إسلام ويب

تفسير سورة الزلزلة والعاديات القارعةللشيخ : محمد إسماعيل المقدم

  •  التفريغ النصي الكامل
    1.   

    تفسير سورة الزلزلة

    تفسير قوله تعالى: ( إذا زلزلت الأرض زلزالها..) إلى قوله: (يومئذٍ يصدر الناس أشتاتاً) ليروا أعمالهم )

    سورة الزلزلة هي السورة التاسعة والتسعون، قال ابن كثير : مكية. ورجح السيوطي أنها مدنية. وآيها ثمان. بسم الله الرحمن الرحيم إِذَا زُلْزِلَتِ الأَرْضُ زِلْزَالَهَا [الزلزلة:1]. الزلزال: هو الحركة الشديدة بسرعة، ومما يدل على تركب معنى كلمة: (الزلزال) من الحركة الشديدة والسرعة، تكرار الحروف في كلمة: (الزلزال) وكذلك أيضاً ( التضعيف) يدل على هذه الشدة. يقول القاسمي رحمه الله تعالى: إِذَا زُلْزِلَتِ الأَرْضُ زِلْزَالَهَا ، أي: أصابها ذلك الزلزال الشديد، والاهتزاز الرهيب، فالإضافة للتفخيم أو الاختصاص. أي: الزلزال المخصوص بها، وهي الرجة التي لا غاية وراءها. والأقرب الأول، أي: أن هذه الإضافة للتفخيم، بدليل قوله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ [الحج:1]. وقرئ بفتح الزاي: إِذَا زُلْزِلَتِ الأَرْضُ زَلْزَالَهَا ، وقد قيل: هما مصدران، وقيل: المفتوح اسم، والمكسور مصدره وهو المشهور. قوله تعالى: وَأَخْرَجَتِ الأَرْضُ أَثْقَالَهَا [الزلزلة:2]، أي: قذفت ما في باطنها من كنوز ودفائن وأموات وغير ذلك؛ لشدة الزلزلة وتدفق ظهرها كقوله تعالى: وَإِذَا الأَرْضُ مُدَّتْ * وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ [الانشقاق:3-4]. فالأثقال هنا في قوله: وَأَخْرَجَتِ الأَرْضُ أَثْقَالَهَا بمعنى: موتاها وكنوزها، أو تكون بمعنى: التحدث بما عمل عليها الإنسان. وأرجح هذه الأقوال -والله تعالى أعلم- هو أن هذه الأثقال هي الموتى، فتخرج الأرض موتاها، بدليل قوله تعالى: أَلَمْ نَجْعَلِ الأَرْضَ كِفَاتًا * أَحْيَاءً ?وَأَمْوَاتًا [المرسلات:25-26]. وأيضاً: إخراج الكنوز إنما يكون قبل النفخة، فحينما يخرج الدجال يقول للأرض: أخرجي كنوزك؟ فتخرج الكنوز تتبعه، أما التحدث بالأعمال فهو منصوص عليه في نفس السورة فالأرجح أن أثقالها: موتاها، والله تعالى أعلم. والأثقال: جمع ثَقَل -بفتحتين- وهو متاع المسافر وكل نفيس مصون، وإذا قلنا: ثِقَل؛ فيكون بمعنى: حمل البطن؛ لأنه يسمى ثِقَل، بدليل قوله تعالى: فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا [الأعراف:189]. قوله تعالى: وَقَالَ الإِنسَانُ مَا لَهَا [الزلزلة:3]، فيه دليل على أن هناك أناس أحياء في ذلك الوقت يشهدون ذلك الزلزال، فيقول من يكون من الناس مشاهداً لهذا الزلزال المفاجئ المدهش، الذي لم يحدث مثله: ما لهذه الأرض رُجّت هذه الرجّة الهائلة وبَعثر ما فيها من الأثقال المدفونة؟! قوله: (وقال الإنسان) سواء كان مؤمناً أو كافراً، بدليل قوله تعالى: وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ الأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنسِلُونَ * قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ [يس:51-52]. وقيل في قوله: وَقَالَ الإِنسَانُ مَا لَهَا ، أي: الإنسان الكافر، أما المؤمن فهو لا يُعذب؛ لأنه يؤمن أن هذا ما وعد الرحمن وصدق المرسلون، فلم يكن أمراً جديداً عليه. قوله: يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا [الزلزلة:4]، كلمة (يومئذٍ) بدل من (إذا) أي: في ذلك الوقت (( تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا )) أي: تخبر بما عمل على ظهرها. قال القاسمي: أي: تبين الأرض بلسان حالها ما لأجله زلزالها وإخراج الأثقال منها، فتدل دلالة ظاهرة على ذلك. وهذا أيضاً من التأويل الغريب! فما الذي يستبعد أن الأرض تنطق وتحدث بما عمل على ظهرها؟! وما الذي يمنع من ذلك؟! فيكون معنى: (( تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا )) أي: بما عمل على ظهرها، وهذا ليس ببعيد في قدرة الله تبارك وتعالى. قوله: بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا [الزلزلة:5]، الباء هنا سببية متعلقة، أي: أن الأرض تحدث بسبب إيحاء ربك لها، وأمره إياها بالتحديث. قال القاسمي : الإيحاء استعارة أو مجاز مرسل ليس المقصود ظاهره. وهذا أيضاً كلام غير مقبول، فالله سبحانه وتعالى يمكن أن يوحي للأرض كما أوحى إلى النحل: وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ [النحل:68]. قوله تعالى: يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ [الزلزلة:6]، أي: ينصرفون من مراقدهم إلى مواطن حسابهم وجزائهم، متفرقين إلى سعداء وأشقياء، فقوله: (( يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا )) مثل قوله تعالى: يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ [الروم:43]، ومثل قوله: يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ [الروم:14]. قوله: (لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ) أي: ليريهم الله جزاء أعمالهم.

    تفسير قوله تعالى: ( فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره ... )

    قال تعالى: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه [الزلزلة:7]، أي: فمن عمل في الدنيا وزن ذرة في الخير يرى ثوابه هنالك، والذرة: النملة الصغيرة، وهي مَثَلٌ تضربه العرب في كل ما هو صغير ودقيق، وقيل: الذر هو الهباء الذي يرى في ضوء الشمس إذا دخلت من النافذة، فينعكس ضوء الشمس على الذر الدقيق جداً. وبعض الناس ممن يستغرقون في التفكير العلمي يفخرون بأن القرآن دل على أن الذرة تنقسم، واستدلوا بالآية: وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ ، حيث زعموا أن فيها إشارة إلى الذرة، كما في سورة سبأ ويونس. لكن هذا الكلام لا يسلم لهم؛ لأن المعهود والمعروف عند العرب من كلمة (ذرّة) أنها النمل الصغير، أو هذا الهباء، والعرب لم يقصدوا بكلمة (ذرّة) أنه الجزء الذي بتجمعه تكون الجزيئات، بل هذا اصطلاح علمي حادث. فلا يجوز محاكمة القرآن أو فهم القرآن في ضوء ما حدث من الاصطلاحات، إنما نفهمه على لغة العرب، ولا نربط القرآن بمثل هذا الكلام، ونزعم أن القرآن جاء بهذا أو دل على أن الذرة تنقسم بدليل قوله: وَلا أَصْغَرَ ، فالآية تعني أن هناك ما هو أصغر من الذرة، وأما ذاك التفسير فإنه من التعمق والتوسع في الربط بين القرآن وبين الاكتشافات العلمية. قوله تعالى: وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه [الزلزلة:8]، أي: ومن كان عمل في الدنيا وزن ذرة من شر فإنه يرى جزاءه ثمة، أي: هناك. قال السيوطي في الإكليل: في هاتين الآيتين الترغيب في قليل الخير وكثيره، والتحذير من قليل الشر وكثيره، فعن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه قال: هذه الآية أحكم آية في القرآن، وفي لفظ: أجمع آية في القرآن، وسمى رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية: الجامعة الفاذّة. ففي الصحيح: (أنه صلى الله عليه وسلم لما سئل عن زكاة الحمر وسكت عن البغال ...) والجواب فيهما واحد؛ لأن البغل والحمار لا كر فيهما ولا فر، فلما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم ما في الخيل من الأجر الدائم والثواب المستمر سأله السائل عن الحمر؛ لأنه لم يكن عندهم يومئذٍ بغال ولا دخل الحجاز منها إلا بغلة النبي صلى الله عليه وسلم التي كانت تسمى (الدلدل) والتي أهداها إليه المقوقس، فأفتاه في الحمير بعموم الآية، وأن في الحمار مثاقيل ذر كثيرة، وسياق الحديث كان في الخيل، وثواب المجاهد في الخيل وما كان عليها من حبل وما خرج منها من روث كذلك يكون في ميزان حسنات المجاهد.. إلى آخره. فسأله الرجل عن الحمير فأفتاه بعموم الآية، كما جاء في الحديث قال له: (ما أنزل الله فيها شيئاً إلا هذه الآية الجامعة الفاذة: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه [الزلزلة:7-8]). فإذا كان من يعمل مثقال ذرة خيراً يره، ومثقال ذرة شراً يره، فكم في الحمار من مثاقيل الذر؟! فلو أن إنساناً عنده حمار يستعمله في الخير فإن له أجراً على قدر ذلك. فالشاهد هو: الاستدلال بعموم هذه الآية وأنه لم يخص الحمار بشيء معين، فهذا ينطبق على أي شيء قابل لأن يكون معيناً للإنسان على الخير أو على الشر، كل بحسبه. وفي الموطأ: أن مسكيناً استطعم عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها وبين يديها عنب، فقالت لإنسان: خذ حبة فأعطه إياها، فجعل ينظر إليها ويتعجب، فقالت: أتعجب! كم ترى في هذه الحبة من مثقال ذرّة؟! وروي عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه أنه تصدق بتمرتين، فقبض السائل يده، فقال للسائل: ويقبل الله منا مثاقيل الذر، وبالتمرتين مثاقيل ذر كثيرة. قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (ليتق أحدكم النار ولو بشق تمرة)، فهذا الذي أتيح له أنه يتصدق له بتمرتين، لكن السائل استنكف أن يأخذ تمرتين! مع أن ربنا قال: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ [الزلزلة:7]، فكم فيها من مثاقيل الذر؟! وروى الإمام أحمد والنسائي في الكبرى عن صعصعة بن معاوية عم الفرزدق : (أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم، فقرأ عليه: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه.. إلى آخر السورة، قال: حسبي لا أبالي ألّا أسمع غيرها).

    1.   

    تفسير سورة العاديات

    تفسير قوله تعالى: ( والعاديات ضبحاً .... فوسطن به جمعاً )

    سورة العاديات هي السورة الثلاثون، وآيها إحدى عشرة. بسم الله الرحمن الرحيم وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا * فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا * فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا [العاديات:1-3] هذا قَسَمٌ بخيل الغزاة التي تعدو نحو العدو لتهاجمه، وأثناء هذا العَدْو تضبح، والضَبْح: صوت أنفاسها إذا عَدَتْ، وليس المراد هنا: الصهيل؛ لأن الخيول لها حالتان: حالة الصهيل: وهو الصوت العادي المعروف. أما الضَبْح فهو صوتها عند النزال حيث تلهث أثناء الجري للعدو، فتصدر الصوت المسموع عند الشهيق والزفير. قوله تعالى: فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا [العاديات:2] أي: أن هذه الخيول توري النار بحوافرها، والقدح هو الضرب لإخراج النار، والإيراء يترتب عليه؛ لأنه إخراج النار وإيقادها، فإيراؤها ما يرى من صدم حوافرها للحجارة وهي تعدو، لا سيما إذا اصطدمت بالصخور، فذلك يُخرج شرارة أو ناراً، وتسمى: نار الحداحد، ولما كان هذا مرتباً على عدوها عطفه بالفاء بقوله: فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا . قوله تعالى: فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا [العاديات:3] أي: تُغِيْر على العدو في وقت الصبح، يقال: أغار على العدو، إذا هجم عليه ليقتله أو يأسره أو يسترد منه ماله، فهذا وصف للخيل بالغاية التي جهزت لها، أي: أنها تعدو ويشتد عَدْوها حتى يخرج الشرر من حوافرها؛ لتهجم على العدو وقت الصباح، وهو وقت المفاجأة حينما يكون العدو على غير أُهْبة، وهذا أفضل وقت يُغار فيه على العدو. قوله تعالى: فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا [العاديات:4] أي: فَأَهَجْن في ذلك الوقت غباراً، وهو مأخوذ من الإثارة، وهي التهييج وتحريك الغبار حتى يرتفع. والنقع الغبار، وورد بمعنى الصياح، فجوز إرادته هنا، بمعنى صياح من هوجم عليه وأوقع به، لا صياح المغير المحارب، لكن الأول الأقرب. قال الشهاب : وذِكْرُ إثارة الغبار إشارة إلى شدة العَدْو وكثرة الكر والفر، وتخصيص الصبح هنا؛ لأن الغارة كانت معتادة فيه، أي: لمباغتة العدو، والغبار إنما يظهر نهاراً وليس ليلاً. قوله تعالى: فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا [العاديات:5] أي: فتوسطن ودخلن في وسط جمع من الأعداء ففرّقنه وشتتنه.

    تفسير قوله تعالى: ( إن الإنسان لربه لكنود وإنه لحب الخير لشديد)

    قال الله سبحانه وتعالى: إِنَّ الإِنسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ [العاديات:6]، هذا هو جواب القسم. قوله: (كنود) أي: كفور، يكفر نعمة الله ولا يشكرها، أي: لا يستعملها فيما ينبغي ليتوصل بها إليه. قال المهايمي : إِنَّ الإِنسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ أي: لكفور، فيوجب قتاله بهذه الخيول، وقهره بهذا الغضب. يعني: بما أنه كفور؛ فإنه يستحق أن يسلّط الله عليه المجاهدين ليقهروه بهذه الخيول وبهذا الغضب؛ لأنه كنود كفور، إذ كفر بالله سبحانه وتعالى وبنعمه. وعن أبي أمامة قال: الكنود الذي يأكل وحده، ويظلم عبده، ويمنع رفده. قوله تعالى: وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ ، أي: وإن الإنسان على كفره وجحوده لشهيد، يشهد على نفسه به؛ لظهور أثره عليه، فالشهادة مستعارة لظهور آثار كفره وعصيانه بلسان حاله. قوله تعالى: وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ [العاديات:8]، أي: وإنه لحب المال والدنيا وإيثارها لقوي، والخير: المال والدنيا، بدليل قوله تعالى: إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ [البقرة:180]، فيطلق الخير على المال؛ لأن الأصل في المال أنه خير، فيستعان به على طاعة الله، وهو في حُب تقوى الله وشكر نعمته ضعيف متقاعس. قوله: (لحب) لو قلنا: إن اللام للتعليل، فيكون المعنى: وإنه لأجل حب المال (لشديد) أي: لبخيل، فلذلك يحتجب به غارزاً رأسه في تحصيله وحفظه وجمعه ومنعه، مشغولاً به عن الحق معرضاً به عن جلاله .

    تفسير قوله تعالى: (أفلا يعلم إذا بعثر ما في القبور..) إلى قوله: (إن ربهم بهم يومئذٍ لخبير)

    قال تعالى: أَفَلا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ [العاديات:9] أي: بعد هذا الاحتجاج ومخالفة العقل، أفلا يعلم بنور فطرته وقوة عقله، (إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ)، أي: بُعث وأُثير ما في القبور وأُخرج موتاها، وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ [العاديات:10]، أي: أُظهر وأُبرز ما في صدورهم ونفوسهم من أسرارهم ونيّاتهم المكتومة، مع ما فيها من خير أو شر. قوله تعالى: إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ [العاديات:11]، أي: عالم بأسرارهم وضمائرهم وأعمالهم، فيجازيهم عليها يومئذٍ، وهنا نلحظ تقديم الظرف، فلم يقل: (لخبير يومئذ) وإنما قال: (يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ)، إما لمكان نظم السجع ورعاية الفواصل، أو للتخفيف لوقوع علمه تعالى كناية عن معجزاته وإنما تكون يومئذٍ. قال الرازي : قوله تعالى: (وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ)، خصّ هُنا أعمال القلوب بالتحصيل دون أعمال الجوارح؛ لأن أعمال الجوارح تابعة لأعمال القلوب، فإنه لولا البواعث والإرادات في القلوب لما حصلت أفعال الجوارح؛ ولذلك جعلها تعالى هي الأصل في الذم، فقال: آثِمٌ قَلْبُهُ [البقرة:283]، وهي كذلك الأصل في المدح كما في قوله تعالى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ [الأنفال:2].

    1.   

    تفسير سورة القارعة

    تفسير قوله تعالى: (القارعة ما القارعة..) إلى قوله: (وتكون الجبال كالعهن المنفوش)

    سورة القارعة هي السورة الواحدة بعد المائة، وهي سورة مكية، وآيها إحدى عشرة آية. بسم الله الرحمن الرحيم . قال الله تعالى: الْقَارِعَةُ * مَا الْقَارِعَةُ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ [القارعة:1-3]. القرع هو: الضرب بشدة واعتماد بحيث يحصل منه خوف شديد، والقارعة هي القيامة، وهذا الاسم من أسماء القيامة التي سُميت بها؛ لأنها تفزع القلوب والأسماع بهموم الأفزاع والأهوال، وتخرج جميع الأجرام العلوية والسفلية من حال إلى حال: السماء بالانشقاق والانفطار، والشمس والنجوم بالتكوير والانكدار والانكسار، والأرض بالزلزال والتبديل، والجبال بالدّك والنسف. قوله تعالى: مَا الْقَارِعَةُ [القارعة:2] (ما) مبتدأ خبره قوله تعالى: مَا الْقَارِعَةُ ، أيْ: أيّ شيء عجيب في الفخامة والفضاعة؟! قوله: (القارعة) لم يقل: ما هي؟ وإنما قال: (ما القارعة) حيث وضع الظاهر موضع الضمير تأكيداً للتهويل. قوله تعالى: وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ ، تأكيد لهولها وفضاعتها ببيان خروجها عن دائرة علوم الخلق، على معنى: أن عِظَم شأنها ومدى شدتها بحيث لا تحيط به دراية أحد حتى يدرك حقيقتها، فقوله: وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ [القارعة:3] ، أي: وأيّ شيء أعلمك بشأن القارعة؟! ولما كان هذا ينبئ عن الوعد الكريم بإعلامها أنجز ذلك بقوله تعالى: يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ [القارعة:4]، أي: هي يومٌ يكون الناس فيه كالفراش المبثوث، أي: في الكثرة والانتشار والضعف والذلة والاضطراب والتطاير إلى الداعي كتطاير الفراش إلى النار. وكلمة (يوم) إما أن تكون منصوبة بإضمار كلمة: اذكر، وكأنه قيل بعد تفخيم أمر القارعة، وتشويقه عليه الصلاة والسلام في معرفتها، فيكون تقدير الكلام: اذكر (يوم يكون الناس كالفراش المبثوث). قوله: وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنفُوشِ [القارعة:5]، أي: كالصوف المندوش في تفرق أجزائها وتطايرها في الجو، ولما كان من المعلوم أن ذلك اليوم هو اليوم الذي تبدأ فيه الحياة الآخرة، وفيها تعرف مقادير الأعمال، وما تستحقه من الجزاء رتّب عليه ما يأتي من الآيات.

    تفسير قوله تعالى: (فأما من ثقلت موازينه..) إلى قوله: (نار حامية)

    قال تعالى: فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ [القارعة:6-7]. قال ابن جرير : أي: فأما من ثقلت موازين حسناته، يعني بالموازين: الوزن، والعرب تقول: لك عندي درهم بميزان درهمك، ويقولون: داري بميزان دارك، ووزن دارك يراد حذاء دارك. قال الشاعر: قد كنتُ قبل لقائكم ذا مرة عندي لكلّ مخاصمٍ ميزانُهُ يعني: كلامه وما ينقض عليه حجته، وكان مجاهد يقول: ليس ميزان إنما هو مَثَل يُضرب. وعليه: فهو كالموازين، جمع ميزان. وجوز كونه جمع موزون، وهو العمل الذي له أثر ووزن عند الله تعالى، والأرجح المعنى الأول إثباتاً لحقيقة الميزان؛ لأن هذا من عقائد أهل السنة، وهي أننا نعتقد ثبوت الميزان، وأن هناك ميزان توزن فيه الأعمال، كما ثبت ذلك في الأحاديث، فكان لائقاً أن يشار إلى هذا الاعتقاد، لا أن يُحام حول هذه المعاني اللغوية بما يفهم في أنه لا يوجد ميزان حقيقي، بل هناك آيات أخرى مثل قوله تعالى: فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا [الكهف:105]، وقوله تعالى: وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ [الأنبياء:47] ولولا الحرص على الاختصار لأفردنا ذلك ببحث مستقل نبين فيه الاعتقاد الصحيح في موزاين الأعمال. قوله تعالى: فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ [القارعة:7]، أي: في عيشة قد رضيها في الجنة، راضية أي: مَرضيّة. قوله تعالى: وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ [القارعة:8]، أي: وزن حسناته، فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ [القارعة:9]، أي: فمأواه ومسكنه الهاوية التي يأوي بها على رأسه في جهنم والعياذ بالله. فسمّى المأوى أُمّاً على التشبيه تهكماً؛ لأن أم الولد مأواه ومستقره، وقيل: المراد أم رأسه، أي: يُطرح في النار منكوساً على رأسه والعياذ بالله، والأول هو الموافق لقوله تعالى: وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ * نَارٌ حَامِيَةٌ [القارعة:10-11]، يعني: مأواه ومسكنه الهاوية، يقذف فيها على رأسه والعياذ بالله في الجحيم. قوله: وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ [القارعة:10]، أي: ما أدراك ما الهاوية؟ فقوله: وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ ، أصلها: (وما أدراك ما هي) كناية عن الهاوية، فأدخلت فيها هاء السكت وقفاً، وتحذف وصلاً، وقد أجيز إخفاؤها مع الوصل. وجواب هذا السؤال هو قوله: نَارٌ حَامِيَةٌ [القارعة:11].

    مواد ذات صلة

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    755997517