إسلام ويب

تفسير سورة الحجرات [6-10]للشيخ : محمد إسماعيل المقدم

  •  التفريغ النصي الكامل
    1.   

    تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا ..)

    قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ [الحجرات:6]. (إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا) من التبيين، وقرأها حمزة والكسائي : (فتثبتوا) من التثبت. ومعنى قوله تعالى: (فتثبتوا) أو (فتبينوا) أي: فاستظهروا صدقه من كذبه بطريق آخر. يعني: عن طريق البحث أو عن طريق آخر ووسيلة أخرى للتثبت مما جاءكم به من الخبر، ولا تقتصروا على خبره كراهة أن تصيبوا قوماً بجهالة، هذا هو نسق التفسير: كراهة أن تصيبوا قوماً بجهالة. والجهالة هنا هي: أن يجهل حال القوم، كما قال الله سبحانه وتعالى: يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ [البقرة:273] كذلك هنا: (أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ) أي: قوماً برآء مما قذفوا به؛ بغية أذيتهم بجهالة منكم لعدم استحقاقهم إياها. فمعنى قوله تعالى: (أن تصيبوا): لئلا تصيبوا، كقوله تعالى: يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا [النساء:176] يعني: يبين الله لكم لئلا تضلوا. فإذا قذفتم هؤلاء القوم البرآء مما هم برآء منه بغية أذيتهم بجهالة، على أساس أنكم تفعلون ذلك لاعتقادكم أنهم يستحقون ذلك طبقاً لخبر الفاسق، ثم يظهر لكم عدم استحقاقهم، فهذه الإصابة وهذه الأذية تجعلكم تُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ يعني: على ما فعلتم من العجلة وترك التأني. أي: ستندمون على إصابتكم إياهم بالجناية التي تصيبونهم بها، وحق المؤمن أن يحترز مما يخاف منه الندم في العواقب.

    ذكر ما روي في سبب نزول الآية

    وهنا تنبيهات: الأول: يقول الإمام الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى: ذكر كثير من المفسرين أن هذه الآية نزلت في الوليد بن عقبة بن أبي معيط حين بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم على صدقات بني المصطلق، وقد روي ذلك من طرق، ومن أحسنها ما رواه الإمام أحمد في مسنده من رواية مالك عن ابن المصطلق وهو الحارث بن ضرار والد جويرية أم المؤمنين رضي الله تعالى عنها. قال الإمام أحمد : حدثنا محمد بن سابق قال: حدثنا عيسى بن دينار قال: حدثنا أبي أنه سمع الحارث بن ضرار الخزاعي رضي الله عنه يقول: (قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فدعاني إلى الإسلام، فدخلت فيه، وأقررت به، ودعاني إلى الزكاة؛ فأقررت بها، وقلت: يا رسول الله! أرجع إلى قومي فأدعوهم إلى الإسلام وأداء الزكاة، فمن استجاب لي جمعت زكاته، فترسل إلي يا رسول الله رسولاً إبان كذا وكذا، ليأتيك بما جمعت من الزكاة. فلما جمع الحارث الزكاة ممن استجاب له، وبلغ الإبان -أي: الأجل- الذي أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبعث إليه، احتبس عليه الرسول فلم يأته، وظن الحارث أنه قد حدث فيه سخطة من الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، فدعا بسروات قومه -يعني: بأشرافهم- فقال لهم: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقت لي وقتاً يرسل إلي رسوله ليقبض ما كان عندي من الزكاة، وليس من رسول الله صلى الله عليه وسلم الخلف، ولا أرى حبس رسوله إلا من سخطة، فانطلقوا فنأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم. وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم الوليد بن عقبة إلى الحارث ليقبض ما كان عنده مما جمع من الزكاة، فلما أن سار الوليد حتى بلغ بعض الطريق فرق -يعني: خاف- فرجع حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله! إن الحارث منعني الزكاة وأراد قتلي، فجرد رسول الله صلى الله عليه وسلم البعث إلى الحارث. فأقبل الحارث بأصحابه، حتى إذا استقبل البعث وفصل من المدينة لقيهم الحارث ، فقالوا: هذا الحارث ، فلما غشيهم قال لهم: إلى من بعثتم؟ قالوا: إليك. قال: ولم؟ قالوا: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان بعث إليك الوليد بن عقبة فزعم أنك منعته الزكاة وأردت قتله، قال: لا، والذي بعث محمداً بالحق ما رأيته بتة ولا رآني، ولا أتاني. فلما دخل الحارث على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: منعت الزكاة وأردت قتل رسولي؟ قال: لا، والذي بعثك بالحق ما رأيته بتة ولا أتاني، وما أقبلت إلا حين احتبس علي رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم خشيت أن كانت سخطة من الله تعالى ورسوله، قال: فنزلت الحجرات: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ [الحجرات:6]). هذا الحديث رغم شهرته إلا أنه لا يصح، وإنما تلوناه بطوله كي تنتبهوا إلى هذا، فإن هذا الحديث ضعيف، ورواه أيضاً الطبراني وفيه موسى بن عبيدة وهو ضعيف، فالحديث ضعيف وإن كان مشهوراً على ألسنة الخطباء. وقال مجاهد وقتادة : أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم الوليد بن عقبة إلى بني المصطلق يتصدقهم، فتلقوه بالصدقة، فرجع فقال: إن بني المصطلق قد جمعت لك لتقاتلك. وزاد قتادة : وإنهم قد ارتدوا عن الإسلام، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد رضي الله تعالى عنه إليهم، وأمره أن يتثبت ولا يتعجل، فانطلق حتى أتاهم ليلاً، فبعث عيونه، فلما جاءوا أخبروا خالداً رضي الله عنه أنهم مستمسكون بالإسلام، وسمعوا أذانهم وصلاتهم، فلما أصبحوا أتاهم خالد رضي الله عنه فرأى الذي يعجبه، فرجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره الخبر، فأنزل الله تعالى هذه الآية. قال قتادة : فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (التثبت من الله، والعجلة من الشيطان) وهذا حديث صحيح. وكذا ذكر غير واحد من السلف منهم: ابن أبي ليلى ، ويزيد بن رومان ، والضحاك ، ومقاتل وغيره في هذه الآية: أنها نزلت في الوليد بن عقبة والله تعالى أعلم. وقال ابن قتيبة في المعارف: الوليد بن عقبة بن أبي معيط بن أبي عمرو بن أمية بن عبد شمس ، وهو أخو عثمان لأمه، وأمه أروى بنت شريح، أسلم يوم فتح مكة، وبعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم متصدقاً إلى بني المصطلق، فأتاه فقال: منعوني الصدقة. وكان كاذباً؛ فأنزل الله هذه الآية. وولاه عمر على صدقات بني تغلب، وولاه عثمان الكوفة بعد سعد بن أبي وقاص ، فصلى بأهلها صلاة الفجر وهو سكران أربعاً، وقال: أزيدكم؟ فشهدوا عليه بشرب الخمر عند عثمان ، فعزله وحدَّه، ولم يزل بالمدينة حتى بويع علي فخرج إلى الرقة فنزلها، واعتزل علياً ومعاوية ومات بناحية الرقة.

    من فوائد الآية رد خبر الفاسق

    التنبيه الثاني فيما يتعلق بهذه الآية الكريمة: أن في الآية رد خبر الفاسق، وأنه يشترط العدالة في المخبر، فلا يقبل الخبر إلا من عدل، راوياً كان أو شاهداً أو مفتياً. ويستدل بالآية على قبول خبر الواحد العدل؛ لأن منطوق الآية رد خبر الفاسق، فيفهم من ذلك أنه إذا كان عدلاً قبل خبره. قال ابن كثير رحمه الله تعالى: ومن هنا امتنع طوائف من العلماء من قبول رواية مجهول الحال، لاحتمال فسقه في نفس الأمر، وقبلها آخرون؛ لأنا إنما أمرنا بالتثبت عند خبر الفاسق، وهذا ليس بمحقق الفسق لأنه مجهول الحال.

    تحريم سوء الظن

    ولا شك أن هذه الآية مما يستدل به على تحريم سوء الظن وإن كان في باقي الآيات إن شاء الله تعالى فيما يأتي النهي عن هذا الظن السيء وعدم تحقيق الظن، إلا أنه يؤخذ من قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ) التنبيه إلى تحريم الغيبة بالقلب؛ لأن الغيبة بالقلب هي سوء الظن، بأن يسيئ ظنه بأخيه في نفسه دون أن يتكلم بذلك، والذي يحمله عليها قبول خبر أفسق الفساق وهو إبليس لعنه الله، فهو أولى من يصدق عليه قول الله تبارك وتعالى: (يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا). (أن تصيبوا) أي: كراهة أن تصيبوا (قوماً بجهالة) فهذا مما يستدل به على تحريم سوء الظن بالمسلم. (فتصبحوا على ما فعلتم نادمين) لأن قبول خبر الفاسق يؤدي إلى الرغبة في الانتقام من هذا الفاعل أو معاقبته أو أذيته، فإذا بادرت وعاقبته وتعجلت بناءً على هذا الخبر من الفاسق، فربما يتبين لك بعد ذلك أنه كان مظلوماً، فيملؤك الندم على ما فعلت من ترك التثبت، وعدم الحيطة، وقبول خبر الفاسق.

    الحذر من تناقل الكلام قبل التثبت وإيذاء الناس بذلك

    ولذلك بين النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن من أكذب الكذب أن يتلقى الإنسان الأخبار دون تحر ويشيعها في الناس، كما جاء في الحديث: (كفى بالمرء كذباً أن يحدث بكل ما يسمع). وبعض الناس يسوغ لنفسه الخوض في الباطل والظلم ونحو ذلك، بحجة أنه ليس عليه وزر إنما هو ناقل، فيظن أنه قد برئت ذمته من الإثم، وأن العهدة على من سبقه في السلسلة؛ لكن الحديث المذكور يبين أن الإنسان لا يعذر لكونه ناقلاً فحسب، وإنما هو مطالب بالتثبت فيما ينقله، بدليل قول النبي عليه الصلاة والسلام: (كفى بالمرء كذباً) يعني: لا كذب أكثر من ذلك (أن يحدث بكل ما يسمع)، ففي هذا وجوب التثبت قبل تناقل الكلام وتداوله. وفي هذا الجزء من الآية: (( فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ )) تقرير التحذير وتأكيده، ووجه ذلك: أن الله سبحانه وتعالى قال: (( أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ )) فبين الله سبحانه وتعالى أن ذلك ليس مما لا يلتفت إليه، أي: لا تستهينوا بهذا الأمر ولا تحتقروه، بل إنكم قد تحسبونه هيناً ويكون عند الله عظيماً. فقد يقول قائل: هب أني أصبت قوماً فماذا علي؟ فيأتي الجواب: (فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ) فلا تقل: فماذا علي؟ بل عليكم منه الهم الدائم، والحزن المقيم، ومثل هذا الشيء يجب الاحتراز منه، فشيء يترتب عليه ظلم الآخرين وأذيتهم بدون حق ليس بالأمر الهين، بل يستحق العقوبة، ويستوجب الندم والغم والهم الدائم والحزن المقيم. قال تعالى: (( فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ )) ولم يقل: (فتندمون)، كأنها تظل صفة أساسية مستمرة على هذا الذنب.

    عظم ندم المؤمن على المعصية بخلاف المنافق

    وبجانب إفادة الآية تقرير التحذير في تلقي الأخبار وتأكيده، فإنها من جهة أخرى تفيد مدح المؤمنين قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ) أي: فأنتم أيها المؤمنون لستم ممن إذا فعلوا سيئة لا يلتفتون إليها، بل تصبحون نادمين عليها، صحيح أن المؤمن غير معصوم ولا منزه عن الخطأ، لكن شأن المؤمن أنه إذا ذُكِّر ذَكَر، كما قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (إن المؤمن خلق مُفَتَّناً تواباً نسياً، إذا ذُكِّر ذكر) أي: انتفع بالتذكرة واستفاد منها، كما قال تعالى: فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى [الأعلى:9]، وبين في الآية الأخرى من الذين ينتفعون بالذكرى في قوله عز وجل: وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ [الذاريات:55]. ولم يمدح الله سبحانه وتعالى المؤمنين بأنهم لا يفعلون سيئة، وإنما قال: وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ [آل عمران:135]، ولذلك جاء في الحديث الصحيح: (ويل لأقماع القوم الذين يصرون على ما فعلوا وهم يعلمون) شبههم بالأقماع؛ لأن القمع إذا أدخلت فيه سائلاً من أعلاه ينساب من أسفله فلا يستقر فيه، كذلك هذا تأتيه التذكرة وتنفذ إلى أذنه لكنها لا تستقر، بل تخرج من الأذن الأخرى، أو لا تدخل أصلاً. هؤلاء هم أقماع القوم، بخلاف المؤمن، فالمؤمن إذا فعل سيئة ليس هو ممن لا يبالي بها، كما جاء في الأثر: أن المؤمن يرى ذنبه كأنه جبل واقع على رأسه من الهم والحزن، (أما المنافق فيرى الذنب كأنه ذباب وقع على أنفه فقال به هكذا). فالمؤمن يدرك عظمة الله سبحانه وتعالى الذي خالف أمره، فيرى ذنبه كأنه جبل على رأسه يحمله، وهذا ما نفهمه من معنى قوله تعالى: (( فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ ))؛ لأن المؤمن إذا وقع في هذا المحظور المنهي عنه وهو ظلم الناس أو أذية الناس بسبب تناقل الأخبار يندم على ذلك، وليس كالمنافق الذي لا يبالي ويقول: وماذا علي؟ فكان ماذا؟ أما المؤمن فإذا حصل منه ذلك فإنه يشفق على ما فعل نادماً، وهذا من أركان التوبة، بل هو أهم أركانها، فلذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (الندم توبة!).

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (واعلموا أن فيكم رسول الله لو يطيعكم... عليم حكيم)

    ثم يقول تبارك وتعالى: وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُوْلَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ * فَضْلاً مِنْ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ [الحجرات:7-8] يقول شيخ المفسرين ابن جرير رحمه الله تعالى: يقول تعالى ذكره لأصحاب نبي الله صلى الله عليه وسلم: واعلموا أيها المؤمنون بالله ورسوله! أن فيكم رسول الله، فاتقوا الله أن تقولوا الباطل وتفتروا الكذب، فإن الله يخبره أخباركم، ويعرفه أنباءكم، ويقومه على الصواب في أموره. أي: فوجود الرسول صلى الله عليه وآله وسلم بينكم ليس بالأمر الهين، فاتقوا الله أن تقولوا الباطل أو تفتروا الكذب، فإن الله يوحي إليه ويخبره بأخباركم، ويعرفه أنباءكم، ويقومه على الصواب في أموره. (( وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الأَمْرِ لَعَنِتُّمْ )). يقول الطبري : أي لو كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعمل في الأمور بآرائكم، ويقبل منكم ما تقولون له فيطيعكم؛ لنالكم عنت يعني: شدة ومشقة في كثير من الأمور بطاعته إياكم لو أطاعكم؛ لأنه كان يخطئ في أفعاله لو أنه بنى أفعاله وتصرفاته على كلامكم، لأنكم غير معصومين، كما لو قبل من الوليد بن عقبة قوله في بني المصطلق -يعني: إذا صح هذا الحديث- أنهم قد ارتدوا، ومنعوا الصدقة، وجمعوا الجموع لغزو المسلمين، فغزاهم فقتل منهم، وقتلتم من لا يحل له ولا لكم قتله، وأخذتم ما لا يحل لكم وله أخذه من أموال قوم مسلمين؛ فنالكم من الله بذلك عنت، والعنت: المشقة أو الهلاك أو الإثم أو الفساد. وقيل: إن قوله تعالى: (لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الأَمْرِ لَعَنِتُّمْ) مستأنف، ورد ذلك الزمخشري بأن قال: يمتنع هذا الاحتمال لأدائه إلى تنافر النظم. يعني أنه لو اعتبر (لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الأَمْرِ) كلاماً مستأنفاً لم يأخذ الكلام بحجز بعض؛ لأنه لا فائدة حينئذ في قوله: (وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ) إذا قطع عما بعده. وأجيب عن كلام الزمخشري بجواز أن يقصد به التنبيه على جلالة محله صلى الله عليه وسلم. أي فنقرأ: (واعلموا أن فيكم رسول الله) ونقف عليها، وذلك على القول بأن ما بعده مستأنف، وهو قوله: (لو يطيعكم). وعلى التفسير الثاني: يكون المقصود بقوله: (وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ) إعلامهم بقدرة وجلالة محله صلى الله عليه وسلم، وأنهم لجهلهم بمكانه مفرطون فيما يجب له من التعظيم، وفي أن شأنهم أن يتبعوه مادام فيهم، ولا يتبعوا آراءهم حتى كأنهم جاهلون بأنه بين أظهرهم، وبهذا يتبين جواز الاستئناف والوقف على رسول الله. إذاً يجوز وصل: (( وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الأَمْرِ لَعَنِتُّمْ )) ويجوز الوقف فتقول: (( وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ )) ثم تبدأ فتقول: (( لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُوْلَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ )). قوله: (وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ) أي: فما أجدركم أن تطيعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وتأتموا به، فيقيكم الله بذلك من العنت الذي كان سيقع عليكم فيما لو استتبعتم رأي رسول الله صلى الله عليه وسلم لرأيكم. (وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ) أي كره إليكم الكفر بالله، والفسوق: الكذب، والعصيان: مخالفة أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتضييع ما أمر الله به. (أُوْلَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ) أي: أولئك هم الموصوفون بمحبة الإيمان وكراهة غيره. والمعنى أن هؤلاء الذين حبب الله إليهم الإيمان وزينه في قلوبهم وكره إليهم الكفر والفسوق والعصيان (هُمُ الرَّاشِدُونَ) أي: السالكون طريق الحق. والراشدون: من الرشد، والرشد هو الاستقامة على طريق الحق مع تصلب فيه، يعني: شدة تمسك به، والرشاد الصخرة. قوله: (فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً) أي: إحساناً منه ونعمة أنعمها عليكم. (وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) أي: ذو علم بالمحسن والمسيء، وحكمة في تدبير خلقه وتصريفهم فيما شاءه من القضاء.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا..)

    قال تبارك وتعالى: وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ [الحجرات:9]. (وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا) أي: تقاتلوا (فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا). قال ابن جرير : أي: أصلحوا بينهما بالدعاء إلى حكم كتاب الله، والرضا بما فيه لهما وعليهما، وذلك هو الإصلاح بينهما بالعدل. (فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى). أي: فإن أبت إحدى هاتين الطائفتين الإجابة إلى حكم كتاب الله لها وعليها، وتعدت ما جعل الله عدلاً بين خلقه، وأجابت الأخرى منهما (فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي) أي: تعتدي وتأبى الإجابة إلى حكم الله (حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ) أي: ترجع إلى حكم الله الذي حكم في كتابه بين خلقه. قوله: (فَإِنْ فَاءَتْ) أي: رجعت الباغية بعد قتالكم إياها إلى الرضا بحكم الله في كتابه (فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ) أي: بالإنصاف بينهما، وذلك حكم الله في كتابه الذي جعله عدلاً بين خلقه (وَأَقْسِطُوا) أي: اعدلوا في كل ما تأتون وتذرون (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) أي: سيجازيهم أحسن الجزاء. وقول الله تبارك وتعالى: (فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا) يقال: قسط، إذا جار وظلم، والفعل هنا (وَأَقْسِطُوا) من (أقسط) إذا أزال الجور والظلم، يقال: إذا جاء القِسط زال القَسط. (إذا جاء القِسط) يعني: العدل، (زال القسَط) يعني: الجور. (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) فيجازيهم أحسن الجزاء. قال القاشاني : الاقتتال لا يكون إلا للميل إلى الدنيا، والركون إلى الهوى، والانجذاب إلى الجهة السفلية، والتوجه إلى المطالب الجزئية، والإصلاح إنما يكون من نزول العدالة في النفس التي هي ظل المحبة والوحدة، فلذلك أمر المؤمنون الموحدون بالإصلاح بينهما على تقدير بغيهما، والقتال مع المظلومة على تقدير بغي إحداهما حتى ترجع، لكون الباغية مضادة للحق دافعة له. وقوله: (وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا) الطائفة: تطلق على الواحد فأكثر.

    المعاصي لا تذهب الإيمان بالكلية

    وهذه الآية يستدل بها في مسألة مهمة متعلقة بقضايا الإيمان، وهي: أن المعاصي لا تذهب الإيمان ولا تستأصله وإنما تنقصه. فلا نقول كالمرجئة: لا يضر مع الإيمان ذنب لمن عمله، وإنما نقول: الذنب يضر. وكذلك لا نقول كما قالت الخوارج في الطرف الآخر: إن المعصية كفر وخروج من الملة. لكننا أهل السنة وسط بين الإفراط والتفريط في هذه المسألة وغيرها من المسائل، فالسنة بين الغلو والجفاء، فإذا قال الخوارج: إن المعصية تخرج من الملة. ويكفر صاحبها، وقال المرجئة في الطرف الآخر: إن المعصية لا تضر على الإطلاق بناءً على أن الإيمان هو مجرد المعرفة، فأهل السنة يقولون: كلا، لا هذا ولا ذاك، وأهل السنة مع الحق الموجود في كل من الطائفتين، وفي نفس الوقت بريئون من ضلالهما، فنحن نقول: إن المعصية تضر، لكن ضررها لا يذهب بأصل الإيمان، ولا يقتلع شجرة الإيمان، وإنما تنقص كمال الإيمان. فهذه الآية مما يستدل به على أن الكفر كفران: كفر أكبر، وكفر أصغر، فالكفر الأكبر: هو الذي يخرج صاحبه من الملة، وأما الكفر الأصغر فهو الكفر العملي الذي ينقص الإيمان. وقد ورد وصف قتال المؤمن بالكفر، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (سباب المسلم فسوق وقتاله كفر)، وقال عليه الصلاة والسلام: (لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض) وقد ورد ما يدل على أن القتل ليس خروجاً من الملة إلا بالاستحلال، يقول تبارك وتعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى [البقرة:178]فالمخاطبون بهذه الآية موصوفون بالإيمان، مع أن فيهم من قتل أخاً له؛ لأن القصاص يكون في القتلى. ثم قال: فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ [البقرة:178] فأثبت له أخوة الإيمان مع وقوع القتل، فدل على أنه لم يكفر بالقتل، ولم يخرج به من الملة، وإنما يستحق بذلك الوعيد والعذاب، كما قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار) يعني: هذا هو الوعيد، ومعلوم أن الوعيد لا يتحقق إلا بتوفر الشروط وانتفاء الموانع. هنا أيضاً قال تبارك وتعالى: (( وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا )) فوصفهم بالإيمان وأمر بالإصلاح بينهما، وقال بعد ذلك: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ [الحجرات:10] فأثبت أخوة الإسلام مع وصف النبي صلى الله عليه وسلم هذا الفعل بالكفر، فهذا كله مما يدل على أنه كفر دون كفر، وكل معصية من شعب الكفر يطلق عليها كفر، وكل طاعة من شعب الإيمان يطلق عليها إيمان كما سبق أن بينا ذلك بالتفصيل.

    سبب نزول الآية وذكر المقصود بالاقتتال

    قوله: (وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا) روي أن هذه الآية نزلت في طائفتين من الأوس والخزرج اقتتلتا في بعض ما تنازعتا فيه بالنعال والأيدي لا بالسيوف، فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فأتاهم فحجز بينهم وأصلح. وروي ذلك من طرق عديدة مما يقوي أن القتال الذي نزلت فيه كان حقيقياً. ويروى عن الحسن أن الاقتتال بمعنى: الكفر، والقتال بمعنى: الدفع مجازاً، قال فيما رواه الطبري عنه: كانت تكون الخصومة بين الحيين فيدعوهم إلى الحكم فيأبون أن يجيبوا؛ فأنزل الله: (( وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا )) أي: تخاصموا. (( فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا )). قوله: (فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي) أي: ادفعوا إلى الحكم، فكان قتالهم الدفع. وقال اللغويون: ليس كل قتال قتلاً، وقال الشافعي رحمه الله: ليس القتال من القتل بسبيل، قد يحل قتال الرجل ولا يحل قتله.

    ذكر السيوف التي بعث الله بها رسوله

    وهذه الآية هي أحد السيوف التي بعث بها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فإنه قد بعث بعدة سيوف. السيف الأول: سيف على المشركين حتى يسلموا أو يقتلوا، والدليل قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (أمرت أن أقاتل الناس -أي: المشركين- حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام وحسابهم على الله)، فهذا السيف الأول سيف على المشركين حتى يسلموا، ودليله الأوضح من القرآن الكريم آية السيف قال تعالى: فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ [التوبة:5]. السيف الثاني: سيف على أهل الكتاب حتى يسلموا أو يؤدوا الجزية عن يد وهم صاغرون، ودليله أيضاً في سورة براءة. السيف الثالث: سيف على أهل الإسلام، والمقصود بهم البغاة من أهل القبلة، وهم الفئة الممتنعة ذات القوة والعدد الذي تخرج بتأويل سائغ، وهذا النوع من السيوف لم يعمل به في عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وإنما كان أول من علم الأمة فقه قتال البغاة هو أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه كما سنبينه إن شاء الله تعالى. وحتى إذا قلنا: إن المقصود بالقتال الخصام على أساس القول المجازي في اللغة، فيمكن أن يحمل على أن الخصام يفضي إلى القتال أو إلى القتل، فلا مانع من أن يراد بالآية ما هو أعم لتكون الفائدة أشمل.

    من أحكام قتال البغاة

    يقول الشافعي : ليس القتال من القتل بسبيل، قد يحل قتال الرجل ولا يحل قتله. يعني: هو في حد ذاته بصفته مسلماً معصوم الدم، لكن لما خرج على الإمام بقوة مسلحة على الخليفة في جماعة وعصابة استحق أن يقاتل لا بغرض قتله، وإنما بقصد تعجيزه عن التمرد على الخليفة، فالمقصود من قتال البغاة أن يعجزوا عن رفع السيف على الخليفة، وليس المراد استحلال دمائهم. ولذلك نلاحظ فروقاً كثيرة بين قتال البغاة وقتال الكفار، ففي البغاة المقصود هو تعجيزهم لا استحلال دمائهم، فمثلاً الفار من ساحة القتال لا يتبع بخلاف حالة الكفار، والجريح لا يجهز عليه؛ لأنه بجرحه قد تحقق تعجيزه عن الخروج على الإمام، ولا تسبى نساؤهم لأنهم مسلمون، وغير ذلك من الأحكام، يقول الإمام الشافعي : ليس القتال من القتل بسبيل قد يحل قتال الرجل ولا يحل قتله، كحال الباغي فإنه يحل قتاله إلى أن يعجز، لكن لا يحل قتله لأنه مسلم معصوم الدم. يقول القاسمي رحمه الله تعالى في الإكليل: في الآية وجوب الصلح بين أهل العدل والبغي، وأن من رجع من أهل البغي وأدبر لا يقاتل، لقوله: (حَتَّى تَفِيءَ) فمن أدبر وهرب من ساحة القتال كان ذلك نوعاً من الفيء والرجوع عن التمادي في التمرد. وقد روى سعيد عن مروان قال: صرخ صارخ لـعلي يوم الجمل: لا يقتل مدبر، ولا يجهز على جريح، ومن أغلق بابه فهو آمن، ومن ألقى السلاح فهو آمن! لأن هؤلاء كانوا بغاة وليسوا كفاراً، فصرخ صارخ لـعلي يوم الجمل: (لا يقتل مدبر) اي أن من يفر من الساحة لا يقتل ولا يتتبع، (ولا يجهز على جريح) فمن جرح وفقد القدرة على الاستمرار في القتال لا يجهز عليه، بخلاف جريح الكفار، (ومن أغلق بابه فهو آمن ومن ألقى السلاح فهو آمن). وقد اتفق الفقهاء على حرمة قتل مدبرهم وجريحهم، وأنه لا يغنم لهم مال ولا تسبى لهم ذرية؛ لأنهم لم يكفروا ببغيهم ولا قتالهم، وعصمة الأموال تابعة لدينهم، ولذا يجب رد ذلك إليهم إن أخذ منهم، ولا يضمنوا ما أتلفوه حال الحرب من نفس أو مال، ومن قتل من أهل البغي غسل وكفن وصلي عليه، فإن قتل العادل كان شهيداً، يعني: إن كان القتيل من أهل العدل ومن الفئة التي هي مع الإمام الحق ففي هذه الحال يكون شهيداً، فلا يغسل ولا يصلى عليه؛ لأنه قتل في قتال أمره الله تعالى به، كشهيد معركة الكفار. هذا الكلام كله لم يعجب الخوارج؛ لأن الخوارج يأخذون بأقصى طرف في هذه المسألة، فلذلك نقموا على علي رضي الله تعالى عنه هذا المسلك مع البغاة، فكان مما أخذوه على علي رضي الله تعالى عنه أنه لا يسبي نساءهم ولا يغنم أموالهم، بناءً على أنهم كفروا عند الخوارج؟! أما ابن عباس رضي الله تعالى عنه فلما بعث من قبل علي كي يناظرهم فقد قال لهم: أتسبون أمكم عائشة رضي الله تعالى عنها؟! وإن أظهر قوم رأي الخوارج ومذهبهم المنحرف، كاعتقادهم تكفير من ارتكب كبيرة، أو ترك الجماعة -خرج على الجماعة- واستحلال دماء المسلمين وأموالهم، إلا أنهم ما داموا لم يجتمعوا لحرب لم يتعرض لهم، لكن يتعرض لهم بإقامة الحجة والجدال بالتي هي أحسن، وغير ذلك من الأساليب السلمية، لكن لا ينصب لهم القتال إلا إذا اجتمعوا للحرب، وإن جنوا جناية وأتوا حداً يقيمه عليهم الإمام. وإن اقتتلت طائفتان لعصبية أو طلب رئاسة فهما ظالمتان؛ لأن كل واحدة منهما باغية على الأخرى، وتضمن كل واحدة منهما ما أتلفت على الأخرى.

    من فوائد الآية

    وفي الآية فوائد منها: أن البغاة لم يخرجوا بالبغي عن الإيمان، فهم مازالوا من أهل القبلة، ولهم أحكام أهل القبلة، فوقوع ذنب القتال مع البغي لا يخرجهم من الإيمان كما بينا وذكرنا الأدلة على ذلك. وفي الآية أن الله سبحانه وتعالى أوجب قتالهم؛ لأن هناك أمراً بالقتال: (( فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ )) وأنه أسقط عنهم التبعة فيما أتلفوه في قتالهم. وفيها أيضاً قتال كل من منع حقاً عليه، والأحاديث بذلك مشهورة، منها ما روى عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: (بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة في المنشط والمكره، وألا ننازع الأمر أهله) والحديث متفق عليه. وأجمع الصحابة على قتال البغاة، فإن أبا بكر قاتل مانعي الزكاة، والحقيقة نحن نستفيد في فقه قتال البغاة مما حصل في قتال علي رضي الله تعالى عنه مع الفئة الباغية، أما أول من قاتل البغاة فهو أبو بكر رضي الله تعالى عنه، فقد قاتل طائفة من أهل القبلة وهم مانعو الزكاة، لكن لما اختلط الأمر كان الذين يقاتلهم أبو بكر رضي الله تعالى عنه منهم من منع الزكاة بتأويل، ومنهم من ارتد عن الإسلام، إلا أنه غلب على تلك الحروب اسم حروب الردة، فهذا الإطلاق هو على سبيل التغليب؛ لأن منهم من منع الزكاة متاولاً قوله تعالى: خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا [التوبة:103] قالوا: أما بعد النبي عليه الصلاة والسلام فليس للإمام أن يأخذ منا الصدقة؛ لأنه ليست دعوته وتزكيته كفعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فهذا تأويل اجتمعوا عليه وقاتلوا من أجله في منع الزكاة، ولم يرتدوا عن الإسلام. فإذاً: أبو بكر يعتبر أول من قاتل البغاة؛ لكن لم يتمحض قتاله للبغاة، وإنما اختلط بقتال أهل الردة، وكان ذلك الغالب، فأطلق عليها إجمالاً حروب الردة، أما علي رضي الله تعالى عنه فقد قاتل أهل الجمل وأهل صفين.

    أحداث العراق والكويت ومغبة التحاكم إلى غير الشرع

    وتدل الآية أيضاً على وجوب معاونة من بغي عليه، والدليل على ذلك قوله تبارك وتعالى: (( فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ )). ولا شك أننا بعد أحداث الخليج وما حصل من غزو الكويت كنا أحوج ما نكون إلى تطبيق هذه الآية، ولكن من الذي يعتبر نفسه مخاطباً بوصف الإيمان حتى يفعل ذلك؟ أعني أن حادثة العراق والكويت مما يؤرخ له، وقد اختلف ما بعدها تماماً عما قبلها كحادثة الفيل وغيرها من الأحداث العظيمة، ولا يخفى الشر الذي حصل، وكأنه والله أعلم هو المقصود من قول النبي عليه الصلاة والسلام: (ويل للعرب من شر قد اقترب)، فبمجرد حصول هذه الفتنة وعدم الإصغاء إلى حكم الله سبحانه وتعالى ذاقت الأمة على جميع المستويات الويل من تلك اللحظة، فما من أحد إلا ودفع الثمن، لا أقول العمال الذين فقدوا مرتباتهم، فهذه أبسط الأشياء، ولكن هذه الأمة التي طحنت وأهينت ومزقت شر ممزق، وإلى الآن لا نزال نسمع صراخ مندوبي العراق في كل المنتديات الدولية: ارفعوا العقوبات! ارفعوا العقوبات! وذلك بعد أن دمر كل ما عندهم من السلاح، وهلك الأطفال من الجوع، وحصل التشرد وغيره من البلاء الذي وقع بالأمة. فانظر كيف ندفع ثمن حماقة الحمقى من هؤلاء الظالمين، بسبب تغلب رأيهم وعنادهم أو لغير ذلك من الأسباب، فهذا أنموذج من نماذج حرمان الأمة من هدي القرآن الكريم، ومن تحكيم كتاب الله سبحانه وتعالى فيما بينها، ولو قدر أنه حصل تحكيم فعلي للشرع -على ما هم فيه من الانحراف عن الإسلام- وحسم الأمر بطريقة شرعية كما هو المندوب إليه في هذه الآية، لما حصل ما حصل الآن. لكن جاءت الجيوش الغربية بقضها وقضيضها، وملأت الجزيرة العربية بحجة حماية البترول، ثم بعد ذلك بقيت كل هذه الجيوش المجيشة عند عصابة اليهود في فلسطين وديعة من حق اليهود أن يستعملوها عند الحاجة، فهي باقية راسخة، ولا يستطيع أحد أن يزحزحها، فكل هذا الشر إنما أتى من شؤم مخالفة أمر الله عز وجل الذي توضحه هذه الآية، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (وما لم تحكم أئمتهم بكتاب الله ويتخيروا مما أنزل الله إلا جعل الله بأسهم بينهم). وقول الله تبارك وتعالى: وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا [النساء:141]، هذا ليس على إطلاقه، حتى يبدأ المؤمنون بظلم بعضهم البعض، ويبغي بعضهم على بعض، ويستحل بعضهم بيضة بعض، فحينئذ يعاقبون بتسليط الكافرين عليهم. فهذا كله من شؤم الانحراف عن هدي كتاب الله، فنحن جميعاً ندفع الثمن، لا يوجد أحد على الإطلاق لم يدفع الثمن سواء في العراق أو في غيرها، فالناس في كل البلاد الإسلامية يدفعون الثمن، ويتحملون ما هم فيه من ذل وهوان واستضعاف من قوى الكفر، حتى وصلوا إلى تجريد الأمم الإسلامية من أسلحتها وتدميرها، وإضعاف اقتصادها، إلى غير ذلك من الشؤم والنحس الذي جره على المسلمين هؤلاء الطواغيت، فإلى الله سبحانه وتعالى المشتكى! فهذه لفتة لبيان بركة تحكيم كتاب الله على الأمة كلها، وشؤم النفور والاستكبار والانقياد لحكم الله سبحانه وتعالى، والذي أدى إلى الاستغاثة بالكفار، كي يمنعوا ظلم هذا الطاغية، فالله المستعان.

    وجوب النصح وإصلاح ذات البين

    فهذه الآية تدل أيضاً على وجوب تقديم النصح؛ لأن الله سبحانه وتعالى يقول: (( فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا )) فهذا أمر، والأمر يدل على الوجوب، وقال عز وجل أيضاً: فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ [الأنفال:1] وبين النبي صلى الله عليه وسلم أن فساد ذات البين هي الحالقة، وقال: (لا أقول تحلق الشعر ولكن تحلق الدين). فالآية تفيد وجوب تقديم النصح: (( فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا ))، وعلى السعي في المصالحة، وذلك ظاهر في قوله: (( وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا )) يعني: ليس بمجرد الكلام والاقتراح، ولكن بالسعي الدءوب والعملي إلى الإصلاح، حتى لو وصل إلى قتال الفئة الباغية، فإذاً: هذا يدل على أن النصح ليس نصحاً مجرداً، وإنما معه إجراءات عملية. وهنا الآية بدأت بمثنى: (وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) فوجه الجمع في (اقتتلوا) هو الحمل على المعنى دون اللفظ؛ لأن الطائفتين بمعنى القوم والناس، والنكتة في اعتبار المعنى أولاً واللفظ ثانياً عكس المشهور في الاستعمال -فالمشهور في الاستعمال اعتبار اللفظ أولاً ثم المعنى ثانياً- والنكتة في ذلك ما قيل: إنهم أولاً في حال انقسامهم مختلفون مجتمعون، فلذا جمع أولاً ضميرهم، وفي حال الصلح متميزون متفارقون، فلذا ثنى الضمير: (وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا). ثم قال: (فأصلحوا بينهما) فثنى على أساس أنهم في ساحة القتال يكون كل واحد منحازاً، فهم طائفتان متمايزتان. وناسب قرن الإصلاح الثاني بالعدل دون الأول، لأن الإصلاح الثاني وقع بعد المقاتلة ففيه مظنة للتحامل عليهم بالإساءة، أو لإيهام أنهم لما أحوجوهم للقتال استحقوا الحيف عليهم. أي: قد يقول القائد أو الإمام الذي قاتل الباغية حتى استسلمت للصلح: إنه اضطر إلى قتال هذه الفئة التي لم تنصت لنداء النصيحة والإصلاح بالمعروف، فماداموا قاتلونا، فهم يستحقون أن نجور عليهم، وأن ننتقم منهم، فأكد الشرع الشريف على وجوب لزوم العدل حتى وإن حصل منهم قتال؛ فلذلك قال: (فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ)، وقدم أولاً: (فأصلحوا بينهما) بدون ذكر العدل؛ لأن ذلك قبل مقاتلة الباغية فليس الأمر مستدعياً للحيف. قول الله تبارك وتعالى: (وأقسطوا) من أقسط الرباعي، وهمزته للسلب، يعني: مثل بعض الأفعال في اللغة الإنجليزية عندما تنفيها تقدم عليها حرفاً في الأول مثل حرف [E] فكذلك الهمزة هنا جاءت للسلب كما بينا ذلك من قبل، يقال: أقسط إذا أزال القسط الذي هو الجور، كما تقول: شكوته فلم يشكني، أي: فلم يجب شكواي، وشكى إلي فأشكيته، يعني: أزلت شكواه، فهذه الهمزة هي لسلب القسط الذي هو الجور، فالمقصود (وَأَقْسِطُوا) أي: أزيلوا الجور واعدلوا، بخلاف (قسط) الثلاثي فمعناه: جار، قال تعالى: وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا [الجن:15]، وهذا هو المشهور خلافاً للزجاج، في جعلهما سواء؛ أفاده الكرخي.

    كلام القرطبي في تفسير الآية

    يقول الإمام القرطبي رحمه الله تبارك وتعالى في تفسير هذه الآية الكريمة: قال العلماء: لا تخلو الفئتان من المسلمين في اقتتالهما: إما أن يقتتلا على سبيل البغي منهما جميعاً أو لا. فإن كان الأول فكلاهما باغية، فالواجب في ذلك أن يمشي بينهما بما يصلح ذات البين، ويثمر المكأفاة والموادعة. فإن لم يتحاجزا ولم يصطلحا وأقامتا على البغي صير إلى مقاتلتهما. وأما إن كان الثاني وهو أن تكون إحداهما باغية على الأخرى، فالواجب أن تقاتل فئة البغي إلى أن تكف وتتوب، فإن فعلت أصلح بينها وبين المبغي عليها بالقسط والعدل. فإن التحم القتال بينهما لشبهة دخلت عليهما، وكلتاهما عند أنفسهما محقة؛ فالواجب إزالة الشبهة بالحجة النيرة، والبراهين القاطعة على مراشد الحق، فإن ركبتا متن اللجاج ولم تعملا على شاكلة ما هديتا إليه ونصحتا به من اتباع الحق بعد وضوحه لهما، فقد لحقتا بالفئتين الباغيتين، والله أعلم. يقول أيضاً: في هذه الآية دليل على وجوب قتال الفئة الباغية المعلوم بغيها على الإمام أو على أحد من المسلمين، وعلى فساد قول من منع من قتال المؤمنين، واحتج بقول النبي صلى الله عليه وسلم: (قتال المؤمن كفر)، ولو كان قتال المؤمن الباغي كفراً لكان الله تعالى قد أمر بالكفر، تعالى الله عن ذلك. قوله: (وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا) حصل القتال، وأثبت لهما مع ذلك وصف الإيمان، ثم قال بعدها مباشرة: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ فأثبت أخوة الإيمان مع وجود الاقتتال، فدل على أنه قد يقاتل المسلمون والمؤمنون إذا كانوا بغاة، فأما من احتج بقول النبي عليه الصلاة والسلام: (قتال المؤمن كفر) ومنع قتال المؤمن مطلقاً فنقول: هذا غير صحيح، وإلا لو كان قتال المؤمن الباغي كفراً لكان الله تعالى قد أمر بالكفر تعالى الله عن ذلك؛ لأن الله قال: (( فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ ))، وقد قاتل الصديق رضي الله تعالى عنه من تمسك بالإسلام، وامتنع من الزكاة، وأمر ألا يتبع مول، ولا يجهز على جريح، ولم تحل أموالهم؛ بخلاف معاملة الكفار.

    التنبيه على التكفير الطائش وابتغاء الفرد إقامة الحدود

    بعض الناس كان يتكلم على أساس أنه ينقل كلاماً لـشيخ الإسلام في حكم من امتنع من شعيرة ظاهرة من شعائر الإسلام، وهذه مشكلة كبيرة، وهي أننا بين وقت وآخر نجد من يأخذ النصوص من الكتب دون ربطها بالواقع أو الالتفات إلى اختلاف الواقع الذي كتبت فيه هذه النصوص عن الواقع الذي نعيشه، فنحن نقرأ في كتب الفقه كثيراً أن تارك الصلاة يقتل، وأن من فعل كذا يقتل، وأن من شرب الخمر يحد، وأن السارق تقطع يده، وهكذا، فبعض الناس في وقت من الأوقات ذهبوا إلى التأثم والشعور بأنهم آثمون إن لم يقاتلوا الطائفة التي امتنعت عن شرائع الإسلام. ومعلوم أن أي نص في كتب الفقه فيه أن من فعل كذا قتل، فهذا ليس لآحاد الرعية بإجماع العلماء، فالحدود لا يقيمها آحاد الرعية أبداً، وإنما يقيمها الإمام الخليفة، أما أن كل واحد سواء كان عالماً أو داعية أو غير ذلك يظن أنه مسئول ومحاسب إذا لم يقم الحدود، فهذا بلا شك أمر في غاية الخطورة؛ لأن موضوع إقامة الحدود يسبقه إجراءات يجريها القضاء الشرعي من التثبت والتحري والتحقيق، وفي يده سلطة تجبر الناس على تنفيذ هذه الأشياء، أما بخلاف ذلك فلا ينبغي أن يقدم بعض الناس على إيقاد نيران الفتن والبلايا على الدعوة بسبب هذه الاجتهادات. وأعرف بعض الإخوة في أمريكا، حيث كان الإخوة الأمريكان الأفارقة يدخلون في الإسلام بحماس قوي؛ لكن مع جهل قوي جداً، فمجرد أنه يعرف أحدهم أن شارب الخمر يجلد يريد تنفيذ حكم الله سبحانه وتعالى، فكان بعضهم يدخل إلى الحانات، وأماكن فيها بعض المسلمين المفرطين ممن يشرب الخمر، فيدخل كي يعمل اختباراً ويتأكد أنه مسلم فيقول: السلام عليكم يا أخي! هو يتكلم إنجليزي لكن هذه يقولها بالعربي، فلو رد عليه فإنه يتأكد أنه مسلم، فيقول له: أنا أريدك فقط في كلمتين في الخارج، فيخرج معه فيوسعه ضرباً على أساس أنه يقيم الحد! وموضوع إقامة الحد قد سبق أن ناقشته في محاضرة مفصلة أو محاضرتين، فالحدود من شأن الحاكم وولي الأمر! وكان بعض الإخوة للأسف الشديد يأتون في أثناء النقاش بنصوص من كلام لشيخ الإسلام ابن تيمية في قتال البغاة، فنقول: نعم؛ لكن الذي يقاتل هو الإمام لأنه ذو سلطة وقوة حتى تنتظم الأمور، وإلا لو أن كل واحد أقام الحد على الثاني بمجرد الدعاوى والشائعات، وبالجهل وعدم التثبت، ولم يوجد قضاء ولا تحقيق؛ إذاً لادعى أناس دماء أناس وأموالهم، فتصير الأمور فوضى. فهذه فائدة عابرة: وهو أنه يقاتل من امتنع عن شعيرة من شعائر الإسلام الظاهرة، حتى الأذان أو ركعتي الفجر، فلو اتفق أهل القرية على الامتناع من هذه الشعائر الظاهرة فإنهم يقاتلون، لكن من الذي يقاتلهم؟ الإمام أو الخليفة، فهو الذي يقاتلهم ويجبرهم على الرجوع إلى الجادة، أما آحاد الناس أو مجموعات صغيرة فهذا مما لا يكون، وسبق أن تكلمنا مراراً أن الجهاد إنما هو وظيفة أمة وليس وظيفة آحاد قليلة من الناس لا تحسن وزن الأمور. الشاهد: أن الفئة الباغية تقاتل، لكن الذي يقاتلها هو الإمام الحق. وبعض الناس أصلاً هو زرع في قناعته أنه لابد من أن يقاتل هو، ثم يبحث عن مبرر، فكنت أناقش أحدهم في موضوع الكفر أو عدم الكفر لهؤلاء الناس الذين يقاتلونهم، فقلت له: كيف تحكم بكفرهم؟ قال: إن لم نحكم بكفرهم لم يجز أن نقاتلهم، فلابد أن أكفرهم لكي يحل لي أن أقاتلهم! هذا هو الأسلوب العجيب في التكفير، هو يفرض على نفسه قناعة ثم يبحث عن المسوغات، وغاب عنه أنه يمكن أن تكون طائفة مؤمنة ومع ذلك يحل قتالها، وليس بشرط أن يكفرهم لكي يقاتلهم، ولكن مع ذلك حتى لو حل قتالهم فالذي يقاتل هو الإمام وليس آحاد الرعية، وقد قاتل الصديق رضي الله عنه من تمسك بالإسلام وامتنع من الزكاة، وأمر ألا يتبع مول، ولا يجهز على جريح، فلم تحل أموالهم بخلاف الواجب في الكفار.

    ذم السلبية والتقاعس عن الواجبات الشرعية

    وقال الطبري : لو كان الواجب في كل اختلاف يكون بين الفريقين الهرب منه، ولزوم المنازل، لما أقيم حد ولا أبطل باطل، ولوجد أهل النفاق والفجور سبيلاً إلى استحلال كل ما حرم الله عليهم من أموال المؤمنين، وسبي نسائهم وسفك دمائهم، بأن يتحزبوا عليهم، ويكف المسلمون أيديهم عنهم، وذلك مخالف لما جاء في الأثر: (خذوا على أيدي سفهائكم). فمسألة الاحتجاج بأن الإنسان يعتزل الفتنة ولا يقاتل لا مع هذا ولا مع ذاك، وأن له ألا ينحاز إلى الإمام الحق لا تجوز؛ لأنه لو عمم هذا الأمر وتحرج جميع المسلمين من قتال الفئة الباغية لأنهم مسلمون، وأن قتال المسلم كفر، فسوف تعلو كلمة أهل الفساد، ويكون الفساد العريض، وهذه التربية رأينا نماذج لها، وهي أسوأ ما تكون في أوضاعنا المعاصرة الآن، هي السلبية والهروب من مواجهة المحن بالمنهج الشرعي الصحيح والسليم. ونجد في تراجم العلماء والصالحين والأئمة شيئاً يمكن أن يوصف بالسلبية، لكن هو في الحقيقة ليس سلبية، فمثلاً عمر بن عبد العزيز كان يخطب على المنبر فكأنه داخله شيء في نيته أو خشي على نيته وإخلاصه، فمزق الكتاب وقطع الخطبة ونزل، فممكن أن شخصاً إذاً يقول: أنا هذا الوقت لا أقدر أن ألقي دروساً ولا آمر بالمعروف ولا أنهى عن المنكر؛ لأنه قد يكون في نيتي شيء. يأتون بكلام في تراجم عشرات من الأئمة أنهم كانوا يكرهون على القضاء، والإمام مالك، جلد، والإمام أبو حنيفة جلد لكي يقبل القضاء، فأبى وهرب من القضاء.. إلى آخره، ومن راجع مقدمة كتاب الخراج لـأبي يوسف رأى أنه أثبت رسالة طويلة جداً من سفيان الثوري إلى صديقه القديم هارون الرشيد قبل أن يلي الخلافة، لكنه قاطعه وخاصمه عندما قبل تولي الخلافة؛ لأنه بذلك سوف يقع في شيء من الانحراف عن المنهج السابق، وانحياز إلى الحكام وكذا. وفي الحقيقة هذا كلام مستساغ في زمانهم؛ لأن الأمة كأمة هي موجودة ومتظافرة، وإذا تقاعس أو انحاز أو انسحب شخص فهناك عشرات بل مئات بل آلاف في امتداد رقعة العالم الإسلامي يخلفونه في هذه الوظيفة، ويؤدى بها فروض الكفايات، فلا يحصل خلل في المسيرة العامة للأمة، أما الآن فلا يصح لأحد أن يحتج بهذه المواقف التي يمكن أن توصف تجاوزاً بأنها سلبية؛ لأن الفقهاء كانوا أعقل وأعلم وأورع من أن يتواطئوا على ترك الخلافة من أجل الإعراض عن الدنيا، وترك القضاء والهروب من المناصب الشرعية. إذاً: من يقيم الشرع في الناس؟ فيعلو أهل الفسق ويغلب الكفار المسلمين، ويغزونهم في ديارهم، ففي ذلك الوقت لم تكن هذه الخطورة قائمة، أما العلماء فما من أحد منهم إلا ونعلم أنه لو كان قد تعين عليه شيء لما تركه، لكن قد يترك أحدهم منصباً لأن هناك مئات وآلاف العلماء والقضاة والمجتهدين في كل بقاع العالم الإسلامي، فهو مطمئن إلى أن فرض الكفاية سوف تسد ثغرته، وهو يرى نفسه أضعف من أن يلي هذا الأمر، ويخشى الحساب يوم القيامة، للأحاديث التي جاءت في الترهيب من ولاية القضاء مثلاً، وليس معنى ذلك أن ينسحب المسلمون عن بكرة أبيهم ليكونوا سلبيين. ونحن قد رأينا في آخر دعوة تجديدية في القرن الثاني عشر كيف كان الأمر عندما ضم التحالف عنصراً سياسياً مع عنصر العلم الشرعي، ولكن لما انفصل الاثنان حصل بمرور الزمن الافتراق والفجوة بينهما، بل وهناك فئة جذبت الأخرى معها؛ لأنه كان أتباع الإمام المجدد في ذلك الوقت يتحرجون من الولايات الشرعية، فكانوا يقولون: نحن نجاهد وندعو ونضحي لكن لا نريد الدنيا، فتركت في أيدي الساسة، فآل الأمر إلى ما آل إليه بسبب هذا الانفصال. فالسلبية الآن لا محل لها، لأن الأمة في أوضاع يرثى لها، فكل من يستطيع البلاغ فليبلغ، فالرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (بلغوا عني ولو آية) فلا يحقرن أحد نفسه في أي دور يستطيع أن يقوم به بصورة إيجابية في الدعوة والتعليم، فلا يتقاعس بحجة أن نيته فاسدة، فيقول: أخاف ألا أكون مخلصاً، ولم أتأهل، وحينئذ يكون الثمن غالياً! فهذا تنبيه عابر لمناسبة موضوع السلبية في الفتن، وممكن أن يكون الإنسان في الفتن سلبياً تماماً ما لم يبن له الحق مع أحد الطرفين، خاصة في أواخر الزمان، والفتن التي يتخذ الإنسان فيها سيفاً من خشب أو كما أمر النبي عليه الصلاة والسلام أن يكون كابن آدم المقتول ظلماً، وهو هابيل : (كن كخير ابني آدم ولا تقاوم) هي أمر آخر، وهذه أوضاع خاصة، لكن القاعدة: أن الإنسان لا يكون سلبياً إزاء الواجبات الشرعية، ويظن أنه بهذا التورع الكاذب معفي من المسئولية أمام الله سبحانه وتعالى. قال الطبري رحمه الله: لو كان الواجب في كل اختلاف يكون بين الفريقين الهرب منه، ولزوم المنازل، لما أقيم حد، ولا أبطل باطل، ولوجد أهل النفاق والفجور سبيلاً إلى استحلال كل ما حرم الله عليهم من أموال المسلمين، وسبي نسائهم، وسفك دمائهم. وذلك أن يتحزبوا عليهم ويكف المسلمون أيديهم عنهم. وممكن أن يكون البغاة مسلمين، لكنهم فسقة وظلمة وفجار ينتهكون الأعراض، ويسفكون الدماء، ويفسدون في الأرض، فلو كف عنهم أهل الخير والصلاح وانسحبوا وهربوا وقالوا: نعتزل الفتن، لكان ذلك تقوية لشوكة أهل الفساد، فيعلون على المسلمين وهم فسقة، وإذا حكم الفاسق فقد حكم الفسق؛ ولابد أنه في منهجه سيكون مروجاً للفسق، فأين ذلك من الأمر بالأخذ على أيدي السفهاء؟!

    كلام ابن العربي على قتال علي لمن بغوا عليه

    قال القاضي أبو بكر بن العربي رحمه الله تعالى: هذه الآية أصل في قتال المسلمين، والعمدة في حرب المتأولين، وعليها عول الصحابة رضي الله عنهم، وإليها لجأ الأعيان من أهل الملة، وإياها عنى النبي صلى الله عليه وسلم بقوله (تقتل عماراً الفئة الباغية). فلا شك أنه بمقتل عمار يكون قد حسم الأمر؛ لأن الرسول عليه الصلاة والسلام وصف الفئة التي تقتل عماراً بأنها هي الفئة الباغية، وقول النبي صلى الله عليه وسلم في فعل الخوارج: (تمرق مارقة على حين فرقة من المسلمين تقتلها أدنى الطائفتين إلى الحق) واضح جداً في أن كلا الطائفتين على حق، لأن أفعل التفضيل تقتضي المشاركة في أصل الصفة، ولكن هناك فئة أولى بالحق من غيرها، وهي فئة علي رضي الله تعالى عنه، وكان الذي قتل الخوارج علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه ومن كان معه. فتقرر عند علماء المسلمين وثبت بدليل الدين أن علياً رضي الله عنه كان إماماً حقاً، وأن كل من خرج عليه باغ، وأن قتاله واجب حتى يفيء إلى الحق وينقاد إلى الصلح؛ لأن عثمان رضي الله تعالى عنه قتل، والصحابة برآء من دمه؛ لأنه منع من قتال من ثار عليه، وقال: لا أكون أول من خلف رسول صلى الله عليه وسلم في أمته بالقتل، فصبر على البلاء، واستسلم للمحنة، وفدى بنفسه الأمة رضي الله تعالى عنه. ثم لم يمكن ترك الناس سدى، فعرضت على باقي الصحابة الذين ذكرهم عمر في الشورى وتدافعوها، وكان علي رضي الله عنه أحق بها وأهلها، وقبلها حوطة على الأمة أن تسفك دماؤها بالتهارج والباطل، أو يتخرق أمرها إلى ما لا يتحصل، فربما تغير الدين، وانقض عمود الإسلام، فلما بويع له طلب أهل الشام في ترك البيعة التمكن من قتلة عثمان وأخذ القود منهم، فقال لهم علي رضي الله عنه: ادخلوا في البيعة واطلبوا الحق تصلوا إليه، فقالوا: لا تستحق بيعة وقتلة عثمان معك تراهم صباح مساء. فكان علي في ذلك أسد رأياً وأقرب قيلاً؛ لأن علياً لو تعاطى القود منهم لتعصبت لهم قبائل وصارت حرباً ثالثة، فانتظر بهم أن يستوثق الأمر، وتنعقد البيعة، ويقع الطلب من الأولياء في مجلس الحكم فيجري القضاء بالحق، ولا خلاف بين الأمة أنه يجوز للإمام تأخير القصاص إذا أدى ذلك إلى إثارة الفتنة أو تشتيت الكلمة، وكذلك جرى لـطلحة والزبير فإنهما ما خلعا علياً من ولاية، ولا اعترضا عليه في ديانة، وإنما رأيا أن البداءة بقتل أصحاب عثمان أولى.

    وقعة الجمل دبرها قتلة عثمان

    وقال جملة من أهل العلم: إن الوقعة بالبصرة بينهم جرت على غير عزيمة منهم على الحرب، بل فجأة، وعلى سبيل دفع كل واحد من الفريقين عن أنفسهم؛ لظنه أن الفريق الآخر قد غدر به؛ لأن الأمر كان قد انتظم بينهم على الصلح والتفرق على الرضا، فخاف قتلة عثمان رضي الله عنه من التمكين منهم والإحاطة بهم، فاجتمعوا وتشاوروا واختلفوا، ثم اتفقت آراؤهم على أن يفترقوا فريقين ويبدءوا بالحرب سحرة في العسكرين، وتختلف الضربات بينهم، وتختلف السهام بينهم، ويصيح الفريق الذي في عسكر علي : غدر طلحة والزبير ، والفريق الذي في عسكر طلحة والزبير : غدر علي، فتم لهم ذلك على ما دبروه، ونشبت الحرب، فكان كل فريق دافعاً لمكرته عند نفسه، ومانعاً من الإشاطة بدمه، وهذا صواب من الفريقين وطاعة لله تعالى، إذا وقع القتال والامتناع منهما على هذه السبيل، وهذا هو الصحيح المذكور. الحقيقة أن هذا حديث ذو شجون، وبقي تنبيهات قليلة تتعلق بموضوع ما وقع بين الصحابة رضي الله تعالى عنهم أجمعين؛ لأنه انتشرت الآن أشرطة للدكتور طارق السويدان فيها كلام مفصل في موضوع ما شجر بين الصحابة رضي الله تعالى عنهم ومحاولة إنهاء الأمر. والحقيقة أن بعض العلماء كان له بعض التحفظات على إشاعة الكلام عما حصل بين الصحابة بهذه الطريقة، فبعض العلماء ألف في ذلك وبين أن ما نص عليه العلماء هو أنه ينبغي الإمساك عن ذلك وعدم الخوض فيه، ومنهم الإمام النووي رحمه الله تعالى حيث قال: واعلم أن الدماء التي جرت بين الصحابة رضي الله عنهم ليست بداخلة في هذا الوعيد -أي: في حديث: (إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار)- ومذهب أهل السنة والحق إحسان الظن بهم، والإمساك عما شجر بينهم، وتأويل قتالهم، وأنهم مجتهدون متأولون لم يقصدوا معصية ولا محض الدنيا، إنما اعتقد كل فريق أنه المحق ومخالفه باغ فوجب عليه قتاله ليرجع إلى الله، وكان بعضهم مصيباً وبعضهم مخطئاً معذوراً في الخطأ لأنه اجتهاد، والمجتهد إذا أخطأ لا إثم عليه. هذا فيما يتعلق بموقف أهل السنة من قتال الصحابة؛ ربما يكون الدكتور طارق السويدان له رأي في هذه المسألة، ويمكن أيضاً أن يكون له وجه من النظر، بل هو يقول: أنا أضطر للكلام والتفصيل؛ لأن عامة كتب التاريخ التي تدرس في أغلب بقاع العالم الإسلامي فيها تاريخ مزور، فالناس قد تلوثوا بالباطل، فلزم إذهاب هذا الباطل وهذا التزوير في التاريخ الإسلامي، ببيان حقيقة ما أشيع. والله أعلم.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    755993393