إسلام ويب

علو الهمة [5]للشيخ : محمد إسماعيل المقدم

  •  التفريغ النصي الكامل
  • من صفات عالي الهمة أنه شريف النفس، يعرف قدر نفسه، ويعزها عن مواطن الذلة والهوان، ولقد ضرب لنا السلف الصالح الأمثلة الحية في الحرص على شرف النفس، والبعد بها عن مواطن الذلة والهوان في غير كبر ولا استعلاء، وتبعهم على ذلك ذوو الهمم العالية إلى عصرنا الحاضر.

    1.   

    شرف نفس عالي الهمة وذكر نماذج من ذلك

    فهناك خصائص لعالي الهمة، وأهمها: أن عالي الهمة شريف النفس، يعرف قدر نفسه، ومعرفة قدر النفس وشرفها من المفاهيم التي تختلط على الناس، ويكون الخيط دقيقاً بينها وبين خصال أخرى مذمومة، كالتكبر على خلق الله سبحانه وتعالى، أو الاغترار، كما أن الخيط -أيضاً- دقيق بين التواضع والذلة والهوان، وبين الحسد والمنافسة، وبين صيانة النفس والتكبر، وهكذا، فمن ثم نحتاج إلى التمييز بين هذه الخصال كي لا يكون الموضع موضع اشتباه فيسيء بعض الناس فهم الكلام وبعذ ذلك تطبيقه.

    شرف أبي سفيان رضي الله عنه

    أثر عن العرب أخبار كثيرة فيها إعظامهم شرف النفس، فمثلاً حكى العتبي عن أبيه قال: أهدى ملك اليمن عشر جزائر إلى مكة -جزائر جمع جزور، وهو ما يصلح لأن يذبح من الإبل- وأمر أن ينحرها أعز قرشي، فقدمت وأبو سفيان عروس بـهند بنت عتبة -أي: كان حديث التزوج بـهند بنت عتبة ، وبالتالي لم يكن يخرج من بيته- فقالت له زوجته: يا أيها الرجل! لا يشغلنك النساء عن هذه المكرمة التي لعلها أن تفوتك. لأن ملك اليمن اشترط ألا ينحرها إلا أعز رجل في قريش، فـهند بنت عتبة كانت من النساء العاليات الهمة جداً، فقالت له: أيها الرجل! لا يشغلنك النساء عن هذه المكرمة التي لعلها أن تفوتك. فبماذا أجابها أبو سفيان ؟ قال لها: يا هذه! دعي زوجك وما يختاره لنفسه، والله! ما نحرها غيري إلا نحرته. فقد كان أهل قريش يعرفون جيداً من هو أعز رجل فيهم، فبقيت الجزائر في عقلها، والعقل جمع العقال وهو الحبل الذي يعقل به البعير، حتى خرج أبو سفيان في السابع فنحرها.

    شرف هند بنت عتبة رضي الله عنها

    ومن شرف النفس وعلو الهمة ما قالته هند بنت عتبة زوجة أبي سفيان وأم معاوية رضي الله تعالى عنهم أجمعين حين أتاها نعي يزيد بن أبي سفيان وقال لها بعض المعزين: إنا نرجو أن يكون في معاوية خلف من يزيد . يعني يواسونها ويعزونها، فقالت: أو مثل معاوية يكون خلفاً من أحد؟! والله لو جمعت العرب من أقطارها ثم رمي به فيهم لخرج من أي أعراضها شاء.

    وقيل لها أيضاً ومعاوية وليد بين يديها: إن عاش معاوية ساد قومه، فقالت: ثكلته إن لم يسد إلا قومه!

    وهذه العبارة لها معان عظيمة جداً بعيدة المرمى؛ لأن معنى ذلك أنها رغم أن وليدها بضعة لحم لا يظهر عليه أي أمر مما يقطع بأن هذا سيكون إنسان له شأن، ولكن هذا معناه أنها تنوي أن تربي هذا الولد وتوجهه حتى إنها لتأنف من أن يسود قومه فقط، بل غضبت حينما قالوا لها: إن عاش معاوية ساد قومه، فقالت: ثكلته. يعني: الأفضل أن يموت إن لم يسد إلا قومه.

    ومعروف أن معاوية من أكثر العرب سيادة وسياسة وحكمة كما عرف أثناء إمارته في الشام أو أثناء خلافته، يقول معاوية رضي الله عنه: إني لآنف من أن يكون في الأرض جهل لا يسعه حلمي، وذنب لا يسعه عفوي، وحاجة لا يسعها جودي.

    أفخر بيت في الشرف

    وقال الأحوص في الفخر:

    ما من مصيبة نكبة أرمى بهـا إلا تشرفني وترفع شأني

    وإذا سألت عن الكرام وجدتني كالشمس لا تخفى بكل مكان

    صاحب العقد الفريد ذلك الكتاب السيئ زعم أن هذين البيتين أفخر ما قالته العرب في الفخر.

    وتصحيحاً لكلام صاحب العقد الفريد فإن أفخر بيت قالته العرب هو قول حسان بن ثابت رضي الله تعالى عنه:

    وبيوم بدر إذ يرد وجوههم جبريل تحت لوائنا ومحمد

    هل يستطيع أحد أن يفخر بأكثر من هذا؟

    يستحيل أن إنسان يفخر بما فخر به حسان بن ثابت والأنصار رضي الله تعالى عنهم.

    ومن أشرف الناس همة عقيل بن علفة المري ، كان أعرابياً يسكن البادية، وكان الخلفاء يريدون مصاهرته، وخطب إليه عبد الملك بن مروان ابنته لأحد أولاده، فقال له: جنبني هجناء ولدك، الهجناء من أمهم غير عربية، فقال له: إن أولادك يتزوجون نساء غير عربيات! فمع أنه هو الخليفة أمير المؤمنين لكن كان يأنف أن يزوجه وقال له: جنبني هجناء ولدك يعني الذين أمهم غير عربية.

    عالي الهمة يعرف قدر نفسه من غير كبر ولا عجب ولا غرور، وقد أشرنا أن هناك خطاً دقيقاً بين صيانة النفس وشرف النفس وبين الاغترار والتكبر على خلق الله تبارك وتعالى، فإذا عرف المرء قدر نفسه صانها عن الرذائل، وحفظها من أن تهان، ونزهها عن دنايا الأمور وسفاسفها في السر والعلن، وجنبها مواطن الذل بأن يحملها ما لا تطيق، فمعرفة قدر النفس ليس فقط في جانب النفس الشريفة العالية الهمة التي تستطيع أن تفعل أشياء عظيمة، بل حتى يعرف الإنسان قدر نفسه فلا يضعها في مواضع تذل فيها، بمعنى أن يكلف نفسه ما لا تطيق فيذل ويهان.

    وجنبها مواطن بأن يحملها ما لا تطيق أو يضعها فيما لا يليق بقدرها، فتبقى نفسه في حصن حصين، وعز منيع، لا تعطي الدنية، ولا ترضى بالنقص، ولا تقنع بالدون.

    شرف عقيل بن علفة المري

    ومن أشرف الناس همة عقيل بن علفة المري ، كان أعرابياً يسكن البادية، وكان الخلفاء يريدون مصاهرته، وخطب إليه عبد الملك بن مروان ابنته لأحد أولاده، فقال له: جنبني هجناء ولدك. والهجناء من أمهم غير عربية، فمع أنه هو الخليفة أمير المؤمنين لكن كان يأنف من أن يزوجه، وقال له: جنبني هجناء ولدك. يعني الذين أمهم غير عربية. فعالي الهمة يعرف قدر نفسه من غير كبر ولا عجب ولا غرور، وقد أشرنا إلى أن هناك خطاً دقيقاً بين صيانة النفس وشرف النفس وبين الاغترار والتكبر على خلق الله تبارك وتعالى، فإذا عرف المرء قدر نفسه صانها عن الرذائل، وحفظها من أن تهان، ونزهها عن دنايا الأمور وسفاسفها في السر والعلن، وجنبها مواطن الذل بأن يحملها ما لا تطيق، فمعرفة قدر النفس ليس فقط في جانب النفس الشريفة العالية الهمة التي تستطيع أن تفعل أشياء عظيمة، بل حتى يعرف الإنسان قدر نفسه فلا يضعها في مواضع تذل فيها، بمعنى أن يكلف نفسه ما لا تطيق فيذل ويهان، أو يضعها فيما لا يليق بقدرها، فتبقى نفسه في حصن حصين، وعز منيع، لا تعطي الدنية، ولا ترضى بالنقص، ولا تقنع بالدون.

    شرف نفس نبي الله يوسف عليه الصلاة والسلام

    ألم تر إلى شرف نفس الكريم بن الكريم بن الكريم نبي الله يوسف بن نبي الله يعقوب بن نبي الله إسحاق بن خليل الرحمن إبراهيم عليهم جميعاً وعلى نبينا الصلاة والسلام؟!

    شرف يوسف عليه السلام حينما دعا ربه عز وجل قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ [يوسف:33].

    ولما أتاه رسول الملك بأن يطلق ويخرج من السجن أبى أن يخرج حتى تظهر براءته، فهذا من شرف النفس حينما دعاه رسول الملك للخروج قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ [يوسف:50].

    ولا عجب! فإن من يصبر فيما له ألا يصبر فيه وهو الخروج من السجن مع توافر الدواعي على الخروج منه فأولى به أن يصبر فيما يجب عليه أن يصبر فيه من الهم بامرأة العزيز ؛ لأن صبره على الخروج من السجن ليس بواجب عليه، والإنسان إذا لبث في السجن بضع سنين لا شك أن رغبة نفسه وهواها أن ينطلق من هذا الحبس، ومع ذلك صبر يوسف عليه السلام على هذا الشيء الذي لم يجب عليه أن يصبر فيه بدليل قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لو كنت مكان يوسف لأجبت الداعي).

    وهذا القول من النبي عليه الصلاة والسلام يحمل على هضم النفس والتواضع منه صلى الله عليه وسلم.

    شرف نفس من سُئل حاجة صغيرة

    ومن نماذج وأمثلة شرف النفس ومعرفة الإنسان قدر نفسه: قيل لرجل: لي حويجة.. تصغير حاجة، يعني: لي عندك حويجة فقال له: اطلب لها رجيلاً. يعني: ما دامت حويجة فاطلب لها رجيلاً صغيراً حقيراً، وهذا يعد من سوء الأدب كما يحصل كثير جداً من الناس حينما يسأل الشيوخ أو العلماء يقول له: عندي سؤال صغير. فهذا ليس من الأدب، إن كان صغيراً فاطلب له رجلاً صغيراً على حجم هذا السؤال.

    وقيل لآخر: جئناك في حاجة لا ترزؤك، يقال: رزأ ماله إذا أصاب منه شيئاً فأنقص منه، فقال: هلا طلبتم لها سفاسف الناس؟!

    وقيل لبعض العلماء: لي سؤال صغير، فقال: اطلب له رجلاً صغيراً.

    شرف نفس عبد الله بن جعفر والحسن بن علي رضي الله عنهما

    ومن علو الهمة وشرف النفس ما روي عن قطب السخاء عبد الله بن جعفر بن أبي طالب فقد سألته امرأة فأعطاها مالاً عظيماً فقيل له: إنها لا تعرفك وكان يرضيها اليسير، فقال: إن كان يرضيها اليسير فأنا لا أرضى إلا بالكثير، وإن كانت لا تعرفني فأنا أعرف نفسي، وهذا من معرفة قدر النفس في الخير.

    وسأله سائل بينا يهم بركوب ناقته، فنزل له عنها وعما فوقها، وكان عليها أربعة آلاف درهم وسيف من سيوف علي بن أبي طالب رضي الله عنه.

    وعن سعيد بن عبد العزيز أن الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهما سمع رجلاً إلى جنبه في السجود يسأل الله أن يرزقه عشرة آلاف درهم، فانصرف فبعث بها إليه.

    شرف نفس ابن المبارك

    وعن أبي سعيد عن شيخ له قال: رأيت ابن المبارك يعض يد خادم له، فقلت له: تعض يد خادمك! فقال الإمام المبارك : كم آمره ألا يعد الدراهم على السؤال، أقول له: احثوا لهم حثواً! فقد كان يعاقبه لأنه يأمره دائماً ألا يعد الدراهم التي يعطيها للسؤال الذين يسألون الصدقة، وإنما يقول له: احثوا لهم بكلتا يديك حثواً، وأعطهم عطاءً جزيلاً.

    شرف نفس الأبيوردي

    ومن شرف النفس ومعرفة قدرها قول الأبيوردي وهو من بني أمية من الشخصيات الفذة في التاريخ الإسلامي، ومن أكابر الناس في علو الهمة، يقول:

    رأت أميمة أطماري وناظرها يعوم في الدمع منهلاً بوادره

    وما درت أن في أثنائها رجلاً ترخى على الأسد الضاري غدائره

    أغر في ملتقى أوداجه صيد حمر مناصله بيض عشائره

    إن رث بردي فليس السيف محتفلاً بالغمد وهو وميض الغرب باتره

    وهمتي في ضمير الدهر كاملة وسوف يظهر ما تخفي ضمائره

    الأطمار: جمع طمر، وهو الثوب الخلق البالي، يعني نظرت إليه أميمة وهي تبكي لرثاثة ثيابه وبذاذة هيئته، رأت أميمة أطماري وناظرها -يعني: عينها- يعوم في الدمع من كثرة الدموع منهلاً بوادره أي: تتسابق قطرات الدموع وراء بعضها. وما درت أن في أثنائها رجلاً يعني: ما كان ينبغي لها أن ترثي لحالي بسبب ما علي من الثياب الرثة؛ لأنها لا تدرك أن في داخل هذه الثياب رجلاً ترخى على الأسد الضاري غدائره. جمع غديرة، وهي: الذؤابة المظفورة من الشعب، يعني: هذا الرجل -وهو: يعني نفسه- أغر في ملتقى أوداجه صيد حمر مناصله: جمع منصل، والمنصل هو السيف، حمر مناصله يعني: دائماً سيفه ملون باللون الأحمر لون الدماء من شدة بأسه في القتال، وقوله: بيض عشائره. العشائر جمع عشيرة، وعشيرة الرجل بنو أبيه الأقربون وقبيلته، ويقال: فلان أبيض أي: نقي العرض، فهو يمدح نفسه هنا بقوله: حمر مناصله بيض عشائره يعني أنقياء الأعراض.

    وقوله: إن رث بردي. يعني: بلي، والبردي هو: الكساء المخطط الذي يلتحق به إن كان عليه ثياب رثة، إن رث بردي فليس السيف محتفلاً يعني السيف لا يهتم ولا يأبه بالغمد، لنفرض أن سيفاً حاداً باتراً قاطعاً صارماً لكنه موجود في جراب أو غمد بالي من الجلد القديم فهل هذا يضر السيف؟ لا، هذا هو ما يعنيه الشاعر بقوله:

    إن رث بردي فليس السيف محتفلاً بالغمد وهو وميض الغرب باتره

    والغرب هو أول كل شيء وحده، يقال: غرب السيف أي: حد السيف، وغرب السكين وغرب الفأس الجانب الحاد من الفأس ونحو ذلك، ويقال: سيف غرب أي: قاطع حاد، والوميض اللمعان، والباتر القاطع.

    ثم يقول:

    وهمتي في ضمير الدهر كاملة وسوف يظهر ما تخفي ضمائره

    شرف نفس الإمام الشافعي

    يقول الإمام الجليل المطلبي القرشي الشافعي رحمه الله تعالى: علي ثياب لو يباع جميعها بفلس لكان الفلس منهن أكثر، وفيهن نفس لو تقاس بها نفوس الورى كانت أعز وأكبر، وما ضر نصل السيف إخلاف غمده إذا كان عضاً حيث وجهته سرى.

    فهل هذا من الغرور؟

    هذا ليس من الغرور، هذا من معرفة الإنسان قدر نفسه، هذا من شرف النفس وصيانتها، ومعنى قوله: وما ضر نصل السيف إخلاف غمده أي: لا يضر حد السيف الباتر أن يكون الغمد أو الجراب خلقاً وبالياً ورثاً إذا كان السيف عضاً أي: حداً قاطعاً، حيث وجهته سرى يعني شق وقطع.

    والإمام الشافعي رحمه الله تعالى بخبرته العظيمة في النفوس البشرية وطبائعها هو القائل: ما رفعت أحداً فوق منزلته إلا حط مني بمقدار ما رفعت منه.

    يعني أنه يجب أن يعامل الناس بأقدارهم.

    ويقول أيضاً رحمه الله تعالى:

    إذا المشكلات تصدين لي كشفت حقائقها بالنظر

    لسان كشقشقة الأرحبي أو كالحسام اليماني الذكر

    ولست بإمعة في الرجال أسائل هذا وذا ما الخبر

    لكنني مزرة الأصغرين جلاب خير وفراج شر

    يريد أنه يعرف قدر نفسه، ويعرف أنه إنسان مؤثر محرك، وليس متحركاً أو منفعلاً لفعل غيره به أو إمعة يتابع الناس على أقوالهم، ولا يدري ما حوله حتى يحتاج إلى أن يسائل هذا وذا ما الخبر، فهو يعتز بنفسه أو بعبارة أصح يثق بنفسه، فيقول: إذا المشكلات تصدين لي كشفت حقائقها بالنظر أي: بالتدبر، لسان كشقشقة الأرحبي، الشقشقة شيء يخرج من فم البعير كالرئة إذا هاج، وتستعمل هذه الكلمة في التعبير على القدرة على الخطابة والبيان، فيصف لسانه بأنه كشقشقة الأرحبي، والأرحبي نسبة إلى قبيلة أرحب، وهي بطن من همدان، وإليها تنسب الإبل الأرحبية، وقوله: أو كالحسام اليماني الذكر ولست بإمعة في الرجال، الإمعة أو الإمع هو الرجل الذي يتابع كل أحد على رأيه، ولا يثبت هو على شيء، لكنه يتجول ويتردد بين آراء الرجال، ولست بإمعة في الرجال أسائل هذا وذا ما الخبر، ولكنني مزره الأصغرين، المزره هو السيد الشريف والمقدم عند الخصومة والقتال، وقوله: الأصغرين يقصد بهما القلب واللسان، ولكنني مزره الأصغرين جلاب خير وفراج شر، يعني: يجلب الخير للناس كثيراً، وكذا يدفع عنهم الشرور.

    ويقول الحريري :

    وفضيلة الدينار يظهر سرهـا مع حكه لا من ملاحة نقشه

    إذا أراد الإنسان أن يختبر الدينار الذهب ليعرف هل هو صحيح أو مزيف، فإنه يعرف ذلك بأن يلمسه بأصابعه كي يختبر قوة نقشه، فإن كان مزيفاً فإنها تزول، وإن كان جيداً فإنه يثبت فيقول الحريري :

    وفضيلة الدينار يظهر سرها من حكه لا من ملاحة نقشه

    ومن الغباوة أن تعظم جاهلاً لصقال ملبسه ورونق رقشه

    يعني: نقشه.

    أو أن تهين مهذباً في نفسه لدروس بزته ورثة فرشه

    بزته: أي ملابسه.

    شرف نفس سفيان الثوري

    لقد كره بعض العلماء أن يتحول عن بلده مع إيثاره الخمول والانقباض عن الناس خشية أن يعامله من لا يعرف قدره بما لا يليق به، أي: لم يغترب بعض العلماء خوفاً من أن يعاملوا في الغربة بما لا يليق بهم، أو يهانوا أو يذلوا، مع حرص بعض هؤلاء العلماء على الخمول وعدم الاختلاط الكثير بالناس، ولكنهم أبوا أن يتحولوا عن الأماكن التي يعرفون فيها؛ لأنهم ربما إذا تحولوا إلى غيرها فربما يعاملون بما فيه مذلة، وهذا من معرفة قدر النفس وصيانتها عما لا يليق بها. وأوضح مثال على ذلك الإمام الجليل سفيان الثوري رحمه الله تعالى، فالإمام سفيان الثوري كان شديد التواضع، لكن في غير ذل ولا استصغار، ومن كلامه رحمه الله تعالى: أحب أن أكون في موضع لا أعرف ولا أستذل. وذلك لئلا لا يعظمه الناس، لكن في نفس الوقت لا يستذل؛ لأنه إذا كان غير معروف فيمن هو بينهم ومن يعيش حولهم ومن يعيشون حوله فربما تعرض له بعض الغوغاء أو الرعاع بتصرفات فيها إهانة تذله، فخوفاً من ذلك يقول رحمه الله: أحب أن أكون في موضع لا أعرف ولا أستذل. وقال ابن مهدي : سمعت سفيان الثوري يقول: وددت أني أخذت نعلي هذه ثم جلست حيث شئت لا يعرفني أحد. ثم رفع رأسه وقال: بعد أن لا أستذل. فاشترط لنفسه أن لا يستذل. ولشدة حذره من الذلة كان يسكن بين معارفه من الناس الذين يعرفون قدره، قال رحمه الله: لولا أن أستذل لسكنت بين قوم لا يعرفونني. فهل هذا من الكبر؟ ليس هذا من الكبر، بل هذا مما نحن بصدد بيانه، وهو معرفة قدر النفس وشرفها، والدليل على ذلك أنه اشتهر جداً بالتواضع الشديد، وقد رؤي مرة في مكة وقد كثر الناس من حوله فقال: ضاعت الأمة حين احتيج إلي. وكان يقول: لو لم يأتني أصحاب الحديث لأتيتهم في بيوتهم. وكان يقول: لو أني أعلم أن أحداً يطلب الحديث بنية -يعني: بإخلاص- لأتيته في بيته حتى أحدثه. وكان لا يتصدر مجلساً، ولكنه يجلس بين عامة الناس، حتى قال في ذلك علي بن ثابت : ما رأيت سفيان في صدر مجلس قط، كان يقعد إلى جنب الحائط، ويجمع بين ركبتيه رحمه الله تعالى. ولا يرد على قول الإمام الجليل سفيان الثوري : (لولا أن أستذل لسكنت بين قوم لا يعرفونني)، ما حكاه الحسن قال: كنت مع ابن المبارك يوماً، فأتينا على سقاية والناس يشربون منها، فدنا منها ليشرب ولم يعرفه الناس، فزحموه ودفعوه، فلما خرج قال لي: ما العيش إلا هكذا يعني: حيث لم نعرف ولم نوقر. فهل هذا يتعارض مع كلام سفيان ؟! والجواب: كلا، لا يتعارض معه؛ لأن غاية ما في خبر الإمام ابن المبارك رحمه الله تعالى أنه لم يعرف فعومل كسواد الناس، لا أنه ذل، والذي خشي منه الإمام سفيان الثوري هو أن يستذل أو أن يهان، أما هذا فقد عومل بسواسية مع الناس الذين كانوا حوله. وهذا هو ما حرص عليه أويس القرني رحمه الله تعالى حين قال له عمر رضي الله عنه: أين تريد؟ قال: الكوفة. قال: ألا أكتب لك إلى عاملها؟ قال: أكون في غبراء الناس أحب إلي. رواه مسلم ، والغبراء هم الضعفاء والصعاليك والأخلاط الذين لا يؤبه لهم.

    شرف نفس الإمام مالك

    من أمثلة معرفة قدر النفس وشرفها وصيانتها أنه لما قدم المدينة الخليفة المهدي أقبل الناس عليه مسلمين، فلما أخذوا مجالسهم امتلأت كل الأماكن القريبة من الخليفة، فلما جاء مالك تهامس بعض الحاضرين وقالوا: اليوم يجلس مالك آخر الناس، لأنه لا يوجد مكان للإمام مالك بقرب الخليفة، فلما دنا الإمام مالك ونظر ازدحام الناس وقف وقال: يا أمير المؤمنين! أين يجلس شيخك مالك ؟! فناداه المهدي : عندي يا أبا عبد الله ! فتخطى الناس حتى وصل إليه، فرفع المهدي ركبته اليمنى ليوسع المكان وأجلسه بجنبه. فانظر إلى تصرفه، لأنه كرمز للدين وللشريعة وللحديث وللفقه وللعلم الشريف ينبغي أن يصون نفسه.

    وبهذه العزة أجاب العالم الضرير المحدث أبو معاوية محمد بن خازم هارون الرشيد ، فإن محمد بن خازم لما أراد أن يتوضأ أتى هارون الرشيد وصب عليه الماء، ولم يعرف أنه الخليفة، فبعدما فرغ من الوضوء قال له: أنا هارون الرشيد ، فقال له: إنما أكرمت العلم يا أمير المؤمنين!

    شرف نفس ابن دقيق العيد

    من هذه المواقف التي تنم عن معرفة العلماء والأفاضل بشرف أنفسهم أنه لما عزل الإمام ابن دقيق العيد نفسه عن القضاء في بعض المرات، وما أكثر ما عزل نفسه غضباً على بعض الأشياء، طلب في إحدى المرات ليولى القضاء من جديد يعني: صالحوه، ولما أقبل قادماً وقف له السلطان الملك المنصور تعظيماً، فصار يمشي قليلاً قليلاً، والناس يقولون له: السلطان واقف! يعني: أسرع فالسلطان واقف لك، فكان يرد عليهم بأنه يمشي، وظل يمشي بتؤدة وعلى مهل حتى وصل إلى السلطان، وكان السلطان قد أعد له مكاناً كي يجلس فيه، فصعد إلى مجلس السلطان وجلس بجواره، فأخذ السلطان يده وقبلها، فقال له ابن دقيق العيد : تنتفع بهذا.

    شرف نفس سلمان بن غالب السياني

    قال ابن حزم رحمه الله تعالى: ومن أعظم ما يحكى من المكارم التي لم نسمع لها أختاً: أن أبا غالب سلمان بن غالب السياني المتوفى سنة 436هـ ألف كتاباً في اللغة، وهو كتاب تلقيح العين، فوجه إليه أبو الجيش مجاهد العامري صاحب الجزائري ألف دينار أندلسياً ومركوباً وأكسية، في مقابل أن يزيد في ترجمة الكتاب أنه مما ألفه أبو غالب لـأبي الجيش مجاهد ، فيريد أن ينال شرف أنه هو الذي طلب من هذا العالم أن يؤلف الكتاب، فيثبت اسمه على غلاف الكتاب، فرد الدنانير وغيرها وقال: كتاب ألفته لينتفع به الناس، وأخلد فيه همتي، أجعل في صدره اسم غيري وأصرف الفخر له؟! والله لو بذل لي الدنيا على ذلك ما فعلت، ولا استجزت الكذب؛ لأنني لم أجمعه له خاصة بل لكل طالب، يقول ابن حزم : فاعجب لهمة هذا الرئيس وعلوها، واعجب لنفس هذا العالم ونزاهتها.

    شرف نفس الإمام البخاري

    عن أبي سعيد بكر بن منير قال: بعث الأمير خالد بن أحمد الذهلي والي بخارى إلى الإمام البخاري رحمه الله تعالى: أن احمل إلي كتاب الجامع الصحيح والتاريخ وغيرهما لأسمع منك، فقال الإمام البخاري لرسوله: أنا لا أذل العلم، ولا أحمله إلى أبواب السلاطين، فإن كانت لك إلى شيء منه حاجة فاحضرني في مسجدي أو في داري، وإن لم يعجبك هذا فأنت سلطان فامنعني من الجلوس ليكون لي عذر عند الله يوم القيامة؛ لأني لا أكتم العلم لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من سئل عن علم فكتمه ألجم بلجام من نار)، قال: فكان هذا سبب الوحشة بينهما.

    وقال أبو بكر بن أبي عمرو : كان سبب مفارقة أبي عبد الله البخاري البلد أن خالد بن أحمد خليفة ابن طاهر سأله أن يحضر منزله فيقرأ التاريخ والجامع على أولاده فامتنع من ذلك، وقال لا يسعني أن أخص بالسماع قوماً دون قوم آخرين، فاستعان خالد بـحريب بن أبي الورقاء وغيره من أهل بخارى حتى تكلموا في مذهبه؛ فنفاه عن البلد، فدعا الإمام البخاري رحمه الله تعالى عليهم.

    شرف نفس الخطيب البغدادي

    جاء في ترجمة الخطيب البغدادي رحمه الله تعالى: أنه دخل عليه بعض العلوية وفي كمه دنانير، فقال للخطيب : فلان يسلم عليك، ويقول لك: اصرف هذه الدنانير في بعض مهماتك، فقال الخطيب : لا حاجة لي فيها، فقطب وجهه وقال: كأنك تستقله أي: كأنك ترى أن المبلغ قليلاً! ونفض كمه على سجادة الخطيب ، وطرح الدنانير عليها فقال: هذه ثلاثمائة دينار! يعني مبلغ كبير، فقام الخطيب محمراً وجهه، وأخذ السجادة، وصب الدنانير على الأرض، وخرج من المسجد.

    قال أحد تلامذة الخطيب: ما رأيت مثل عز خروج الخطيب ، وذل ذلك العلوي وهو قاعد على الأرض يلتقط الدنانير من شقوق الحصير ويجمعها!

    شرف نفس الجرجاني

    قال القاضي أبو الحسن علي بن عبد العزيز الجرجاني رحمه الله تعالى مبيناً عزة العالم وشرف نفسه:

    يقولون لي فيك انقباض وإنما رأوا رجلاً عن موقف الذل أحجما

    أرى الناس من داناهم هان عندهم ومن أكرمته عزة النفس أكرما

    ولم أقض حق العلم إن كان كلما بدا طمع صيرته لي سلما

    وما زلت منحازاً بعرضي جانباً من الذل أعتد الصيانة مغنما

    وما كل برق لاح لي يستفزني ولا كل من في الأرض أرضاه منعما

    إذا قيل هذا منهل قلت قد أرى ولكن نفس الحر تحتمل الظما

    ولم أبتذل في خدمة العلم مهجتي لأخدم من لاقيت لكن لأخدما

    أأشقى به غرساً وأجنيه ذلة إذاً فاتباع الجهل قد كان أحزما

    ولو أن أهل العلم صانوه صانهم ولو عظموه في النفوس لعظما

    ولكن أذلوه فهان ودنسوا محياه بالأطماع حتى تجهما

    شرف نفس علي بن أبي الطيب

    قال الذهبي في ترجمته للإمام علي بن أبي الطيب : إنه حمل إلى السلطان محمد بن سبكتكين ليسمع وعظه، فلما دخل جلس بلا إذن، وأخذ في رواية الحديث بلا أمر، فتنمر له السلطان كيف لم يقم بالتقاليد التي تتبع عند الدخول على السلطان، حيث جلس مباشرة، وأخذ يتلو الأحاديث! فتنمر له السلطان وأمر غلاماً فلكمه لكمة أطرشته، فعرفه بعض الحاضرين منزلته في الدين والعلم، فاعتذر الملك إليه، وأمر له بمال؛ فامتنع، فقال: يا شيخ! إن للملك طولة، وهو محتاج إلى السياسة، رأيت أنك تعديت الواجب فاجعلني في حلم. يريد أن يستسمحه فقال: الله بيننا بالمرصاد، وإنما أحضرتني للوعظ وسماع أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وللخشوع لا لإقامة قوانين الرياسة؛ فخجل الملك واعتنقه.

    شرف نفس عطاء بن أبي رباح

    قال إبراهيم بن إسحاق الحربي : كان عطاء بن أبي رباح عبداً أسود لامرأة من أهل مكة، فكان أنفه كأنه باقلاه -نوع من البقول-، وجاء سليمان بن عبد الملك أمير المؤمنين إلى عطاء هو وابناه ليستفتي عطاء رحمه الله، فجلسوا إليه وهو يصلي، فلما انفتل من صلاته سألوه عن مناسك الحج، وكان يجيب الخليفة وابناه وقد حول قفاه إليهم، ثم قال سليمان الخليفة لابنيه: قوما. فقاما، فقال: يا ابني! لا تنيا في طلب العلم -أي: لا تكسلا ولا تقصرا في طلب العلم- فإني لا أنسى ذلنا بين يدي هذا العبد الأسود.

    شرف نفس الشيخ عز الدين

    من لطائف شرف النفس والمبالغة في تنزيهها عن الدنية أن الشيخ عز الدين كان إذا قرأ القارئ عليه من كتاب وانتهى إلى آخر باب من أبوابه لا يقف عليه، بل يأمره أن يقرأ من الباب الذي بعده ولو سطراً، ويقول: ما أشتهي أن أكون ممن يقف على الأبواب! فالإمام عز الدين من شدة الأنفة كره أن يقف عند كلمة الباب؛ لأنها تذكره بالوقوف على الأبواب لأجل سؤال الناس، فكان يكره ذلك، ويجعل القارئ لا يقف على كلمة باب بل يقرأ شيئاً من الباب الجديد ولو سطراً واحداً، ويقول: ما أشتهي أن أكون ممن يقف على الأبواب.

    شرف نفس عالم فقير

    عالم فقير نهى عن السؤال حتى ولو كان فيه نيل العلياء، فمد اليد من العالم ذلة وانكسار نفس، والعالم داعية الحق، فكيف يهين نفسه بالسؤال؟! فالسؤال إضعاف للحق الذي يدعو إليه، فيقول ذلك الفقير الشامخ الأبي:

    لا تمدن للعلياء منك يدا حتى تقول لك العلياء هات يدك

    يعني العلياء هي التي تطلب منك أن تمد يدك لكن لا تمد أنت يدك إليها!

    وقيل: أرسل الخليفة بمائة دينار إلى عالم وقال لغلامه: إن قبل ذلك فأنت حر، فحملها إليه فلم يقبلها العالم، فقال له العبد: اقبلها ففي قبولك لها عتقي، فقال: إن كان فيه عتقك ففيه رقي!

    شرف نفس سعيد الحلبي

    كان الشيخ سعيد الحلبي رحمه الله تعالى عالم الشام في عصره في درسه ماداً رجليه، فدخل عليه جبار الشام إبراهيم باشا بن محمد علي باشا صاحب مصر، فلم يتحرك له، ولم يقبض رجليه، ولم يبدل قعدته؛ فتألم الباشا ولكنه كتم ألمه، فلما خرج بعث إليه بصرة فيها ألف ليرة ذهبية، فردها الشيخ وقال للرسول الذي جاءه بها: قل للباشا : إن الذي يمد رجليه لا يمد يده.

    شرف نفس زياد بن ظبيان

    من شرف النفس عند السلف أنهم كانوا يربون الصغار على معرفة قدر النفس، وألا ينزلها منازل الذل والهوان، ومن هذه الأمثلة ما قاله زياد بن ظبيان وهو يجود بنفسه لابنه عبيد الله : ألا أوصي بك الأمير زياداً ؟ فقال: يا أبتي! إذا لم يكن للحي إلا وصية الميت فالحي هو الميت، يعني بذلك أن في ذلك انتقاصاً من قدره هو.

    قال الشاعر:

    إذا ما الحي عاش بعظم ميـت فذاك العظم حي وهو ميت

    وقال معاوية لـعمرو بن سعيد وهو صبي: إلى من أوصى بك أبوك؟ فقال: إن أبي أوصى إلي ولم يوص بي، أي: أوصاني بأشياء وكلفني بها ولم يوص بي، قال: وبم أوصى إليك؟! قال: ألا يفقد إخوانه منه إلا وجهه، يعني: أن يتفقد إخوان أبيه وأصدقاء أبيه بأن يحسن إليهم ويصلهم كما كان يفعل أبيه، فلا يغيب عنهم من أبيه إلا جسده فقط وأما إحسانه فيستمر.

    شرف نفس الشيخين عبد الوهاب الفارسي ومحمد الجراح

    كان الشيخ عبد الوهاب الفارسي رحمه الله تعالى يسير يوماً برفقة صديقه الشيخ محمد الجراح فصدمتهما سيارة، فسقطا في حفرة وجرحا، ولما علما أن السائق كان سكران صفحا عنه، وامتنعا من مقاضاة هذا السائق؛ أنفة من أن يقفا في موقف واحد مع سكران.

    شرف نفس الأستاذ سيد قطب

    التاريخ الإسلامي حافل بمثل هذه النماذج وهذه الأمثلة التي تبرز لنا هذا المعنى العظيم الجليل، ونحن لا نقصد الاستيعاب، وإنما نقصد ضرب الأمثلة، ونختم الكلام في هذا الفصل بمثال فذ من عصرنا الحديث، لرجل بذل حياته لإعلاء كلمة الله، وهو الأستاذ سيد قطب رحمه الله تعالى وأعلى درجته في الشهداء، فإن ذلك الرجل -وما أقل الرجال في هذا العصر- ارتضع منذ طفولته معاني العزة والكرامة والأنفة وشرف النفس حتى عاش حياته سيداً، وغادر الدنيا سيداً رافعاً رأسه، وعاش حياته قطباً، وغادرها أيضاً قطباً في الدعوة والجهاد، وحياته الطويلة حافلة بمواقف العزة والكرامة، لكن نتوقف عند ساعاته الأخيرة وهو يغادر هذه الدنيا الفانية، فقد طلب منه أن يعتذر للطاغية مقابل إطلاق سراحه، فقال: لن أعتذر عن العمل مع الله! وعندما طلب منه كتابة كلمات يسترحم بها عبد الناصر قال: إن إصبع السبابة الذي يشهد لله بالوحدانية في الصلاة يرفض أن يكتب حرفاً يقر به حكم طاغية. وقال أيضاً: لماذا أسترحم؟! إن سجنت بحق فأنا أقبل حكم الحق، وإن سجنت بباطل فأنا أكبر من أن أسترحم الباطل. وفي إحدى الجلسات اقترب منه أحد الضباط وسأله عن معنى كلمة (شهيد)، إشارة له إلى أن مصيرك أن تقتل، فرد عليه رحمه الله تعالى قائلاً: كلمة (شهيد) تعني أنه شهد على أن شريعة الله أغلى عليه من حياته. يقول الشاعر: لعمرك إني أرى مصرعي ولكن أغذ إليه الخطى لعمرك هذا ممات الرجال فمن رام موتاً شريفاً فذا هذا هو عالي الهمة، يعرف قدر نفسه، ويعرف شرف نفسه. وعلى الجانب المقابل خفيف الهمة دائماً يكون دنيء النفس، يشعر بأنه حقير، وأن حجمه ضئيل، لا قدر له، ولا وزن له، وهذا ينعكس في تصرفاته في انعدام ثقته بنفسه، فمعلوم أن الإنسان يستحي ممن يكبر في نفسه، فمن يراه عظيم القدر يستحي منه أكثر من غيره، فيستحي من العالم أو من الرجل الصالح أكثر مما يستحي من الفاسق أو من الطفل الصغير، وفي ذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (استح من الله كما تستحي رجلاً من صالحي قومك) أو كما قال صلى الله عليه وسلم، فالإنسان من العالم لأن العالم أكبر في نفسه من الجاهل، ويستحي من الصالح أكثر من الفاجر، في حين أنه لا يستحيي من الحيوانات ولا من الأطفال، ومن كانت نفسه عنده كبيرة، ويشعر بشرف نفسه وأن لها قدراً ووزناً فإنه يحترم نفسه، فإذا خلا بنفسه فإنه لا يقبل على دنيء الأمور وخسائسها؛ لأنه يستحي من نفسه؛ لأن نفسه عنده كبيرة، كما أنه لا يفعل الدنايا أمام العالم الصالح أو أمام الشيخ المسن استحياء منهما؛ لأنهما يكبران في نفسه، فكذلك لما كبرت نفسه عنده فإنه يعرف قدرها، فلا يهينها حتى في خلوته. فمن كانت نفسه عنده كبيرة كان استحياؤه منها أشد من استحيائه من غيرها، أما خسيس الهمة فإنه يستحيي من الناس ولا يستحي من نفسه إذا انفرد عن الناس؛ لأن نفسه أخس عنده من غيره، فهو يستحي من الآخرين لأن لهم قدراً عنده، ولا يستحي من نفسه لأنه ليس لنفسه قدر عنده، وهو يراها أحقر من أن يستحي منها، فمن ثم قال بعض السلف: من عمل في السر عملاً يستحيي منه في العلانية فليس لنفسه عنده قدر. وقيل لبعض العباد: من شر الناس؟ قال: من لا يبالي أن يراه الناس مسيئاً.

    شرف نفس مجاهد عند إعدامه

    كان هناك مجاهد إسلامي أرادوا إعدامه بالباطل، فانقطع به الحبل لحظة إعدامه، فقال: كل جاهليتكم رديئة حتى حبالكم. فانظر إلى الاستعلاء على الباطل حتى في مثل هذه اللحظات.

    1.   

    الفروق الدقيقة بين شرف النفس وكبر النفس

    شرف النفس ومعرفة قدرها من خصائص كبير الهمة، ونحتاج إلى بيان بعض الفروق الدقيقة بين بعض المتضادات من هذه المعاني، فقد تلبس النفس الأمارة بالسوء على العبد أموراً يحبها الله سبحانه وتعالى ويرضاها بأمور يبغضها الله عز وجل، فلدقة الخيط أو الحد الفاصل بين هذين الأمرين لا ينجو من هذا التلبيس إلا أرباب البصائر ذوو النفوس المطمئنة، وقد عقد الإمام المحقق ابن القيم الجوزية رحمه الله تعالى فصولاً نافعة بين فيها هذه الدقائق النفيسة في كتابه (الروح) نجتزئ منها بما نحتاج في هذا المقام، فقد بين رحمه الله تعالى الفرق بين شرف النفس والتيه، فشرف النفس هو صيانتها عن الدنايا والرذائل والمطامع التي تقطع أعناق الرجال فيرفع بنفسه عن أن يلقيها في ذلك بخلاف التيه فإنه خلق متولد بين أمرين: إعجابه بنفسه وازدرائه بغيره، فالشخص الذي يتيه عن الناس ويتكبر عليهم هذا الخلق ثمرة أمرين اثنين: أولاً يعجب بنفسه، ثم يزدري ويحتقر الآخرين، فيعجب بنفسه ويزدري غيره فيتولد بينهما المولود الجنين الذي ينشأ من التزاوج بين الإعجاب بالنفس وبين احتقار الآخرين وازدرائهم، وهو التيه على خلق الله سبحانه وتعالى.

    أما شرف النفس فإنه يتولد من خلقين كريمين: الخلق الأول: إعزاز النفس وإكرامها، فهو يعز نفسه ويكرمها، والخلق الثاني: تعظيم مالكها وسيدها، فمن تعظيم مالكها وربها أن يكون عبده ذليلاً فيتولد من بين هذين الخلقين: شرف النفس وصيانتها، وأصل هذا كله: استعداد النفس وتهيؤها، وإمداد وليها ومولاها لها، فإذا فقد الاستعداد والإمداد فقد الخير كله.

    يقول ابن القيم رحمه الله تعالى: والفرق بين الصيانة والتكبر أن الصائن لنفسه بمنزلة رجل قد لبس ثوباً جديداً نقي البياض ذا ثمن، فهو يدخل به -بهذا الثوب الغالي النفيس النقي الأبيض- فهو يدخل به على الملوك فمن دونهم فهو يصونه عن الوسخ والغبار والطبوع وأنواع الآثار إبقاءً على بياضه ونقائه، فتراه صاحب تعزز وهروب من المواضع التي يخشى منها عليه التلوث، فلا يسمح بأثر ولا طبع ولا لوث يعلو ثيابه، وإن أصابه شيء من ذلك على غرة بادر إلى قلعه وإزالته ومحو أثره، وهكذا الصائن لقلبه ودينه، تراه يجتنب طبوع الذنوب وآثارها، فإن لها في القلب طبوعاً وآثاراً أعظم من الطبوع الفاحشة في الثوب النقي البياض، ولكن على العيون غشاوة أن تدرك تلك الطبوع، فتراه يهرب من مضان التلوث، ويختلي من الخلق، ويتباعد من مخالطتهم مخافة أن يحصل لقلبه ما يحصل للثوب الذي يخالط الدباغين والذباحين والطباخين ونحوهم بخلاف صاحب العلو المتكبر فإنه وإن شابه هذا في تحرزه وتجنبه فهو يقصد بالتحرز أن يعلو رقابهم، ويجعلهم تحت قدمه، فهذا لون وذاك لون، أما الكبر فإنه أثر من آثار العجب والبغي من قلب قد امتلئ بالجهل والظلم، فرحلت منه العبودية، ونزل عليه المقت، فنظره إلى الناس شزر، ومشيه بينهم تبختر، ومعاملته لهم معاملة الاستئثار لا معاملة الإيثار ولا الإنصاف، ذاهب بنفسه تيهاً، لا يبدأ من لقيه بالسلام، وإن رد عليه رأى أنه قد بالغ عليه في الإنعام، لا ينطلق لهم وجهه، ولا يسعهم خلقه، ولا يرى لأحد عليه حقاً، ويرى حقوقه على الناس، ولا يرى فضلهم عليه، ويرى فضله عليهم، لا يزداد من الله إلا بعداً، ومن الناس إلى صغاراً أو بغضاً.

    والفرق بين التواضع والمهانة أن التواضع يتولد من بين العلم بالله سبحانه وتعالى ومعرفة أسمائه وصفاته ونعوت جلاله وتعظيمه ومحبته وإجلاله، ومن معرفته بنفسه وتفاصيلها وعيوب عملها وآفاتها؛ فيتولد من بين ذلك كله خلق هو التواضع، وهو انكسار القلب لله، وخفض جناح الذل والرحمة بعباده، فلا يرى له على أحد فضلاً، ولا يرى له عند أحد حقاً، بل يرى الفضل للناس عليه، والحقوق لهم قبله، وهذا خلق إنما يعطيه الله عز وجل من يحبه ويكرمه ويقربه.

    وأما المهانة فهي الدناءة والخسة وبذل النفس وابتذالها في نيل حظوظها وشهواتها كتواضع السفل في نيل شهواتهم، وتواضع المفعول به للفاعل، وتواضع طالب كل حض لمن يرجو نيل حظه منه، فهذا كله ضعة لا تواضع، والله سبحانه وتعالى يحب التواضع ويبغض الضعة والمهانة.

    وفي الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم قال: (وأوحى الله إلي أن تواضعوا حتى لا يفخر أحد على أحد، ولا يبغي أحد على أحد).

    أكتفي الله بهذا القدر، وأقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.

    سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد وعلى آله وصحبه.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718659

    عدد مرات الحفظ

    755820401