إسلام ويب

تفسير سورة طه [1-43]للشيخ : محمد إسماعيل المقدم

  •  التفريغ النصي الكامل
    1.   

    تفسير قوله تعالى: (طه)

    يقول الله تعالى: طه [طه:1]. نبه الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى في الكافية الشافية على نكتة تتعلق بالحروف المقطعة في أوائل بعض السور فقال: وانظر إلى السور التي افتتحت بأحـ رفها ترى سراً عظيم الشان لم يأت قط بسورة إلا أتى في إثرها خبر عن القرآن إذ كان إخباراً به عنها وفي هذا الشفاء لطالب الإيمان ويدل أن كلامه هو نفسها لا غيرها والحق ذو تبيان فانظر إلى مبدا الكتاب وبعدها الـ أعراف ثم كذا إلى لقمان مع تلوها أيضاً ومع حم مع يس وافهم مقتضى الفرقان والعلامة الشنقيطي رحمه الله تعالى يرى أن أظهر الأقوال في هذه الحروف أنها مما تحدى به الله في القرآن الكريم العرب، فهو مكون من نفس لغة العرب التي نزل بها القرآن، ومع ذلك يعجزون عن الإتيان بمثله! يقول: أظهر الأقوال عندي أن طه [طه:1] من الحروف المقطعة في أوائل السور، مثل حم [غافر:1] والم [البقرة:1] وغيرها، ويدل لذلك أن الطاء والهاء المذكورتين في فاتحة هذه السورة جاءتا في مواضع أخر لا نزاع فيها بأنها من الحروف المقطعة، أما الطاء ففي فاتحة الشعراء: طسم [الشعراء:1]، وفاتحة النمل: طس [النمل:1]، وفاتحة القصص، وأما الهاء ففي فاتحة مريم: كهيعص [مريم:1]، فخير ما يفسر به القرآن القرآن. وقال بعض أهل العلم وهو أيضاً قول معتمد عندهم: أن (طه) الطاء مثل الطاء في (طسم)، والهاء مثل الهاء في (كهيعص)، يعني أنها من الحروف المقطعة في أوائل السور، خلافاً لما يزعمه بعض الناس من أنه اسم للنبي صلى الله عليه وسلم، ويسمون أبناءهم بـ(طه) بناء على هذا، وهذا مما لا يثبت، وإنما هي حروف كأي حروف أخرى مقطعة في أوائل السور. وقال بعض أهل العلم: قوله: (طه) معناها: يا رجل، وهي لغة بني عبس من عدنان، وبني قيس، وبني عكل، قالوا: لو قلت لرجل من بني عكل: يا رجل، لم يفهم أنك تناديه، حتى تقول له: يا طه، ومنه قول متمم بن نويرة التميمي : دعوت لطه في القتال فلم يجب فخفت عليه أن يكون مزايلاً وقال عبد الله بن عمرو : معنى (طه) بلغة عك: يا حبيبي! ذكره الغزنوي وقال هو بلغة طي، وأنشد يزيد بن المهلهل : إن السفاهة طه في شمائلكم لا بارك الله في القوم الملاعين ويروى: إن السفاهة طه من خلائقكم لا قدس الله أرواح الملاعين وممن نقل عنه: أن معنى (طه) يا رجل: ابن عباس ومجاهد وعكرمة وسعيد بن جبير وعطاء ومحمد بن كعب وأبو مالك وعطية العوفي والحسن وقتادة والضحاك والسدي وابن أبزى . وغيرهم، نقل ذلك عنهم ابن كثير وغيره. وذكر القاضي عياض عن الربيع بن أنس قال: (كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا صلى قام على رجل ورفع الأخرى، فأنزل الله (طه)) يعني: طء الأرض بقدميك يا محمد! وعلى هذا القول فالهاء مبدلة من الهمزة يعني: فهو أمر بالوطء على الأرض بقدميه. وفي (طه) أقوال أخر ضعيفة مثل: القول: بأنه من أسماء النبي صلى الله عليه وسلم. والقول: بأن الطاء من الطهارة، والهاء من الهداية، كأن الله تعالى يقول: يا طاهراً من الذنوب يا هادي الخلق إلى علام الغيوب، وغير ذلك من الأقوال الضعيفة. والصواب -إن شاء الله- في الآية هو ما صدرنا به كلامنا، ودل عليه القرآن في مواضع أخر. إذاً: معنى (طه) مثل (الم)، وليس كبعض الناس إذا سمع (طه) قال: صلى الله عليه وسلم، نعم تصلي على النبي صلى الله عليه وسلم إذا ذكر اسمه، لكن (طه) ليست من أسمائه عليه الصلاة والسلام.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى)

    قال تعالى: مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى [طه:2]، يعني: لتسعد بترك تأسفك عليهم وعلى كفرهم، وتحسرك على أن يؤمنوا، والشقاء هنا: بمعنى التعب، ومنه المثل: أشقى من رائض مهر. إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى [طه:3]، أي: تذكيراً له. أي: ما أنزلنا عليك القرآن لتتعب بتبليغه، ولكن أنزلنا القرآن تذكرة لمن في قلبه خشية ورقة يتأثر بالإنذار، والقصد: أنه ما عليك إلا أن تبلغ وتذكر، هذا هو واجبك، ولم يكتب عليك أن يؤمنوا لا محالة، وليس بمسئوليتك قيام القلوب بهذا الحق، لكن عليك بيان هذا الحق والتبليغ. وقد جرت السنة الإلهية في خطاب الرسول صلى الله عليه وسلم في مواضع من التنزيل: أن ينهاه عن الحزن عليهم، وضيق الصدر بهم، كقوله تعالى: فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ [الأعراف:2]، وقوله: فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا [الكهف:6]، وهذا يصور مدى سخط النبي صلى الله عليه وسلم على قومه، فصوره بمن يفارق أحب الناس إليه، ثم هم ينصرفون عنه ويودعوه، وإذا به يظل يلاحقهم ويمشي خلفهم أسفاً على فراقهم وذهابهم عنه، حتى كاد أن يقتل نفسه من الغم والحزن والحسرة والتأسف لفراقهم؛ فلذلك يقول الله تعالى هنا: فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ [الكهف:6] يعني: لعلك مهلك نفسك، (على آثارهم) لأنه يحرص على أن يهتدوا، إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا [الكهف:6]، كأن الله سبحانه وتعالى يقول له: ترفق بنفسك فإنك تكاد أن تقتل نفسك، وتكاد أن تموت من شدة الشفقة عليهم؛ صلى الله عليه وسلم. ويقول الله تعالى: وَلا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ [آل عمران:176]، وهذه الآية من هذا الباب أيضاً مثل: مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى [طه:2] أي: هون عليك، ما أنزلنا عليك القرآن حتى تشقى وتتألم وتحزن هذا الحزن لنفورهم من الإيمان، ولكن بلغ وأنذر فقط، وفي ذلك كله من تكريم الرسول صلى الله عليه وسلم وحسن العناية به والرأفة ما لا يخفى. يقول العلامة الشنقيطي رحمه الله تعالى في تفسيرها: (ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى): فيها وجهان من التفسير، وكلاهما يشهد له القرآن: الأول: أن معنى: مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى [طه:2] أي: لتتعب التعب الشديد بقصد تأسفك عليهم وعلى كفرهم، وتحسرك على أن يؤمنوا، وهذا الوجه جاءت بنحوه آيات كثيرة، كقوله: فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ [فاطر:8]، وقوله تعالى: فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا [الكهف:6]، وقوله: لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ [الشعراء:3]. الوجه الثاني: أنه صلى الله عليه وسلم صلى بالليل حتى تورمت قدماه، فأنزل الله تعالى: مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى [طه:2] أي: لتنهك نفسك بالعبادة؛ وتذيقها المشقة الفادحة، وما بعثناك إلا بالحنيفية السمحاء، وهذا الوجه تدل له ظواهر آيات من كتاب الله، كقوله تعالى: وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ [الحج:78]، وقوله: يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ [البقرة:185]، والعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، يعني: إن كان المنطوق إرادة نفي الشقاء بنزول القرآن؛ فالمفهوم إرادة السعادة؛ فلذلك قال الشنقيطي : ويفهم من قوله: (لتشقى)، أنه أنزله عليه ليسعد صلى الله عليه وسلم كما يدلنا على ذلك الحديث الصحيح من قول النبي صلى الله عليه وسلم: (من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين). وقد روى الطبراني ، عن ثعلبة بن الحسن رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله يقول للعلماء يوم القيامة: إني لم أجعل علمي وحكمتي فيكم إلا وأنا أريد أن أغفر لكم على ما كان منكم ولا أبالي)، قال ابن كثير : إسناده جيد. فيكون معنى الآيات على هذا القول الأخير مثل قوله تعالى: فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ [المزمل:20]، حسب الاستطاعة. وأصل الشقاء في لغة العرب: العناء والتعب، ومنه قول أبي الطيب : ذو العقل يبقى في النعيم بعقله وأخو الجهالة في الشقاوة يلعب فالشقاوة هنا بمعنى: العناء والتعب، ومنه قوله تعالى: فَلا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى [طه:117]، أريد بذلك العناء والتعب في دار الدنيا. إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى [طه:3]، (تذكرة) أظهر الأقوال فيه أنه مفعول لأجله، أي: ما أنزلنا عليك القرآن (إلا تذكرة) أي: لأجل التذكرة لمن يخشى الله ويخاف عقابه، والتذكرة: هي الموعظة التي تلين القلوب، فتمتثل أمر الله وتجتنب نهيه، وخص بالتذكرة من يخشى دون غيرهم؛ لأن هؤلاء الذين يخشون الله هم الذين ينتفعون بالتذكرة، كقوله تعالى: فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ [ق:45]، وقوله تعالى: إِنَّمَا تُنذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ [يس:11]، وقوله: إِنَّمَا أَنْتَ مُنذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا [النازعات:45]، فالتخصيص المذكور بقوله: (لمن يخشى) في الآيات فيمن تنفع فيهم الذكرى، كما قال تبارك وتعالى: وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ [الذاريات:55]، وقال: فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى [الأعلى:9]، فهي تنفع المؤمن، ولذلك قال هنا: (( إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى ))؛ لأن هؤلاء هم الذين ينتفعون بالتذكرة دون غيرهم. أما ما ذكره تعالى هنا من أنه ما أنزل القرآن إلا للتذكرة، فقد بينه في غير هذا الموضوع، كما في قوله عز وجل: إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ * لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ [التكوير:27-28]، وقوله تعالى: قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ [الأنعام:90]، إلى غير ذلك من الآيات.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (تنزيلاً ممن خلق الأرض والسماوات العلى)

    يقول القاسمي رحمه الله تعالى: ثم أشار إلى تضخيم هذا المنزل الكريم بنسبته إلى المتفرد بصفاته وأفعاله سبحانه وتعالى، فقال عز وجل: تَنزِيلًا مِمَّنْ خَلَقَ الأَرْضَ وَالسَّمَوَاتِ الْعُلى * الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى * لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى [طه:4-6]، فهذا كله تفخيم لشأن القرآن الكريم، وبيان عظم قدر من أنزله، وهو الله سبحانه وتعالى المتفرد بصفاته وأفعاله. وقوله: (الرحمن) قرئ بالرفع على المدح، أي: هو الرحمن، وبالجر على أنه صفة للموصوف، والكلام هنا على وصف الرحمن: (( تَنزِيلًا مِمَّنْ خَلَقَ الأَرْضَ وَالسَّمَوَاتِ الْعُلى )) (( الرَّحْمَنُ ))، بالرفع على المدح، أي: هو الرحمن، وبالجر على أنه صفة للموصول، يعني: ممن خلق. قوله: (( عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى )) أي: علا وارتفع، قاله ابن جرير ، وقد ذهب الخلف إلى جعل ذلك مجازاً عن الملك والسلطان، كقولهم: استوى فلان على سرير الملك، وإن لم يقعد على السرير أصلاً. ولا شك أن هذا المسلك الخلفي مسلك مذموم، وهو من التأويل الفاسد الذي يجب رده، والصحيح بل الصواب الذي لا يصح غيره: أن مثل هذه الآيات من آيات الصفات تمر على ظاهرها الذي يليق بالله سبحانه وتعالى، بلا كيف، وبلا تعطيل، قال ابن كثير : والمسلك في ذلك طريقة السلف من إمرار ما جاء من ذلك من الكتاب والسنة من غير تكييف ولا تحريف ولا تشبيه ولا تعطيل ولا تمثيل. لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى [طه:6]، هذا بيان لشمول قهره وملكه للكل، أي: كلها تحت ملكه وقهره وسلطنته وتدبيره، لا توجد ولا تتحرك ولا تسكن ولا تتغير ولا تثبت إلا بأمره سبحانه وتعالى.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (وإن تجهر بالقول فإنه يعلم السر وأخفى)

    قال تعالى: وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى [طه:7]، بيان لكمال لطفه، أي: علمه نافذ في الكل؛ فيعلم ظواهرها وبواطنها والسر وسر السر: فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى [طه:7] والأخفى من السر: سر السر، فكذلك إن تجهر أو تخفت فيعلمه بجهرٍ وخفتٍ. اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى [طه:8]،أي: ذلك المنزل الموصوف بهذه الصفات هو الله سبحانه وتعالى، (( لَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى )) أي: الفضلى؛ لدلالتها على معاني التقديس والتمجيد والتعظيم والربوبية والأفعال التي هي النهاية في الحسن. وقوله تعالى: (( وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى )) المراد بقوله في هذه الآية: (وأخفى) أوجه معروفة كلها حق ويشهد لها القرآن. يقول الشنقيطي : قال بعض أهل العلم: (وإن تجهر بالقول فإنه يعلم السر) أي: ما قاله العبد سراً، (وأخفى) أي: ويعلم ما هو أخفى من السر، وهو ما توسوس به نفسه. يعني: السر هو ما يقوله العبد في الخفاء، أما ما هو أخفى من السر: فهو ما توسوس به نفسه، يعني مجرد ما يحدث الإنسان نفسه بشيء دون أن ينطق به فإن الله سبحانه وتعالى يعلمه، كما قال تعالى: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ [ق:16]. قول آخر: (فإنه يعلم السر)، السر: ما توسوس به نفسه، (وأخفى) ما هو أخفى من ذلك، وهو ما علم الله أن الإنسان سيفعله قبل أن يعلم الإنسان أنه فاعله، ويعلم ما سيكون في المستقبل من أفعال هذا الإنسان، كما قال تعالى: وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِنْ دُونِ ذَلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ [المؤمنون:63]، وكما قال تعالى: هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنشَأَكُمْ مِنَ الأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ فَلا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى [النجم:32]، إن الله يعلم ما يسره الإنسان اليوم وما سيسره غداً؛ لأن ما يسره غداً هو أخفى بلا شك من السر، والعبد لا يعلم ما في غد، كما قال زهير في معلقته: وأعلم علم اليوم والأمس قبله ولكنني عن علم ما في غد عمي وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: (وأخفى) صيغة تفضيل، يعني: يعلم ويعلم ما هو أخفى من السر. وهناك قول ظاهر السقوط، وهو الزعم بأن (أخفى) فعل ماض: وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى [طه:7] يعني: أنه يعلم سر الخلق وأخفى عنهم ما يعلهه هو. وهذا قول ظاهر السقوط، وإنما (أخفى) أفعل تفضيل، يعني: ما هو أخفى من السر. فقوله تبارك تعالى: وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى [طه:7] يعني: فلا حاجة لك إلى الجهر بالدعاء ونحوه، كما قال تعالى: ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً [الأعراف:55]، وقال تعالى: وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ [الأعراف:205]، والنبي صلى الله عليه وسلم لما سمع أصحابه رفعوا أصواتهم بالتكبير قال صلى الله عليه وسلم: (أربعوا على أنفسكم، فإنكم لا تدعون أصماً ولا غائباً، إنما تدعون سميعاً بصيراً، إن الذي تدعون أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته)، ولكن لابد في الدعاء من النطق وتحريك اللسان، لكن لا يرفع ولا يجهر بذلك.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (وهل أتاك حديث موسى)

    قال تبارك وتعالى: وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى * إِذْ رَأَى نَارًا فَقَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا [طه:9-10]، يقول القاسمي رحمه الله تعالى: (وهل أتاك حديث موسى) هذا من عطف القصة أو الاستئناف، والقصد تقرير أمر التوحيد الذي انتهت إليه الآية قبله ببيان أنه دعوى كل نبي لاسيما أشهرهم نبأً وهو موسى عليه السلام، فقد خوطب بقوله تعالى: إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا [طه:14]، وبه ختم نبأه في هذه السورة بقوله: إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا [طه:98]، يعني: لما ذكر قصة موسى عليه السلام بدأها ببيان دعوته إلى لا إله إلا الله وإلى التوحيد، وختمها أيضاً بذلك، ففي مبدأ القصة خاطبه الله سبحانه وتعالى بقوله: (( إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي ))، وفي آخر القصة قال: (( إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا ))، وربما قصد بذلك حمل النبي صلى الله عليه وسلم على التأسي بموسى في الصبر والثبات؛ لكونه ابتلي بأعظم من هذا فصبر، وكانت العاقبة له.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (إذ رأى ناراً فقال لأهله امكثوا إني آنست ناراً ...)

    أشير في طليعة نبأ موسى عليه السلام إلى كيفية ابتداء الوحي إليه وتكريمه تعالى إياه؛ وذلك بعد أن قضى موسى الأجل الذي كان بينه وبين صهره في رعاية الغنم، وسار بأهله قاصداً بلاد مصر، بعدما طالت غيبته عنها ومعه زوجته، فأضل الطريق في صحراء سيناء، وكانت ليلة شاتية، ونزل منزلاً بين شعاب وجبال في برد وشتاء، فبينما هو كذلك إذ: آنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَارًا [القصص:29] يعني: أحس من جانب الطور ناراً، كما خصه تعالى بقوله: إِذْ رَأَى نَارًا فَقَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا [طه:10]، أي: أبصرتها إبصاراً بيناً لا شبهة فيه، لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ [طه:10]، أي: بشعلة مقتبسة تصطلون وتستدفئون بها، أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى [طه:10]، أي: أجد هادياً يدلني على الطريق، لأنه كان قد ضل الطريق. فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَا مُوسَى * إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى [طه:11-12]، (فلما أتاها) أي: النار، (نودي يا موسى) (إني أنا ربك فاخلع نعليك إنك بالوادي المقدس طوى)، فيجب في مثل هذا الوادي رعاية الأدب بتعظيمه واحترامه لتجلي الحق فيه له، كما يراعى أدب القيام عند الملوك، (وطوى) اسم للوادي. وَأَنَا اخْتَرْتُكَ [طه:13] أي: اصطفيتك للنبوة، فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى [طه:13] أي: استمع للذي يوحى، ثم بينه بقوله: إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي [طه:14] أي: خصني بالعبادة وحدي، وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي [طه:14]، أي: لتذكرني فيها بقلبك ولسانك وسائر جوارحك، بأن تجعل حركتها دالة على ما في القلب واللسان، وأن تجعل الحركة صورة ظاهرة تعكس ما في القلب واللسان من الخشوع. قال أبو السعود : خصت الصلاة بالذكر، وأفردت في الأمر بالعبادة؛ لفضلها وإنافتها على سائر العبادات، بما نيطت به من ذكر المعبود، وشغل القلب واللسان بذكره، وذلك قوله تعالى: (( وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي ))، أي: لتذكرني، فإن ذكري كما ينبغي لا يتحقق إلا في ضمن العبادة والصلاة، أو لتذكرني فيها لاشتمال الصلاة على الأذكار، أو (لذكري) خاصة لا تشوبه بذكر غيري، أو بإخلاص ذكري وابتغاء وجهي، لا ترائي بها ولا تقصد بها غرضاً آخر، أو لتكون ذاكراً لي غير ناس. هذه أقوال في معنى قوله: (( وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي )).

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (إن الساعة آتية أكاد أخفيها لتجزى كل نفس بما تسعى ...)

    ثم أشار عز وجل إلى وجوب إفراده بالعبادة، وإقامة الصلاة لذكره بقوله: إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ [طه:15] أي: واقعة لا محالة، أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى [طه:15] أي: بسعيها عن اختيار منها، والنفس متعلقة بآتية، يعني: إن الساعة آتية لتجزى كل نفس بما تسعى. ولما كان خفاء الساعة من اليقينيات، وأن الساعة لا يُعلم متى هي، وفي: (كاد) معنى القرب من ذلك، وتأولوا الآية على وجوه: الوجه الأول: إن كاد منه تعالى واجبة، فالله سبحانه وتعالى حينما يقول: أكاد أن أفعل كذا، معناها: أن ذلك واجب أن يقع كما أراد الله سبحانه وتعالى، والمعنى: (أكاد أخفيها) أنا عن الخلق لقوله تعالى: قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا [الإسراء:51]، فعسى من الله واجبة، بمعنى: هو قريب. الوجه الثاني: قال أبو مسلم : (أكاد) بمعنى: أريد، كقوله تعالى: كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ [يوسف:76]. ومن أمثالهم المتداولة: (لا أفعل ذلك ولا أكاد) بمعنى: ولا أريد أن أفعل. قال الشهاب : تفسير (أكاد) بأريد هو أحد معانيها، كما نقله ابن جني في المحتسب عن الأخفش ، واستدلوا عليه بقوله: كادت وكدت وتلك خير إرادة لو عاد من لهو الصبابة ما مضى كادت وكدت، يعني: أرادت وأردت، بدليل أنه قال بعدها: وتلك خير إرادة لو عاد من لهو الصبابة ما مضى بمعنى: أراد، لقوله: تلك خير إرادة. الوجه الثالث: أن (أكاد) صلة في الكلام، قال زيد الخير : سريع إلى الهيجاء شاك سلاحه فما إن يكاد قرنه يتنفس الوجه الرابع: أن معنى (أكاد أخفيها): فلا أذكرها إجمالاً، ولا أقول: هي آتية؛ وذلك لفرض إرادته تعالى: إخفاءها. إلا أن في إجمال ذكرها حكمة، وهي: اللطف بالمؤمنين، وبحثهم على الأعمال الصالحة، وقطع أعذار غيرهم حتى لا يعتذروا بعدم العلم. وثمة وجوه أخر لا تخلو من تكلف وإن اتسع اللفظ لها.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (فلا يصدنك عنها من لا يؤمن بها واتبع هواه فتردى)

    فَلا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى [طه:16]. (فلا يصدنك عنها) أي: فلا يصدنك عن تصديق الساعة، (من لا يؤمن بها واتبع هواه) أي: ما تهواه نفسه من الشهوات، وترك النظر والاستدلال، (فتردى) أي: فتهلك. قال الزمخشري : يعني: أن من لا يؤمن بالآخرة هم الجم الغفير، إذ لا شيء أطم على الكفرة ولا هم أشد له نكيراً من البعث، فلا يهولنك وفور دهمائهم، ولا عظم سوادهم -لا تغتر بكثرة عددهم-، ولا تجعل الكثرة مزلة قدمك، واعلم أنهم وإن كثروا تلك الكثرة فقدوتهم فيما هم فيه هو الهوى واتباعه لا البرهان وتدبره، وفي هذا حث عظيم على العمل بالدليل، وزجر بليغ عن التقليد، وإنذار بأن الهلاك والردى مع التقليد وأهله، فَلا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى [طه:16] أي: فتهلك معهم.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (وما تلك بيمينك يا موسى)

    قال تبارك وتعالى: وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى [طه:17]، هنا شروع في ما سيؤتيه تعالى من البرهان الباهر، وفي الاستفهام إيقاظ له وتنبيه على ما سيبدو له من عجائب الصنع. لماذا ينبه الله موسى عليه السلام أنها عصا؟ لأن هذا تمهيد وإيقاظ وتنبيه على ما سيبدو له من عجائب صنع الله سبحانه وتعالى. قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى [طه:18] استوفى الجواب كل أركان التعريف، فإن أي شيء أردت أن تعرفه فإنك تعرف الذات، ثم النسبة فقال: (عصاي)، والياء ياء النسبة، ثم فؤائدها: (أتوكأ عليها وأهش بها على غنمي ولي فيها مآرب أخرى). (أتوكأ عليها) أي: أعتمد عليها إذا عييت، أو إذا وقفت على رأس القطيع عند الصخرة. (وأهش بها على غنمي) أي: أخبط بها الورق وأسقطه عليها لتأكله. (ولي فيها مآرب أخرى)، أي: حاجات أخر. قَالَ أَلْقِهَا يَا مُوسَى * فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى * قَالَ خُذْهَا وَلا تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الأُولَى [طه:19-21] أي: سنعيدها إلى هيئتها الأولى فتنتفع بها كما كنت تفعل من قبل، فليس القصد تخويفك، بل إظهار ما فيها من استعداد قبول الحياة، ومشاهدة معجزة وبرهان لك. وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ [طه:22] أي: إلى إبطك، تَخْرُجْ بَيْضَاءَ [طه:22] أي: نيرة، مِنْ غَيْرِ سُوءٍ [طه:22]، أي: من غير قبح وعيب؛ كبياض البرص فإنه مما ينفر عنه؛ لأن البياض المستقبح هو البياض الذي ينشأ عن البرص -المرض المعروف- فلذلك قال: (بيضاء من غير سوء)، حتى لا يتوهم أحد أن هذا بياض منفر كبياض البرص، واعتمد الزمخشري أن قوله تبارك وتعالى: (من غير سوء) كناية عن البرص، كما كنى عن العورة بالسوءة، قال: والبرص أبغض شيء إلى العرب، وبهم عنه نفرة عظيمة، وأسماعهم لاسمه لجاجة، فكان جديراً بأن يكنى عنه، ولا نرى أحسن ولا أنصف ولا أجمل للمفاصل من كنايات القرآن وآدابه، (( تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرَى )) أي: معجزة أخرى غير العطاء. لِنُرِيَكَ مِنْ آيَاتِنَا الْكُبْرَى [طه:23]، حق الآيات أن تظهر بعد التحدي والمناظرة، ولكن لنريك أولاً بعض آياتنا الكبرى؛ فيقوى قلبك على مناظرة الطغاة. والمقصود من هاتين المعجزتين وما ينضاف إليهما: إفحام فرعون، وتأييد موسى بهذه المعجزات أمام الكفار عند المناظرة، والله سبحانه وتعالى أراه أولاً هذه المعجزات مع أن حقهما إظهارهما عند التحدي والمناظرة، لكن أراه الله أولاً بعض آياته الكبرى ليقوى قلبه على مناظرة الطغاة، فحينما يقصد ويواجه فرعون يكون قلبه متيقناً أن معجزاته واقعة، فقد رأى العصا انقلبت حية، ورأى ما حصل بيده عليه السلام، وغير ذلك من هذه الآيات.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (اذهب إلى فرعون إنه طغى)

    قال تعالى: اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ [طه:24] أمره أن يذهب إليه بعد أن طمأن قلبه بهذه المعجزات، وأنه مؤيد من الله سبحانه وتعالى، (اذهب إلى فرعون) هذا هو المقصود من تمهيد المقدمات السالفة. إذاً: كل ما مضى تمهيد لهذا المقصود؛ وهو الذهاب إلى فرعون، وفصل عما قبله من الأوامر إيذاناً بأصالته، والأوامر الماضية لما قال له تبارك وتعالى: (ألقها يا موسى)، ثم قال: (خذها ولا تخف)، ثم قال: (واضمم يدك إلى جناحك)، ثم فصل بينهما بقوله تبارك وتعالى: (تخرج بيضاء من غير سوء آية أخرى لنريك من آياتنا الكبرى)، بعد هذا الفصل قال: (اذهب إلى فرعون)، على أنها مهمة مستقلة، أي: اذهب إليه بما رأيته من الآيات الكبرى، وادعوه إلى عبادتي، وحذره من نقمتي. اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى [طه:24] أي: جاوز الحد في التكبر والعتو حتى تجاسر على العظيمة التي هي دعوى الربوبية، فلابد من تنبيهه على طغيانه بالدلائل العقلية التي صدقتها المعجزة.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (قال رب اشرح لي صدري ..)

    قال تعالى: قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي * وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي * وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي * يَفْقَهُوا قَوْلِي [طه:25-28]، إنما سأل ذلك لما كان يتخوفه من آل فرعون في القتيل؛ لأنه كما قال في السورة الأخرى: وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ [الشعراء:14]، لما قتل بطريق الخطأ وعدم القصد ذلك الرجل القبطي الذي استغاثه عليه الرجل من شيعته: فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ [القصص:15]، فسأل الله سبحانه وتعالى هذه الأمور؛ لأنه كان يتخوف من آل فرعون في شأن هذا القتيل، ولأن الذي بُعث إليه هو فرعون الذي يعرف أنه جبار عنيد، وأقوى الملوك وأبلغهم تمرداً وكفراً، فهذا مما لا شك فيه أن صاحب مثل هذه المهمة الخطيرة يحتاج إلى عناية ربانية؛ فلذلك التجأ موسى عليه السلام إلى سلاح الدعاء، سائلاً الله سبحانه وتعالى هذه الأمور: قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي * وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي * وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي * يَفْقَهُوا قَوْلِي [طه:25-28]، سأله أن يمده بمنطق فصيح؛ لما في لسانه من عقدة كانت تمنعه من كثير من الكلام، كما قال: وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا [القصص:34]، وقول فرعون: وَلا يَكَادُ يُبِينُ [الزخرف:52]. ثم سأل عليه السلام ربه أن يعينه بأخيه هارون ليكون له ردءاً، ويتكلم عنه بكثير مما لا يفصح به لسانه، وذلك بقوله: وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي * هَارُونَ أَخِي [طه:29-30]. قال العلامة الشنقيطي رحمه الله تعالى في تفسير قوله تعالى: وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي * يَفْقَهُوا قَوْلِي [طه:27-28]، قال بعض العلماء: دل قوله: (عقدة من لساني)، عقدة بالتنكير والإفراد، ثم أتبع ذلك بقوله: (يفقهوا قولي)، هذا يدل على أنه لم يسأل إزالة جميع ما بلسانه من العقد، بل سأل إزالة بعضها الذي يحصل بإزالته فهم كلامه مع بقاء بعضها، فهذا المفهوم دلت عليه آيات أخر، كقوله تعالى عنه: وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا [القصص:34]، وقوله تعالى عن فرعون: أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكَادُ يُبِينُ [الزخرف:52]، والاستدلال بقول فرعون في موسى فيه نظر، فإن فرعون معروف بالكذب والبهتان، والعلم عند الله تعالى. ثم قال موسى عليه السلام: وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي * هَارُونَ أَخِي * اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي [طه:29-31] أي: قو به ظهري، وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي * كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا * وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا [طه:29-34] أي: كي نتعاون على تسبيحك وذكرك؛ لأن التعاون مهيج للرغبات، ويتزايد الخير ويتكاثر، ولا شك أن التعاون والاجتماع على الطاعة مما يشد أزر الإنسان، ويقوي نيته للعمل الصالح. إِنَّكَ كُنْتَ بِنَا بَصِيرًا [طه:35] أي: عالماً بأحوالنا، وبأن المدعو به مما يفيدنا. ودائماً الجماعة تشعر وتدرك بركتها خاصة في أعمال الطاعات والعبادات، كما يحصل في صيام رمضان؛ لأن الناس كلهم يتعاونون على إظهار ذكر الله سبحانه وتعالى، وهكذا أي شيء يعمل جماعة، فإن الجماعة تكون فيها البركة.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (قال قد أوتيت سؤلك يا موسى ولقد مننا عليك مرة أخرى)

    قال الله تعالى: قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى [طه:36] أي: أجيب دعاؤك* وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى [طه:37]، هذا كلام مستأنف مسوق لتقرير ما قبله، وزيادة توطين نفس موسى عليه السلام بالقبول، ولبيان أنه تعالى حيث أنعم عليه بتلك النعمة التامة من غير سابقة دعاء منه وطلب، فلأن ينعم عليه بمثلها وهو داع له أولى وأحرى. يعني: ما مر من الآيات يبين الله سبحانه وتعالى لموسى أنه أنعم عليه بأعظم نعمة وهي نعمة النبوة والرسالة، ثم أنعم عليه بهذه المعجزات، وكأن الله سبحانه وتعالى يقول له: قد أنعمنا عليك هذه النعمة العظمى؛ نعمة الرسالة بدون طلب منك، وإنما ابتدأها الله سبحانه وتعالى في حقه من غير سابقة دعاء منه ولا طلب، فلأن ينعم عليه بمثلها وهو طالب له وداع أولى وأحرى. وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى [طه:37]، فصدره هنا بالقسم: (ولقد مننا)، لكمال الاعتناء بذلك، (مرة أخرى) أي: في وقت آخر. إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى * أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي [طه:38-39] قوله: (إذ أوحينا إلى أمك) يعني: ألقينا بطريق الإلهام، والوحي إلى أم موسى لا يدل على أنها كانت نبية، وإنما هذا إلهام جعله الله في قلبها أو ألقاه في روعها، وليس وحياً كالوحي الذي ينزل على الأنبياء. (( أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ )) يعني: الصندوق، (( فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ )) (اليم) البحر، يعني: ألقيه واقذفيه متوكلة على الله عز وجل. (( فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي ))، لماذا هو عدو لله؟ بدعواه الألوهية، (( وَعَدُوٌّ لَهُ ))، لدعوته إلى نبذ ما يدعي؛ وهو سوف يدعوه إلى نفس ما يدعيه من الألوهية وغير ذلك. قال الزمخشري : لما كانت مشيئة الله تعالى وإرادته ألا تخطئ جرية ماء اليم الوصول به إلى الساحل وإلقائه إليه؛ سلك في ذلك سبيل المجاز، وجعل اليم كأنه ذو تمييز أمر بذلك ليطيع الأمر ويمتثل رسمه، فقيل: فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ [طه:39] أي: على سبيل الاستعارة بالكناية بتشبيه اليم بمأمور منقاد وإثبات الأمر تسهيل. وهذا الكلام في الحقيقة فيه نظر، من أين لنا أن هذا الأمر مجاز؟ والله قادر أن يخلق في اليم إدراكاً بحيث يمتثل أمر الله سبحانه وتعالى. (فليلقه اليم بالساحل) أمر الله اليم أن يلقيه في الساحل، (( يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي )) أي: محبة واسعة مني زرعتها في قلب من يراك، وهذه من خصائص موسى عليه السلام، فما كان أحد يراه إلا وأحبه، ولذلك أحبه فرعون بمجرد أن رآه، وقالت زوجته: قُرَّةُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لا تَقْتُلُوهُ [القصص:9]. (( وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي ))، أي: ولتربى بيد العدو على رغد بالحفظ والعناية؛ لأن المصون يجعل بمرأى ممن يكفله، (على) بمعنى الباء، لأنه في الأصل بمعنى: بمرأى مني. إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَنْ يَكْفُلُهُ [طه:40]، يقول الشنقيطي رحمه الله تعالى في تفسير هذه الآية: ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أنه منّ على موسى مرة أخرى قبل منه عليه بالرسالة ورسالة أخيه معه؛ وذلك بإنجائه من فرعون وهو صغير. ومعنى الوحي إلى أمه: أي: ألهمها وقذف في قلبها، وقال بعضهم: هي رؤيا منام، وقال بعضهم: أوحى إليها ذلك بواسطة ملك كلمها بذلك، ولا يلزم من الإيحاء في أمر خاص أن يكون الموحى إليه نبياً لمجرد موقف عام أوحى الله إليه، وليس وحياً كالذي ينزل على الأنبياء، فليست الآية دليلاً لـابن حزم وحيث ذهب إلى جواز نبوة المرأة؛ لأن المرأة لا تكون نبية. (أن) مفسرة؛ لأن الإيحاء فيه معنى القول دون حروفه، والتعبير بكلمة (ما) الموصولة يدل على تعظيم شأن الأمر المذكور، كقوله تعالى: فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ [طه:78] يعني: شيء عظيم، وقوله: فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى [النجم:10]، للدلالة على عظم شأن الموحى به. (( أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ )) أي: الصندوق، فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ [طه:40] البحر، (( فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ ))، شاطئ البحر، والبحر المذكور هو نيل مصر، والقذف: الإلقاء والوضع، ومنه قوله تعالى: وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ [الأحزاب:26] يعني: ألقى ووضع، ومعنى: (فاقذفيه في التابوت) أي: ضعيه في الصندوق، والضمير في قوله: (أن اقذفيه) راجع إلى موسى بلا خلاف، وأما الضمير في قوله: (فاقذفيه في اليم) فهو راجع إلى التابوت أو موسى. يقول الشنقيطي رحمه الله تعالى: والصواب رجوعه إلى موسى وهو داخل التابوت؛ لأن تفريق الضمائر غير حسن، فالأصل أن الضمائر كلها على نسق واحد، كلها تعود إلى موسى، خلافاً لقول من قال: إن الهاء في: (اقذفيه في اليم) إلى التابوت، والصواب رجوعه إلى موسى وهو داخل التابوت، (فليلقه اليم) أي: موسى عليه السلام في الساحل. (( يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ )) وهو فرعون، وصيغة الأمر معناها الخبر. قال أبو حيان في البحر المحيط: (فليلقه) أمر معناه: خبر، وجاء بصيغة الأمر مبالغة، إذ الأمر أقطع الأفعال وأوجبها. الوجه الثاني: أن صيغة الأمر في قوله: (فليلقه) أريد بها الأمر الكوني القدري، كقوله تعالى: إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [يس:82]، فالبحر لا بد أن يلقيه بالساحل؛ لأن الله أمره بذلك كوناً وقدراً. وما ذكره جل وعلا في هذه الآيات أوضحه في غير هذا الموضع؛ كقوله في سورة القصص: وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخَافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ [القصص:7]، ولا شك أن هذه الآية من أعظم آيات البلاغة في القرآن الكريم. فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا [القصص:8] (ليكون)، هذه لام العاقبة، وقد بين تعالى شدة جزع أمه عليه لما ألقته في البحر، وألقاه اليم بالساحل، وأخذه عدوه فرعون وذلك في قوله تعالى: وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [القصص:10]، والمعنى: (( وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا )) إلا من محبة موسى؛ ولذلك يقولون في تعريف العشق: حركة قلب فارغ، وقوله هنا: (( وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا )) أي: من كل شيء إلا من محبة موسى عليه السلام، ومن شدة وجد قلبها من محبته والشفقة عليه كادت أن تنطق بهذا السر: (إن كادت لتبدي به)، من شدة وجدها، إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [القصص:10]. وإعراب: (يأخذه) جواب الطلب مجزوم؛ لأنه في جواب الطلب: (فليلقه اليم بالساحل)؛ لأننا قلنا: إن معناه الأمر الكوني. أما إذا قلنا إن: (فليلقه اليم بالساحل) بمعنى الخبر فالجزم مراعاة لصيغة اللفظ وليس لمعنى، والصيغة تنافي الأمر، والعلم عند الله تعالى. يقول الشنقيطي رحمه الله تعالى: وذكر في قصتها: أنها صنعت له التابوت وطلته بالقار وهو الزفت؛ لئلا يتسرب منه الماء إلى موسى في داخل التابوت، وحشته قطناً محلوجاً، وقيل: إن التابوت المذكور من شجر الجميّز، وأن الذي نجره لها هو مؤمن آل فرعون، واسمه حزقيل ، وكانت عقدت في التابوت حبلاً، فإذا خافت على موسى من عيون فرعون أرسلته في البحر وأمسكت طرف الحبل عندها، فإذا أمنت جذبته إليها بالحبل، فذهبت مرة لتشد الحبل في منزلها فانفلت منها، وذهب البحر بالتابوت الذي فيه موسى؛ فحصل لها بذلك من الغم والهم ما ذكره الله تعالى في قوله عز وجل: وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [القصص:10]. وما ذكره جل وعلا في هذه الآية الكريمة من مننه المتتابعة على موسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام حيث قال تعالى: وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى [طه:37]، أشار إلى ما يشبهه بقوله تعالى: وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ [الصافات:114]. قوله: (وألقيت عليك محبة مني)، قال الشنقيطي رحمه الله تعالى: من آثار هذه المحبة التي ألقاها الله على عبده ونبيه موسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام: ما ذكره جل وعلا في القصص بقوله: وَقَالَتِ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ قُرَّةُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لا تَقْتُلُوهُ [القصص:9]، قال ابن عباس : (وألقيت عليك محبة مني) أي: أحبه الله وحببه إلى خلقه، وقال ابن عطية : جعل عليه مسحة من جمال، لا يكاد يصدر عنه من رآه، وقال قتادة : كانت في عيني موسى ملاحة ما رآه أحد إلا أحبه وعشقه، نقله القرطبي .

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (إذ تمشي أختك فتقول هل أدلكم على من يكفله ...)

    قال تعالى: إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَنْ يَكْفُلُهُ فَرَجَعْنَاكَ إِلَى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلا تَحْزَنَ [طه:40]. هذا الذي ذكره الله جل وعلا في هذه الآية الكريمة من كون أخته مشت إليهم، وقالت لهم: (هل أدلكم على من يكفله)، أوضحه جل وعلا في سورة القصص، فبين أن أخته المذكورة كانت مرسلة من قبل أمها لتتعرف على خبره بعد ذهابه في البحر، وأنها أبصرته من بعد وهم لا يشعرون بذلك، وأن الله حرم عليه المراضع غير أمه تحريماً كونياً قدرياً، فقالت لهم أخته: (هل أدلكم على من يكفله) أي: على مرضع يقبل ثديها وتكفله لكم بنصح وأمانة؟ وذلك في قوله تعالى: وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ * وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ * فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ [القصص:11-13]، فقوله تعالى في آية القصص: (وقالت لأخته) أي: قالت أم موسى لأخته وهي ابنتها، (قصيه) أي: اتبعي أثره وتطلبي خبره حتى تطلعي على حقيقة أمره. (فبصرت به عن جنب) أي: رأته من بعيد كالمعرضة عنه؛ تنظر إليه وكأنها لا تريده، (وهم لا يشعرون) بأنها أخته جاءت لتعرف خبره، فوجدته ممتنعاً من أن يقبل ثدي مرضعة؛ لأن الله يقول: وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ [القصص:12] أي: تحريماً كونياً قدرياً، ومنعناه منها ليكون بذلك رجوعه إلى أمه، وليكون ذلك سبب رجوعه إلى أمه؛ لأنه لو قبل غيرها أعطوه لذلك الغير الذي قبله ليرضعه ويكفله فلم يرجع إلى أمه. وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنها لما قالت لهم: (( هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ ))، أخذوها وشكوا في أمرها، وقالوا لها: ما يدريك بنصحهم له، وشفقتهم عليه؟ فقالت لهم: نصحهم له وشفقتهم عليه رغبة في سرور الملك ورجاء منفعته. يعني: أنها تكون مخلصة وناصحة له وأمينة؛ كي تنتفع من الملك بأجر هذه الرضاعة؛ فأرسلوها لما قالت لهم ذلك، وخلصت من أذاهم، فذهبوا معها إلى منزلهم، فدخلوا به على أمه فأعطته ثديها فالتقمه، ففرحوا بذلك فرحاً شديداً، وذهب البشير إلى امرأة الملك، فاستدعت أم موسى وأحسنت إليها وأعطتها عطاء جزيلاً، وهي لا تعرف أنها أمه في الحقيقة؛ ولكن لكونه قبل ثديها سألتها أن تقيم عندها فترضعه، فأبت عليهم، وقالت: إن لي بعلاً وأولاداً، ولا أقدر على المقام عندكم، ولكن إن أحببت أن أرضعه في بيتي فعلت، فأجابتها امرأة فرعون إلى ذلك، وأجرت عليها النفقة والغلال والكساوي والإحسان الجزيل، فرجعت أم موسى بولدها، وقد أبدلها الله بعد خوفها أمناً في عز وجاه ورزق دارٍ! قوله تعالى في آية القصص: وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ [القصص:13]، وعد الله هو المذكور في قوله: وَلا تَخَافِي وَلا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ [القصص:7]، والمؤرخون يقولون: إن أخت موسى المذكورة اسمها مريم . قوله: (كي) إن قلنا: إن (كي) حرف مصدري واللام محذوف، فالمعنى: لكي تقر، وإن قلنا: إنها تعليلية فالفعل منصوب بأن مضمرة. (تقر عينها) قيل: أصله من القرار؛ لأن ما يحبه الإنسان تسكن عينه عليه، ولا تنظر إلى غيره، فقرت العين: أن العين إذا رأته تسكن وتثبت عليه ولا تتحول إلى غيره من شدة الوله به. وقيل: أصله من القرار كما في قوله: وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ [الأحزاب:33]، فالقرار المقصود به السكون، بمعنى: أن العين إذا رأته لشدة حبه له تدخل وتستقر عليه، ولا تتحول إلى غيره. وإذا قلنا: هو مأخوذ من القر: البرد، تقول العرب: يوم قر، أي: بارد، ومنه قول امرئ القيس : تميم بن مر وأشياعها وكندة حولي جميعاً صبر إذا ركبوا الخيل واستلأموا تحرفت الأرض واليوم قُرّ يعني: واليوم بارد. ومنه أيضاً قول حاتم الطائي الجواد : أوقف فإن الليل ليل قر والريح يا وافد ريح صر فالقر البرد، ولماذا خص البارد؟ لأنهم يقولون: إن البكاء الذي ينشأ عن الفرحة تكون دموعه باردة، والبكاء الذي يصدر عن الحزن يكون ساخناً، وعلى هذا القول فإن قرة العين من بردها؛ لأن عين المسرور باردة، ودمع البكاء من السرور بارد جداً، بخلاف عين المحزون فإنها حارة، ودمع البكاء من الحزن حار جداً، ومن أمثال العرب: أحر من دمع المقلاة، والمقلاة هي المرأة التي لا يعيش لها ولد، فيشتد حزنها بموت أولادها، فتشتد حرارة دمعها بذلك. قال القاسمي رحمه الله تعالى في تفسير هذه الآية: (( إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَنْ يَكْفُلُهُ )): أي: يضمن حضانته ورضاعته، فقبلوا قولها؛ وذلك لأنه لما استقر عند آل فرعون عرضوا عليه المراضع فأباها، كما قال تعالى: (وحرمنا عليه المراضع)، فجاءت أخته فقالت: هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ [القصص:12] فجاءت بأمه كما قال: (فرجعناك إلى أمك) أي: مع كونك في يد العدو، (كي تقر عينها)، برؤيتك، (ولا تحزن) بفراقك، فهذه منن زائدة على النجاة من القتل.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (وقتلت نفساً فنجيناك من الغم وفتناك فتوناً)

    ثم أشار إلى ما من عليه بالنجاة من القتل الذي لا يدفع، بقوله: وَقَتَلْتَ نَفْساً [طه:40] أي: من آل فرعون، وهو القبطي الذي استغاثه عليه الإسرائيلي، فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ [القصص:15] أي: اغتممت وحزنت أن يطبق عليك القصاص، وموسى ما قصد القتل؛ وإنما لأن موسى كان شديد القوة فعندما وكزه بيده إذا بهذه الوكزة تقتل الرجل من شدة قوته عليه السلام؛ وكما تعلمون فإن الأنبياء يكونون في أكمل صورة في كل شيء خَلقاً وخُلقاً ونسباً وقوة بالبدن وجمالاً في الصورة والحسب، وكل الصفات الخَلقية والخُلقية يكونون فيها أكمل الناس. وقد روي أن النبي عليه الصلاة والسلام دعا رجلاً مصارعاً إلى الإسلام فلما دعاه قال: إن صرعتني سأسلم، وكان من أقوى المصارعين العرب، فصارعه، فصرعه النبي صلى الله عليه وسلم؛ فأسلم. وفي الحديث أيضاً: (كنا إذا اشتدت الحرب وحمي الوطيس اتقينا برسول الله صلى الله عليه وسلم)، فالصحابة هم أشجع الأمم على الإطلاق، ومع ذلك يقولون: إذا كنا في حالة الجهاد والالتحام المسلح مع الأعداء نتقي برسول الله صلى الله عليه وسلم، فكلهم يختبئون خلف النبي صلى الله عليه وسلم ويحتمون به، (فما يكون أحد أقرب إلى العدو منه صلى الله عليه وسلم). فَنَجَّيْنَاكَ مِنْ الْغَمِّ [طه:40] أي: غم القتل بأن صرفنا عنك ما تخشاه من الكفار؛ وذلك أنه عليه السلام فر من آل فرعون حتى ورد ماء مدين، وقال له ذلك الرجل الصالح: لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ [القصص:25]. فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا [طه:40] أي: ابتليناك ابتلاء، على أن الفتون مصدر كالسكون، أو إن الفتون جمع فتنة، يعني ضروباً من الفتن، أي: فجعلنا لك فرجاً ومخرجاً منها، وهو إجمال لما سبق ذكره. فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ [طه:40] أي: معزز الجانب، مكفي المئونة، في عشرة أتقى رجل منهم وأصلحهم وهو نبيهم عليه السلام، ولم يثبت أن هذا الرجل الصالح هو شعيب عليه السلام. ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى [طه:40] أي: بعد أن قضيت الأجل المبروم بينك وبين شعيب مع الزيادة، جئت بأهلك على وفق ما سبق في قضائي وقدري أن أكلمك وأستنبئك في وقت بعينه قد وقته لذلك، فما جئت إلا على ذلك الخبر غير مستقدم ولا مستأخر، والأمر له تعالى، وهو المسير عباده وخلقه كيفما يشاء. قال أبو السعود : وقوله تعالى: (( ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى ))، تشريف له عليه الصلاة والسلام، وتنبيه على انتهاء الحكاية التي هي تفصيل المرة الأخرى التي وقعت قبل المرة المحكية أولاً. وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي [طه:41]، تذكير بقوله تعالى: وَأَنَا اخْتَرْتُكَ [طه:13]، وتمهيد لإرساله عليه السلام إلى فرعون مؤيداً بأخيه، والاصطناع افتعال من الصنع، بمعنى: الصنيعة، يقال: صنع الأمير فلاناً لنفسه، أي: جعله محلاً لإكرامه ولاختياره وتقريبه منه، ولجعله من خواص نفسه وندمائه وجلسائه، فجعله نبياً مكرماً كريماً منعماً عليه بحلائل النعم. والظاهر هنا: العدول عن نون العظمة تمهيداً لإفراد لفظ النهي؛ لأنه قال تعالى: (وحرمنا)، (فرجعناك)، (وفتناك)، (واصطنعتك)، فهل يصح أن يقول: صنعناك بأنفسنا؟ لا؛ لأنه حينئذ سيقول: لنفسي، ولا يمكن-معاذ الله- أن يجمع ذلك في حق الله. يقول: والعدول عن نون العظمة الواقعة في قوله تعالى: (وفتناك) ونظيريه السابقين تمهيد لإخراج لفظ النفس اللائقة بالمقام، فإنه أدخل في تحقيق معنى الاصطناع والاستخلاص، (واصطنعتك لنفسي). ثم بين ما هو المقصود بالاصطناع بقوله سبحانه وتعالى: اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي [طه:42] أي: بمعجزاتي كالعصا، وبياض اليد، وحل العقدة، مع ما سيظهر على يده، وَلا تَنِيَا فِي ذِكْرِي [طه:42] أي: لا تفترا ولا تقصرا في ذكري بما يليق بي من النعوت الجليلة عند تبليغ رسالتي والدعاء إلي. قال الشنقيطي رحمه الله تعالى: وَقَتَلْتَ نَفْسًا فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا [طه:40]، لم يبين هنا جل وعلا في هذه الآية الكريمة سبب قتله من هذه الناحية، ولا ممن هي، ولم يبين السبب الذي نجاه به من ذلك الغم، ولا الفتون الذي فتنه، ولكنه بين في سورة القصص خبر القتيل المذكور في قوله تعالى: وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ * قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ [القصص:15-16]، وأشار إلى القتيل المذكور في قوله: قَالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْسًا فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ [القصص:33]، وهو المراد بالذنب في قوله تعالى عن موسى: وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ [الشعراء:14]، وهو مراد فرعون بقوله لموسى فيما ذكره الله عنه: وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ [الشعراء:19]، شيء عجيب، موسى في زمن فرعون يُكفّر، ولذلك رد عليه قائلاً: فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ [الشعراء:20]. وقد أشار تعالى في سورة القصص أيضاً إلى غم موسى، وإلى السبب الذي أنجاه الله به منه بقوله: وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ * فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ * وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ قَالَ عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ [القصص:20-22] إلى قوله: قَالَ لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ [القصص:25]. وقوله تعالى: (وفتناك فتونا) قال بعض أهل العلم: الفتون مصدر، وربما جاء المصدر الثلاثي المتعدي على فعول، وقال بعضهم: هو جمع فتنة، وقال الزمخشري في الكشاف: فتوناً: يجوز أن يكون مصدراً على فعول في المتعدي كالثبور والشكور والكفور. وجمع فتن أو فتنة فتون، وقد تكون جمع فتن أو جمع فتنة على ترك الاعتداد بتاء التأنيث؛ كحجوز وبدور في حجرة وبدرة، أي: فتناك ضروباً من الفتن اهـ. وقد جاء في تفسير الفتون المذكور حديث معروف عند أهل العلم بحديث الفتون، أخرجه النسائي عن سعيد بن جبير عن ابن عباس ، وساقه ابن كثير في تفسيره عن النسائي بسنده، وهو حديث طويل يقتضي: أن الفتون يشمل كل ما جرى على موسى من المحن من فرعون في صغره وكبره، مثل الخوف عليه من الذبح وهو صغير، فهذه فتنة، ومن أجل ذلك ألقي في التابوت، وقذف في اليم، وكخوفه وهو كبير من أن يقتله فرعون بالقبطي الذي قتله، وعلى هذا فالآيات التي ذكرت فيها تلك المحن مبينة للفتون على تفسير ابن عباس للفتون المذكور. وقال ابن كثير رحمه الله بعد أن ساق حديث الفتون بطوله: هكذا رواه النسائي في السنن الكبرى، وأخرجه أبو جعفر بن جرير وابن أبي حاتم في تفسيريهما كلهم من حديث يزيد بن هارون به، وهو موقوف من كلام ابن عباس ، وليس فيه مرفوع إلا قليل منه، وكأنه تلقاه ابن عباس رضي الله عنهما مما أبيح نقله من الإسرائيليات عن كعب الأحبار أو غيره، والله أعلم. وسمعت شيخنا الحافظ أبا الحجاج المزي يقول ذلك أيضاً اهـ.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (فلبثت سنين في أهل مدين ثم جئت على قدر يا موسى )

    قال تعالى: فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى [طه:40]، السنين التي لبثها في مدين هي المذكورة في قوله تعالى: قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ [القصص:27]، يقول: قد قدمنا أنه أتم العقد، وبينا دليل ذلك من السنة، وبه تعرف أن الأجل في قوله: فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الأَجَلَ [القصص:29] عشر سنين لا ثمان. وقال بعض أهل العلم: لبث موسى في مدين ثمان وعشرين سنة، عشر منها مهر ابنة صهره، وثمانية عشرة أقامها هو اختياراً، والله تعالى أعلم. وأظهر الأقوال في قوله تعالى: ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى [طه:40] أي: جئت على القدر الذي قدرته، وسبق في علمي أنك تجيء فيه، فلم تتأخر ولم تتقدم، كما قال تعالى: إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ [القمر:49]، وقال: وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ [الرعد:8]، وقال: وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا [الأحزاب:38]، وقال جرير يمدح عمر بن عبد العزيز : نال الخلافة أو كانت له قدراً كما أتى موسى ربه على قدر

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (اذهب أنت وأخوك بآياتي ولا تنيا في ذكري ...)

    قال تعالى: اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي وَلا تَنِيَا فِي ذِكْرِي * اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى [طه:42-43]، والمراد بالآيات التسع المذكورة في قوله تعالى: وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ [الإسراء:101]، وقوله: وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فِي تِسْعِ آيَاتٍ [النمل:12]. (إنه طغى)، أصل الطغيان: مجاوزة الحد، ومنه: إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ [الحاقة:11]، وقد بين تعالى شدة طغيان فرعون ومجاوزته الحد في قوله تعالى: فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى [النازعات:24]، وقوله عنه: مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي [القصص:38]، وقوله عنه أيضاً: لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ [الشعراء:29]. (ولا تنيا)، مضارع وني يني على حسب قول ابن هانئ في الخلاصة، يقول: والونى أو الوني في اللغة الضعف والفتور والكلال والإعياء، وقال العجاج : فما ونى محمد مذ أن غفر له الإله ما مضى وما غبر يعني: ما كسل وما تعب وما أعيا. إذاً: قوله: (( وَلا تَنِيَا فِي ذِكْرِي )) أي: لا تضعفا ولا تفترا في ذكري، وقد أثنى الله على من يذكره في جميع حالاته بقوله: الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ [آل عمران:191]، وأمر بذكره عند لقاء العدو بقوله: إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا [الأنفال:45]، وقال ابن كثير رحمه الله: والمراد أنهما لا يفتران في ذكر الله حال مواجهة فرعون، فيكون ذكر الله عوناً لهما عليه، وقوة لهما وسلطاناً كاسراً له، كما جاء في الحديث: (إن عبدي كل عبدي الذي يذكرني وهو مناجز قرنه) أي: وهو يلاقي أو يقاتل قرنه أي: خصمه. وقال بعض أهل العلم: (ولا تنيا في ذكري): لا تزالا في ذكري، واستشهد لذلك بقول طرفة : كأن القدور الراسيات أمامهم قباب بنوها لا تني أبداً تغلي أي: لا تزال تغلي.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718659

    عدد مرات الحفظ

    755931713