إسلام ويب

تفسير سورة البقرة [253-256]للشيخ : محمد إسماعيل المقدم

  •  التفريغ النصي الكامل
    1.   

    تفسير قوله تعالى: (تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض ..)

    قال الله تبارك وتعالى: تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ [البقرة:253]. قوله تعالى: (تلك الرسل) تلك: مبتدأ، والرسل: صفة، والخبر: (فضلنا بعضهم على بعض) يعني: بتخصيصه بمنقبة ليست لغيره، (( مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ )) كموسى، (( وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ )) أي: محمداً صلى الله عليه وسلم (درجات) يعني: رفعه على غيره درجات، بعموم الدعوة والنبوة، وتفضيل أمته على سائر الأمم، والمعجزات المتكاثرة، والخصائص العديدة. وهذا فيه إشارة إلى ما رواه البخاري في صحيحه عن جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أعطيت خمساً لم يعطهن أحدٌ من الأنبياء قبلي: نصرت بالرعب مسيرة شهر، وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً، فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل، وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي، وأعطيت الشفاعة، وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة، وبعثت إلى الناس عامة). وليست هذه الخمس فقط هي خصائص النبي صلى الله عليه وسلم، بل هي كثيرة جداً، وقد خصها بعض الأئمة بعلم مستقل من علوم الدين يسمى: الخصائص النبوية، وأشهر ما ألف في ذلك وأقدمه: الشفاء بتعريف حقوق المصطفى صلى الله عليه وسلم للقاضي عياض ، والخصائص الكبرى للسيوطي ، وظهر مؤخراً مختصر لأحد العلماء، وقد حقق أحاديثه بعمل جيد، فهذا علم مستقل من علوم الدين وهو معرفة خصائص النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وقد تكلمت هذه المصنفات على مئات الخصائص، وأيضاً الغماري له كتاب في خصائص النبي صلى الله عليه وسلم. وقوله: (( وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ )) أي: قويناه (( بِرُوحِ الْقُدُسِ )) يعني: الروح المقدسة وهو جبريل عليه السلام، كان يسير معه حيث سار. (( وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ )) يعني: لو شاء الله أن يهدي الناس جميعاً (( مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ )) من بعد الرسل من أممهم (( مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ ))؛ لاختلافهم، وتضليل بعضهم بعضاً، (( وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا ))؛ لأن الله سبحانه وتعالى شاء ذلك (( فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ )) أي: ثبت على إيمانه (( وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ )) دعوى المسيح (( وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا )) هذا تأكيد، (( وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ )) يعني: من توفيق من شاء، وخذلان من شاء.

    تفسير الشنقيطي لقوله تعالى: (تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض)

    قوله تبارك تعالى: (( تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ )) يقول الشنقيطي رحمه الله تعالى في أضواء البيان: لم يبين هنا هذا الذي كلمه الله منهم، وقد بين أن منهم موسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام بقوله: وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا [النساء:164]، وقوله: إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاتِي وَبِكَلامِي [الأعراف:144]، فهذه الآيات توضح ما أجمله في قوله: ((فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ))، فبينت آيات أخر أن ممن كلم الله موسى عليه السلام. وقال ابن كثير: (منهم من كلم الله) موسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام؛ وكذلك آدم كما ورد في الحديث المروي في صحيح ابن حبان عن أبي ذر رضي الله تعالى عنه. قال مقيدة -أي: الشنقيطي - عفا الله عنه: تكليم آدم الوارد في صحيح ابن حبان يبنيه قوله تعالى: وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ [البقرة:35] وأمثالها من الآيات، فإنه ظاهر بأنه غير واسطة الملك، وإنما كان تكليماً مباشراً من الله سبحانه وتعالى. ويظهر من هذه الآية نهي حواء عن الشجرة على لسانه، فهو رسول إليها بذلك، يعني: الله سبحانه وتعالى كلم آدم عليه السلام، وآدم بلغ حواء كما قال تعالى: وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ [البقرة:35]، فالتكليف لآدم. قال القرطبي في تفسير قوله تعالى: (( مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ ))، وقد سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن آدم: أنبي مرسل هو؟ فقال: (نعم، نبيٌّ مكلم)، فهذا يدل على دخول آدم عليه السلام في قوله تعالى: (( مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ )) يعني: بلا واسطة. قال ابن عطية : وقد تأول بعض الناس أن تكليم آدم كان في الجنة، فعلى هذا تبقى خاصية موسى عليه السلام. وقال ابن جرير : لأن آدم كان هو النبي أيام حياته بعد أن أُهبط إلى الأرض، والرسول من الله جل ثناؤه إلى ولده، فغير جائز أن يكون معنياً -وهو الرسول- بقوله تعالى: فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى [البقرة:38] أي: رسل. وقد وصف نوح عليه السلام بأنه أول رسول في حديث الشفاعة: (فيأتون نوحاً فيقولون: أنت أول الرسل إلى أهل الأرض)، ويشهد له قوله تعالى: إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ [النساء:163]، وهذا يشكل على ما تقدم أن آدم رسول! والظاهر: أنه لا طريق للجمع بين هذه النصوص إلا من وجهين: آن آدم أرسل لزوجه في الجنة، ونوح أول رسول أرسل في الأرض، ويدل على هذا الجمع ما ثبت في الصحيحين وغيرهما في حديث الشفاعة ففيه: (ائتوا نوحاً فإنه أول رسول بعثه الله إلى أهل الأرض) فمفهومه: أن آدم عليه السلام أول رسول من الله إلى زوجه حواء في الجنة، وليس رسولاً إلى أهل الأرض، فلا تعارض، فقوله: (إلى أهل الأرض) لو لم يرد به الاحتراز عن رسول بعث لغير أهل الأرض لكان ذلك الكلام حشواً، لكن المقصود به الاحتراز عن رسالة آدم إلى زوجه في الجنة كما ذكرناه، ويستأنس له بكلام ابن عطية الذي ذكرناه سابقاً عند حديث: (نعم، نبي مكلم)، قال ابن عطية : وقد تأوّل بعض الناس أن تكليم آدم كان في الجنة، فعلى هذا يبقى التكليم خاصية لموسى عليه السلام. أما الوجه الثاني للجمع فهو أن آدم أرسل إلى ذريته وهم على الفطرة لم يصدر منهم كفر فأطاعوه، ونوح هو أول رسول أرسل إلى قوم كافرين ينهاهم عن الإشراك بالله تعالى، ويأمرهم بإخلاص العبادة له وحده، ويدل على هذا الوجه قوله تعالى: وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً وَاحِدَةً [يونس:19] يعني: كانوا على الدين الحنيف حتى كفر قوم نوح، وقوله: كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ [البقرة:213] إلى آخر الآية. وقوله تعالى: (( وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ )) أشار في مواضع أخر إلى أن منهم محمداً صلى الله عليه وسلم كقوله تعالى: عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا [الإسراء:79]، وقوله تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ [سبأ:28]، وقوله: إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا [الأعراف:158]، فبلا شك أن من أعظم خصائص نبينا صلى الله عليه وسلم عموم رسالته إلى البشر كافة، وهو الرسول الوحيد الذي بعث إلى الناس كافة، أما من قبله فكان كل نبي يبعث إلى قومه خاصة، قال تعالى: تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا [الفرقان:1]. وأشار أيضاً في مواضع أخر إلى أن من هؤلاء الذين رفعهم الله درجات إبراهيم عليه السلام كقوله تعالى: وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا [النساء:125]، وإن كانت الخلة ليست خاصة لإبراهيم عليه السلام، فقد صح عن نبينا صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الله اتخذني خليلاً كما اتخذ إبراهيم خليلاً)، ومن ذلك قوله تعالى لإبراهيم عليه السلام: إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا [البقرة:124]، إلى غير ذلك من الآيات. وأشار في موضع آخر إلى أن من هؤلاء الأنبياء الذين فضَّلهم الله، ورفعهم درجات داود عليه السلام في قوله: وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُورًا [الإسراء:55]. وأشار أيضاً إلى أن منهم إدريس عليه السلام في قوله تعالى: وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا [مريم:57]. وأشار إلى أن منهم عيسى لقوله: (( وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ )).

    حكم التفضيل بين الرسل وذكر أفضلهم

    في قوله تعالى: (( تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ )) إشكال قوي معروف، وجهه أنه ثبت في حديث أبي هريرة المتفق عليه أنه صلى الله عليه وسلم قال: (لا تخيروني على موسى، فإن الناس يَصعقون -أو يُصعقون- يوم القيامة فأكون من أول من يفيق، فإذا موسى باطش بجانب العرش، فلا أدري أفاق قبلي أم كان ممن استثنى الله؟)، فهنا يخبر في الحديث بقوله: (لا تخيروني على موسى) يعني: لا تقولوا: أنا خيرٌ من موسى عليه السلام، وفي رواية: (لا تفضلوا بين أنبياء الله)، وفي رواية: (لا تخيروني من بين الأنبياء). قال القرطبي : وهذه الآية مشكلة، والأحاديث ثابتة بأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تخيروا بين الأنبياء، ولا تفضلوا بين أنبياء الله) أي: لا تقولوا: فلان خيرٌ من فلان، ولا فلان أفضل من فلان. قال ابن كثير في الجواب عن هذا الإشكال ما نصه: والجواب من وجوه: أحدها: أن هذا كان قبل أن يعلم بالتفضيل. يعني: يحتمل أن الرسول عليه الصلاة والسلام نهى الصحابة عن التفضيل كما في هذا الحديث، وكما في قوله أيضاً: (لا تقولوا: أنا خير من يونس بن متى) قبل أن يوحى إليه بتفضيله صلى الله عليه وسلم على سائر الأنبياء والمرسلين كقوله مثلاً: (أنا سيد الناس يوم القيامة، ولا فخر). الثاني: أن هذا قاله من باب هضم النفس فقال: (لا تخيروا بين أنبياء الله). الثالث: أن هذا نهي عن التفضيل في مثل هذه الحال التي تحاكموا فيها عند التخاصم والتشاتم يعني: في هذه الحال بالذات ينهى عن وقوع المفاضلة فيها؛ لأن سبب ورود الحديث: أن رجلاً يهودياً قال: والذي اصطفى موسى على العالمين! فغضب المسلم ولطمه منكراً عليه؛ لأن الله اصطفى محمداً عليه الصلاة والسلام على العالمين. الرابع: لا تفضلوا بمجرد الآراء والعصبية. الخامس: ليس مقام التفضيل إليكم وإنما هو إلى الله عز وجل، وعليكم الانقياد والتسليم له والإيمان به. واختار القرطبي أن منع التفضيل إنما هو في خصوص النبوة، يعني: في أصل النبوة لا تفاضل، وإنما يحصل التفاضل في أمور أخر زائدة على النبوة، وجوز القرطبي التفاضل في زيادة الأحوال والخصوص والكرامات، فقد قال ما نصه: قلت: وأحسن من هذا قول من قال: إن المنع من التفضيل إنما هو من جهة النبوة التي هي خصلة واحدة لا تفاضل فيها، وإنما التفضيل في زيادة الأحوال والخصوص -التي هي الخصائص- والألطاف والمعجزات المتباينة، أما النبوة في نفسها فلا تتفاضل، وإنما يتفاضلوا بأمور أخر زائدة عليها؛ ولذلك منهم رسل وأولو عزم، ومنهم من اتخذ خليلاً، ومنهم من كلم الله، ورفع بعضهم درجات، وهذا قول حسن فيه جمع بين الآي والأحاديث من غير نسخ. وقد أشار ابن عباس إلى هذا المعنى فقال: إن الله فضل محمداً صلى الله عليه وسلم على الأنبياء وعلى أهل السماء، فقالوا: بم -يا ابن عباس- فضله على أهل السماء؟! فقال: إن الله تعالى قال: وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ [الأنبياء:29]، وهذا في حق الملائكة، وقال لمحمد صلى الله عليه وسلم: إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا * لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا [الفتح:1-2]، قالوا: فما فضله على الأنبياء؟ قال: قال الله تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ [إبراهيم:4]، وقال الله عز وجل لمحمد صلى الله عليه وسلم: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ [سبأ:28]، فأرسله إلى الجن والإنس. وأشار أيضاً القاسمي إلى بعض الفوائد التي تتعلق بهذه الآية: (( تِلْكَ الرُّسُلُ )) فيقول: هذه إشارة إلى من ذكر منهم في سورة البقرة، أو تلك الرسل المعلومة المعروفة للنبي صلى الله عليه وسلم: (( فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ )) بأن خص بمنقبة ليست لغيره (( مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ )) هذا تفصيل للتفضيل، أي: منهم من فضَّله الله بأن كلمه من غير واسطة، وهو موسى عليه السلام، (( وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ )) يعني: كإبراهيم اتخذه الله خليلاً، وداود آتاه الله النبوة والخلافة والملك. والظاهر أنه أراد بقوله تعالى: (( وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ )) محمداً صلى الله عليه وسلم؛ لأنه هو المفضل عليهم؛ حيث أوتي ما لم يؤته أحد من الآيات المتكاثر المرتقية إلى ألف آية أو أكثر، ولو لم يؤت صلى الله عليه وسلم إلا القرآن وحده لكفى به فضلاً منيفاً على سائر ما أوتي الأنبياء؛ لأنه المعجزة الباقية على مرِّ الدهر دون سائر المعجزات، وفي هذا الإبهام من تفخيم فضله وإعلاء قدره ما لا يخفى، لقوله: (( وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ )) فاكتفى بهذا عن أن يقول: إنه محمد عليه الصلاة والسلام، فهذا فيه زيادة تعظيم وتفخيم لمقام النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن هذا فيه شهادة بأنه العلم الذي لا يشتبه، والمتميز الذي لا يلتبس بغيره، فمن شدة تميزه صلى الله عليه وسلم على سائر الأنبياء لم يكن هناك داع للتصريح باسمه؛ بل قال تعالى: (( وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ ))، على أساس أن هذا معروف فلا يحتاج للتنصيص على اسمه، وهو محمد عليه الصلاة والسلام، كما يقال للرجل: من فعل هذا؟ فيقول: أحدكم أو بعضكم. ويريد به الذي عرف واشتهر بتلك الأفعال، مثل رجل يستطيع رفع أوزان ثقيلة جداً، وهو معروف في وسط مجموعة من الناس، فتقول: من رفع هذه الأثقال؟ فيقول: أحدهم أو أحدكم أو بعضكم، وهو معروف أنه لا يفعله إلا هذا، فيكون الإيهام وعدم التصريح أفخم من التصريح به، كما سئل الحطيئة عن أشعر الناس؟ فذكر زهيراً والنابغة ثم قال: ولو شئت لذكرت الثالث؟ يعني: بذلك نفسه، ولو قال: ولو شئت لذكرت نفسي. لم يفخم أمره، فلو صرح لكان أضعف من أن يقول: لو شئت لذكرت الثالث، فكأن الثالث هذا معروف، وليس محتاجاً أن يذكر أنه متمكن من الشعر. قالوا: ويجوز أن يريد إبراهيم ومحمداً وغيرهما من أولي العزم. وقوله: (( وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ )) كإبراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى (( وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ )) وهو جبريل عليه السلام. قوله تعالى: (( وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ )) يعني: من بعد الرسل؛ لاختلافهم في الدين، وتشعُّب مناهجهم، وتكفير بعضهم بعضاً(( مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ )).

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا أنفقوا مما رزقناكم ..)

    قال تبارك وتعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ [البقرة:254]. (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ ))، هذا أمر بالإنفاق لبعض من المال، (مما) من هنا: تبعيضية، يعني: من بعض ما رزقناكم، قيل: وهو أمر إيجاب، وإذا كان الأمر هنا على سبيل الإيجاب فالمراد بالنفقة الزكاة، والذي يرجح ويؤكد ويقوي القول بأن المراد هنا: النفقة الواجبة؛ الوعيد الذي عقب الله سبحانه وتعالى أمره بالنفقة هنا فقد قال: (( وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ )) فوصف مانع هذه النفقة بالكفر والظلم، وهذا الوعيد يدل على أنه أراد النفقة الواجبة، وليس نفقة التطوع. فقوله: (( وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ ))، عنى بهم مانعوها، فالمقصود بالكافرين هنا: مانعوا الزكاة. وقال الأصم وأبو علي : أراد النفقة في الجهاد. وقال أبو مسلم وابن جريج : أراد الفرض والنفل، وهو المتجه، يعني: أن المقصود بالنفقة الواجبة والنافلة. (( مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ )) وهو يوم القيامة (( لا بَيْعٌ فِيهِ )) لأن الإنسان ما دام السوق قائماً يستطيع أن يبيع، فعن طريق هذا البساط التجاري يستطيع أن يحصل مالاً في الدنيا ينفع به نفسه، أما في الآخرة فيقول تعالى: (( لا بَيْعٌ فِيهِ )) يعني: لا بيع فيه فتحصلون ما تنفقونه، أو تفتدون به من العذاب، فالإنسان في الدنيا يبيع ويشتري فيحصل على المال، وهذا المال إما أن ينفقه في سبيل الله وإما أن يفتدي به، أما في الآخرة فلا يستطيع أن يبيع، ولا يستطيع أن ينفق، فإذا قصر في النفقة في الدنيا لا يستطيع أن يفتدي بماله نفسه في الآخرة؛ لأنه لا بيع فيها، (ولا خلة) يعني: لا صداقة تنفع، الأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ [الزخرف:67]، والمتقون لا يمنعون الزكاة. (( وَلا شَفَاعَةٌ )) فلا تتكلوا على شفعاء إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا [طه:109]، وهذا الاستثناء لا بد منه؛ لأن النفي هنا ليس لمطلق الشفاعة يعني: ليست كل الشفاعات منتفية في الآخرة كما هو معلوم من مقتضى الجمع بين هذه الآية وغيرها من النصوص في القرآن أو في السنة التي تثبت أن هناك شفاعة مشروطة بأن تكون بإذن الله تبارك وتعالى كما سيأتي. (( وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ )) الكافرون هنا المراد بهم تاركوا الزكاة، وهذا الأسلوب معروف في القرآن، وله نظير في فريضة الحج قال سبحانه: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ [آل عمران:97] فعبر عن تارك الحج بالكفر؛ لأن هذا من فعل الكفار، وقال الله في الزكاة أيضاً في سورة فصلت: وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ * الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ [فصلت:6-7]. إذاً: قوله: (( وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ )) أراد: والتاركون الزكاة هم الظالمون، واستعمال لفظة (الكافرون) بدل (التاركون الزكاة) للتغليظ في هذه المعصية وللتهديد كما في قوله تعالى في آخر آية الحج: وَمَنْ كَفَرَ [آل عمران:97] ولم يقل: ومن لم يحج فإن الله غني عن العالمين، فآثر لفظة: (من كفر) على من لم يحج، للتغليظ ولبيان أن ترك الزكاة من صفات الكفار، ويحتمل أن يكون المعنى: (( وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ )) أي: لأنفسهم لوضع الأموال في غير مواضعها، فلا تكونوا -أيها المؤمنون- مثلهم في عدم الإنفاق فتضعون أموالكم في غير مواضعها. وفي هذه الآية دلالة على حسن المسارعة إلى الخيرات قبل فواتها بهجوم ما يمنع منها من مرض أو غيره. يوم القيامة هو يوم الموقف الأكبر، لكن كل إنسان منا له يوم القيامة موقف خاص به، وله ساعة وله يوم آخر نسبي، وهي لحظة موته التي بها يبتدئ رحلته إلى اليوم الآخر، فبمجرد خروج روحك فأنت تنتقل من الدنيا إلى الدار الآخرة؛ فلذلك ينبغي أن ننفق: كما قال تعالى: وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ * وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا [المنافقون:10-11]، وقال هنا: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ . قال السيوطي : (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ )) زكاته (( مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ )) فداء (( فِيهِ وَلا خُلَّةٌ )) يعني: صداقة تنفع (( وَلا شَفَاعَةٌ )) يعني: بغير إذنه وهو يوم القيامة، وفي قراءة بنصب الثلاثة: (من قبل أن يأتي يوم لا بيعَ فيه ولا خلةَ ولا شفاعةَ). (( وَالْكَافِرُونَ )) أي: بالله أو بما فرض عليهم، (( هُمُ الظَّالِمُونَ )) لوضعهم أمر الله في غير محله.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (الله لا إله إلا هو الحي القيوم ..)

    قال تبارك وتعالى: اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَلا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ [البقرة:255]. (( اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ )) أي: لا معبود بحق في الوجود إلا هو، فإن كلمة (الإله) تطلق على الإله الحق والإله الباطل، وهناك أدلة من القرآن تدل على أن هناك آلهة باطلة، كقوله تعالى: وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً [مريم:81]، وقوله: فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ [هود:101]، قوله: أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ [الجاثية:23]، فكلمة (إله) تطلق على الإله الحق والإله الباطل، فالشيطان (إله) لكن إله باطل، والدليل قوله تعالى: أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ [يس:60]، والطاغوت هو الشيطان، وقال تعالى: وَانظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا [طه:97] وهو عجل السامري، وفي السنة حديث معروف يدل على أن المال إله يعبد: (تعس عبد الدينار، تعس عبد القطيفة، تعس عبد الخميصة، تعس وانتكس، وإذا شيك فلا انتقش) أو كما قال صلى الله عليه وسلم، فالآلهة الباطلة كثيرة جداً لا تنتهي ولا تنحصر، ومنها ما يعبد برضاه، ومنها ما لا يعبد برضاه، ومنها ما لا يشعر كالأحجار والأصنام، والمسيح عيسى عليه السلام إله باطل عبده النصارى زوراً؛ وكذلك عزير عليه السلام عبده اليهود، وهما بريئان بلا شك من هذا؛ كذلك الأولياء والصالحون قد يعبدون بعد موتهم، وهم غير راضين عن هذا، أما الآلهة التي عبدت من دون الله وهي راضية فإنها تكون في النار يوم القيامة. إذاً: نحن لا نقدر: (موجود) في خبر لا التي للجنس في كلمة التوحيد: لا إله إلا الله، فلا نقول: التقدير لا إله موجود إلا الله؛ لأن هناك آلهة كثيرة باطلة غير الله، لكن نقول: لا إله حق إلا الله، يعني: لا إله يعبد بحق إلا الله سبحانه وتعالى، أما كل إله دون الله عز وجل فهو إله باطل، ويجب أن تكفر به. يقول السيوطي هنا رحمه الله تعالى: ( الله لا إله ) أي: لا معبود بحق في الوجود (إلا هو الحي) أي: الدائم البقاء (القيوم) المبالغ في القيام بتدبير خلقه. (( لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ )) أي: نعاس (( وَلا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ )) ملكاً وخلقاً وعبيداً. (( مَنْ ذَا الَّذِي )) يعني: لا أحد (( يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ )) يعني: إلا بإذنه له فيها، فلا تكون شفاعة إلا بأن يأذن الله لمن يشفع في هذه الشفاعة (( يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ )) أي: الخلق (( وَمَا خَلْفَهُمْ )) أي: من أمر الدنيا والآخرة (( وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ )) أي: لا يعلمون شيئاً من معلوماته (( إِلَّا بِمَا شَاءَ )) يعني: إلا بما شاء أن يعلمهم به منها بإخبار الرسل. (( وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ )) قيل: أحاط علمه بهما، وهذا القول ضعيف، وقيل: (( وَسِعَ كُرْسِيُّهُ )) أي: ملكه، وقيل: الكرسي نفسه مشتمل عليهما لعظمته، لحديث: (ما السماوات السبع في الكرسي إلا كدراهم سبعة ألقيت في ترس) يقول القاضي كنعان : هذا حديث موقوف على ابن عباس رضي الله عنهما، ولم يوجد مسنداً إلى النبي صلى الله عليه وسلم. قال القرطبي : والذي تقتضيه الأحاديث أن الكرسي مخلوق بين يدي العرش، والعرش أعظم منه، وأخرج الآجري وأبو حاتم البستي في صحيحه والبيهقي وذكر أنه صحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ما السماوات السبع! في جنب الكرسي إلا كحلقة ملقاة في صحراء) يعني: صحراء شاسعة مترامية الأطراف، ألقيت فيها حلقة صغيرة، فكل السماوات السبع بما فيها بالنسبة إلى الكرسي كحلقة ألقيت في أرض فلاة، قال: (وفضل العرش على الكرسي كفضل الفلاة على الحلقة) يعني: النسبة بين العرش وبين الكرسي كالنسبة بين الكرسي وبين السماوات السبع، فالعرش غير الكرسي وأعظم منه، وبعض العلماء قالوا: إن الكرسي هو العرش، لكن هذا الحديث يثبت أن العرش غير الكرسي، وهو أعظم منه، وهذا هو الصحيح، وذهب بعضهم إلى أن العرش هو الكرسي، وعلى هذا القول مشى الجلالان في هذا التفسير، وقد نبهنا على ذلك في مواضعه.

    تفسير القاسمي لآية الكرسي

    يقول القاسمي رحمه الله تعالى: (( اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ )) أي: الباقي الذي لا سبيل عليه للفناء (القيوم) أي: الدائم القيام بتدبير الخلق وحفظهم. وهذه الآية تثبت أن الله سبحانه وتعالى لا يغفل أبداً عن تدبير أمر هذا الكون كله، لكن هذا بطريق الالتزام المقتضي عدم الغفلة التي يتنزه الله عنها، وقد أكد ذلك بالنص الصريح فقال: (( لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ ))، فهذا تأكيد لقيوميته؛ لأنه لا يكون قيوماً من كان يغفل عن تدبير مصالحه، فالله لا يغفل أبداً، وبالتالي لا تأخذه النعاس ولا النوم. و(السِّنَة) على وزن عِدَة، وهي شدة النوم أو أوله أو النعاس، قال المهايمي : السنة فتور يتقدم النوم، الفتور الذي يكون في أول مبادئ النوم هو السنة، ثم يكون النوم الذي هو أعمق، وهو: حال تعرض للحيوان من استرخاء دماغه تمنع الحواس الظاهرة من الإحساس. والسنة والنوم على هذا منقصان للحياة، ومنافيان للقيومية؛ لأنهما من التغيرات المنافية لوجوب الوجود الذي للقيوم، ونفى النوم أولاً التزاماً، ثم نفاه تصريحاً بقوله: (( الْحَيُّ الْقَيُّومُ ))، فإنه يلزم من حياته وقيوميته أنه لا يغفل أبداً سبحانه وتعالى، ثم صرح فقال: (( لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ )) وهذا النفي يدل على ثبوت كمال ما ينافيه. ومن كمال قيوميته اختصاصه بملك العلويات والسفليات المشار إليها بقوله: (( لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ )) يعني: من الملائكة والشمس والقمر والكواكب (( وَمَا فِي الأَرْضِ )) يعني: من العوالم المشاهدات، وهذا إخبار بأن الجميع في ملكه وتحت قهره وسلطانه كقوله تعالى: إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا * لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا [مريم:93-94]. قوله: (( مَنْ ذَا )) يعني: مَن مِن الأنبياء أو من مِن الملائكة فضلاً عما ادعى الكفار شفاعته من الأصنام؟! يعني: إذا كان الأنبياء والملائكة أنفسهم لا يملكون شفاعة إلا بإذن الله، فكيف تزعمون أنتم -أيها الكافرون الذين خاطبهم القرآن- أن أصنامكم وآلهتكم تملك الشفاعة من دون الله؟! الأنبياء والملائكة لا يملكون الشفاعة إلا بإذن الله. وإذا كان هنا نفي هذا النوع من الشفاعة، فبالأولى أن فيها نفياً لأن يقاوم الله سبحانه وتعالى أحد أو أن يناصبه أو يبطل إرادته. (( مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ )) أي: لا أحد يشفع عنده إلا بإذنه يعني: بتمكينه تحقيقاً للعبودية كما قال تعالى: وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى [النجم:26]، وقال تعالى: وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى [الأنبياء:28]، وهذا من جلاله وكبريائه عز وجل، فلا يتجاسر أحد على أن يشفع لأحد عنده إلا بإذنه له في الشفاعة كما في حديث الشفاعة يقول عليه الصلاة والسلام: (آتي تحت العرش -يعني: لا يشفع مباشرة- فأخر ساجداً فيدعني الله ما شاء أن يدعني، ثم يقال: ارفع رأسك، وقل يسمع، واشفع تشفع -صلى الله عليه وسلم- قال: فيحد لي حداً فأدخلهم الجنة)، وقال له أبو هريرة : (يا رسول الله! من أسعد الناس بشفاعتك يوم القيامة؟ قال صلى الله عليه وسلم: لقد ظننت -يا أبا هريرة - ألا يسألني عن هذا الحديث أول منك؛ لما رأيت من حرصك على الحديث: أسعد الناس بشفاعتي يوم القيامة من قال: لا إله إلا الله خالصاً من قلبه) فهذه الشفاعة هي لأهل الإخلاص والتوحيد بإذن الله، ولا تكون أبداً لمن أشرك بالله. المشركون يدعون لآلهتهم الشفاعة، وهم ليسوا بموحدين ولا مخلصين، فبالتالي ليسوا من أهل هذه الشفاعة. قوله: (يعلم ما بين أيديهم) يعني: ما عملوه بالفعل من أمور الدنيا أو مما يخصهم. (( وَمَا خَلْفَهُمْ )) يعني: ما حجب عنهم ولم يعلموه؛ لأن الخلف هو ما لا يناله الحس، فأنبأ أن علمه من وراء علمهم، وهو محيط بعملهم فيما علموا وما لم يعلموا، فهذه الجملة كقوله تعالى: عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ [الأنعام:73]، فقوله: (( يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ )) هو الشهادة، وقوله: (( وَمَا خَلْفَهُمْ )) هو الغيب. وقوله: (( وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ )) أي: لا يعلمون شيئاً من معلوماته إلا بما أراد أن يعلمهم به منها على ألسنة الرسل كما قال تعالى: عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا * إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ [الجن:26-27] ليكون ما يطلعه عليه من علم غيبه دليلاً على نبوته. روى ابن جرير عن سعيد بن جبير عن ابن عباس أن الكرسي: العلم. وقوله: (( وَلا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا )) يعني: لا يئوده حفظ ما علم وأحاط به مما في السماوات والأرض، كما أخبر عن ملائكته أنهم قالوا: وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا [الأعراف:89]، فأخبر أن علمه وسع كل شيء فكذلك قوله: (( وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ )). قال ابن جرير : وقول ابن عباس هذا يدل على صحة قول من قال: إن العلماء هم الكراسي؛ لأنهم المعتمد عليهم، كما يقال: أوتاد الأرض، يعني: أنهم الذين تصلح بهم الأرض، ومنه قوله الشاعر: يحف بهم بيض الوجوه وعصبة كراسي بالأحداث حين تنوب يعني: بذلك علمه في حوادث الأمور ونوالها، وروى ابن جرير أيضاً عن الحسن : أن الكرسي في الآية: هو العرش، وأيده بعضهم بأن لفظ عرش المملكة وكرسيها مترادفان؛ ولذلك قال تعالى على لسان سليمان: قَالَ يَا أَيُّهَا المَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ [النمل:38]، يقول: فالعرش والكرسي هما شيء واحد.

    تنبيه مهم في طبعة تفسير القاسمي

    الغماري صوفي، وعليه ملاحظات شديدة ليست هينة، وعنده بدع غليظة، وهو ليس سلفياً، بل يحارب السلفية -سامحه الله وعفا عنه-، لكن مع ذلك لما ذكر نبذة عن التفاسير المشهورة المطبوعة ومنها تفسير القاسمي ذكر تعليقاً مهما جداً، فقال: إن الشخص الذي قام على أول طبعة لمحاسن التأويل للقاسمي كان شخصاً مخبولاً أو في عقله شيء! هكذا وصفه، ودلل على ذلك بأنه أتى إلى بعض المواضع التي لم تعجبه من كلام القاسمي فضرب عنها صفحاً وأضاف إليها كلاماً من عنده، وعلل ذلك بأن القاسمي إمام محقق لا يليق به أن يوجد هذا الكلام في كتابه، فحصل منه تحريف في الكتاب، وحرف بعض المواضع على خلاف ما ذكره القرطبي نفسه في المخطوطة الأصلية، وعلل استحلاله لهذا التحريف أن ابن القاسمي فوضه بأن يعدل ما يراه مناسباً، وقال له: إذا وجدت شيئاً لا يليق بمقام الوالد فلك أن تغيره! فنخشى أشد الخشية مما نالته يد هذا المعتدي؛ لأنا نجد القاسمي نفسه السلفي واضح جداً، وإذا قرأتم مقدمة هذا التفسير التي طبعت في الجزء الأول منه والتي سماها: تمهيد خطير في قواعد التفسير، نجد أن القاسمي ينتصر لمنهج السلف بكل وضوح، ولا يسلك أبداً مسلك الذي يمسك العصا من النصف؛ لكنه دائماً في قضايا العقيدة السلفية من الناس الواضحين جداً في هذا الباب، فيصعب جداً أن يكون كلام القاسمي الأصلي لهذه الآية التي ليس فيها إلا حكاية قولين، أنه اعتمد أن الكرسي هو العلم، وقول آخر أشار إليه عرضاً وهو: أن الكرسي هو العرش، ويبعد جداً أن القاسمي لا يذكر هذا وهو رجل مطلع على السنة، ومطلع على الأحاديث، وتغيب عنه الآثار التي دلت على أن الكرسي غير العرش وغير العلم. ويوجد هنا تعليق سأقرؤه عليكم لكي تعلموا أن هذا هو فعلاً الذي كان يليق بـالقاسمي ، فالله أعلم من المسئول عن ترحيل هذا الجزء من أعلى إلى أسفل، من المتن إلى الحاشية، يقول المعلق: كان المؤلف رضي الله عنه فسر الكرسي بما يأتي: الكُرسي: -بالضم وبالكسر- السرير والعلم، كما في القاموس، قال الأزهري : والصحيح عن ابن عباس ما رواه عمار الدهني عن مسلم البطين عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: الكرسي موضع القدمين، وأما العرش فإنه لا يقدر قدره، وهذه رواية اتفق أهل العلم على صحتها، قال: ومن روى عنه في الكرسي أنه العلم فقد أبطل، وأخرج ابن جرير عن الضحاك قال: الكرسي الذي يوضع تحت العرش إلى داخله، وبالفتح الكرسي هنا الظاهر أنه الجسم الذي وردت الآثار بصفته، يقول: ثم إن المؤلف عدل عن ذلك إلى ما تراه. أي الكلام الأول: بأن الكرسي هو العلم، وأتى بمقولة: التراث والعلماء سلاطين الأرض إلى غير ذلك، والله أعلم من الذي عدل في الحقيقة؛ لكن أنا أحببت أن أنوه إلى هذا الأمر لئلا تغتروا بمثل هذا التأويل.

    معنى قوله تعالى: (ولا يؤده حفظهما وهو العلي العظيم)

    قوله تعالى: (( وَلا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا )) لا يثقله، ولا يشق عليه، يقال: آده الأمر أوداً وأووداً بلغ منه المجهود والمشقة، أي: لا يثقله ولا يتعبه حفظ السماوات والأرض، فلا يفتقر إلى شريك، ولا ولد، وكيف يشق عليه (وهو العلي العظيم)؟! قال ابن جرير في معنى (العلي): قال بعضهم: يعني بذلك علوه عن النظير والأشباه، تعالى أن يكون له نظير عن كذا، وقال آخرون: (العلي) على خلقه، بارتفاعه مكانه عن أماكن خلقه؛ لأنه تعالى فوق جميع خلقه، وخلقه دونه، كما وصف نفسه أنه على العرش، فهو عالٍ بذلك عليهم. (العظيم) أي: أعظم من كل شيء، ذو الجلال والكبرياء والفخر والقدرة والسلطان.

    فضل آية الكرسي

    آية الكرسي لها شأن عظيم، وفضل كبير، وقد صح في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنها أعظم آية في كتاب الله، وأنها مشتملة على اسم الله الأعظم، والأحاديث كثيرة في فضل آية الكرسي، ويكفي فيها هذه الإشارة اختصاراً. فإن قلت: لم فضلت هذه الآية وورد في فضلها ما ورد؟ قلت -أي: في الجواب-: كما فضلت سورة الإخلاص وصارت ثلث القرآن، فضلت مثل هذه الآية وكانت أعظم آية في كتاب الله؛ لأنها اشتملت على صفة الرب تبارك وتعالى، ولاشتمالها على توحيد الله تعالى وتعظيمه وتمجيده وصفاته العظمى، ولا مذكور أعظم من رب العزة، فما كان ذكراً له كان أفضل من سائر الأذكار، وكما أن القرآن أفضل ذكر؛ لأنه كلام الله سبحانه وتعالى، فإن أفضل ما يذكر الله به من هذا الذكر هو ما تمحض لذكر رب العزة سبحانه وتعالى. وفي القصة المعروفة لما كان يكرر الصحابي سورة الإخلاص في كل ركعة في الصلاة، وسأله الرسول صلى الله عليه وسلم عن سر ذلك فقال: (إني أحبها لأن فيها صفة الرب، قال: إن حبك إياها قد أدخلك الجنة، وإن الله يحبك بحبك إياها)، أو كما قال عليه الصلاة والسلام؛ وكذلك هنا: أعظم آية في كتاب الله هي آية الكرسي؛ لأنها تمحضت لذكر أعظم مذكور، وهو الله سبحانه وتعالى: (( اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ ))، فهي إثبات للكمال ونفي للنقص.

    1.   

    تفسير قوله تعالى: (لا إكراه في الدين...)

    قال تبارك وتعالى: لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الغَيِّ [البقرة:256]. قال الله تعالى: (( لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ )) يعني: لا إكراه على الدخول فيه. وقد ذكر الإمام النحاس في ناسخه قولاً سديداً في معنى هذه الآية فقال: من العلماء من قال: هي منسوخة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد أكره العرب على دين الإسلام، وقاتلهم، ولم يرض منهم إلا الإسلام فقال: (أمرت أن أقاتل الناس...)، وقال بعض العلماء: ليست منسوخة، ولكنها نزلت في أهل الكتاب لا يكرهون على الإسلام إذا أدوا الجزية، والذين يكرهون هم أهل الأوثان، إذ هم الذين نزل فيهم: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ [التوبة:73]، واحتج لذلك: (بأن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال لعجوز نصرانية: أسلمي أيتها العجوز تَسلمي؛ فإن الله بعث محمداً صلى الله عليه وسلم بالحق، قالت: أنا عجوز كبيرة والموت إليّ قريب، قال عمر: اللهم اشهد، ثم تلا: (( لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ ))، اللهم اشهد: يعني أني بلغتها، ودعوتها، فكانت الآية تعني: لا سبيل إلى إكراهها على الدخول في الدين. وممن قال: إنها مقصورة على اليهود والنصارى: ابن عباس رضي الله عنهما، قال: كانت المرأة تجعل على نفسها إن عاش لها ولد أن تهوده، فلما أجلي بني النضير كان فيهم من أبناء الأنصار، فقالت الأنصار: لا ندع أبناءنا، فأنزل الله هذه الآية، وهذا القول بلا شك قول صحيح: (( لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ )) يعني: لا يكره أحد على الدخول في الدين، فهذا إنما هو في اليهود والنصارى، وإلا فالمشركون لا يقبل منهم إلا الإسلام، ولذلك نلاحظ أن السيوف التي بعث بها النبي صلى الله عليه وسلم تنوعت، فهناك سيف على المشركين، وسيف على أهل الكتاب، وسيف على أهل القبلة. أما سيف المشركين فهو قوله تعالى في سورة البراءة: فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا أي: من الشرك وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [التوبة:5]. أما السيف الذي على أهل الكتاب فهو المذكور في قوله تعالى: قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ [التوبة:29]. أما السيف الذي سُل على البغاة من أهل القبلة، فدليله في سورة الحجرات: وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ [الحجرات:9]، والبغاة هم الذين يخرجون على الإمام المسلم بسبب تأويل فاسد كما هو معروف ومفصل في كتب الفقه. أما من أعلن قبوله للإسلام وشهد الشهادتين، ودخل في حكم الإسلام؛ فهذا لا يقال في حقه: (( لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ ))، فما دمت مسلماً فعليك إذاً أن تحترم قوانينه وشريعته ونظمه، فلا ينبغي لمسلم أعلن إسلامه وشهد الشهادتين أن يضيع الصلاة أو الزكاة -إن وجبت عليه- أو الحج أو غير ذلك من واجبات الدين، ويقول: (( لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ ))! لا يجوز له أن يعطل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ويقول: (( لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ ))، فإن هذا لغير المسلم. أما المسلم فيجب عليه أن يحترم نظم هذا الدين وقوانينه وشريعته، وإن كان هذا لا تعتمده القوانين الوضعية، وأي دولة إذا أراد أحد رعاياها أن يغير نظمها ودساتيرها وقوانينها يحاكمونه بتهمة الخيانة المتعمدة، وأقل ما يكون في حقه أن يقتل؛ لأنه خرج عن النظام أو يريد أن يغيره، وإذا كان هذا في القوانين الوضعية -ولا يعد هذا إكراهاً ولا سبيلاً إلى أن يقولوا: لا إكراه في هذا- فكيف بدين الله سبحانه وتعالى؟! فمن دخل في هذا الدين يجب عليه أن يحترم شريعته، وألا يحيد عنها، فلذلك لا ينبغي أبداً الرجوع في هذا إلى بشر فمثلاً: من تركت الحجاب لا يحتج لفعلها بقوله تعالى: (( لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ ))، تقال هذه الآية في حق يهودية أو نصرانية، أما المسلمة فينبغي أن تذكر بقوله تعالى: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ [الأحزاب:36]، فالإنسان عبد لله مقيد بأوامر الله عز وجل، ليس حراً في أن يبتدع ما شاء من الشرائع بعد أن أعلن انتماءه إلى الدين. لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الغَيِّ يعني: لا تكرهوا أحداً على الدخول في دين الإسلام، فإنه بينٌ واضح جلية دلائله وبراهينه، لا يحتاج إلى أن يكره أحد على الدخول فيه، بل من هداه الله إلى الإسلام وشرح صدره ونوره بصيرته دخل فيه على بينة، ومن عمي قلبه فإنه لا يفيده الدخول فيه مكرهاً مغصوباً؛ فالنفي بمعنى: النهي، وهو ما ذهب إليه في تأويل الآية كثير من العلماء. (( لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ )) ظاهر الخبر النفي، ومعناه النهي، يعني: لا تكرهوا أحداً على الدخول في الدين. إذاً: ما الجواب عما هو مشهور عن بعض السلف من أنه قال: نحن خير الناس للناس، نسوقهم إلى الجنة بالسلاسل؟ هل هذا إكراه في الدين؟ هذا تفسيره أن المسلمين في حالة الجهاد مع الأعداء يحصل من نتائج المعركة أنهم يأسرون بعض الكفار، فيؤخذون بالسلاسل إلى ديار الإسلام؛ فإذا عاشوا وسط المسلمين ورأوا الإسلام مطبقاً، وأنصتوا لعقيدة التوحيد؛ فإنهم يدخلون في هذا الدين أفواجاً. فمن علم الله في قلبه منهم خيراً فتح قلبه وشرح صدره للإسلام، فتكون السلاسل هي التي قادته للدخول في الإسلام، وليس المقصود بذلك الإكراه على الدين.

    تفسير القاسمي لقوله تعالى: (لا إكراه في الدين)

    قال القاسمي: لما بين الله تعالى دلائل التوحيد بياناً شافياً قاطعاً أخبر بعد ذلك بأنه لم يبق مع إيضاح هذه الدلائل للكافر عذر في الإقامة على الكفر، والإكراه لا يتنافى مع كون الدنيا دار ابتلاء. وبعض الناس ينخرفون في فهم آيات الله، ويخدعون الناس بأن الإسلام يقدس حرية الرأي، بمعنى: حرية الكفر! ويقولون: إن الله سبحانه وتعالى قال: فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ [الكهف:29]، فيظنون أنها على التخيير، يعني: أنت حر، اكفر أو آمن؟! فهذه حرية شخصية! ليس هذا هو المقصود؛ لأن هذا فيه إبطال وإفساد لمعاني كلام الله، وإنما المقصود بهذا التهديد، كقوله تعالى: اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ [فصلت:40]، والدليل أنه قبل هذه الآية مباشرة قوله تعالى: وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ [الكهف:29]، فلا يوجد تخيير بين الحق والباطل، وللأسف أن كبار الخطباء استدل على تقديس حرية الرأي في الإسلام بما وقع بين الله سبحانه وتعالى وبين إبليس، ويقولون: حتى إبليس قد أعطاه الله حرية الرأي!! وهذا في الحقيقة إفساد لمعاني القرآن، وهذا تأثر ذميم بهذه الأفكار الإلحادية التي تشيع الآن بين المسلمين في زمن الغربة، ولا ينجو منها إلا من أراد الله سلامته من هذه الفتن التي تحيط بنا من كل جانب، إلى هذا الحد يستدل على حرية الرأي بأن إبليس ترك الله له حرية الرأي ليعبر عما في نفسه! وهذه الآية: وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ انظر إلى قوله بعدها: إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا [الكهف:29]؛ كذلك: (( اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ ))[فصلت:40] أي: فسوف تحاسبون. هذا المقصود، وليس معناها: التخيير والإباحة، وإلا كان هذا تحطيماً لدين الإسلام كله، لأنه يدخل في: (اعملوا ما شئتم): عبادة الأصنام، وشرب الخمر والفواحش وغير ذلك، وليس هناك قول يفسد الإسلام أكثر من هذا التأويل القبيح. فليعلم من هذه الآية أن سيف الجهاد المشروع في الإسلام والذي لا يبطله عدل عادل ولا جور جائر لم يستعمل للإكراه على الدخول في الدين، وإنما لحماية الدعوة إلى الدين، والإذعان لسلطانه، والحكم بالعدل، فحكمة الجهاد إزالة الحواجز التي تعيق وصول الدعوة إلى عباد الله لإنقاذهم من النار، فهذا الذي فعله الصحابة رضي الله تعالى عنهم وجزاهم عنا خيراً، فهم فتحوا البلاد، وتركوا الأوطان، وأنفقوا الأموال، وبذلوا النفس والنفيس، وأراقوا الدماء من أجل أن ينقذوا البشرية من الخلود في نار جهنم بالكفر -والعياذ بالله-؛ وذلك بالدخول في دين الإسلام، ويكفي أن هناك أصقاعاً وبلاداً ممتدة من أطراف الأرض كشرق آسيا كلها من الهند إلى الفلبين والصين ما فتحت بسيف واحد، وإنما فتحت بأناس انتدبوا أنفسهم للدعوة إلى الله سبحانه وتعالى، فكانوا يتقمصون أزياء التجار -كما يقول أحد الكتاب الأوروبيين- ويتاجرون ويتجهون إلى شرق آسيا، وكان الواحد منهم داعية في لباس تاجر، ليس هدفه التجارة؛ لكن الدعوة، فكان المسلم إذا نزل بلداً من البلدان يجتمع إليه الناس من حسن خلقه، ولما يستمعون من دعوته إلى التوحيد، وإصابة الحجج والبراهين وإبطال عبادة غير الله سبحانه وتعالى، وكانوا بخلقهم وحسن مسلكهم أعظم سفراء للإسلام، وعلى أيديهم أسلمت أمم كاملة، فأغلب هذه البلاد ما استعمل السيف فيها أبداً، مثل إندونيسيا والفلبين والصين وغيرها من البلاد التي فيها ملايين المسلمين كماليزيا، وغيرها أيضاً ما دخلها الإسلام بالسيف أبداً، إنما بالخلق الحسن وبالدعوة إلى الله سبحانه وتعالى. المقصود من الجهاد هو إزالة الجيوش التي تقف عقبة في سبيل إيصال الحق إلى عباد الله عز وجل، فإذا زالت هذه العقبة فحينئذٍ يتعاملون مباشرة مع الشعوب، لماذا؟ لأن سنة الله سبحانه وتعالى التي ذكرها في القرآن الكريم لا تتخلف، وسنة الله أن الباطل خبيث ونجس لا يتغير ولا يتطهر أبداً شيء ثبت فيه، وهذه القاعدة التي أشير إليها هي قوله تبارك وتعالى: كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلا ذِمَّةً [التوبة:8]، فالباطل لا يعرف عهوداً ولا مواثيق ولا قوانين، ولا أخلاق ولا أعراف ولا دين، ولا حقوق إنسان ولا أي شيء، وفي الغرب عندهم مثل مشهور يقولون فيه: القوة هي الحق، لا يوجد شيء اسمه حق، لكن متى كانت معك العضلات والقوة فهذا هو الحق، افرض على الناس عقيدتك وباطلك وفسادك ما دامت القوة معك! فهذا المبدأ هو الذي عليه الكفار في كل بقاع الأرض وذيولهم وأحذيتهم، كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلا ذِمَّةً [التوبة:8]، ولا يستحيون، ولا يوجد عندهم أدنى قدر من الاستحياء حتى فيمن يحملوا أسماء المسلمين من هؤلاء الأنذال الذين يفنون أعمارهم ويوقفون حياتهم في الصد عن سبيل الله، وإعلان الحرب على الله ورسوله وعباد الله المؤمنين، وفتنتهم في دينهم، لعنهم الله وأخزاهم وقصم ظهورهم! فالمقصود: ما أكره أحد على الدخول في دين الإسلام أبداً، لكن من دخل في الدين فإنه يكره على احترامه؛ لأن هذه شريعته وهذا نظامه. قوله تعالى: (( فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ )) أي: بالشيطان وبما يدعو إليه من عبادة الأوثان. (( وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ )) وحده، (( فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى ))، والعروة الوثقى أحد أسماء كلمة النجاة كلمة الشهادة لا إله إلا الله، ولذلك يقول هنا: فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لا انفِصَامَ لَهَا [البقرة:256] أي: فقد تمسك من الدين بأقوى سبب، وشبه ذلك بالعروة القوية التي لا تنفصل؛ فهي في نفسها محكمة، مبرمة قوية، ورأسها قوي شديد. روى الشيخان عن عبد الله بن سلام قال: رأيت رؤيا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم: رأيت كأني في روضة خضراء، وسطها عمود حديد، أسفله في الأرض وأعلاه في السماء، في أعلاه عروة، فقيل لي: اصعد عليه، فقلت: لا أستطيع، فجاءني منصف -أي: وصيف- فرفع ثيابي من خلفي فقال: اصعد، فصعدت حتى أخذت بالعروة فقال: استمسك بالعروة، واستيقظت وإنها لفي يدي، وعبد الله بن سلام كان من كبار أحبار اليهود، استيقظ وهو يمسك هذه العروة في يده، قال: فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقصصتها عليه فقال: (أما الروضة فروضة الإسلام، وأما العمود فعمود الإسلام، وأما العروة فهي العروة الوثقى، وأنت على الإسلام حتى تموت). وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [البقرة:256]، هذا اعتراض تذليلي حامل على الإيمان، رادع عن الكفر والنفاق؛ لما فيه من الوعد والوعيد.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    756040672