إسلام ويب

تفسير سورة المدثر [1-30]للشيخ : محمد إسماعيل المقدم

  •  التفريغ النصي الكامل
    1.   

    وجه الجمع بين الأحاديث في أول ما نزل من القرآن

    سنشرع بإذن الله تبارك وتعالى في تفسير السورة الرابعة والسبعين، وهي سورة المدثر، وهي سورة مكية، وعدد آياتها تسع وخمسون آية. قال ابن كثير رحمه الله تعالى: ثبت في صحيح البخاري عن جابر رضي الله تعالى عنه، أنه كان يقول: (أول شيء نزل من القرآن: يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ ) وخالفه الجمهور فذهبوا إلى أن أول القرآن نزولاً قوله تعالى: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ . وروى البخاري عن يحيى بن أبي كثير قال: سألت أبا سلمة بن عبد الرحمن عن أول ما نزل من القرآن؟ فقال: يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ ، قلت: يقولون: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ ؟ فقال أبو سلمة : سألت جابر بن عبد الله عن ذلك وقلت له مثلما قلت لي، فقال جابر : (لا أحدثك إلا ما حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: جاورت بحراء، فلما قضيت جواري هبطت الوادي فسمعت صوتاً فنظرت عن يميني فلم أر شيئاً، ونظرت عن شمالي فلم أر شيئاً، ونظرت أمامي فلم أر شيئاً، ونظرت خلفي فلم أر شيئاً، فرفعت رأسي فرأيت شيئاً، فأتيت خديجة فقلت: دثروني وصبوا علي ماءً بارداً، قال: فدثروني وصبوا علي ماءً بارداً، فنزلت: يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنذِرْ [المدثر:1-2]). وروى الشيخان أيضاً عن الزهري قال: أخبرني أبو سلمة بن عبد الرحمن عن جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنهما قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم وهو يحدث عن فترة الوحي، فقال في حديثه: (فبينا أنا أمشي إذ سمعت صوتاً من السماء، فرفعت رأسي، فإذا الملك الذي جاءني بحراء جالس على كرسي بين السماء الأرض، فجثثت منه رعباً، فرجعت فقلت: زملوني زملوني، فدثروني، فأنزل الله تعالى: يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ [المدثر:1] .. إلى آخر الآيات). فيفهم من هذا السياق أن هناك وحياً نزل قبل سورة المدثر، ففي هذه الرواية يقول جابر : (سمعت النبي صلى الله عليه وسلم وهو يحدث عن فترة الوحي) أي أن الوحي أول ما نزل على النبي عليه الصلاة والسلام بسورة اقرأ، ثم انقطع فترة، وتوقف لمدة، ثم بعد ذلك عاد الوحي فكان أول ما نزل بعد فترة الوحي هو: يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ ، وهذا الحديث يوضح ذلك. يقول جابر : سمعت النبي صلى الله عليه وسلم وهو يحدث عن فترة الوحي، فقال في حديثه: (فبينا أنا أمشي إذ سمعت صوتاً من السماء، فرفعت رأسي، فإذا الملك الذي جاءني بحراء جالس على كرسي بين السماء والأرض، فجثثت منه رعباً، فرجعت فقلت: زملوني زملوني، فدثروني، فأنزل الله تعالى: يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنذِرْ [المدثر:1-2] .. إلى آخر الآيات). قال ابن كثير رحمه الله تعالى: وهذا السياق هو المحتوم، وهو يقتضي أنه قد نزل الوحي قبل هذا لقوله: (فإذا الملك الذي جاءني بحراء)، وهو جبريل حين أتاه بقوله: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ [العلق:1]، ثم إنه حصل بعد هذا فترة، ثم نزل الملك بعد، هذا وجه الجمع. وروى الطبراني عن ابن عباس رضي الله عنهما، (أن الوليد بن المغيرة صنع لقريش طعاماً، فلما أكلوا منه قال: ما تقولون في هذا الرجل؟ فقال بعضهم: ساحر، وقال بعضهم: ليس بساحر. وقال بعضهم: كاهن، وقال بعضهم: ليس بكاهن. وقال بعضهم: شاعر، وقال بعضهم: ليس بشاعر. وقال بعضهم: سحر يؤثر. فأجمع رأيهم على أنه سحر يؤثر، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فحزن وقنع رأسه وتدثر، فأنزل الله تعالى: يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ [المدثر:1] .. إلى آخر الآيات).

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (يا أيها المدثر)

    قال تعالى: يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ [المدثر:1]. أي: المتلفع بثيابه لنوم أو استدفاء. والمدثر من الدثار، وهو كل ما كان من الثياب فوق الشعار، والشعار هو الثوب الذي يلي الجسد مباشرة. وأصل المدثر المتدثر، فأدغمت التاء في الدال، وخوطب النبي صلى الله عليه وسلم بذلك لحالته التي كان عليها وقت نزل الوحي، أو لقوله: (دثروني دثروني). وقيل: معناه المدثر بدثار النبوة والرسالة، ومن ذلك قولهم: ألبسه الله لباس التقوى، وزينه برداء العلم، فجعل النبوة كالدثار واللباس. قال الشهاب : إما أن يراد المتحلي بها والمتزين، كما أن اللباس الذي فوق الشعار يكون حلية لصاحبه وزينة. وهذا قول آخر، يعني أن الدثار الذي يكون فوق الشعار هو حلية وزينة، وهذه إشارة إلى أنه متحلٍ بالنبوة ومتزين بها عليه الصلاة والسلام. والتزيين بالدثار في ظهوره أو في الإحاطة، والأول أتم.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (قم فأنذر)

    قال تعالى: قُمْ فَأَنذِرْ [المدثر:2]. أي: قم من مضجعك ودثارك، أو قم قيام عزم وجد؛ لأن القيام يعبر به أحياناً عن ذلك. فمن الأولى قوله: إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ [الكهف:14]. ومن الثاني قوله: قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى [سبأ:46]. والمعنى: فحذر قومك من العذاب إن لم يؤمنوا. قال الشهاب : (( قُمْ فَأَنذِرْ ))، ولم يقل: وبشر؛ لأنه كان في ابتداء النبوة، لأن البشارة لمن آمن ولم يكن إذ ذاك مؤمن. أو هو اكتفاء، فنقول في التفسير: قم فأنذر الكافرين وبشر المؤمنين، لكن اكتفى بهذا عن ذاك كما في قوله تعالى: سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ [النحل:81] أي: سرابيل تقيكم الحر والبرد. يقول الشيخ عطية سالم رحمه الله تعالى في تتمة أضواء البيان: قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنذِرْ [المدثر:1-2]، الإنذار: إعلام بتخويف، فهو أخص من مطلق الإعلان، وهو متعد لمفعولين: المفعول الأول: هو المنذَر. والمفعول الثاني: المنذَر به. أما المنذَر فبينت آيات أخرى أن المراد الكافرين، كما قال تعالى: وَتُنذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا [مريم:97]، تخويفاً لهم، وقد يكون للمؤمنين لأنهم هم الذين ينتفعون بهذا الإنذار، فيأتي الإنذار للكافرين باعتبار أنه تخويف لهم وترهيب حتى يعودوا إلى رشدهم ويرجعوا إلى الإيمان، وقد يأتي الإنذار للمؤمنين كما في قوله تعالى: إِنَّمَا تُنذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ [يس:11]، فهنا قصر الإنذار على المؤمنين، لأنهم هم الذين ينتفعون بالإنذار. وقد يكون للجميع كما قال تعالى: أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا [يونس:2] .. إلى آخر الآية. أما المنذر به فهو ما يكون من أهوال يوم القيامة، ولذلك قال ابن جرير : (( قُمْ فَأَنذِرْ ))، عذاب الله قومك الذين أشركوا بالله وعبدوا غيره.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (وربك فكبر)

    يقول تبارك وتعالى: وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ [المدثر:3]. يقول ابن جرير : أي: فعظمه بعبادته والرغبة إليه في حاجاتك دون غيره من الآلهة والأنداد. وقال القاشاني : أي: إن كنت تكبر شيئاً وتعظم قدره فخصص ربك بالتعظيم والتكبير، لا يعظم في عينيك غيره، فيصغر في قلبك كل ما سواه بمشاهدة كبريائه عز وجل. وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ ، التقديم هنا للاختصاص، أي: أن المستحق للتعظيم وحده هو الله سبحانه وتعالى.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (وثيابك فطهر)

    قال تعالى: وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ [المدثر:4]. اختلف في المقصود من قوله تعالى: وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ ؟ فالظاهر هو الطهارة، أي: تطهير الثياب بالماء من الأنجاس؛ لأن الماء هو الأصل في التطهير. قال ابن زيد : كان المشركون لا يتطهرون؛ فأمره الله أن يتطهر ويطهر ثيابه. وقيل: هذا أمر بتطهير القلب مما يستقذر من الآثام. قال قتادة : العرب تسمي الرجل إذا نكث ولم يف بعهد أنه دنس الثياب، أما إذا وفّى فإن العرب تسميه: مطهر الثياب. وعن ابن عباس : وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ ، أي: لا تلبسها على معصية ولا على غدرة، ثم أنشد لـغيلان بن سلمة الثقفي قوله: وإني بحمد الله لا ثوب فاجر لبست ولا من غدرة أتقنع ففي الوجه الأول بقاء لفظي الثياب والتطهير على حقيقتهما. أما الثاني ففيه نوع تجوز، بأن يكون المقصود بذلك طهر القلب مما يستقذر من الآثام. الوجه الثالث: حمل الثياب على حقيقتها، والتطهير على مجازه، وهو التقصير؛ لأن العرب كانوا يطيلون ثيابهم، ويجرون أذيالهم خيلاء وكبراً، فأمر بمخالفتهم. ووجه رابع: حمل الثياب على الجسد أو النفس كناية، كما قال عنترة : (فشققت بالرمح الأصم ثيابه) يعني: نفسه، ولذا قال: ليس الكريم على القنا بمحرم واستصوب ابن الأثير في المثل السائر الوجه الأول، قال في الفصل الثالث من فصول مقدماته: اعلم أن الأصل في المعنى أن يحمل على ظاهر لفظه، ومن يذهب إلى التأويل يفتقر إلى دليل كقوله تعالى: وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ [المدثر:4]، فالظاهر من لفظ الثياب هو ما يلبس، ومن تأول ذهب إلى أن المراد هو القلب لا الملبوس، وهذا لابد له من دليل؛ لأنه عدول عن ظاهر اللفظ، ثم قال: المعنى المحمول على ظاهره لا يقع في تفسيره خلاف، والمعنى المعدول عن ظاهره إلى التأويل يقع فيه الخلاف، إذ باب التأويل غير محصور، والعلماء متفاوتون في هذا فإنه قد يأخذ بعضهم وجهاً ضعيفاً من التأويل فيكسوه بعبارته قوة تميزه عن غيره من الوجوه القوية؛ فإن السيف بضاربه. يعني: قد يكون لعالم وجه من الفصاحة والبلاغة حتى إنه لفصاحته وبراعته يستطيع أن ينتحي منحىً مرجوحاً عن طريق تأويل النص، ومع قوة عبارته وسحر البيان يقوي هذا القول الضعيف، وكما يقال: إن السيف بضاربه، يعني: أن السيف يقتل، لكن ليس السيف وحده هو الذي يؤثر، بل لابد له من ضارب قوي، ولذلك استشهد بعد قوله: (فإن السيف بضاربه) بشعر أبي الطيب المتنبي في قصيدة مطلعها: الرأي قبل شجاعة الشجعان هو أول وهي المحل الثاني قال: إن السيوف مع الذين قلوبهم كقلوبهن إذا التقى الجمعان تلقى الحسام على جراءة حده مثل الجبان بكف كل جبان يقول المتنبي : إن السيوف مع الذين قلوبهم كقلوبهن إذا التقى الجمعان يعني: قد توجد السيوف الحادة القوية في أيدي أناس قلوبهم مثل قلوب النساء جبناً وهلعاً وخوفاً. تلقى الحسام على جراءة حده، أي: مع أن السيف محدد بتار في حد ذاته. تلقى الحسام على جراءة حده مثل الجبان بكف كل جبان فالسيف يكون جباناً ما دام في كف إنسان جبان، فالسيف بضاربه وليس فقط بحده، فإنه لا يؤثر إلا إذا كان الذي يحمله يضرب ضربةً قويةً. يقول الشيخ عطية سالم رحمه الله تعالى في تتمة أضواء البيان: اختلف المفسرون في المراد من كل من لفظتي (الثياب) و(فطهر) هل دلا على الحقيقة، ويكون المراد طهارة الثوب من النجاسات أم هما على المجاز؟ فعلى سبيل المجاز يكون المراد بالثوب البدن، والطهارة عن المعنويات من معاصي وآثام ونحوها. وذكر ابن جرير وغيره نحواً من خمسة أقوال: الأول: عن ابن عباس ، وعكرمة ، والضحاك ، أن معناه: وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ ، لا تلبس ثيابك على معصية ولا على غدرة، واستشهد بقول غيلان : وإني بحمد الله لا ثوب فاجر لبست ولا من غدرة أتقنع وقول آخر: إذا المرء لم يدنس من اللؤم عرضه فكل رداء يرتديه جميل فاستعمل اللفظين في الكناية، وقد يستدل له بقوله: وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ [الشرح:2]. وورد عن ابن عباس : لا تلبس ثيابك من كسب غير طيب، يعني: البس ثيابك من المال الحلال، فاستعمل الثياب في الحقيقة والتطهير في الكناية. وعن مجاهد : وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ أي: وعملك فأصلح، فاستعملهما معاً في الكناية عن العمل الصالح. وعن محمد بن سيرين وابن زيد على حقيقتهما، يعني: فطهر ثيابك من النجاسة. ثم قال ابن جرير : والذي قاله ابن سيرين وابن زيد أظهر في ذلك. وقول ابن عباس وعكرمة قول عليه أكثر السلف، والله تعالى أعلم بمراده. ويترجح قول ابن سيرين أن المراد طهارة الثوب من النجاسة، بالقرينة في الآية فإنها اشتملت على أمرين: الأول: طهارة الثوب، وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ . الثاني: هجر الرجز، وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ [المدثر:5]، ومن معاني الرجز المعاصي، فيكون حمل طهارة الثوب على حقيقته والرجز على حقيقته أولى، إن المعنى: طهر قلبك من الآثام والمعاصي، لوقع هنا تكرار؛ لأن قوله: وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ معناه: اهجر المعاصي على أحد التفاسير، فيكون هذا تكراراً، والتأسيس أولى من التأكيد. فيترجح بذلك أن المراد بقوله: وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ الطهارة بالماء من الأنجاس، فيكون المراد الثياب على حقيقتها. أما التطهير من الذنوب فأشار له قوله تعالى: وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ [المدثر:5] فيكون تأسيساً. وهذه الآية بقسميها جاء نظيرها بأصرح من ذلك في قوله تعالى: وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ [الأنفال:11]. ومثله أيضاً قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ [البقرة:222]، جمع بين الطهارتين: تطهير الباطن والظاهر. ولذلك جعل الإمام الشافعي رحمه الله تعالى هذه الآية: وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ دليلاً على وجوب الطهارة للصلاة.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (والرجز فاهجر)

    يقول الله تبارك وتعالى: وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ [المدثر:5]. أي: اتركه، والرجز بضم الراء، وتأتي بكسر الراء كالرجس، والسين والزاي يتناوبان لأنهما من حروف الصفير. والرجس: اسم للقبيح المستقذر كنى به عن عبادة الأوثان خاصة كما في قوله تعالى: فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ [الحج:30]. أو عن كل ما يستكره من الأفعال والأخلاق، والجملة من جوامع الكلم في مكارم الأخلاق، كأنه قيل: اهجر الجفا والسفه وكل قبيح، ولا تتخلق بأخلاق هؤلاء المشركين المستعملين للرجز. وقيل: المراد بالرِجز أو الرُجز العذاب، وهجره كناية عن هجر ما يؤدي إليه من الشرك والمعاصي، فأقيم الرجز مقام سببه الذي هو الشرك والمعاصي؛ أو هو بتقدير مضاف، أي: وأسباب الرجز فاهجر. وكما قلنا: الرِجز والرُجز تقرأ بالضم وتقرأ بالكسر، فيقول: قرئ بضم الراء وهي لغة وهما بمعنى العذاب. وعن مجاهد أنه بالضم بمعنى الصنم، وبالكسر بمعنى العذاب. وأمره صلى الله عليه وآله وسلم بذلك -وهو بريء منه- أمر لغيره، وهذا تعريض، أو المراد الدوام على هجره، يعني: أن النبي عليه الصلاة والسلام ما عبد الأصنام، بل هو بريء من ذلك وحاشاه صلى الله عليه وآله وسلم، ومع ذلك أمره الله بهجرها، وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ ، فهذا الأمر هو أمر لغيره تعريضاً، أو أن المراد الدوام على هجره.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (ولا تمنن تستكثر)

    قال تعالى: وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ [المدثر:6]. أي: لا تعط عطية تلتمس بها أفضل منها، أي: إذا أعطيت فلا تترقب ولا تتوقع ولا تؤمل أن ترد إليك هذه العطية بأكثر منها. يقال: مننت فلاناً كذا، أي: أعطيته، كما قال تعالى: هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ [ص:39]، يعني: فأعط أو أمسك. وأصله: أن من أعطى فقد منَّ، فسميت العطية بالمن على سبيل الاستعارة. وجوز القفال أن يكون الاستكثار عبارة عن طلب العوض كيف كان زائداً أو مساوياً. قال: وإنما حسنت هذه الاستعارة؛ لأن الغالب أن الثواب يكون زائداً عن العطاء، وسمى طلب الثواب استكثاراً حملاً للشيء على أغلب أحواله، وهذا كما أن الأغلب أن المرأة إنما تتزوج ولها ولد للحاجة إلى من يربي ولدها، فسمي الولد ربيباً، ثم اتسع الأمر فسمي ربيباً وإن كان حين تتزوج أمه كبيراً، حملاً للأمر على تلك الأحوال. يقول: وسر النهي أن يكون العطاء خالياً عن انتظار العوض، والتفات النفس إليه تعففاً وكمالاً وعلو همة. وقال بعض المفسرين: معنى الآية: وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ : لا تعط عطاءً مستكثراً هذا العطاء حتى ولو كان كثيراً، فإن من مكارم الأخلاق استقلال العطاء وإن كان كثيراً، فالسين للعد والوجدان. وسبق في سورة الروم في قول الله تبارك وتعالى: وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللَّهِ [الروم:39]، نفس هذا المعنى، وقد تكلمنا عنه في موضعه.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (ولربك فاصبر)

    قال تعالى: وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ [المدثر:7]. يعني: على أذى المشركين، وهنا نلاحظ أنه في السور المكية الأولى يخاطب الله نبيه باسم الربوبية؛ لأن تصور المشركين عن الألوهية قد ارتبط بمفاهيم وثنية، ومن هذا الخطاب قوله تعالى: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ [العلق:1-3].

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (فإذا نقر في الناقور ... غير يسير)

    قال تعالى: فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ * فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ * عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ [المدثر:8-10]. أي: إذا نفخ في الصور، والناقور من النقر. بمعنى التصويت، وأصله القرع الذي هو سبب الصوت، ومنه منقار الطائر؛ لأنه يقرع به وينقر به على الأشياء، وأريد به النفخ؛ عبر به لأنه نوع من الصوت. فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ ، أي: شديد. عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ ، أي: ليس بهين على الكافرين لما يحيط بهم من الغم والكرب، وفي قوله: غَيْرُ يَسِيرٍ ، تأكيد يمنع أن يكون عسيراً عليهم من وجه دون وجه، ويشعر بيسره على المؤمنين، ففيه جمع بين وعيد الكافرين وبشارة المؤمنين. يعني: أن وصفه اليوم أولاً بقوله: فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ ، قد يتوقع بعض الناس أنه عسير على المؤمنين وعسير على الكافرين فأتى بالآية التي تليها ليدفع هذا التوهم فقال: عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ . ثم إنه قد يقول قائل: (فذلك يومئذ يوم عسير) قد يكون عسيراً من وجه لكن ليس عسيراً من وجه آخر، فدفع هذا الوهم بقوله: عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ ، فهذا عسر لا يسر فيه على الإطلاق. يقول الشيخ عطية سالم رحمه الله تعالى: فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ ، الناقور: هو الصور، وأصل الناقور الصوت. قال الزمخشري : إن ( غَيْرُ يَسِيرٍ )، كان يكفي عنها (يوم عسير) إلا أنه أراد ليبين لهم أن عسره لا يرجى تيسيره. يعني لأن الإنسان قد يتوقع هذا العسر يسيراً: إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا [الشرح:6]، فمهما كان هناك من شدة فإنها ستنتهي، فربما توهم بعض الناس أن شدة الأهوال يوم القيامة لها نهاية، فبين لهم عز وجل أنه لا يرجى بعده يسر، والعياذ بالله! وأيضاً فيه زيادة وعيد للكافرين، وفيه نوع بشارة للمؤمنين لسهولته عليهم، ولعل المعنيين مستقلان، وأن قوله تعالى:فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ ، كلام مستقل، وهو وصف لهذا اليوم وبيان للجميع شدة هوله كما قال عز وجل: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ [الحج:1-2]، هذا عام في الناس كلهم، وقال تعالى: يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ [عبس:34-35]. ثم بين تعالى أن اليوم العسير على الكافرين فقال: عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ ، كما قال تعالى عنهم: فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا * السَّمَاءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ [المزمل:17-18]، بينما يكون على المؤمنين يسيراً، مع أنه عسير في ذاته لشدة هوله، لكنه يخفف عن المؤمن، هذا هو المقصود من الآية التالية، وهي قوله: عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ ، فهو في حد ذاته يوم شديد، لكنه يخفف على المؤمن، كما قال الله تبارك وتعالى: وَيَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ * وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ * مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ * وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ [النمل:87-90]. فالفزع من الصعقة يوم ينفخ في الصور عام لجميع من في السماوات ومن في الأرض، إلا من شاء الله، ثم بين تعالى أن الآمنين هم الذين جاءوا بالحسنات.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (ذرني ومن خلقت وحيداً ... ثم يطمع أن أزيد)

    يقول الله تبارك وتعالى: ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا * وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا * وَبَنِينَ شُهُودًا * وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا * ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ [المدثر:11-15]. ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا ، أي: لا مال له ولا ولد، وقد كنت قرأت منذ زمن أن (وحيداً) لقب من ألقاب الوليد بن المغيرة والد خالد بن الوليد رضي الله تعالى عنه، وهو من رءوس الكفر في قريش، وقد كان يلقب بريحانة قريش، وكان يلقب بالوحيد، أي: المتفرد. أما هنا فقال القاسمي : ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا [المدثر:11]، يعني: في أول أمره وفي مبدأ أمره كان وحيداً بلا مال ولا ولد. وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا ، أي: ثم بعد ذلك أنعمت عليه وجعلت له مالاً ممدوداً أي: مبسوطاً كثيراً، أو ممدوداً بالنماء. وَبَنِينَ شُهُودًا ، يعني: رجالاً يشهدون معه المحافل والمجامع، أو حضوراً معه يأنس بهم لا يحوجه سفرهم وركوبهم الأخطار لاستغنائهم عن التكسب. وهذه من النعم التي أنعم الله بها على الوليد بن المغيرة ، فبعدما كان وحيداً لا مال له ولا ولد امتن الله عليه بالمال الممدود وبالبنين الحاضرين غير المسافرين؛ لأنهم لعزتهم وغناهم وثروتهم لا يحتاجون إلى أن يفارقوا أباهم بحثاً عن الرزق والربح. وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا ، أي: بسطت له في العيش والجاه والرياسة. ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ [المدثر:15] يعني: يطمع الزيادة من المال والولد والجاه، ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب، وفي الحديث: (منهومان لا يشبعان: طالب العلم، وطالب الدنيا)، فطالب العلم مهما تجرع من العلم لا يشبع، وطالب الدنيا مهما أعطي من الدنيا لا يشبع، الإنسان أحياناً يستغرب من أناس بسطت عليهم الدنيا، ومع ذلك فهم في أشد الحرص على الاستكثار من المال والزيادة؛ لأن من طبيعة الإنسان الحرص والجري وراء الدنيا، فيصبح كالذي يشرب من البحر وكلما شرب ازداد عطشاً، فهذه إشارة إلى هذا الميل إلى الدنيا، وأن ابن آدم لا يملأ جوفه إلا التراب: (لو كان لابن آدم واديان من ذهب لتمنى أن يكون له ثالث، ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب، ويتوب الله على من تاب)أو كما قال صلى الله عليه وسلم. وقيل: المعنى أنه يطمع أن أزيده نعيماً وقوة، وأدخله الجنة أيضاً على كفره. وهذا التفسير أظهر في بدليل قوله تعالى بعده: كَلَّا [المدثر:16] أي: لا يكون ما يؤمله ويرجوه؛ لأن الجدير بالزيادة من نعيم الآخرة هم المتقون وليس هو منهم، وكما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر)، فهو ينعم في الدنيا لكن في الآخرة لا نصيب له ولا خلاق.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (كلا إنه كان لآياتنا عنيداً ... ثم قتل كيف قدر)

    قال تعالى: كَلاَّ إِنَّهُ كَانَ لآيَاتِنَا عَنِيداً * سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً * إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ * فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ [المدثر:16-20]. (( كَلَّا ))، أي: لا يكون ما يؤمل ويرجو؛ لأن الجدير بالزيادة من نعيم الآخرة هم المتقون لا هو. (( إِنَّهُ كَانَ لِآيَاتِنَا عَنِيدًا ))، كيف أزيده وأضيف إلى نعيم الدنيا الذي أعطيته إياه نعيماً في الآخرة وهو كان معارضاً لآيات الله. فشرعت الآيات في ذكر مفاسده التي تجعله غير جدير بأن ينعم في الجنة. فقوله: عَنِيدًا ، أي: معانداً للحجج المنزلة والمرسلة. سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا ، أي: سأغشيه عقبة شاقة المصعد كالجبل المرتفع كلما ارتفع زاد اختناقاً وضاق نفسه، كما قال تعالى: فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ [الأنعام:125]، فهذا عذابه أن يصعد على جبل أو على عقبة مرتفعة شاقة في غاية العسر، وهو مثل لما يلقى من العذاب الشاق الصعب الذي لا يطاق. والمعنى: أسوق إليه من المصائب ما يشق عليه مشقة من يكلف صعود الجبال الشاهقة العالية الوعرة. ثم علل إرهاقه بقوله: إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ * فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ نَظَرَ * ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ [المدثر:18-22]، فهذا كله تعليل لاستحقاقه أن يرهقه الله سبحانه وتعالى صعوداً. وقوله: (إِنَّهُ فَكَّرَ) يعني: ماذا يقول في هذه الآيات الكريمات، وفي هذا الذكر الحكيم؟ (( وَقَدَّرَ )) أي: قدر في نفسه ما يقوله وهيأه. فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ، يعني: لعن كيف قدر ذلك الافتراء الباطل، واختلق ما يكذبه وجدانه فيه، وهو يعلم في قرارة نفسه أن القرآن حق من عند الله! ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ، تكرير للمبالغة في التعجب منه، وقد اعتيد فيمن عجب غاية العجب أنه يكثر من التعجب ويكرره. و(ثم) للدلالة على أن الثانية أبلغ في التعجب من الأولى؛ لأن العطف بـ (( ثُمَّ ))، يدل على تفاوت الرتبة. فقوله: فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ، يعني: فقتل بنوع ما من القتل، وهذه الجملة دعاء. ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ ، يعني: كأنه قال بعدما قال قتل بنوع ما من القتل: لا، بل قتل بأشده، وقد أورد الزمخشري في هذه الجملة ثلاثة أوجه: أن تكون تعجيباً من تقديره وإصابته فيه المحز، ورميه الفرض الذي كانت تنتحيه قريش. أو ثناء عليه على طريقة الاستهزاء به. أو هي حكاية لما كرروه من قولهم: (قتل كيف قدر) تهكماً بهم وبإعجابهم بتقديره واستعظامهم لقوله! ثم قال: ومعنى قول القائل: قتله الله ما أفزعه، وأخزاه الله ما أشعره، الإشعار بأنه قد بلغ المبلغ الذي هو حقيق بأن يحسد ويدعو عليه حاسده بذلك، أي أنه تفوق جداً في هذا المجال حتى إن الناظر إليه خليق أن يحسد على ذلك.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (ثم نظر ... إلا سحر يؤثر)

    قال تعالى: ثُمَّ نَظَرَ * ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ * ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ * فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ يُؤْثَرُ [المدثر:21-24]. ثُمَّ نَظَرَ ، أي: في ذلك المقدر وتروى فيه. قال الرازي : وهذه المرتبة الثالثة من أحوال قلبه، فالنظر الأول للاستخراج، واللاحق للتقدير، وهذا هو الاحتياط. وقال غيره: ثُمَّ نَظَرَ ، أي: في وجوه القوم. ثُمَّ عَبَسَ ، أي: قطب وجهه كبراً وتهيؤاً لقذف تلك الكبيرة. وَبَسَرَ ، أي: كلح وجهه شأن اللئيم في مراوغته ومقاتلته، والحسود في آثار حقده على صفحات وجهه. ((ثُمَّ أَدْبَرَ)): عن الحق. ((وَاسْتَكْبَرَ))، أي: عن الإيمان به. فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ ، أي: ما هذا القرآن إلا سحر يروى ويتعلم، أي: يأثره عن غيره، والمعنى أنه تعلمه من شخص آخر غيره. إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ ، أي: ليس بكلام الله كما يقوله. يقول القاسمي رحمه الله تعالى: اتفق المفسرون على أن هذه الآيات نزلت في الوليد بن المغيرة المخزومي أحد رؤساء قريش لعنه الله، وكان من خبره ما رواه ابن إسحاق أن الوليد بن المغيرة اجتمع إليه نفر من قريش وكان ذا سن فيهم، وقد حضر الموسم، فقال لهم: يا معشر قريش! إنه قد حضر هذا الموسم، وإن وفود العرب ستقدم عليكم، وقد سمعوا بأمر صاحبكم هذا، فأجمعوا رأياً واحداً ولا تختلفوا فيكذب بعضكم بعضاً، ويرد قولكم بعضه بعضاً. قالوا: فأنت يا أبا عبد شمس فقل وأقم لنا رأياً نقل به. قال: بل أنتم تقولون أجمع. قالوا: نقول: كاهن! قال: لا والله ما هو بكاهن، لقد رأينا الكهان فما هو بزمزمة الكاهن ولا سجعه. قالوا: فنقول: مجنون! قال: ما هو بمجنون، لقد رأينا الجنون وعرفناه، فما هو بخنقه ولا تخالجه ولا وسوسته. قالوا: فنقول: شاعر! قال: ما هو بشاعر، لقد عرفنا الشعر كله رجزه وهجزه وقبيضه ومقبوضه ومبسوطه، فما هو بالشعر. قالوا: فنقول: ساحر! قال: ما هو بساحر، لقد رأينا السحرة وسحرهم فما هو بنفثهم ولا عقدهم. قالوا: فما نقول يا أبا عبد شمس ؟ قال: والله إن لقوله لحلاوة، وإن أصله لعبق، وإن فرعه لجنى، وما أنتم بقائلين من هذا شيئاً إلا عرف أنه باطل، وإن أقرب القول فيه لأن تقولوا: هو ساحر، جاء بقول هو سحر يفرق به بين المرء وأبيه، وبين المرء وأخيه، وبين المرء وزوجته، وبين المرء وعشيرته! فتفرقوا عنه بذلك، فجعلوا يجلسون مع الناس حين قدموا الموسم، لا يمر بهم أحد إلا حذروه إياه، وذكروا له أمره، فأنزل الله تعالى في الوليد بن المغيرة وفي ذلك قوله تعالى: ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا * وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا * وَبَنِينَ شُهُودًا * وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا * ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ * كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لِآيَاتِنَا عَنِيدًا * سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا * إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ * فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ نَظَرَ * ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ * ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ * فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ * إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ [المدثر:11-25]. وعن قتادة قال الوليد : لقد نظرت فيما قال هذا الرجل، فإذا هو ليس بشعر، وإن له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإنه ليعلو وما يعلى، وما أشك أنه سحر، فأنزل الله هذه الآيات. وقد روي عن مجاهد أن الوليد كان بنوه عشرة. وحكى الثعلبي عن مقاتل أنه أسلم منهم ثلاثة: خالد بن الوليد . وعمارة . وهشام . قال ابن حجر في الإصابة: والصواب أنهم خالد ، وهشام ، والوليد ، فأما عمارة فإنه مات كافراً؛ لأن قريشاً بعثوه للنجاشي فجرت له معه قصة فأصيب بعقله. وقد ثبت أنه ممن دعا النبي صلى الله عليه وسلم عليهم من قريش لما وضع عقبة بن أبي معيط سلا الجزور على ظهره وهو يصلي، فدعا عليهم النبي عليه الصلاة والسلام، فأصابته دعوة النبي عليه السلام وجن في الحبشة.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (سأصليه سقر ... عليها تسعة عشر)

    قال تعالى: سَأُصْلِيهِ سَقَرَ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ * لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ * لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ * عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ [المدثر:26-30]. سَأُصْلِيهِ سَقَرَ ، أي: جهنم، وهو بدل اشتمال من قوله تعالى: سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا [المدثر:17]. وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ * لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ قال الزمخشري : أي: لا تبقي شيئاً يلقى فيها إلا أهلكته، وإذا هلك لم تذره هالكاً حتى يعاد، أو: لا تبقي على شيء ولا تدعه من الهلاك، بل كل ما يطرح فيها هالك لا محالة. لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ ، أي: محرقة للجلود، من قولك: لوحته الشمس إذا سودت ظاهره فإن الجلد يتأثر بالشمس فيسود لونه فيقال: لوحته الشمس، يعني: سودت ظاهره وأطرافه، فمعنى قوله: لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ [المدثر:29]، يعني: محرقة للجلود؛ لأن قوله تبارك وتعالى هنا: البشر، جمع بشرة، وهي ظاهر الجلد. أو أن البشر اسم جنس بمعنى الناس، فيكون قوله: لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ ، يعني: محرقة للناس. عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ ، أي: من الخزنة المتولين أمرها، والتخالف على أهلها، وفيه إشارة إلى أن زبانية العذاب الأخروي تفوق زبانية الجبابرة في الدنيا أضعافاً مضاعفة، تنبيهاً على عظم العذاب وكبر مكانه.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756196891