إسلام ويب

تفسير سورة الأحقاف [1-12]للشيخ : محمد إسماعيل المقدم

  •  التفريغ النصي الكامل
    1.   

    بين يدي سورة الأحقاف

    نشرع بإذن الله تبارك وتعالى في تفسير سورة الأحقاف. سميت هذه السورة باسم وادي الأحقاف موطن قوم عاد كما قال الله: وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالأَحْقَافِ [الأحقاف:21]. وهذه السورة مكية، واستثني البعض منها خمس آيات هي: قوله تعالى: وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتْ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي [الأحقاف:17]، وقوله تعالى: قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ [الأحقاف:10]، وكذلك قوله تعالى: وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا [الأحقاف:15]، وقوله تعالى أيضاً: فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ [الأحقاف:35]، وسيأتي تحقيق ذلك إن شاء الله تعالى في مواضعه. وعدد آياتها خمس وثلاثون آية.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (حم... عما أنذروا معرضون)

    أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم: حم [الأحقاف:1]، سبق أن تكلمنا مراراً عن الحروف المقطعة التي تأتي في أوائل السور فلتراجع تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ * مَا خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ [الأحقاف:2-3]، أي: بالحكمة وإقامة العدل في الخلق. وَأَجَلٍ مُسَمًّى ، أي: لتقدير أجل معين لكل منها، لينهيه إذا هو بلغه وهو يوم القيامة. وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ ، (عما أنذروا) من هول ذلك اليوم. (معرضون)، لا يؤمنون، أي: معرضون مولون لاهون غير مستعدين له.

    استحقاق الله تعالى للعبادة وحده لا شريك له

    قال العلامة الشنقيطي رحمه الله تعالى في تفسير هذه الكلمة: مَا خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى [الأحقاف:3]: صيغة الجمع في قوله تعالى: (مَا خَلَقْنَا)، للتعظيم، (إلا بالحق) أي: إلا خلقاً متلبساً بالحق، فالباء تدل على التلبس، كما تقول: سبحان الله وبحمده، أي: أسبح الله متلبساً مع ذلك بحمده، فكذلك هنا (إلا بالحق) أي: ما خلقنا السماوات والأرض إلا خلقاً متلبساً بالحق، والحق ضد الباطل، ومعنى كون خلقه للسماوات والأرض متلبساً بالحق: أنه خلقهما لحكم ظاهرة ولم يخلقهما باطلاً ولا عبثاً ولا لعباً، فمن الحق الذي كان خلقهما متلبسان به: إقامة البرهان على أنه هو الواحد المعبود وحده جل وعلا، كما أوضح ذلك في آيات كثيرة لا تكاد تحصيها في المصحف الكريم؛ كقوله تعالى في سورة البقرة: وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ [البقرة:163]، ثم أقام البرهان على أن الله هو الإله الواحد بقوله بعد ذكل: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ [البقرة:164]، فتلبس خلق السماوات والأرض بالحق واضح جداً من قوله تعالى: (( إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ ))، إلى قوله تعالى: (( لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ))، بعد قوله تعالى: (( وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ ))؛ لأن إقامة البرهان القاطع على صحة معنى: (لا إله إلا الله)، هو أعظم الحق. فبدأ الآيات بقوله: وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ [البقرة:163]، ثم ذكر ما يبرهن على أنه لا إله حق إلا الله، فقال: (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ)، إلى قوله تعالى: (لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ)، فهذا مظهر من مظاهر تلبس خلق السماوات والأرض بالحق، أي: أن يكون في خلقهما وفي الآيات المبثوثة فيهما دلالة على توحيد الله سبحانه وتعالى، وأنه لا إله حق إلا هو سبحانه. ومن ذلك أيضاً قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ)، وهذه أول صيغة أمر في القرآن الكريم: اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ [البقرة:21-22]، وقد تضمنت هاتان الآيتان معنى لا إله إلا الله؛ لأن قوله تبارك وتعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ)، هذا هو قسم الإثبات، وهو ما يدل عليه قوله: (إلا الله)، أما قسم النفي فهو في قوله: (( فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ))، وهو ما يدل عليه قوله: (لا إله)، فقوله: ( واعبدوا ربكم ) فيه معنى الإثبات في لا إله إلا الله، وقوله: ( فلا تجعلوا لله أنداداً وأنتم تعلمون ) يتضمن معنى النفي منها على أكمل وجه وأتمه. وقد أقام الله جل وعلا البرهان القاطع على صحة معنى لا إله إلا الله نفياً وإثباتاً بخلقه للسماوات والأرض وما بينهما في قوله: اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بناء [البقرة:21-22] .. إلى آخر الآية، وبذلك تعلم أنه ما خلق السماوات والأرض وما بينهما إلا خلقاً متلبساً بأعظم الحق الذي هو: إقامة البرهان القاطع على توحيده جل وعلا. ومن كثرة الآيات القرآنية الدالة على إقامة هذا البرهان المذكور القاطع على توحيده جل وعلا ومن استقراء القرآن الكريم علم أن العلامة الفارقة بين من يستحق العبادة وبين من لا يستحقها هي كونه خالقاً لغيره، فمن كان خالقاً لغيره فهو المعبود بحق، ومن كان لا يقدر على خلق شيء فهو مخلوق محتاج لا يصح أن يعبد بحال. والآيات الدالة على ذلك كثيرة جداً؛ كقوله سبحانه وتعالى في هذه الآية في سورة البقرة: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة:21]، فقوله: ( الذي خلقكم ) يدل على أن المعبود هو الخالق وحده. وقوله تعالى: أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ [الرعد:16]، يعني: أن خالق كل شيء هو المعبود وحده، وهو وحده الذي يستحق العبادة. وفي سورة النحل لما ذكر تعالى فيها البراهين القاطعة على توحيده جل وعلا في قوله: خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ تَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ [النحل:3]، إلى قوله: وَعَلامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ [النحل:16]، أتبع ذلك مباشرة بقوله: أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ [النحل:17]، وذلك واضح جداً في أن من يخلق غيره هو المعبود، وأن من لا يخلق شيئاً لا يصح أن يعبد؛ ولهذا قال تعالى بعد ذلك: وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ [النحل:20]، وقال في الأعراف: أَيُشْرِكُونَ مَا لاَ يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ [الأعراف:191]، وقال في الحج: يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ [الحج:73]، فمن لا يقدر أن يخلق شيئاً لا يصح أن يكون معبوداً بحال. وقال تعالى: سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى [الأعلى:1] * الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى [الأعلى:2]، كذلك في أول سورة الفرقان لما بين تعالى صفات من يستحق أن يعبد ومن لا يستحق أن يعبد، قال في صفات من يستحق العبادة: الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا [الفرقان:2]، وقال في صفات من لا يصح أن يعبد: وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ [الفرقان:3]، والآيات في ذلك كثيرة جداً، وكلها تدل دلالة واضحة على أنه تعالى ما خلق السماوات والأرض وما بينهما إلا خلقاً متلبساً بالحق، يعني: أنه خلقهما لكي يكون خلق السماوات والأرض وما بينهما آية وعلامة وبرهاناً على أعظم حقيقة في الوجود وهي: أن لا إله حق إلا الله سبحانه وتعالى. فهذا أحد معاني قوله تعالى في أول هذه السورة الكريمة: (( مَا خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ ))، أي: خلق متلبس بالحق، لحكم عظيمة، أعظمها وأجلها: أن يكون خلق السماوات والأرض دليلاً وبرهاناً للناس على أنه لا إله إلا الله، وعلى أنه لا يستحق أن يعبد إلا من يخلق.

    قدرة الله تعالى على كل شيء وإحاطته بكل شيء علماً

    وقد بين جل وعلا أن من الحق الذي خلق السماوات والأرض وما بينهما خلقاً متلبساً به: تعليمه خلقه أنه تعالى على كل شيء قدير، وأنه قد أحاط بكل شيء علماً، فمن الحق الذي تلبس به خلق السماوات والأرض: أن يعلم العباد ويستدلون بخلق الله تعالى السماوات والأرض وما بينهما على قدرته جل وعلا، وأنه على كل شيء قدير، وأنه قد أحاط بكل شيء علماً، كما قال عز وجل: اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَمِنَ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا [الطلاق:12]، فلا شك أن هذه الآية مصرحة بمظهر من مظاهر هذا الحق الذي خلقت السماوات والأرض متلبسات به، فإن قوله: (اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَمِنَ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الأَمْرُ بَيْنَهُنَّ)، ذكر بعده لام التعليل في هذا الخلق، فقال: (لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا)، وهذا من الحق الذي تلبس به خلق السماوات والأرض، فلام التعليل في قوله: (لتعلموا) متعلق بقوله: (خلق سبع سماوات) إلى آخر الآية، وبه تعلم أنه ما خلق الله السماوات السبع والأرضين السبع، وجعل الأمر يتنزل بينهن إلا خلقاً متلبساً بالحق.

    التكليف والابتلاء والجزاء

    ومن الحق الذي خلق السماوات والأرض وما بينهما خلقاً متلبساً به: تكليف الخلق وابتلاؤهم أيهم أحسن عملاً، ثم جزاؤهم على أعمالهم، كما قال تعالى في أول سورة هود: وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا [هود:7]، فمن الحق الذي تلبس بخلق السماوات والأرض: (لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا)، فلام التعليل في قوله: (ليبلوكم) متعلقة بقوله: (خلق السماوات والأرض)، فيكون قوله: (وهو الذي خلق السماوات والأرض)، إلى قوله: (ليبلوكم أيكم أحسن عملاً)، يدل على أنه ما خلقهما إلا خلقاً متلبساً بالحق. ونظير ذلك قوله تعالى في أول سورة الكهف: إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا [الكهف:7]، وقال في أول الملك: الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا [الملك:2]، وقال في آخر الذاريات: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56]، أي: إلا ليعبدوني وحدي ولا يشركوا بي شيئاً. وسواء قلنا: إن معنى (إلا ليعبدون): إلا لآمرهم بعبادتي فيعبدني السعداء منهم؛ لأن عبادتهم يحصل بها تعظيم الله وطاعته والخضوع له، كما قال تعالى: فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ [الأنعام:89]، وقال تعالى: فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ [فصلت:38]، أو قلنا: إن معنى (إلا ليعبدون): إلا ليقروا لي بالعبودية ويخضعوا ويذعنوا لعظمتي؛ لأن المؤمنين يفعلون ذلك طوعاً، والكفار يذعنون لقهره وسلطانه تعالى كرهاً. ومعلوم أن حكمة الابتلاء والتكليف لا تتم إلا بالجزاء على الأعمال، ولذلك بين الله سبحانه وتعالى أن من الحق الذي خلق السماوات والأرض خلقاً متلبساً به جزاء الناس بأعمالهم. وقال في سورة النجم: وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى [النجم:31]، فقوله تعالى: (وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ) أي: هو خالقهما وخالق ما فيهما، (لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى). وهذا أيضاً إعلام منه عز وجل بأنه خلق ما في السماوات وما في الأرض ليجزي الناس بأعمالهم، ويوضح ذلك قوله تعالى في سورة يونس: إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ [يونس:4]. لما ظن الكفار أن الله خلق السماوات والأرض وما بينهما باطلاً -بغير حق- لا لحكمة التكليف ولا الحساب ولا الجزاء؛ أبدلهم الويل من النار بسبب ذلك الظن السيئ، قال تعالى: وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ [ص:27]، فنزه الله سبحانه وتعالى نفسه عن كونه خلق الخلق عبثاً لا لتكليف وحساب وجزاء، وأنكر ذلك على من ضل في قوله تعالى: أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ [المؤمنون:115] * فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ [المؤمنون:116]، تعالى وتنزه عن أن يخلق خلقه عبثاً، لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ [المؤمنون:116]. وهذا الذي نزه الله تعالى عنه نفسه نزهه عنه أولو الألباب من خلقه، كما قال تعالى: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [آل عمران:191-191]، فمعنى: (سبحانك) تنزيهاً لك عن أن تكون خلقت هذا الخلق باطلاً لا لحكمة تكليف وبعث وحساب وجزاء. وقوله تبارك وتعالى هنا في آية الأحقاف: (( مَا خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ ))، يفهم منه أنه لم يخلق ذلك باطلاً ولا لعباً ولا عبثاً كما صرح بهذا المفهوم في قوله: وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا [ص:27]، وفي قوله: (( رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا ))[آل عمران:191]، وفي قوله تعالى: وَمَا خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ * مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ [الدخان:38-39]. وقوله: (( وَأَجَلٍ مُسَمًّى ))، هذا معطوف على قوله: (بالحق)، أي: وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما إلا خلقاً متلبساً بالحق، وبتقدير أجل مسمى، أي: وقت معين محدد ينتهي إليه أمد السماوات والأرض، وهو يوم القيامة، كما صرح الله بذلك في أخريات سورة الحجر في قوله: وَمَا خَلَقْنَا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ [الحجر:85]، وانظر كيف قرن خلق السماوات والأرض وما بينهما بالحق بقوله: ( وإن الساعة لآتية ) إشارة إلى ما ذكر هنا في هذه الآية: ( إلا بالحق وأجل مسمى ). وقد بين تعالى في آيات من كتابه أن للسماوات والأرض أمداً ينتهي إليه أمرهما، كما قال تعالى: وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ [الزمر:67]، وقال تعالى: يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ [الأنبياء:104]، وقال تعالى: يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَوَاتُ [إبراهيم:48]، وقال تعالى: وَإِذَا السَّمَاءُ كُشِطَتْ [التكوير:11]، وقال: يَوْمَ تَرْجُفُ الأَرْضُ وَالْجِبَالُ [المزمل:14]، إلى غير ذلك من الآيات.

    إعراض الكافرين عما أنذروا

    قوله: وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ [الأحقاف:3]، أي: معرضون عما أنذرتهم به الرسل، كما قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ [البقرة:6]، وقال في سورة يس: وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ [يس:10]، وقال أيضاً: وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ [الأنعام:4]. والإعراض عن الشيء هو الصدود عنه وعدم الإقبال عليه، قال بعض العلماء: وأصله من العرض، وهو الجانب؛ لأن المعرض عن الشيء يوليه جانب عنقه صاداً عنه، والإنذار: هو الإعلام المقترن بتهديد، فكل إنذار إعلام وليس كل إعلام إنذاراً، فالإنذار نوع خاص من الإعلام؛ إذ هو إعلام مقترن بتهديد، والإنذار يأتي عاماً ويأتي خاصاً، فقد يأتي عاماً لكل الخلق، وقد يأتي خاصاً لخاصة الخلق، وهم المؤمنون والمتقون. وفي هذه الحالة إذا قصر الإنذار على المؤمنين والمتقين يكون لهم فقط؛ لأنهم هم الذين إذا أنذروا ينتفعون بهذا الإنذار، فكأنه ما أنذر سواهم. وإذا كان للكافرين فإنه لإعلامهم وتهديدهم؛ فهو إعلام مقترن بتهديد. قوله هنا: (( وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ ))، ما: هنا إما أنها موصولة، وإما أنها مصدرية، فإذا قلنا: إنها مصدرية فيكون المعنى: والذين كفروا معرضون عن الإنذار. وإذا قلنا: إنها موصولة والعائد محذوف فيكون في غير القرآن: والذين كفروا عن الذي أنذروه معرضون؛ لأنها إذا كانت موصولة فلابد لها من عائد، وهو ضمير يكون في جملة الصلة يعود على الاسم الموصول، فقوله: (عما أنذروا) قال بعض العلماء: هي موصولة والعائد محذوف، أي: الذين كفروا معرضون عن الذي أنذروه وخوفوه من عذاب يوم القيامة، وحذف العائد المنصوب بفعل أو وصف مطرد كما هو معلوم.

    1.   

    تفسير قول الله تعالى: (قل أرأيتم ما تدعون من دون الله...)

    قال الله تبارك وتعالى: قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَوَاتِ اِئْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ [الأحقاف:4]. (قل أرأيتم ما تدعون) أي: تعبدون. (من دون الله) من الأوثان والأنداد التي تعبدونها. (أروني ماذا خلقوا من الأرض أم لهم شرك في السماوات)، أروني ما تأثير ما تعبدونه في شيء أرضي بالاستقلال، أو في شيء سماوي بالشركة؛ حتى تستحق العبادة، فقوله: (ماذا خلقوا من الأرض) يريد به على سبيل الاستقلال بخلقه. (أم لهم شرك في السماوات)، هل خلقوا شيئاً سماوياً بالشركة حتى يستحقوا العبادة؟! (ائتوني بكتاب من قبل هذا)، أي: من قبل هذا القرآن، وهذا تيئيس لهم بتعجيزهم عن الإتيان بسند نقلي بعد تيئيسم بالتعجيز عن الإتيان بسند عقلي، فالدليل العقلي في قوله: (أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَوَاتِ)، ائتوني بدليل عقلي على أنهم خلقوا فيستحقون أن يعبدوا. (اِئْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا)، وهذا تعجيز لهم بطلب دليل نقلي مما أثر في الكتب السابقة، اِئْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ [الأحقاف:4]، أي: ائتوني بكتاب إلهي من قبل هذا القرآن الناطق بالتوحيد وإبطال الشرك دال على صحة دينكم. (أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ)، أو بقية من علم بقيت لكم من علوم الأولين شاهدة باستحقاقهم للعبادة. (إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) في دعواكم؛ فإنها لا تكاد تصح ما لم يقم عليها برهان عقلي أو سلطان نقلي، وحيث لم يقم عليها شيء منهما وقد قامت على خلافها أدلة العقل والنقل تبين بطلانها. والمفسرون في هذا الموضع عند قوله تعالى: (أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ)، يتعرضون إلى الكلام في قضية الخط في الرمل، ويشيرون إلى حديث رواه مسلم في صحيحه: (كان نبي من الأنبياء يخط فمن وافق خطه فذاك)، وهذه القضية شغلت العلماء كثيراً وتكلموا فيها كثيراً، وممن تكلم فيها: الإمام أبو الوليد محمد بن أحمد بن أحمد بن رشد القرطبي المالكي المتوفى سنة تسع وعشرين وخمسمائة من الهجرة في رسالة له بعنوان: الرد على من ذهب إلى تصحيح علم الغيب من جهة الخط، لما روي في ذلك من أحاديث ووجه تأويلها، وهو وإن لم يصحح الحديث فالحديث صحيح ثابت في صحيح مسلم ، وإنما قال بفرض صحته فإنه يجاب عنه بكذا وكذا، وذكر بعض التأويلات، وقد أجاد في ذكر هذه التأويلات التي لابد منها بعدما بين أن الله سبحانه وتعالى كذب مدعي علم الغيب، وأنه لا يظهر أحداً على غيبه، فقال عز وجل: عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا * إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا [الجن:26-27]، وغير ذلك من الآيات. وهذه إشارة موجزة بحيث من قرأ منكم ذلك في بعض كتب التفسير يعلم أن العلماء قاموا بتأويل هذا الحديث حتى وإن صح سنده، فقد تأولوه على أن ذلك كان آية خاصة بهذا النبي بالذات، وأن هذه كانت علامة خاصة به وليس لأحد أن يدعي علم الغيب عن طريق ذلك.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (ومن أضل ممن يدعو من دون الله...)

    قال الله تبارك وتعالى: وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ [الأحقاف:5]. قوله: (مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ) دعاءه؛ لعجزه عنه. (إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ)؛ لأنهم إما جمادات، وإما مسخرون مشغولون بأحوالهم. (وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ)، قال الناصر في قوله تعالى: (( وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ))، قال: في قوله: (إلى يوم القيامة) نكتة حسنة، وذلك أنه جعل يوم القيامة غاية لعدم الاستجابة، ومن شأن الغاية انتهاء المغيا عندها، يعني: كأن عدم الاستجابة ممتد إلى يوم القيامة، فيفهم لأول وهلة أنه بعد يوم القيامة قد يستجيب، لكن الأمر ليس كذلك في الحقيقة؛ فعدم الاستجابة مستمر بعد هذه الغاية قطعاً؛ لأنهم في يوم القيامة أيضاً لا يستجيبون لهم. فالوجه والله تعالى أعلم أنها من الغايات المستمرة؛ لأن ما بعدها وإن وافق ما قبلها إلا أنه أزيد منه؛ لأن عدم الاستجابة بعد القيامة أشد من عدم الاستجابة فيما قبلها؛ إلا أنه أزيد منه زيادة بينة تلحقه بالتالي، حتى كأن الحالتين وإن كانتا نوعاً واحداً لتفاوت ما بينهما كالشيء وضده، فعدم استجابتهم لهؤلاء التي تنتهي في الظاهر إلى يوم القيامة هي بعد يوم القيامة أشد، وذلك لأن الحالة الأولى التي جعلت غايتها إلى يوم القيامة لا تزيد على عدم الاستجابة، بل تقتصر فقط على عدم الاستجابة. لكن الحالة الثانية التي في القيامة وما بعدها فيها زيادة على عدم الاستجابة العداوة والكفر بعبادتهم إياهم، فهم ينقلبون عليهم أعداء كما في الآية الثانية مباشرة، وهي قوله تعالى: وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ [الأحقاف:6]، فمع عدم الاستجابة ينضاف إليها في القيامة وبعد القيامة: وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ [الأحقاف:6]، فليس هم فقط في غفلة عنهم أثناء الدنيا ويوم تقوم القيامة، وهذا هو معنى الغاية، فإن الغاية فقط هي عدم الاستجابة، وفي القيامة عدم الاستجابة ممتدة لكن ينضاف إليها أن يصيروا لهم أعداءً وأن يكفروا بعبادتهم إياهم. ,كنت قد طالعت كتاباً قديماً جداً من كتب التوحيد التي كان لها شأن عظيم في الماضي إلا أنه كتاب منقرض وهو كتاب: صراع بين الحق والباطل، تأليف الأستاذ سعد صادق محمد، أرجو أن يكون الله قد مد في عمره إلى الآن، والكتاب مطبوع سنة ثمان وستين وتسعمائة وألف، وهو كتاب قيم جداً في التصدي للضلالات الصوفية، والأستاذ سعد صادق محمد -رحمه الله حياً أو ميتاً- يعد من دعاة أبطال السنة الذين كان لهم قدم صدق في التصدي لبدع الصوفية والضالين. وأرى أنه من المناسب أن نذكر هذا المثال العابر عند هذه الآية: وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ [الأحقاف:5]، يقول وهو يتكلم عن صور من هذا الضلال، (يدعو من دون الله من لا يستجيب له إلى يوم القيامة) يدعو الشافعي ، يدعو الدسوقي ، والبدوي ، والموتى، والمقبورين، وهم في غفلة عما هو مهلك نفسه فيه، يقول: منذ سنوات مضت وجد في صندوق السيد البدوي ظرف ختم بالشمع الأحمر وبه ورقة بعشرة جنيهات، يقول: أنا الذي استغربت له: ما الذي أتى بالشمع الأحمر؟! وكأن الرجل أتى كيما يقدم شكوى أو طلباً للبدوي في ظرف مختوم حتى لا يفتحه إلا البدوي بنفسه!! ختم بالشمع الأحمر وبه عشرة جنيهات، ومكتوب في الخطاب: أرجو المعذرة يا سيدي! فهذه الجنيهات العشرة هي كل ما حصلت عليه وما قدرت على جمعه، لذلك أرجو رجاءً خاصاً أن تنتظرني حتى شهر أكتوبر وهو شهر المحصول فأسدد لك باقي الحساب، فعليك الصفح وعلينا الوفاء. وفي أحد صناديق النذور وجد عقد اتفاق قانوني بين السيد صاحب الضريح والسيدة الناذرة، حيث نذرت لصاحب الضريح في هذا العقد القانوني بين هذه الناذرة الحية وبين هذا الميت، أن الطرف الثاني يتعهد بأن يدفع للطرف الأول مبلغ جنيه واحد كل شهر بدون تأخير ولا مماطلة ولا تسويف، إذا ما توسط الطرف الأول عند الله في أن يعيش ابن الطرف الثاني!! إلى آخر هذا الكلام. يقول: وهنا يروى أيضاً أن أحدهم وضع في صندوق نذور البدوي مبلغاً من المال على سبيل النصب، ثم رفع قضية إلى وزارة الأوقاف مدعياً أنه أراد أن يضع ورقة من فئة الجنيه فوضع بدلاً منها ورقة من فئة الخمسين جنيهاً!! والكتاب مليء وحافل بنماذج من هذا القبيل، وإنما أردت أن آتي بمثال، ولعل هذا يحتاج إلى درس مستقل بمفرده. والأفظع من ذلك أن بعض المسلمين يذهبون إلى قبر ما يسمى بالبابا بولس السادس أو الثالث، ويكتبون أمثال هذه الشكاوى وهذه الطلبات من مثل هذا المخلوق!! قبر البابا بولس تكتب له شكاوى ويخاطب ويطلب منه كل شيء مما لا ينبغي أن يطلب إلا من الله سبحانه وتعالى!! ويوجد في مجلة البيان عدد شهر رجب ألف وأربعمائة وتسعة عشر، ملف كبير بعنوان: فسطاط الخرافة، ولأول مرة تتعرض المجلة لهذا الأمر، وهو بحث رائع جداً، وللأسف فإنه تأخر عن وقته؛ لأن المفروض أن مثل هذه القضايا هي أولى أن يهتم بها؛ لأن خطرها معلوم، وشيوع الضلال في هذا الباب معلوم، فالحمد لله أن القائمين على المجلة استدركوا هذا التقصير، وهذه أول مرة يفتح فيها هذا الملف ويتعامل معه معاملة سلفية نقية مائة بالمائة.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (وإذا حشر الناس كانوا لهم أعداء...)

    قال تعالى: وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ [الأحقاف:6]، (وإذا حشر الناس) أي: جمعوا يوم القيامة لموقف الحساب، (كانوا) أي: آلهتهم التي عبدوها، (لهم أعداءً) أي: لتبروئهم منهم، (وكانوا بعبادتهم كافرين) أي: وكانت آلهتهم التي يعبدونها في الدنيا بعبادتهم جاحدين؛ لأنهم يقولون يوم القيامة: ما أمرناهم بعبادتنا، ولا شعرنا بعبادتهم إيانا، تبرأنا إليك منهم يا ربنا، فالتكذيب بلسان المقال فضلاً عن بيان أن معبودهم في الحقيقة هم الشياطين وأهواؤهم. قال القاسمي في قوله تعالى: (( وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً )): (كانوا أعداءً)؛ لأن عبادة أهل الدنيا لسادتهم وخدمتهم إياهم لا تكون إلا لغرض نفساني، وكذا استعباد الموالي لخدمهم، فإذا ارتفعت الأغراض، وزالت العلل والأسباب كانوا لهم أعداءً، وأنكروا عبادتهم، يقولون: ما خذلتمونا ولكن خذلتم أنفسكم، كما قيل في تفسير قوله: الأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ [الزخرف:67]، وقال تعالى: وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا * كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا [مريم:81-82]، والقرآن يفسر بعضه بعضاً.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات...)

    قال تعالى: وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ [الأحقاف:7]، أي: بادروه بالجحود أول ما سمعوه من غير إجالة فكر ولا إعمال روية. (وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ) اللام هنا لام الأجل، وهي متعلقة بقال، وقيل: هي بمعنى الباء، وهي متعلقة بكفروا، وعدي الكفر باللام حملاً على نقيضه وهو الإيمان؛ لأن الإيمان يعدى باللام، كقوله تعالى: أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الأَرْذَلُونَ [الشعراء:111]. وهذا الذي تضمنته هذه الآية بينه قوله تعالى: وَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كَافِرُونَ [الزخرف:30]، وقوله تعالى: مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ * لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ [الأنبياء:2-3]، وقوله تعالى: وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ [هود:7].

    1.   

    تفسير قوله تعالى:(أم يقولون افتراه...)

    قال الله تعالى: أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئًا هُوَ أَعْلَمُ بِمَا تُفِيضُونَ فِيهِ كَفَى بِهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ [الأحقاف:8]. (أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئًا) أي: لا تقدرون أن تدفعوا عني شيئاً إن أصابني الله به، و(إن) منقطعة مقدرة بـ(بل) الإضرابية وهمزة الاستفهام المنوه به عن الإنكار والتعجب، فهو يدل على أن الافتراء على الله تعالى والكذب عليه جريمة أشنع من جريمة السحر، فهم يبدءون أولاً بقولهم: (هذا سحر مبين)، وكأن الله يقول: إنهم لا يقتصرون على قولهم: هو سحر مبين، بل يقولون ما هو أشد من ذلك، ثم يرد ذلك بصيغة الاستفهام الإنكاري التعجبي، كقوله: (أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ)، (أم) تفكك إلى بل والهمزة: بل أيقولون افتراه، فجريمة دعوى الافتراء أشد بلا شك من دعوى السحر. ووجه كون الافتراء أشنع من السحر: أن الكذب -خصوصاً على الله- متفق على قبحه، حتى إنك ترى أن كل أحد يشمئز بنسبته إليه؛ بخلاف السحر فإنه إن قبح فليس بهذه المرتبة حتى تكاد تكون معرفته من السمات المرغوبة. (هُوَ أَعْلَمُ بِمَا تُفِيضُونَ فِيهِ)، أي: بما تخوضون في حقه من أنه سحر أو إثم. (كَفَى بِهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ)، أي: يشهد لي بالصدق مما يؤيدني به من آياته وصدق مواعيده. (وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ)، لمن رجع منكم عن الكفر وتاب وآمن. قال الزجاج : إنما ذكر ها هنا الغفران والرحمة ليعلمهم أن من أتى ما أتيتم به ثم تاب فإن الله تعالى غفور له رحيم به، كمثل قوله تعالى: قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ [الأنفال:38]. يقول العلامة الشنقيطي في تفسير هذه الآية الكريمة: أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئًا [الأحقاف:8]: (أم) هذه هي المنقطعة، وتأتي بمعنى الإضراب، وتأتي بمعنى همزة الإنكار، وتأتي بمعناهما معاً الذي هو الإنكار والإضراب، وهذا هو الظاهر في هذه الآية الكريمة. فـ(أم) هنا تفيد معنى الإضراب والإنكار معاً، والمعنى: دع هذا واسمع قولهم المستنكر لظهور كذبهم فيه، فإن السحر أهون وأخف، بل أيقولون افترى على الله الكذب؟! هذا معنى: (أم يقولون افترى على الله الكذب)، دع هذا السحر فهو أخف مما هو آت، ولم يقتصر على ذلك؛ بل قولهم المستنكر لظهور كذبهم فيه أن محمداً عليه الصلاة والسلام افترى هذا القرآن. وقد أكذبهم الله في هذه الدعوى في آيات كثيرة، كقوله تعالى: أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ [يونس:38]، وقوله: أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ [هود:13]، وقوله تعالى: وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ [يونس:37]. وقوله تعالى: (قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئًا)، أي: إن كنت أنا قد افتريت هذا القرآن على سبيل الفرض فأنتم لن تملكوا لي من الله شيئاً، والله عز وجل هو من يعاجلني بالعقوبة الشديدة.. إن أنا افتريت على الله كلاماً لم يقله سبحانه وتعالى؛ فلابد أنه معاقبي أشد العقوبة، وأنتم لا تملكون لي من الله شيئاً، ولا تقدرون أن تدفعوا عني عذابه إن أراد أن يعذبني على ما أحدثت من الافتراء، وقد بين هذا قوله تعالى: وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ * لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ * فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ [الحاقة:44-47]، وهذا على سبيل الافتراض أن لو وقع ذلك بم كان سيعاقب الله من يفتري عليه هذا القرآن، والنبي صلى الله عليه وسلم قطعاً أنه معصوم من ذلك وحاشاه صلى الله عليه وسلم. فقوله تعالى: وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ [الحاقة:44]، كقوله هنا في آية الأحقاف: (قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئًا). وقوله: (فَلا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئًا)، يساوي قوله: فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ [الحاقة:47]؛ لأن معنى قوله: فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ [الحاقة:47]، أي: أنهم لا يقدرون على أن يدفعوا عنه عذاب الله له بالقتل، ونظير ذلك في المعنى قول الله سبحانه وتعالى: قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الأَرْضِ جَمِيعًا [المائدة:17]، وقوله تعالى: وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا [المائدة:41]. وأيضاً جاء معناه في قوله تعالى في سورة يونس: قَالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ [يونس:15]، أي: إني أخاف إن عصيت ربي بالافتراء عليه بتبديل قرآنه أو الإتيان بقرآن غيره (عذاب يوم عظيم). وذكر الله تعالى مثل هذا عن بعض الرسل في آيات أخرى، كقوله سبحانه وتعالى عن صالح عليه السلام: قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي مِنْهُ رَحْمَةً فَمَنْ يَنصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ [هود:63]، وقال تعالى عن نوح عليه السلام: وَيَا قَوْمِ مَنْ يَنصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ [هود:30].

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (قل ما كنت بدعاً من الرسل...)

    قال الله تبارك وتعالى: قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ [الأحقاف:9]. (قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ)، البدع والبديع من كل شيء هو المبتدع، والمعنى: أي: ما كنت أول رسل الله التي أرسلها إلى من قبلي، فقد كان من قبلي له رسل كثيرة أرسلت إلى أمم قبلكم فلم تستنكرون بعثتي وتستبعدون رسالتي؟ وهذا كقوله تعالى: وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ [آل عمران:144]، والبدع كالبديع، بمعنى: الجديد المبتدع. قال ابن جرير : ومن البدع قول علي بن زيد : فلا أنا بدع من حوادث تعتري رجالاً عرت من بعد بؤسي وأسعد أي: فلا أنا أول الناس الذي أصابتني هذه الحوادث بعد تقلب أحداث الزمان بالبؤس والتعس وبالشقاء والأفراح وغير ذلك. ومن البديع الذي هو بمعنى الجديد أو المبتدأ قول الأحوص : فخرت فانتمت فقلت ذريني ليس جهل أتيته ببديع والأحوص -كما في الأغاني- كان يوماً عند سكينة بنت الحسين، وهي من نسل النبي عليه الصلاة والسلام، فأذن مؤذن، فلما قال: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله فاخرت سكينة بما سمعت من ذكر أبيها في الأذان، ولا شك أن هذا فخر في محله؛ لأن الله سبحانه وتعالى قال: وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ [الشرح:4]، ورفع ذكر النبي عليه الصلاة والسلام رفع حسي ورفع معنوي، فمن الرفع الحسي: أن يذكر اسمه في الأذان خمس مرات على الأماكن العالية المرتفعة كما هي السنة، كما قال حسان بن ثابت : وضم الإله اسم النبي إلى اسمه إذا قال في الخمس المؤذن أشهد وشق له من اسمه ليجله فذو العرش محمود وهذا محمد فيقترن الاسم باسم الله سبحانه وتعالى، فلا شك أن الذي فخرت به سكينة فخر عن جدارة واستحقاق، ولا يستطيع أحد مهما حاول أن يدانيها في هذا الفخار وهذا الشرف، فهي لما سمعت المؤذن يؤذن ويقول: أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمداً رسول الله؛ فاخرت بما سمعت، فقال الأحوص معلقاً على ذلك: فخرت فانتمت فقلت ذريني ليس جهل أتيته ببديع يعني: لست أنت أول من يفخر بهذه المكارم، فأنا أيضاً لي من المكارم ما أفخر به. فأنا ابن الذي حمت لحمه الدبر قتيل اللحيان يوم الرجيع غسلت خالي الملائكة الأبرا ر ميتاً طوبى له من صريع لأن الأحوص الشاعر هو أبو عاصم عبد الله بن محمد بن عبيد الله ابن صاحب النبي صلى الله عليه وسلم عاصم بن ثابت الأنصاري رضي الله تعالى عنه، فهو يفاخرها به، فيقول: فأنا ابن الذي حمت لحمه الدبر قتيل اللحيان يوم الرجيع ويفتخر أيضاً بخاله حنظلة : غسلت خالي الملائكة الأبرا ر ميتاً طوبى له من صريع قال أبو زيد : وقد لعمري فخر بفخر لو على غير سكينة فخر به يعني: فعلاً هو افتخر بفخر لكن لو كان هذا الفخر على غير سكينة. وبأبي سكينة حمة أباه الدبر وغسلت خاله الملائكة لأن ما قيمة عاصم بن ثابت وما قيمة حنظلة إن لم يكونا قد شرفا بالانتماء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالفخر عائد أيضاً إلى سكينة. فالشاهد من كل هذا الكلام: أن كلمة (بديع) تساوي كلمة (بدع) وتساوي المبتدأ أو الجديد، فهو ذكر أولاً شاهد البدع في قول علي بن زيد : فلا أنا بدع من حوادث تعتري رجالاً عرت من بعد بؤسي وأسعد يقول: ومن استعمال كلمة البديع بنفس المعنى قول الأحوص : فخرت فانتمت فقلت ذريني ليس جهل أتيته ببديع فأنا ابن الذي حمت لحمه الدبـ ر قتيل اللحيان يوم الرجيع غسلت خالي الملائكة الأبرا ر ميتاً طوبى له من صريع وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ [الأحقاف:9]، قال أبو السعود : أي: لا أدري أي شيء يصيبنا فيما يستقبل من الزمان من أفعاله تعالى، وماذا يقدر لنا من قضاياه، فإنه لا يعلم الغيب إلا الله. وعن الحسن رضي الله عنه قال: ما أدري ما يصير إليه أمري وأمركم في الدنيا، وقيل: يجوز أن يكون المنفي هو الدراية المفصلة، أي: وما أدري ما يفعل بي وبكم على جهة التفصيل، على أساس أنه يعرف من خبر الله أن الله سبحانه وتعالى مظهر دينه وناصر دعوته، فلعله يقصد على سبيل التفصيل، فالمنفي هو الدراية المفصلة. يقول: والأظهر أن (ما) في قوله: (وما أدري ما يفعل) عبارة عما ليس عينه من وظائف النبوة من الحوادث والواقعات الدنيوية دون ما سيقع في الآخرة، ( وما أدري ما يفعل بي ولا بكم ) يعني: في الدنيا، فإن العلم بذلك من وظائف النبوة، وقد ورد به الوحي الناطق بتفاصيل ما يفعل بالجانبين، بالنبي ومن معه وبالكافرين ومن معهم، انتهى كلام أبي السعود . وهذا القول هو الأظهر، وهو ما عول عليه ابن جرير ، قال ابن جرير : (بل لا يجوز غيره)، فلا يجوز ولا يصح على الإطلاق أن يدعي أحد أن المقصود بقوله: ( وما أدري ما يفعل بي ولا بكم ) يعني: في الآخرة. وقال ابن كثير : (بل لا يجوز غيره)، يعني: لا يجوز غير أن يقال: ما أدري ما يفعل بي ولا بكم في الدنيا، إذ كيف يجوز ذلك وهو صلى الله عليه وسلم جازم بأنه صائر إلى الجنة هو ومن اتبعه بإحسان، وأما في الدنيا فلم يدر ما كان يئول إليه أمره وأمر مشركي قريش أيؤمنون أم يكفرون فيعذبون فيستأصلون لكفرهم؟! وأما الحديث الذي رواه الإمام أحمد عن أم العلاء وكانت بايعت النبي صلى الله عليه وسلم قالت: صار لنا في السكنى حين اقترعت الأنصار على سكنى المهاجرين عثمان بن مظعون رضي الله تعالى عنه -أي: كان من نصيبهم حين اقترعت الأنصار على سكنى المهاجرين- فاشتكى عثمان عندنا -أي: مرض- فمرضناه، حتى إذا توفي أدرجناه في أثوابه، فدخل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: رحمة الله عليك أبا السائب، شهادتي عليك لقد أكرمك الله عز وجل، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أما هو فقد جاءه اليقين من ربه، وإني لأرجو له الخير، والله ما أدري وأنا رسول الله ما يفعل بي)، قالت: فقلت: والله لا أزكي أحداً بعده أبداً، وأحزنني ذلك، فنمت فرأيت لـعثمان رضي الله عنه عيناً تجري، فجئت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته بذلك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ذاك عمله) فقد انفرد بإخراجه البخاري دون مسلم . وفي لفظ للبخاري : (ما أدري وأنا رسول الله ما يفعل به) ، وفي رواية: (ما أدري ما يفعل بي)، وهذا أشبه أن يكون هو المحفوظ، أي: رواية: ( ما يفعل به)، بدليل قولها: فأحزنني ذلك على عثمان ، فيكون متفقاً مع رواية أم العلاء : (فإنني وأنا رسول الله لا أدري ما يفعل به)، فلذلك حزنت بعدما كانت ظنت أن الله قد أكرمه بالفعل، فلما أدبها النبي عليه السلام بالأدب الواجب في مثل هذا، وأحزنها ذلك ونامت فرأت رؤيا ما يذهب عنها ذلك الحزن لاطمئنانها على عثمان حين رأت هذه العين الجارية، وأولها النبي عليه الصلاة والسلام بأنها عمله. وفي هذا وأمثاله دلالة على أنه لا يقطع لمعين بالجنة إلا الذي نص الشارع على تعيينهم، كالعشرة وابن سلام والرميصاء وبلال وسراقة وعبد الله بن عمرو بن حرام والد جابر ، والقراء السبعين الذين قتلوا ببئر معونة، وزيد بن حارثة ، وجعفر بن أبي طالب ، وعبد الله بن رواحة ، وأشباه هؤلاء رضي الله تعالى عنهم أجمعين، فلا ينبغي المجازفة في القطع بالجنة لمن لم ينص الوحي على أنه من أهل الجنة، وهذا للأسف الشديد شائع الآن خاصة في الزعماء والكبراء من الدعاة أو العلماء المعظمين عند أتابعهم، يتكلمون كأنهم جاءهم صك من الوحي بأن فلاناً الآن في الجنة، فهذا مما لا يجوز، وهذا من العدوان، كما هو ظاهر في هذا الحديث. ومعنى قوله: (وما أدري ما يفعل بي ولا بكم)، أي: فيما لم يوح إلي، والوحي ببعض الأمور لا يستلزم العلم بالباقي، ولم يكن لي أن أنسب إلى الوحي كذباً من عندي. (إِنْ أَتَّبِعُ)، أي: في تقرير الأمور الغيبية. (إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ)، أي: منذر عقاب الله على كفركم به، فقد أبان لكم إنذاره، وأبان لكم دعاءه إلى ما فيه صلاحكم وسعادتكم. وقد بين العلامة الشنقيطي رحمه الله تعالى معنى هذه الآية فقال رحمه الله تعالى: (وما أدري ما يفعل بي ولا بكم) التحقيق -إن شاء الله-: أن معنى الآية الكريمة: في دار الدنيا، فما أدري أأخرج من مسقط رأسي أو أقتل كما فعل ببعض الأنبياء؟ وما أدري ما ينالني من الحوادث والأمور في تحمل أعباء الرسالة؟ وما أدري ما يفعل بكم: أيخسف بكم أم تنزل عليكم حجارة من السماء ونحو ذلك؟ هذا هو اختيار ابن جرير وغير واحد من المحققين. وهذا المعنى في هذه الآية دلت عليه آيات من كتاب الله، كقوله تعالى: وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ [الأعراف:188]، وقال تعالى آمراً إياه صلى الله عليه وسلم: قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ [الأنعام:50]، وبهذا تعلم أن ما يروى عن ابن عباس و

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (قل أرأيتم إن كان من عند الله...)

    قال الله تبارك وتعالى: قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ [الأحقاف:10]. (قل أرأيتم إن كان من عند الله)، يعني: إن كان القرآن منزلاً من لدنه سبحانه وتعالى عليَّ لا سحراً ولا مفترى كما تزعمون. (وكفرتم به وشهد شاهد من بني إسرائيل)، أي: عالم من علماء بني إسرائيل، واقف على أسرار الوحي عن طريق التوراة التي يؤمن بها، (على مثله). وقيل: (شهد شاهد من بني إسرائيل) هو موسى عليه السلام، (على مثله) أي: على التوراة. وقيل: (شهد شاهد من بني إسرائيل) هو عبد الله بن سلام عالم اليهود وكبيرهم في المدينة وقد أسلم، (على مثله) أي: على مثل القرآن، وهو ما في التوراة من الأحكام المطابقة للقرآن من الإيمان بالله وحده، وهو ما يتبعه كقوله تعالى: وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الأَوَّلِينَ [الشعراء:196]، وقوله تعالى: إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الأُولَى * صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى [الأعلى:18-19]، أو على مثل ما ذكر من كونه من عند الله تعالى، أو على مثل شهادة القرآن، فجعل شهادته على أنه من عند الله شهادة على مثل شهادة القرآن؛ لأنه بإعجازه كأنه يشهد لنفسه بأنه من عند الله. وقد يكون المثل هنا صلة، فيكون المعنى: وشهد شاهد من بني إسرائيل عليه، وهذا تعبير معروف في اللغة العربية أن كلمة (مثل) تستعمل هذا الاستعمال، فقوله: (على مثله) أي: عليه، أي: على أنه من عند الله. (فآمن) الشاهد وهو ابن سلام ، (واستكبرتم) يا معشر اليهود. والفاء تدل على أن هذا الشاهد سارع إلى الإيمان بالقرآن لما علم أنه من جنس الوحي الناطق بالحق، واستكبرتم عن الإيمان به بعد هذه الشهادة. (إن الله لا يهدي القوم الظالمين)، هذا استئناف مشعر بأن كفرهم لضلالهم المتسبب عنه ظلمهم، وهذا دليل على جواب المحذوف؛ لأن الجواب هنا محذوف، فيقول: أرأيتم إن كان من عند الله وكفرتم به وشهد شاهد من بني إسرائيل فآمن واستكبرتم، أين الجواب؟ محذوف تقديره: ألستم ظالمين، أو فمن أضل منكم. فيكون مثل قوله تعالى: قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ [فصلت:52]، فوافقهم بالظلم للإشعار بعلة الحكم، فإن تركه تعالى لهدايتهم إنما هو لظلمهم. يقول القاسمي : روي أن الشاهد هو عبد الله بن سلام رضي الله عنه، فتكون الآيات مدنية مستثناة من السورة؛ لأن عبد الله بن سلام أسلم بالمدينة، فهذا هو السبب في أن بعض المفسرين قالوا: إن هذه الآية من الآيات المستثنيات؛ لأن السورة مكية، وقالوا: إن هذه الآية آية مدينة؛ لأنه إذا كان الشاهد عبد الله بن سلام فـعبد الله بن سلام إنما أسلم في المدينة، وهذا استدلال غير قوي، لماذا؟ لأنه لا إشكال أن يخبر القرآن بذلك، وأن يكون هذا من باب الإخبار بالشيء قبل وقوعه، ويكون قوله: (قل أرأيتم إن كان من عند الله وكفرتم به وشهد شاهد من بني إسرائيل على مثله فآمن واستكبرتم)، إخبار عما سيقع في المستقبل. إذاً: السورة مكية، وهذا إنما هو إخبار عما سيقع من إسلام عبد الله بن سلام فيما بعد، فما الإشكال في ذلك؟ وتكون هذه من علامات النبوة، تماماً كقوله تعالى: وَنَادَى أَصْحَابُ الأَعْرَافِ رِجَالًا [الأعراف:48]، فهذا إخبار بالماضي عن شيء سيحصل في المستقبل. ويرشحه: أن (شهد) معطوف على الشرط الذي يصير به الماضي مستقبلاً، فلا خير في شهادة الشاهد بعد نزولها، ويكون تفسيره بها بياناً للواقع لا عن أنه مراد بخصوصه منها، هذا ما حققوه، وسواء كان هذا الشاهد عبد الله بن سلام أو غيره من علماء بني إسرائيل الذين دخلوا في الإسلام فلا إشكال في هذا، فيكون معناها: أنه يصدق واقع استسلام عبد الله بن سلام وشهادته للقرآن وللرسول عليه السلام، فيعم كل من يشهد من علماء وأحبار بني إسرائيل للإسلام وللقرآن، فالمقصود أن اللفظ الكريم يتناول هذا الشاهد كما يمكن أن يتناول غيره. وقال العلامة الشنقيطي في تفسير هذه الآية: وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ [الأحقاف:10]: التحقيق -إن شاء الله- أن هذه الآية الكريمة جارية على أسلوب عربي معروف، وهو إطلاق المثل على الذات نفسها، فإن المثل في لغة العرب تطلق أحياناً على الذات مثلها، وهذا مشهور جداً في لغتهم كما في قوله: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى:11]، معناها: ليس كالله شيء؛ لأن الله لا مثل له، فهذه الآية جارية على أسلوب عربي معروف وهو إطلاق المثل على الذات نفسها كقولهم: مثلك لا يفعل هذا، يعنون بذلك: أنت لا ينبغي لك أن تفعله، وعلى هذا فالمعنى: (( وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ )): على هذا القرآن أنه وحي منزل حقاً من عند الله، لا أنه شهد على شيء آخر مماثل له، ولذلك قال: (( فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ ))، فهذا يرجح قول من فسرها بأنه شاهد على القرآن أنه حق من عند الله، فآمن هذا الشاهد واستكبرتم أنتم عن الإيمان، بخلاف ما لو قلنا: (فشهد شاهد) وهو موسى عليه السلام، (على مثله) على التوراة، وماذا ستقولون في قوله: (فآمن واستكبرتم) في حق موسى عليه السلام والخطاب للمشركين؟ فأقوى وأوضح أن يقال: (وشهد شاهد من بني إسرائيل) وهو عبد الله بن سلام ، (على مثله) على القرآن نفسه، وليس على شيء آخر كالتوراة مثلاً؛ لما علم من لغة العرب أن المثل تطلق ويراد بها الذات نفسها، فآمن الشاهد وأما أنتم فقد استكبرتم عن الإيمان والانقياد. وهذا كقوله تعالى: أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا [الأنعام:122]، تفسيرها: كمن هو نفسه في الظلمات، وهذا أسلوب من أساليب العرب، وقال أيضاً تبارك وتعالى: فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوا [البقرة:137]، أي: فإن آمنوا بما آمنتم به لا بشيء آخر مماثل له على التحقيق. إذاً: القول المحقق في أمثال هذه الآيات: أنه لا يقال: إن (مثل) هنا بمعنى أنه يوجد مماثل آخر، وإنما المقصود هو نفس الشيء، فقوله: (فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به فقد اهتدوا)، تفسيرها: فإن آمنوا بما آمنتم به، وليس: فإن آمنوا بشيء آخر مماثل لما آمنتم به، ويستأنس له بالقراءة المروية عن ابن مسعود وابن عباس رضي الله عنهم: (فإن آمنوا بما آمنتم به)، وكأنها قراءة تفسيرية. والشاهد في الآيات هو عبد الله بن سلام رضي الله عنه كما قال الجمهور، وعليه فهذه الآية ليست مدنية كما سبق الجواب عن هذا، وأن القول بأنها مدنية غير لازم؛ لأنها في سورة مكية، بل يكون هذا من باب الإخبار بالشيء قبل أن يقع، ويحمل قول من قال: إنها نزلت في عبد الله بن سلام على أن لفظ الآية يشمل عبد الله بن سلام وغيره، والله تعالى أعلم.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (وقال الذين كفروا للذين آمنوا لو كان خيراً ما سبقونا إليه...)

    أشار تبارك وتعالى إلى حكاية نوع من أباطيلهم في التنزيل، فقال سبحانه وتعالى: وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ [الأحقاف:11]. (وقال الذين كفروا للذين آمنوا لو كان خيراً ما سبقونا إليه)، أي: لو كان الإيمان، أو لو كان ما أتى به الرسول صلى الله عليه وسلم خيراً ما سبقتمونا إليه، أي: لو كان من عند الله لكنا أولى به كسائر الخيرات من المال والجاه. قال ابن كثير : يعنون بلالاً وعماراً وصهيب وخباباً رضي الله تعالى عنهم، وأشباههم وأضرابهم من المستضعفين والعبيد والإماء، وما ذاك إلا لأنهم عند أنفسهم يعتقدون أن لهم عند الله وجاهة وله بهم عناية، وقد غلطوا في ذلك غلطاً فاحشاً وأخطئوا خطأً بيناً، كما قال تعالى: وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا [الأنعام:53]، يقول الله تعالى: أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ [الأنعام:53]، بلى. أي: يتعجبون كيف ساد هؤلاء دوننا؟! ولهذا قالوا: (لو كان خيراً ما سبقونا إليه). وهذه العبارة من كلام ابن كثير ينبغي أن تحفظ؛ لأنها عبارة رائعة من ابن كثير رحمه الله، فهو يفرق بين قول أهل الحق، أهل السنة والجماعة، وبين قول هؤلاء الكافرين المتمردين المتكبرين في نظرة كل فريق إلى الصحابة رضي الله تعالى عنهم، فهم إن كانوا يقولون: لو كان الإسلام خيراً ما سبقونا إليه احتقاراً وازدراءً لهم فإنا نردد مع ابن كثير رحمه الله تعالى قوله: (وأما أهل السنة والجماعة فيقولون في كل فعل وقول لم يثبت عن الصحابة رضي الله عنهم: هو بدعة؛ لأنه لو كان خيراً لسبقونا إليه؛ لأنهم لم يتركوا خصلة من خصال الخير إلا وقد بادروا إليها رضي الله تعالى عنهم أجمعين)، فهذه عبارة حقها أن تكتب بماء العيون ليس فقط بماء الذهب. ونحن والكفار كلانا لنا موقف من الصحابة رضي الله تعالى عنهم، فهم يقولون: (لو كان خيراً ما سبقونا إليه)، فقد كانوا يحتقرون ضعفاء الصحابة رضي الله تعالى عنهم وفقراءهم وعبيدهم بأن يقولوا: (لو كان خيراً ما سبقونا إليه) استكباراً وعلواً واحتقاراً وازدراءً لهم. أما أهل الحق في كل عصر وفي كل دين إلى أن تقوم الساعة فإنهم يقولون: (لو كان خيراً لسبقونا إليه)؛ لأنهم أولى الناس بالخير، وفي هذه العبارة يدفع في صدر كل مبتدع أياً كان إذا كان يبتدع شيئاً لم يفعله الصحابة؛ فإننا ندرأ في نحره بهذه العبارة الرائعة من كلام ابن كثير رحمه الله تعالى: وأما أهل السنة والجماعة فيقولون في كل فعل وقول لم يثبت عن الصحابة رضي الله تعالى عنهم: هو بدعة؛ لأنه لو كان خيراً لسبقونا إليه؛ لأنهم لم يتركوا خصلة من خصال الخير إلا وقد بادروا إليها. انتهى كلام ابن كثير رحمه الله تعالى. وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ [الأحقاف:11]. ( وإذ لم يهتدوا به ) يعني: بالقرآن. (فسيقولون هذا إفك قديم) أي: كذب قديم، كما قالوا: أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ [الأنعام:25]، قال ابن كثير : فيتنقصون القرآن وأهله، وهذا هو الكبر الذي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في حده: (الكبر بطر الحق وغمط الناس) ، فهم جمعوا بين هذين الركنين من أركان الكبر: بطر الحق: تكبر عن الانقياد إلى الحق، واحتقار الناس: فهم احتقروا الصحابة وقالوا: (لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ)، وتنقصوا القرآن بأن لم ينقادوا به، بأن قالوا فيه: هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ ، هذا أساطير الأولين، فجمعوا بين هذين الركنين اللذين هما ركنا الكبر. فأهل القرآن ينبغي أن يكونوا أعظم الناس حظاً من التبجيل والاحترام؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام سماهم باسم ينبض بأعظم معاني التكريم ورفع الشأن حينما قال: (أهل القرآن هم أهل الله وخاصته)، فهم خاصة الله عز وجل من بين الخلق، وهم أيضاً الذين مدحهم النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (خيركم من تعلم القرآن وعلمه)، ولذلك فقوله عليه الصلاة والسلام: (من لم يتغنَّ بالقرآن فليس منا) على تفسيرات عدة: منها: من لم يشعر بأنه أغنى خلق الله إذا حاز القرآن بين جنبيه وفي صدره، فهذا قد حاز أعظم الغناء، ولذلك قال الله تعالى للنبي عليه الصلاة والسلام بعدما قال له سبحانه وتعالى أولاً: وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ [الحجر:87] ، فمن ثم نهاه بعدها مباشرة وقال: لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ [الحجر:88]؛ لأنك غني بالقرآن، فلا تحتاج أبداً أن تنظر إلى زينة الحياة الدنيا، فالزينة هي القرآن وهي الإيمان، أما هؤلاء الكفار فقد تمكنوا من صفة الكبر، واستوفوا ركني الكبر اللذين هما: بطر الحق، فتكبروا عن الانقياد للحق حينما قالوا: (( هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ ))، أو قالوا: أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ [الأنعام:25]، وغمط الناس حينما قالوا في المؤمنين: (( لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ )). كان رجل يقول: ما من علم إلا ويوجد في القرآن، فقال له رجل على سبيل التحدي والتعجيز: فأين في القرآن: إن المرء عدو ما يجهل؟ فقال له: في قوله تعالى: (( وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ ))؛ لأنه لما جهل القرآن وجهل الحق عاداه. قال العلامة الشنقيطي رحمه الله تعالى في تفسير قوله تعالى: (( وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ )): أظهر أقوال العلماء في هذه الآية الكريمة: أن الكافرين الذين قالوا للمؤمنين: (لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ): أنهم كفار مكة، وأن مرادهم: أن فقراء المسلمين وضعفاءهم كـبلال وعمار وصهيب وخباب ونحوهم رضي الله تعالى عنهم أحقر عند الله من أن يختار لهم الطريق التي فيها الخير، وأنهم هم الذين لهم عند الله عظمة وجاه واستحقاق السبق لكل خير بزعمهم، وأن الله أكرمهم في الدنيا بالمال والجاه، وأن أولئك الفقراء لا مال لهم ولا جاه، وأن ذلك التفضيل في الدنيا يستلزم التفضيل في الآخرة، وهذا المعنى تدل له آيات كثيرة من كتاب الله، وخير ما يفسر القرآن به القرآن. أما ادعاؤهم: أن ما أعطوا من المال والأولاد والجاه في الدنيا دليل على أنهم سيعطون مثله في الآخرة، فتكذيب الله لهم في ذلك قد جاء موضحاً في آيات كثيرة، كقوله تعالى: أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ * نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَل لا يَشْعُرُونَ [المؤمنون:55-56]، فمن الاغترار ومن الجهل والحمق أن يظن هؤلاء الكفار أن الله إن كان أعطاهم الدنيا فلابد أن ما هم فيه خير، وأنه سوف يؤتيهم مثله في الدار الآخرة، كلا؛ لأن الله سبحانه وتعالى يعطي الدنيا من يحب ومن لا يحب، ولا يعطي الدين والإيمان إلا لمن أحب واصطفى. ففي ميزان الله سبحانه وتعالى لا الصور ولا الأحساب ولا الأنساب ولا المال ولا الجاه يؤثر على الإطلاق، وإنما أكرمكم عند الله أتقاكم، وإلا فكل البشر سواء؛ لا فضل لعربي على أعجمي لأبيض على أسود ولا لأحمر على أسود إلا بالتقوى كما بين النبي صلى الله عليه وسلم. وقال تعالى: أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا * أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا * كَلَّا سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدًّا * وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ وَيَأْتِينَا فَرْدًا [مريم:77-80]، وقال تعالى: وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ [سبأ:35]، مع قوله: وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى [سبأ:37]، وقال تعالى: وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِمَا عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ [فصلت:50]، وفي سورة الكهف: وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنقَلَبًا [الكهف:36]. وأما احتقار الكفار لضعفاء المؤمنين وفقرائهم، وزعمهم أنهم أحقر عند الله من أن يصيبهم بخير، وأن ما هم عليه لو كان خيراً لسبقهم إليه أصحاب الغناء والجاه والولد من الكفار فقد دلت عليه آيات أخرى، كقوله تعالى في سورة الأنعام: وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا [الأنعام:53]، فهمزة الإنكار في قوله: (أَهَؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ) تدل على إنكارهم أن الله يمن على أولئك الضعفاء بخير، وقد رد الله عليهم بقوله: أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ [الأنعام:53]، بلى: وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [الأنعام:54]. وقال تعالى في الأعراف: (

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (ومن قبله كتاب موسى إماماً ورحمة...)

    قال تعالى: وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً وَهَذَا كِتَابٌ مُصَدِّقٌ لِسَانًا عَرَبِيًّا لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرَى لِلْمُحْسِنِينَ [الأحقاف:12]. (من قبله) أي: من قبل القرآن، (كتاب موسى) ومع ذلك لم يهتدوا به. (إماماً) أي: قدوة يؤتم به في دين الله وشرائعه. (ورحمة) لمن آمن به وعمل بما فيه. (وهذا كتاب) هذا الذي يقولون فيه ما يقولون. (مصدق) أي: بكتاب موسى، من غير تعلّم من أُنزل عليه إياه. (لساناً عربياً) (لساناً) حال، (عربياً)، أي: بيناً واضحاً، وفي تقييد الكتاب بذلك مع أن عربيته أمر معلوم للدلالة على أن تصديقه لها باتحاد معناه معها وهي غير عربية. وهذا معنى جيد، وكان يكفي أن يقال: وهذا كتاب عربياً، لكن أتى بكلمة: (لساناً عربياً) للتوكيد، كما تقول: جاءني زيد رجلاً صالحاً، تريد: جاءني زيد صالحاً، فزيادة (رجلاً) للتوكيد. ويذكر القاسمي هنا فائدة لذكر لفظ (لساناً عربياً) أي: بيناً واضحاً، وقيد الكتاب بأنه (لساناً عربياً) مع أن عربية القرآن أمر معلوم، ما سر ذلك؟ سر ذلك: للدلالة على أن تصديقه لها باتحاد معناه معها وهي غير عربية، وهذا كتاب مصدق للتوراة، أتى بلسان عربي فاتحدت معاني الدعوة للتوحيد بين التوراة والقرآن، فالقرآن يطابق التوراة باتحادهما في المعنى، مع أنها غير عربية، ومثله لا يكون ممن يعرف ذلك اللسان بغير وحي من الله تبارك وتعالى، وهذا يدل على أن الذي أوحى القرآن إلى النبي عليه السلام هو الله سبحانه وتعالى؛ لأنه لا يعرف لغة التوراة ومع ذلك ففي كتابه نفس المعاني التي في هذا الكتاب. (لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا)، أي: المشركين. (وَبُشْرَى)، أي: وهو بشرى، (لِلْمُحْسِنِينَ). ومن الملاحظ أن القرآن الكريم حافل بالمواضع التي فيها ربط بين الرسولين محمد وموسى عليهما الصلاة والسلام، وأيضاً في الكتب مواقف كثيرة فيها الربط بين موسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام، والربط دائماً بين التوراة وبين القرآن الكريم، وبين هذه الأمة وبين أمة بني إسرائيل، ومن ذلك قوله تعالى هنا: (وَمِنْ قَبْلِهِ) أي: من قبل القرآن، (كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً وَهَذَا كِتَابٌ) أي: هذا القرآن، (مُصَدِّقٌ لِسَانًا عَرَبِيًّا)، فهذا ربط بين القرآن وبين التوراة. وفي نفس السورة قال تعالى عن مؤمني الجن لما سمعوا القرآن: قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى [الأحقاف:30]، فلم يقولوا: من بعد عيسى؛ لأنه كما ذكرنا هناك ربط شديد في القرآن بين موسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام، لماذا؟ لأن الشريعة الأساسية هي شريعة موسى عليه السلام، أما عيسى فجاءت شريعته مكملة فقط وليست هي الكتاب الأساس، وإنما الأساس هو التوراة. كذلك أيضاً في مقدمة سورة الإسراء ربط هذا الربط الذي أشرنا إليه، وفي حديث إسلام النجاشي لما تلا جعفر على النجاشي وأصحابه سورة مريم، بكى النجاشي وقال: إن هذا هو الذي جاء به موسى، وإنهما ليخرجا من مشكاة واحدة. وكذلك قال ورقة بن نوفل مع أنه كان نصرانياً، كما في حديث بدء الوحي، قال: (هذا الناموس الأكبر الذي أنزل على موسى).. إلى آخر الحديث. أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، نشهد أن لا إله إلا أنت، نستغفرك ونتوب إليك.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756001711