم؛ لأنه من التمائم، والدليل على التحريم ما قلناه من عموم نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن التميمة، وأنه قال (من تعلق تميمة فقد أشرك)، وكثير من الناس تراه لو كان معلقاً آية الكرسي، ثم قطعت منه تلك السلسلة؛ فترى عليه الهم والغم؛ لأن المانع عنده من الهم والغم قد قطع، وكأن قلبه يميل إليه، فالصحيح الراجح سداً للذريعة وحسماً لمادة الشرك: أن نقول بحرمة ذلك؛ لأنه سيجر إلى وسائل الشرك، ونحن مأمورون بسد ذرائع الشرك، وينسحب هذا الحكم على السلاسل وإن كانت للزينة، وبعضهم يعلق آية الكرسي على الباب ويقول: أنا أعلقها لكي يراها كل من دخل، فيذكر الله، وهذا من تلبيس إبليس، فإن ذلك قد يجرء إلى امتهان القرآن، وإذا علقته على صدر الطفل فإنه لابد أن يدخل به الخلاء، ويعرضه للأقذار، فلا بد أن نترفع عن ذلك ونقول بالحرمة.

    1.   

    خطر الشرك الأصغر والأكبر

    إن التعاليق والتمائم كانت من عادات الجاهلية، إذ يعتقدون في الخرز والحجر والصنم والشجر أنها تدافع الضر وتجلب المنفعة، ولا يعتقدون في الله جل في علاه ذلك، ثم جاء على ركابهم أهل الإسلام بعدما اندثر العلم، وطمس البيان من قول النبي صلى الله عليه وسلم، ومن فعله وفعل الصحابة رضوان الله عليهم، فانتشر ذلك في الأمة مرة ثانية، وأصبح الناس يعتقدون في غير الله مالا يعتقد إلا في الله، أو يتخذون أسباباً لم يشرعها الله جل في علاه، ولذلك فنحن بصدد تبيين هذه المسائل؛ لأن هذه المسائل من الأهمية بمكان، والإنسان إذا لم يوحد الله جل في علاه توحيداً خالصاً غير مشوب بشرك فلن ينجو عند ربه جل في علاه، قال الله تعالى: الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ [الأنعام:82]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم لمن فعل ذلك: (لو مت وهي عليك ما أفلحت أبداً)، فهذا يستدل به على أن الشرك الأصغر لا يغتفر، فالرجل الزاني أو شارب الخمر أو السارق لا يداني من أقسم بغير الله، بل الذي يقسم برحمة أمه، أو يقسم بالتراب الغالي، ويقسم بقبر فلان ونحوه هو عند الله أعظم جرماً من الزاني وشارب الخمر.

    ونحن اليوم كثيراً ما نسمع من يحلف بأمه، أو يحلف بأبيه، ويقول: الأمر هين، فعليه أن يصحح عقيدته، فهذا الذي يقسم بغير الله جل في علاه هو عند الله أعظم جرماً من الزاني والسارق وشارب الخمر، والدليل على ما قلت قول الله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ [النساء:48]، فقد بين أنه لا يغفر إشراكاً به، وإشراك نكرة في سياق النفي فيفيد العموم، فيدخل فيه الشرك الأكبر والشرك الأصغر، فالشرك الأصغر لا يغفر، بل يعذب صاحبه إذا لم يأت إلى ربه في عرصات يوم القيامة تائباً، والدليل على ذلك هذا الحديث المختلف في صحته أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لبعض الصحابة: (انزعها فإنها لا تزيدك إلا وهنا)، ثم قال له: (إن مت وهي عليك ما أفلحت أبداً)، وعمران بن حصين هنا عندما لبس تلك الحلقة لم يكن يعتقد عند لبس الحلقة أنها تدفع عنه الضر أو تجلب له النفع، بل كان يعتقد أن الله هو الذي ينفع ويضر، ولكن اعتقد أن هذه الحلقة سبب للشفاء، وهذا نوع من أنواع الشرك الأصغر، فالنبي صلى الله عليه وسلم مع علمه أن هذا من الشرك الأصغر قال له: (ما أفلحت أبداً)؛ لأن الشرك الأصغر لا يغتفر، بل لا بد أن يعذب صاحبه، فانظروا إلى هذه الخطورة في الشرك الأصغر، فعلى الإنسان أن يصحح عقيدته، ويتعلم التوحيد الخالص وما ينافيه من الشرك؛ حتى يمثل أمام ربه جل في علاه بقلب سليم وبتوحيد خالص سالم من الشرك.

    أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، ونسأل الله جل وعلا أن ييسر لنا الخير.

    سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    755989338