إسلام ويب

تفسير سورة محمد [4-6]للشيخ : محمد إسماعيل المقدم

  •  التفريغ النصي الكامل
    1.   

    تفسير قوله تعالى: (فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب...)

    إن الحمد لله، نحمده تعالى ونستعينه ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتد، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله. اللهم! صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد، اللهم! بارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد. أما بعد: قال تبارك وتعالى: فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ * سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ * وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ [محمد:4-6]. قوله تعالى: ((فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ))، لما ميز الله سبحانه وتعالى بين الفريقين أمر المؤمنين بجهاد الكفار، (فإذا لقيتم) أيها المؤمنون! ((الذين كفروا فضرب الرقاب)). قال ابن عباس في الذين كفروا هنا: هم الكفار المشركون عبدة الأوثان، ويقول: هم كل من خالف دين الإسلام من مشرك أو كتابي إذا لم يكن صاحب عهد ولا ذمة، ذكره الماوردي ، واختاره ابن العربي فقال: وهو الصحيح؛ لعموم الآية فيه، أي: أن الآية أتت بصيغة عموم ((الذين كفروا))، فتعم كل من كفر سواء كان يهودياً أو نصرانياً أو وثنياً. (( فَضَرْبَ الرِّقَابِ )) ضرْب: مصدر، قال الزجاج في قوله: ((فضرب الرقاب)): أي: فاضربوا الرقاب ضرباً، وخص الرقاب بالذكر لأن القتل أكثر ما يكون بقطع الرقاب، وقيل: إنه لفظ دل على الإغراء، أي: فالزموا ضرب الرقاب. قال أبو عبيدة : وهو كقولك: يا نفس! صبراً، إغراءً بالصبر، أي: يا نفس! اصبري صبراً. وقيل: التقدير: فاقصدوا ضرب الرقاب. وقال بعض العلماء: الحكمة من قوله تعالى: (( فَضَرْبَ الرِّقَابِ )) ولم يقل فاقتلوهم أن في التعبير بضرب الرقاب من الغلظة والشدة ما ليس في لفظ القتل؛ لما فيه من تصوير القتل بأبشع صوره، وهو حز العنق، وإطارة العضو الذي هو رأس البدن وأوجَه أعضائه. قوله: (( حَتَّى إِذَا أَثْخَنتُمُوهُمْ )) أي: أثخنتم القتل، قال الشوكاني : حتى إذا بالغتم في قتلهم، وأكثرتم القتل بهم، وهذه غاية للأمر بضرب الرقاب لا لبيان غاية الحق، وهو مأخوذ من الشيء الثخين أي: الغليظ، تقول: هذا قماش ثخين، أي: غليظ وسميك، فكذلك هنا: (( حَتَّى إِذَا أَثْخَنتُمُوهُمْ )) يعني: أكثرتم فيهم القتل. قوله: (( فَشُدُّوا الْوَثَاقَ )) قرأ الجمهور بفتح الواو من الوثاق، وقرأ السلمي بكسرها. والوثاق: اسم للشيء الذي يوثق به كالرباط أو الحبل مثلاً، وقرأ الجمهور: وإنما أمر سبحانه بشد الوثائق لئلا ينفلتوا، والمعنى: إذا بالغتم في قتلهم فأسروهم وأحيطوهم بالوثاق. قوله: (( فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ))، أي: فإما أن تمنوا عليهم بعد الأسر مناً أو تفدون فداءً، والمن: هو الإطلاق بغير عوض، والفداء: ما يَفدي به الأسير نفسه حتى يتحرر من الأسر. ولم يذكر القتل هنا اكتفاء بما تقدم، فالأمر هنا يكون تخييراً بين ثلاثة أشياء: إما القتل، وإما المنّ، وإما الفداء، واقتصر هنا في هذه الآية على التخيير بين المن والفداء ولم يذكر القتل؛ لأن القتل مذكور في أول الآية. وقد قرأ الجمهور: ((فإما منا بعد وإما فداء)) بالمد، وقرأ ابن كثير : ((وإما فدىً)) بالقصر، وإنما قدم المنّ على الفداء لأنه من مكارم الأخلاق، فلهذا كانت العرب تفتخر به، كما قال شاعرهم: ولا نقتل الأسرى ولكن نفكهم إذا أثقل الأعناق حملُ المغارم وكما يقول الشاعر الآخر: ما كان ضرك لو مننت وربما منَّ الفتى وهو المغيض المحنق فمما كانت تفتخر به العرب: المنّ مع القدرة على الفدية، فيمنون بفكاك الأسرى بلا مقابل، كما قال شاعرهم في البيت السابق: ولا نقتل الأسرى ولكن نفكهم إذا أثقل الأعناق حملُ المغارم وروي عن بعضهم أنه قال: كنت واقفاً على رأس الحجاج حين أُتي بالأسرى من أصحاب عبد الرحمن بن الأشعث وهم أربعة آلاف وثمانمائة، فقتل منهم نحواً من ثلاثة آلاف، حتى قُدِّم إليه رجل من كندة فقال: يا حجاج ! ما جازاك الله عن السنة والكرم خيراً، قال: ولم ذاك؟ قال: لأن الله تعالى قال: (( فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً )) في حق الذين كفروا، فوالله! ما مننت ولا فديت، فقد قال شاعركم فيما وصف به قومه من مكارم الأخلاق: ولا نقتل الأسرى ولكن نفكهم إذا أثقل الأعناق حمل المغارم فقال الحجاج : أفٍ لهذه الجيف -يقصد بالجيف الثلاثة الآلاف الذين حصدهم عما قريب- أما كان فيهم من يحسن مثل هذا الكلام؟! خلوا سبيل من بقي، فخلّي يومئذ عن بقية الأسرى، وهم زهاء ألفين؛ بقول ذلك الرجل. (( حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا )) الوزر: هو الثقل، ومنه وزير الملك، فسمي وزيراً لأنه يتحمل عنه الأثقال والأعباء، قال مجاهد وابن جبير في قوله: (( حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا )): هو خروج عيسى عليه السلام. وعن مجاهد أيضاً: حتى لا يكون دين إلا دين الإسلام، فيسلم كل يهودي ونصراني وصاحب ملة، وتأمن الشاة من الذئب، ونحوه عن الحسن والكلبي والفراء والكسائي . فقال الكسائي : (( حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا )) حتى ينتهي الجهاد. ولا ينتهي الجهاد حين يسلم الخلق أجمعون. وقال الفراء : حتى يؤمنوا ويذهب الكفر. وقال الكلبي : حتى يظهر الإسلام على الدين كله. وقال الحسن : حتى لا يعبدوا إلا الله. والمعنى: أن المسلمين مخيرون بين تلك الأمور وهي: القتل أو المن أو الفداء، إلى غاية وهي: (( حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا )) أي: حتى تنتهي الحرب مع الكفار. وأخرج عبد بن حميد وابن أبي حاتم وابن مردويه عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يوشك من عاش منكم أن يلقى عيسى ابن مريم إماماً مهدياً، وَحكَماً عدلاً، فيكسر الصليب، ويقتل الخنزير، وتوضع الجزية، وتضع الحرب أوزارها)، فإذا صح هذا الحديث فإنه يكون تفسيراً لقوله: (( حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا )) أي: حتى يسلم الخلق أجمعون. وعن سلمة بن نفيل رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تضع الحرب أوزارها حتى يخرج يأجوج ومأجوج) أخرجه ابن سعد ، والإمام أحمد ، والنسائي ، والبغوي ، والطبراني ، وابن مردويه . قال قتادة في قوله: (( حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا )): أي: حتى لا يبقى شرك. وهذا كقوله تعالى: وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ [البقرة:193] أي: حتى لا يكون شرك، ويكون الدين لله. وقال ابن كثير : وقوله: (( حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا )) قال مجاهد : حتى ينزل عيسى ابن مريم، وكأنه أخذه من قوله عليه الصلاة والسلام: (لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق حتى يقاتل آخرهم الدجال) رواه أبو داود . إذاً: فلعل هذا الحديث هو الذي استندوا إليه في هذا التفسير، ومعلوم أن الذي يقاتل الدجال هو المسيح عيسى ابن مريم عليه السلام، ويكون معه المسلمون، فيقاتلون الدجال وأتباعه من اليهود. وروى أبو القاسم البغوي عن جبير بن نفير عن النواس بن سمعان رضي الله عنه قال: (لما فتح على رسول الله صلى الله عليه وسلم فتح فقالوا: يا رسول الله! سيبت الخيل، ووضعت السلاح، ووضعت الحرب أوزارها؟ قالوا: لا قتال، قال: كذبوا! الآن جاء القتال، لا يزال الله يرفع قلوب قوم يقاتلونهم فيرزقهم منهم، حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك، وعقر دار المسلمين بالشام) هكذا رواه الحافظ أبو يعلى الموصلي . إذاً: فهذا يقوي القول بعدم نسخ الآية، وأن هذا التشريع مستمر إلى أن ينزل المسيح يقتل الدجال، فكأن هذا الحكم -وهو التخيير بين الثلاثة الأمور- شرع باقٍ مادامت هناك حرب، فإذا انتهت الحرب فحينئذ يرفع هذا الحكم، وهذا يقوي القول بعدم نسخ هذه الآية الكريمة. وقيل: معنى (الأوزار): السلاح، فالمعنى: شدوا الوثاق حتى تأمنوا وتضعوا السلاح، ويكون معنى الحرب هنا (حتى تضع الحرب أوزارها): الأعداء المحاربين، أي: حتى يضعوا سلاحهم بالهزيمة أو الموادعة، ويقال للكراع: أوزار. قال الأعشى : وأعددت للحرب أوزارها رماحاً طوالاً وخيلاً ذكورا

    خلاف العلماء في تأويل قوله: (فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب...)

    وقد اختلف العلماء في تأويل هذه الآية الكريمة: (( فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا )). القول الأول: إن هذه الآية كانت في أهل الأوثان ثم نسخت، فلا يجوز أن يفادوا، ولا يمن عليهم، والناسخ لها عندهم قوله تعالى: ((فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ ))، وهذه آية السيف المعروفة في سورة براءة، قال تعالى: فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ [التوبة:5]، فقالوا: إن هذه الآية ناسخة للآية التي في سورة محمد، بمعنى: أن أهل الأوثان لا يجوز أن يفادوا، ولا أن يمن عليهم، وإنما الواجب هو قتلهم. ونسختها أيضاً آية: فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ [الأنفال:57]، وأيضاً قوله تعالى: وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً)[التوبة:36]. قاله قتادة والضحاك والسدي وابن جريج والعوفي عن ابن عباس رضي الله عنهما، وقاله كثير من الكوفيين. وقال عبد الكريم الجزري : (كُتب إلى أبي بكر في أسير أسر، فذكروا أنهم التمسوه بفداء كذا وكذا، فقال: اقتلوه؛ لقتل رجل من المشركين أحب إلي من كذا وكذا). قال الشوكاني : والمائدة آخر ما نزل، فوجب أن يقتل كل مشرك إلا من قامت الدلالة على تركه من النساء والصبيان، ومن تؤخذ منهم الجزية، وهذا هو المشهور من مذهب أبي حنيفة رحمه الله. القول الثاني: إنها في الكفار جميعاً، وهي منسوخة أيضاً على قول جماعة من العلماء وأهل النظر، منهم قتادة ومجاهد قالوا: إذا أسر المشرك لم يجز أن يمنّ عليه، ولا أن يفادى به فيرد إلى المشركين، ولا يجوز أن يفادى عندهم إلا بالمرأة؛ لأنها لا تقتل، والناسخ لها قوله تعالى: (( فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ ))؛ إذ كانت براءة آخر ما نزلت بالتوقيف، فوجب أن يقتل كل مشرك إلا من قامت الدلالة على تركه من النساء، والصبيان، ومن يؤخذ منه الجزية، فهناك أدلة في النهي عن قتل النساء، والصبيان، ومن لا يؤخذ منهم الجزية كالرهبان المعتزلين في الصوامع وغير ذلك. وهذا هو المشهور من مذهب أبي حنيفة؛ خيفة أن يعودوا حرباً على المسلمين، أي: إذا تُركوا. وعن قتادة قال: (( فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً )) قال: نسخها قوله: فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ [الأنفال:57]. وقال مجاهد : نسخها قوله تعالى: (( فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ ))، وهو قول الحكم . إذاً: فالقولان يقولان: إنها منسوخة، لكن القول الأول يقول: إنها في أهل الأوثان، والقول الثاني: أنها في الكفار عامة، إلا ما استثني من النساء، والصبيان، ومن لا تؤخذ منه الجزية. القول الثالث: إنها ناسخة، فعن الضحاك قال في قوله تعالى: (( فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ )) قال: نسخها قوله: (( فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً )). وعن عطاء في قوله: (( فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً ))، قال: فلا يقتل المشرك، ولكن يمنّ عليه ويفادى كما قال الله عز وجل. وقال أشعث كان الحسن يكره أن يقتل الأسير، ويتلو قوله: (( فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً )). وعن الحسن قال: ليس للإمام إذا حصل الأسير في يديه أن يقتله، لكنه بالخيار في ثلاثة منازل: إما أن يمنّ، أو يفادى، أو يسترقّ. القول الرابع: إنه لا فداء ولا أسر إلا بعد الإثخان والقتل بالسيف لقوله تعالى: مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ [الأنفال:67]، فإذا أسر بعد ذلك فللإمام أن يحكم بما رآه من قتل أو غيره، وهذا قول سعيد بن جبير . القول الخامس: إن الآية محكمة لا نسخ فيها، والإمام مخير في كل حال. رواه علي بن أبي طلحة عن ابن عباس رضي الله عنهما، وقاله كثير من العلماء منهم: ابن عمر والحسن وعطاء ، وهو مذهب مالك والشافعي والثوري والأوزاعي وأبو عبيد وغيره، واختاره القرطبي وقال: لأن النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين فعلوا ذلك، فقتل النبي صلى الله عليه وسلم عقبة بن أبي معيط والنضر بن الحارث يوم بدر صبراً، وفادى سائر أسارى بدر، ومنَّ على ثمامة بن أثال الحنفي وهو أسير في يده، وأخذ من سلمة بن الأكوع جارية ففدى بها أناساً من المسلمين، وهبط عليه صلى الله عليه وسلم قوم من أهل مكة فأخذهم النبي عليه الصلاة والسلام ومنّ عليهم، وقد منّ على سبي هوازن، وهذا كله ثابت في الصحيح. قال النحاس : وهذا على أن الآيتين محكمتان معمول بهما، وهو قول حسن؛ لأن النسخ إنما يكون لشيء قاطع، فإذا أمكن العمل بالآيتين فلا معنى للنسخ، وذكْر المنّ والفداء لا ينافي جواز القتل، وإذا كان الأسر والاسترقاء والمفاداة والمنّ فيه مصلحة للمسلمين جاز. وقد فصل القاسمي رحمه الله تعالى أيضاً في حكم هذه الآية بما مختصره: (( فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ )) يقول: لما كان طليعة هذه السورة تمهيداً لجهاد المشركين الساعين في الأرض بالفساد، يعني: سبق في الآيات السابقة إشارة إلى ما اقتضى استحقاق المشركين للقتال والشدة والغلظة، وهو أنهم كفروا وصدوا عن سبيل الله، وأنهم اتبعوا الباطل، فهم يستحقون التشنيع المذكور في الآية الرابعة، فإذا لقيتم هؤلاء الذين كفروا وصدوا غيرهم عن سبيل الله فأضل الله أعمالهم، والذين اتبعوا الباطل خلافاً للمؤمنين. يقول: لما كان طليعة هذه السورة تمهيداً لجهاد المشركين الساعين في الأرض بالفساد، الصادين عن منهج الرشاد، وبعثاً على الصدق في قتالهم، وكسحاً لعقبة باطلهم، عملاً بما يوجبه الإيمان، ويقبضه الإيقان، وتمييزاً لأولياء الرحمن من أولياء الشيطان، فأعقب تلك الطليعة بهذه الجملة، أي: أعقب ذكر هذه الطليعة المقدمة في أوائل السورة بهذه الجملة: (( فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ )). ولهذا قال أبو السعود : الفاء لترتيب ما في حيّزها من الأمر على ما قبلها: (( فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا )) أي: إن ضلال أعمال الكفرة وخبثهم، وصلاح أحوال المؤمنين وفلاحهم مما يوجب أن يرتب على كل من الجانبين ما يليق به من الأحكام، وكأن المعنى: فإذا كان الأمر على ما ذكر من أن: الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ * وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ [محمد:1-2] إلى آخر الآية، فإذا كان الأمر كذلك فإذا لقيتموهم في المحاربة فضرب الرقاب، وأصله: فاضربوا الرقاب ضرباً، فحذف الفعل وقدّم المصدر، فأنيب منابه مضافاً إلى المفعول، وفيه اختصار وتأكيد بليغ، والتعبير به عن القتل تصوير للقتل بأشنع صوره، وتهويل لأمره، وإرشاد للغزاة إلى أيسر ما يكون منه، فإن أيسر وأسهل طريقة للقتل هي ضرب الرقاب. قوله: ((حتى إذا أثخنتموهم)) أي: حتى إذا أكثرتم فيهم القتل، وقهرتم وغلبتم من تبقى منهم ممن لم تضرب رقبته في القتال فصاروا في أيديكم أسرى ((فشدوا الوثاق)) أي: أمسكوهم بهذا الوثاق؛ كي لا يقتلوكم فيهربوا منكم. قوله: ((فإما مناً بعد وإما فداءً)) أي: فإما تمنّون بعد ذلك عليهم فتطلقونهم بغير عوض لزوال سبُعيتهم -أي: كأنهم كالوحوش الضارية-، وإما تفدونهم فداء، فتطلقونهم بعوض مال، أو مبادلة الأسرى كمسلم أسروه، فيتقوى به المسلمون، أو يتخلص أسيرهم. ولم يذكر القتل هنا اكتفاء بما مر من قوله: مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ [الأنفال:67]، وذلك فيمن يرى فيه الإمام بقاء السَّبُعية، أي: من كان في عتاة الكفار وأقويائهم ممن لم يقهر، وبقي فيه الكبر والإصرار على النكاية بالمسلمين، فإن رأى الإمام أن مثل هؤلاء لو أطلقوا فإنهم يعودون بالضرر على المسلمين؛ لبقاء السبعية فيهم كاملة، والقدرة على الأذية والنكاية، فله أن يقتلهم؛ كي لا يعودوا إلى مقاتلة المسلمين. ولم يذكر الاسترقاق أيضاً هنا؛ لأنه في معنى استدامة الأسر، وذلك فيمن يرى فيه نوع سبُعية، ولا تزال كذلك حتى تضع الحرب أوزارها، أي: إلى انقضاء الحرب، والأوزار كالأحمال وزناً ومعنى، واستعير لأداة الحرب التي لا تقوم إلا بها، أي: أنه شبه آلات الحرب بإنسان يحمل حملاً على رأسه أو ظهره، وقد جاء ذكرها في قول الأعشى : وأعددت للحرب أوزارها رماحاً طوالاً وخيلاً ذكورا يعني: آلات الحرب. وقيل: (أوزارها) آثامها، أي: حتى يترك أهل الحرب -وهم المشركون- شركهم ومعاصيهم، وذلك بأن يسلموا. قال في الإكليل: في الآية بيان كيفية الجهاد. يقول القاسمي : وهذا القول هو الذي أختاره؛ أن الآية محكمة، والإمام بالخيار بين واحد من هذه الثلاثة: إما القتل، وإما المنّ، وإما الفداء، فإذا دار الأمر في الآية بين الإحكام و

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (سيهديهم ويصلح بالهم)

    قال الله تعالى: فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ * سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ * وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ [محمد:5-6]. سبق أن تكلمنا في الحكمة من تشريع الجهاد، وقد ذكر الله سبحانه وتعالى في هذه الآية الكريمة بعض أحكام الجهاد وشرحناها فيما مضى، ثم لما كان من شأن القتال أن يقتل فيه كثير من المؤمنين قال الله سبحانه وتعالى: (( وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ )) أي: لن يذهبها، بل يكثرها وينميها ويضعفها، ومنهم من يجري عليه عمله في طول برزخه، أي: منهم من يجري عليه ثواب عمله الصالح ما دام في البرزخ، ويستمر وكأنه لم يمت. فلذلك قال تعالى: (( وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ))، فجاء هذا الثواب العظيم للشهادة والقتل في سبيل الله في هذه الآية وغيرها من الآيات والأحاديث؛ لأنه ربما يخشى الإنسان أن يقتل في سبيل الله فيلقى الله وعليه ذنوب وخطايا أو غير ذلك مما يخشى منه، فضمن الله لهم الثواب الجزيل كما سيأتي تفصيله إن شاء الله تعالى؛ ترغيباً لهم في التقدم نحو الجهاد في سبيل الله عز وجل. يقول تبارك وتعالى: (( وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ )). قال بعض المفسرين: يريد قتلى أحد من المؤمنين، (( فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ )) أي: لن يذهبها، بل سيكثرها وينميها ويضاعفها، ومنهم من يجري عليه عمله في طول برزخه، فقد روى الإمام أحمد في مسنده عن قيس الجذامي -رجل كانت له صحبة- رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يعطى الشهيد ست خصال عند أول قطرة من دمه: يكفر عنه كل خطيئة) وهذا كما قال النبي عليه الصلاة والسلام: (إن السيف محاء للخطايا) أي: يمحو ويكفر خطايا الإنسان، (ويرى مقعده من الجنة، ويزوج من الحور العين، ويؤمن من الفزع الأكبر، ومن عذاب القبر، ويحلى حلة الإيمان). وروى الإمام أحمد أيضاً عن المقداد بن معدي كرب الكندي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن للشهيد عند الله ست خصال: أن يغفر له في أول دفعة من دمه، ويرى مقعده من الجنة، ويحلى حلة الإيمان، ويزوَّج من الحور العين، ويجار من عذاب القبر، ويأمن من الفزع الأكبر، ويوضع على رأسه تاج الوقار؛ الياقوتة منه خير من الدنيا وما فيها، ويزوج اثنتين وسبعين زوجة من الحور العين، ويشفع في سبعين إنساناً من أقاربه)، أخرجه الترمذي وصححه ابن ماجة . وفي صحيح مسلم عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، وعن أبي قتادة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (يغفر للشهيد كل شيء إلا الدين) (إلا الدين)؛ لأن هذا حق للآدميين، فلا بد أن يؤدى ويستوفى. وروي عن جماعة من الصحابة رضي الله تعالى عنهم، فقال أبو الدرداء رضي الله عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يُشفَّع الشهيد في سبعين من أهل بيته)، رواه أبو داود . (( والذين قاتلوا في سبيل الله فلن يضل أعمالهم ))، وهذه قراءة العامة -أي: عامة القراء أو جمهورهم- وهي اختيار أبي عبيد ، وقرأ أبو عمرو وحفص (( وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ))، وكذلك قرأ الحسن إلا أنه شدد التاء على التكثير، أي: ((قتِّلوا) وقرأ الجحدري وعيسى بن عمر وأبو حيوة : (والذين قَتَلوا في سبيل الله) أي: قتلوا المشركين. وقد رجح بعض العلماء هذه القراءة ((والذين قتلوا في سبيل الله)) من حيث المعنى، وذلك أن السياق يناسبه أن يكون هذا في الدنيا؛ لأنهم قتلوا المشركين وبقوا في الدنيا يعملون، فهم لم يفارقوا الحياة الدنيا، ولذلك قال: (( فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ )). ثم قال: (( سَيَهْدِيهِمْ )) أي: فيما يستقدم مما تبقى من أعمارهم، إذا فهم لا زالوا في الدنيا؛ لأن الآخرة دار جزاء. فهم ركزوا على كلمة: (( سَيَهْدِيهِمْ ))، ففهموا من ذلك أنهم لابد أن يبقوا أحياء بعد قتلهم غيرهم، وأما لو كانوا قد قتلوا فهذا بعيد. لكن هذا المذهب مرجوح وسنوضح إن شاء الله تعالى عما قريب سبب ذلك. وقرأ الجحدري وعيسى بن عمر وأبو حيوة : (والذين قَتَلوُا) أي: قتلوا المشركين في سبيل الله، وقال قتادة : ذُكر لنا أن هذه الآية نزلت يوم أحد ورسول الله صلى الله عليه وسلم في الشعب، وقد فشت فيهم الجراحات -أي: جراحات القتل-، ولما وجد المشركون الجراحات كثيرة، وقد قتل عدد كبير من المسلمين اغتروا وتكبروا وأخذوا ينادون: اعل هبل.. اعل هبل، فينادون بالعلو الإلهي لهبل، وهو أحد أصنامهم، فرد عليهم المسلمون: الله أعلى وأجل، وقال المشركون يوم بيوم بدر، والحرب سجال، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (قولوا: لا سواء.. لا سواء -أي: لا نستوي نحن وأنتم-؛ فقتلانا أحياء عند ربهم يرزقون، وقتلاكم في النار يعذبون فقال المشركون: لنا العزى ولا عزى لكم. فقال المسلمون: الله مولانا ولا مولى لكم). قال القشيري : قراءة أبي عمرو (قُتِلُوا) بعيدة لقوله تعالى: سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ ، والمقتول لا يوصف بأنه سوف يُهدى؛ لأنه قد فارق الحياة. وقال غيره: يكون المعنى على قراءة: (( وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ )) * سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ ، إذا رجعنا إلى تذكر أنواع الهداية التي دائماً ما نتكلم عنها فأولها: الهداية العامة لجميع الخلق، وغير ذلك من أنواع الهداية التي تنتهي بالهداية في الدار الآخرة، وهي: هداية المؤمنين إلى الجنة وهداية الكفار إلى النار. إذاً: لا استبعاد على الإطلاق في قراءة: (( وَالَّذِينَ قُتِلُوا ))، وهي قراءة أبي عمرو وحفص؛ لأن هذا لا يتنافى مع قوله تعالى: سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ ؛ لأن المعنى يكون: سيهديهم إلى الجنة، أو سيهدي من بقي منهم، أي: يحقق لهم الهداية. وقال ابن زياد : سيهديهم إلى محاجة منكر ونكير في القبر، ويثبتهم عند السؤال في القبر. وقال أبو المعالي : وقد ترد الهداية والمراد بها إرشاد المؤمنين إلى مسالك الجنان، والطرق المفضية إليها، ومن ذلك قوله تعالى في صفة المجاهدين: (( فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ )) * (( سَيَهْدِيهِمْ )) أي: إلى الطريق المؤدية إلى الجنة، وأما هداية الآخرة فكما في هداية الكفار إلى صراط الجحيم، قال تعالى: فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ [الصافات:23] أي: فاسلكوا بهم إلى صراط الجحيم. وقال ابن كثير : (( سَيَهْدِيهِمْ )) أي: إلى الجنة؛ لقوله تبارك وتعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ [يونس:9]. ويمكن أن نضيف إلى قول ابن كثير آية أخرى وهي قوله تعالى: وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ [الأعراف:43]، وهذا كلام المؤمنين الذين يدخلون الجنة كما هو السياق في سورة الأعراف.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (ويدخلهم الجنة عرفها لهم)

    قال تعالى: وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ [محمد:6] أي: أنهم إذا دخلوها فإنه يقال لهم: تفرقوا إلى منازلكم، قال مجاهد : يهتدي أهلها إلى بيوتهم ومساكنهم وحيث قسم الله لهم منها لا يخطئون كأنهم ساكنوها منذ خلقوا لا يستدلون عليها أحداً! أي: لا يسألون غيرهم أن يدلهم عليها، فإنك إذا ذهبت إلى مكان لا تعرفه فإنك تستدل وتسأل: أين المكان الفلاني؟ وأين الشارع الفلاني؟ وأما أهل الجنة فإنهم لا يحتاجوا على الإطلاق إلى تعريف، فالله سبحانه وتعالى هو الذي يتولى تعريفهم بمنازلهم في الجنة. وروي نحوه عن زيد بن أسلم فقال محمد بن كعب : يعرفون بيوتهم إذا دخلوا الجنة كما تعرفون بيوتكم إذا انطلقتم من الجمعة. بل إن هدايتهم إلى منازلهم في الجنة عندما يدخلونها أكبر وأعظم من هدايتهم إلى بيوتهم التي في الدنيا إذا خرجوا منها ثم عادوا إليها، فقد روى البخاري من حديث قتادة عن أبي المتوكل الناجي عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إذا خلص المؤمنون من النار حبسوا بقنطرة بين الجنة والنار يتقاصون مظالم كانت بينهم في الدنيا، حتى إذا هذبوا ونُقُّوا أذن لهم في دخول الجنة، والذي نفسي بيده! إن أحدهم بمنزله في الجنة أهدى منه بمنزله كان في الدنيا). وقال الحسن : وصف الله تعالى لهم الجنة في الدنيا، فلما دخلوها عرفوها بصفتها. وهذا قول آخر في تفسير قوله: وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ أي أنه: وصفها لهم وهم في الدنيا وصفاً مشوقاً لكل مؤمن أن يسعى لتحصيلها. وقيل: فيه حذف، والتقدير: عرّف طرقها ومساكنها وبيوتها لهم، فحذف المضاف. وقيل: (( عَرَّفَهَا لَهُمْ )) بواسطة دليل يدلهم على المكان، وهذا الدليل هو الملك الموكل بعمل العبد، فإنه يمشي أمام الإنسان وهو يتبعه حتى يأتي العبد منزله، ويعرّفه الملك جميع ما جُعل له في الجنة، وحديث أبي سعيد السابق يرد هذا القول؛ لأن هذا القول يثبت الواسطة، وأما حديث أبي سعيد فلا يثبت الواسطة، بل إن الله هو الذي يعرفهم مكانهم في الجنة. فالأقرب والصحيح أنه بغير واسطة، والله تعالى هو الذي يعرفهم ويهديهم إلى منازلهم في الجنة. وقال ابن عباس : ( (( عَرَّفَهَا لَهُمْ )) من العرف، أي: مأخوذة من العَرْف، وهو: الرائحة الطيبة. قال ابن عباس : (أي: طيبها لهم بأنواع الملاذ)، ويقال: طعام معرف، أي: مطيب، تقول العرب: (عرفت القدر) إذا طيبتها بالملح والإبزار، وقيل: هو من وضع الطعام بعضه على بعض من كثرته، ويقال: حرير معرف، أي: بعضه فوق بعض، فهو من العرف المتتابع، كعرف الفرس. وقيل: (( عَرَّفَهَا لَهُمْ )) أي: وفقهم للطاعة حتى استوجبوا الجنة. وقيل: عرف أهل السماء أنها لهم إظهاراً لكرامتهم فيها. وقيل: عرف المطيعين أنها لهم. فهذه هي الأقوال في تفسيرها، وإذا صح عن النبي عليه السلام قول في تفسير آية ما وجب المصير إليه، فيجب تفسير الآية هنا بما فسرها به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وأن معنى: (( عَرَّفَهَا لَهُمْ )) أنه يهديهم إلى منازلهم في الجنة بمجرد دخولها، وبدون واسطة.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756495806