إسلام ويب

الإيمان والكفر [13]للشيخ : محمد إسماعيل المقدم

  •  التفريغ النصي الكامل
  • إن الحكم على مسلم بالكفر ليس كلمة تقال، فإن وراء ذلك أبعاداً كبيرة، وأحكاماً شرعية عظيمة، ويشبه ذلك القول بأن حكم الإسلام لا يثبت للداخل فيه إلا بشروط غير النطق بالشهادتين، فيخترع حد للإسلام لم يسبق إليه أحد من السلف أو الخلف. وقد صدر كتاب باسم (حد الإسلام، وحقيقة الإيمان) يتكلم عن هذا الموضوع، وهذا الكتاب عليه مؤاخذات ينبغي الحذر منها.

    1.   

    وجوب التحرز في إصدار الحكم بالكفر على الناس

    إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتد، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، اللهم صل على محمد وعلى آله محمد، كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد، اللهم بارك على محمد وعلى آله محمد، كما باركت على آله إبراهيم إنك حميد مجيد، أما بعد:

    فإن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، ثم أما بعد:

    فمما ينبغي التنبه إليه: أن الحكم بالكفر على إنسان ليس مجرد كلمة تقال، وإنما كلمة وراءها ما بعدها من أحكام شرعية تترتب على ذلك، ومن أجل هذا فلا يجوز أبداً المخاطرة والاندفاع والتهور في الحكم على إنسان ما بالكفر، بل ينبغي التحرز من ذلك إذا بدرت أي شبهة في هذا الأمر، كما قال بعض السلف: إذا أتى الإنسان بفعل احتمل الكفر من تسعة وتسعين وجهاً، واحتمل الإيمان من وجه واحد فاحمل أمره على الإيمان، وذلك لأنه إذا كانت الحدود تدرأ بالشبهات فأولى ثم أولى أن يدرأ الحكم بالكفر بالشبهات يعني: متى ما وقع للحاكم أو القاضي أي اشتباه في جريمة الشخص الذي سيقام عليه الحد، فينبغي عند وجود أدنى شبهة أن يدرأ الحكم؛ لماذا؟ لأنه لأَن يخطئ في العفو خير من أن يخطئ في القصاص، مثلاً: إذا استحق القتل فيتركه خير من أن يخطئ في قتله، ثم يتضح بعد أن يقتل أنه كان معذوراً أو أنه كان بريئاً، فلذلك ينبغي التحرز من إطلاق الكفر على الناس، أو الجرأة في ذلك؛ خلافاً لما يرسخ في قلوب كثير من الشباب في هذا الزمان نتيجة الضغط والإرهاب الفكري من بعض المبتدعة، حيث يصورون أن الحكم بالكفر على الناس نوع من البطولة، ونوع من إظهار الولاء والبرء والشجاعة، أو هذا دليل على قوة التمسك بالدين والالتزام به، بل الصحيح خلاف ذلك، وهو أن يتورع الإنسان في هذا الأمر، وإن كان حظه من العلم قليلاً فينبغي أن يحتاط، خاصة إذا علم قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (من قال لأخيه: يا كافر! فقد باء بها أحدهما)، وأحياناً يتحرز بعض الناس من الحكم بالكفر على أناس قد يكونون في مظهر الآخرين من كفار أو مشركين، ويكون الدافع إلى ذلك هو أن يخاف الإنسان على نفسه -لا أنه خاف على هذا الشخص الذي يأتي هذه الأفعال- أن يخطئ في ذلك فيؤاخذه الله تبارك وتعالى به.

    كلمة الكفر ليست كلمة تقال، بل هي كلمة وراءها ما وراءها، فإذا حكم على إنسان بالكفر فمما يترتب على هذا من الآثار: أنه لا يحل لزوجته البقاء معه، إذ بمجرد كفره وردته عن الإسلام ينفسخ عقد نكاحه، ويجب أن يفرق بينه وبينها؛ لأن المسلمة لا تصح أبداً أن تكون زوجة لكافر بإجماع المسلمين، أيضاً أولاده لا يبقون تحت سلطانه، بل لا يؤتمن عليهم، وربما أثر عليهم بكفره، وهم أمانة في عنق المجتمع الإسلامي، فلذلك يفقد ولايته على بناته، ولا يصلح أن يزوج بناته أو أن يلي أمرهن، أيضاً هو يفقد حق الولاية والنصرة على سائر المسلمين، بعد أن خرج عن الإسلام ومرق عنه بالكفر الصريح، ولهذا يقاطع ويفرض عليه حصار أدبي من المجتمع حتى يثوب إلى رشده، كما أنه يجب أن يحاكم أمام القضاء الإسلامي لينفذ فيه حكم المرتد بعد أن يستتاب، وتزال من ذهنه الشبهات، وتقام عليه الحجة ممن يملكون إقامتها، ويتقنون ذلك من أئمة العلم وذوي السلطان، يقول عليه الصلاة والسلام: (من بدل دينه فاقتلوه)، ثم إذا مات لا تجري عليه أحكام المسلمين، فلا يغسل، ولا يصلى عليه، ولا يدفن في مقابر المسلمين، بل يدفن مع إخوانه من المشركين أو اليهود أو النصارى، كما أنه أيضاً لا يرث أقرباءه المسلمين إذا ماتوا، وإذا مات على حاله من الكفر فإنه يستحق لعنة الله عز وجل، وطرده من رحمته، والخلود الأبدي في دار جهنم، هذه الأحكام وغيرها كثير تستوجب التثبت والاحتياط، والإنسان متى اشتبه عليه الأمر فليعتذر بقلة علمه إن كان غير عالم، أو إن كان عنده شبهة في الأمر يمسك لسانه أولى من أن يخوض بغير علم في مثل هذه الأشياء، بل يتريث مرات ومرات قبل أن يقول ما يقول.

    1.   

    كيفية دخول المرء في الإسلام

    يجب أن نرجع إلى نصوص الكتاب والسنة لنقرر في ضوئها الأصول والحقائق والقواعد الشرعية في قضية الكفر والإيمان؛ لأن هذه قضية من أخطر القضايا، ولها ما بعدها من الآثار كما نوهنا، فينبغي الاعتماد على النصوص المعصومة من كتاب الله ومن سنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وذلك من خلال فهم علماء أهل السنة والجماعة لهذه النصوص، حتى لا نتيه في المتشابهات، أو نضرب الآيات والأحاديث بعضها ببعض، انطلاقاً من اعتقادنا الراسخ بأن أهل السنة والجماعة هم الفرقة الناجية، خلافاً للفرق النارية التي انحرفت عن هذا المنهج القويم.

    من أولى هذه الحقائق التي ينبغي أن نتفطن لها ونهتم بتوثيقها حقيقة أساسية جداً، وهي: كيف يدخل المرء في الإسلام؟

    هذا سؤال جوابه معروف ومشهور لكل مسلم، وهو: أنه يدخل في الإسلام بالشهادتين؛ يشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فمن أقر بالشهادتين بلسانه فقد دخل في الإسلام، وأجريت عليه أحكام المسلمين، وإن كان كافراً كما بينا من قبل تفاصيل شروط الشهادة، فلابد أيضاً من استحضارها هنا، لكن هذا هو القول المجمل، أن مفتاح دخول الإسلام هو الإقرار بالشهادتين، فكل من كان يأتي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان يقبل ذلك منه، ويحكم له بالإسلام، ولم تحصل تلك الأشياء التي اخترعها وأحدثها أناس كثيرون من أهل البدع حتى يحكموا على شخص بالإسلام: لابد أن يفعل كذا ويفهم كذا، وهذه يتوقف فيها حتى نتبين أنه يفهم التوحيد. إلى غير ذلك مما اشترطوه من الشروط التي ما أنزل الله عز وجل بها من سلطان، فكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم إذا أتاه من يقر بالشهادتين يقبل منه ذلك، ولا ينتظر حتى يأتي وقت الصلاة، أو حول الزكاة، أو شهر رمضان، إلى أن يؤدي هذه الفرائض ثم يحكم له بعد ذلك بالإسلام، بل يكتفي منه بالإيمان بها، وألا يظهر منه إنكار هذه الأشياء، لكن إذا أتى وقت الصلاة يعلم الصلاة ويجب عليه أن يصلي، ويحاسب إذا قصر في ذلك، إذا حال الحول على ماله، وكان له مال تجب فيه الزكاة يأتي عامل الزكاة ويأخذ منه الزكاة، ويحاسبه إذا قصر، أو يرفع أمره إلى القاضي أو الإمام، وهكذا في سائر الأركان الظاهرة.

    أتى رجل إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو مقنع بالحديد في حال غزو أو استعداد للقتال، فقال للنبي صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله! أسلم أو أقاتل؟ يعني: أبدأ أولاً بالقتال ثم أسلم، أو أسلم أولاً ثم أقاتل، فقال له النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (أسلم ثم قاتل، فأسلم)، شهد الشهادتين ومضى إلى القتال فقتل، فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (عمل قليلاً وأجر كثيراً)، فلو كان الأمر كما يزعم كثير من الناس الذين يخترعون شروطاً ويحدون حدوداً للإسلام، أو الحد الأدنى -كما يقولون- للإسلام، لقال له النبي عليه الصلاة والسلام: انتظر حتى نستوفي منك أمور العبادة، وتوحيد العبادة، وتوحيد الحاكميه وكذا وكذا مما يشترطونه ويحدونه، فهو إنما قبل منه الإسلام بالشهادتين، وكان واجب الوقت بأن يبادر بالجهاد في سبيل الله فقتل، وبذلك شهد له النبي صلى الله عليه وآله وسلم بأنه نجا بهذه الكلمة التي قالها.

    أيضاً حديث أسامة بن زيد رضي الله عنهما الذي رواه البخاري وغيره أنه قتل رجلاً شهر عليه السيف، وفي بعض الروايات: أن هذا الرجل أصاب نكاية شديدة في المسلمين، وكان له قوة وبطش شديد في القتال حتى أنه قتل كثيراً من المسلمين، فلما اقترب منه أسامة ليقتله شهد أن لا إله إلا الله، فقتله أسامة ، فأنكر النبي صلى الله عليه وآله وسلم عليه ذلك أشد الإنكار، وقال: (أقتلته بعدما قال: لا إله إلا الله؟! فقال: إنما قالها تعوذاً من السيف، فقال: هلا شققت عن قلبه؟!) وفي بعض الروايات: (كيف لك بلا إله إلا الله يوم القيامة؟) .

    أيضاً عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها، وحسابهم على الله)، هذا في صحيح مسلم ، معنى: (حسابهم على الله)، يعني: أقبل منهم ظاهرهم، أما حقيقة ما في قلوبهم فحسابه على الله، لكن أقبل منهم في الدنيا ما يظهرونه من الإسلام.

    وفي رواية لـمسلم : (أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، ويؤمنوا بي وبما جئت به) ، وفي البخاري عن أنس مرفوعاً: (حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمداً عبده ورسوله)، والمقصود بالناس هنا مشركو العرب، كما قال العلماء، وكما فسره أنس في حديثه؛ لأن أهل الكتاب يقبل منهم الجزية بنص القرآن: قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ [التوبة:29].

    فالشاهد: أن هؤلاء المشركين من العرب إذا قالوا: لا إله إلا الله، دخلوا بها في الإسلام وصاروا معصومين الدماء والأموال؛ لأن الشخص المعصوم في المجتمع الإسلامي، إما أنه معصوم بسبب الإسلام، أو معصوم بالعهد والذمة، فلا يجوز أن تخفر ذمته.

    وهذا الحديث: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا) إلى آخره، من الأحاديث المتواترة؛ فقد رواه خمسة عشر صحابياً، ومعلوم أن بعض العلماء ذهبوا إلى أن هذا الحديث كان في أول الإسلام، قبل فرض الصلاة والصيام والزكاة والهجرة، وهذا الكلام مروي عن سفيان بن عيينة رحمه الله أحد أئمة الحديث المشهورين، فما الجواب عن هذه الشبهة؟

    يجاب عن هذا: بأن ممن رووا هذا الحديث بعض الصحابة الذين تأخر إسلامه جداً، ومنهم أبو هريرة رضي الله تبارك وتعالى عنه، فهذا لم يكن في أول الإسلام فقط، وإنما ثبت هذا بعد الهجرة بزمن.

    يقول الحافظ ابن رجب رحمه الله تعالى: من المعلوم بالضرورة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقبل من كل من جاء يريد الدخول في الإسلام الشهادتين فقط، ويعصم دمه بذلك، ويجعله مسلماً، فقد أنكر على أسامة رضي الله عنه قتله لمن قال: لا إله إلا الله، لما رفع عليه السيف، واشتد نكيره عليه، ولم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يشرط على من يريد الإسلام أن يلتزم الصلاة والزكاة، بل قد روي أنه قبل من قوم الإسلام واشترطوا ألا يزكوا، كما هو معلوم في بعض الأحاديث حين اشترطت ثقيف على رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا صدقة عليهم ولا جهاد، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (فسيتصدقون ويجاهدون)، فقبل ذلك منهم، ثم بعد ذلك صح إسلامهم مع هذا الشرط الفاسد، ومع ذلك قال عليه الصلاة والسلام: إذا قوي إيمانهم ورسخت قدمهم في الإسلام فسيتصدقون ويجاهدون.

    وعن نصر بن عاصم الليثي ، عن رجل: أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم فأسلم على ألا يصلي إلا صلاتين فقبل منه، قال الإمام أحمد رحمه الله تعالى طبقاً لهذه الأحاديث: يصح الإسلام على الشرط الفاسد، ويثبت له الإسلام، ثم يلزم بشرائع الإسلام كلها بعد ذلك.

    الشاهد: أن الدخول في الإسلام إنما يكون بالشهادتين, وكون بعض الأحاديث اشترطت الشهادة الأولى -لا إله إلا الله- فهذا من باب الاكتفاء أو الاختصار من بعض الرواة، أو لأن المقصودين في الحديث هنا: (أمرت أن أقاتل الناس) هم مشركو العرب، ولم يكونوا ليقروا بشهادة التوحيد إلا إذا شهدوا لمن جاء بها، وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعلم أن من قال: أشهد أن لا إله إلا الله، إنما يقولها استجابة لدعوة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ويلزم معها أن يشهد أن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعلى هذا ينبغي أن يفهم قول بعض السلف: الإسلام الكلمة، يعني: كلمة الشهادة، فالكلمة هنا من باب (وكلمة بها كلام قد يؤم).

    أما الصلاة والصيام وسائر شرائع الإسلام وفرائضه فإنما يطالب بها بعد أن يصبح مسلماً، إذ الصلاة والصيام والزكاة وكل هذه الأفعال لا تصح ولا تقبل إلا من مسلم، أما الكافر فلا صلاة له ولا صيام ولا حج لفقدانه شرط القبول وهو الإسلام.

    1.   

    مناقشة صاحب كتاب (حد الإسلام)

    كثر السؤال في عدة مناسبات عن حد الإسلام، وسبق الوعد بتلخيص بعض الدراسات التي كتبت فيما يتعلق بهذه القضية، ولعل هناك كتاباً مشهوراً يحمل اسم: (حد الإسلام وحقيقة الإيمان) فربما حصل اشتباه في بعض قضايا هذا الكتاب على بعض الإخوة، فلذلك نلخص كلام بعض الباحثين في نقد هذا الكتاب في ضوء عقيدة أهل السنة والجماعة.

    المقصود بحد الإسلام عند الكاتب

    نبدأ أولاً بكلمة (حد الإسلام) في ذاتها، فالمؤلف استعمل هذا التعبير ليدل على أصل الدين. فحد الإسلام عنده هو أصل الدين الذي يتوقف على تحققه ثبوت عقد الإسلام، والكاتب استعمل هذا التعبير في ثنايا كتابه كثيراً للدلالة على هذا المعنى، فنتجاوز التسمية مؤقتاً ثم نتعرف على مقصود الكاتب بكلمة (أصل الدين) أو (حد الإسلام) ويعبر عن مقصوده بها فيما يلي: يقول: إن حد الإسلام هو ما يتوقف على تحققه واستيفائه ثبوت عقد الإسلام ابتداء. فالإسلام عبارة عن عقد، وحتى يثبت هذا العقد ويصح لابد من تحقيق هذا الحد الذي حده هذا المؤلف، وبالتحقق واستيفاء حد الإسلام يثبت عقد الإسلام، فهو الذي يكون به المسلم مسلماً، ومن تولى عنه لم يكن مسلماً، يعني: من لم يتحقق فيه هذا الحد، ومن لم يستوفه لم يكن مسلماً. أيضاً: ربما عبر عنه أحياناً بتعبيرات مختلفة، فهو عنده الإيمان، وهو الإسلام، وهو التوحيد، وهو إفراد الله بالعبادة، فمسماه واحد لا يختلف باختلاف الأسماء. أيضاً: اعتبر الكاتب حد الإسلام الذي حده شرطاً في صحة الأعمال وقبولها، فهو سابق على غيره من التكاليف، وغيره لاحق بها، ولا يقبل ولا يصح إلا به، يعني: ما عداه من الأعمال لا تقبل منه إلا بتحقيق هذا الحد. أيضاً: ذهب إلى أن حد الإسلام ذو شقين: تصديق بخبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم جملة وعلى الغيب، والتزام شريعته جملة وعلى الغيب. إذاً: حد الإسلام مركب من ركنين: الجانب الأول: تصديق خبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم جملة وعلى الغيب، والجانب الثاني عملي: التزام شريعة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم جملة وعلى الغيب، وقد يعبر أحياناً عن الشقين بالركنين. يقول في بعض المواضع: لا يقبل ركن من أركان الحج بغير الركن الآخر، فلا يقبل تصديق بغير التزام، ولا التزام بغير تصديق. هذا كلام مجمل في حد الإسلام، وهذا هو المقصود بالإجمال في تعريف حد الإسلام: أنه تصديق خبر رسول الله صلى الله عليه وسلم جملة وعلى الغيب، والتزام شريعته جملة وعلى الغيب، وحينما يسلك مسلك التفصيل ويوضح أكثر فيذهب إلى أن أركان حد الإسلام ثلاثة: الحكم، والولاية، والنسك. وحتى يتحقق حد الإسلام فلا بد أن يكون الحكم لله بلا شريك، والولاية لله بلا شريك. أيضاً: من خصائص فهم الكاتب لحد الإسلام: أنه لا تفاوت ولا تبعيض بين أركانه، يعني: أن هذا الحد لا يتبعض، بمعنى: أنه لا يزيد ولا ينقص، فهذا الحد متلازم في جزئياته لا ينفك بعضه عن البعض الآخر.

    العذر بالجهل في حد الإسلام

    أيضاً ذكر في شرح هذا الحد: أن هذا الحد لا عذر فيه بالجهل، فمن تحقق لديه كان مسلماً، ومن لم يتحقق لديه كان كافراً دون اعتبار لعلم أو جهل.

    هذه بعض الخصائص التي أوردها الباحث مما سماه حد الإسلام، والذي تدور حوله فكرة مؤلفه من البداية إلى النهاية.

    فالمتأمل لهذه الخصائص التي أوردها الباحث في خصائص حد الإسلام، يدرك أن مقصوده: بيان ما يمكن أن نسميه بالحد الأدنى من الدين، والذي يجب تحققه في كل إنسان لكي تثبت له صفة الإسلام ابتداء، والذي يؤدي تخلفه أو تخلف جزء منه إلى تخلف الدين كله، يعني: أقل حد يمكن أن يقبل بحيث يكون الإنسان مسلماً.

    ويمكن أن نتذكر هنا حديث آخر رجل يخرج من النار، ولا شك أن هذا لن يخرج من النار إلا إذا كان موحداً، ومعه الحد الأدنى من الإسلام، فما هو هذا الحد الأدنى؟

    بتعبير آخر: إذا فرضنا أن رجلاً يهودياً أو نصرانياً شهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، هل إذا شهد بهذه الشهادة يحكم له بالإسلام، أم لا يحكم له بالإسلام؟ في ضوء هذا الكلام يتضح الفرق بين الطريقين؛ طريق من يشترط مثل هذه الشروط في حد الإسلام، وطريق القافلة الكبرى من أهل السنة والجماعة في كل العصور في هذه القضية، هنا الباحث يفترض حداً أدنى، هذا الحد يجب أن يكون متماثلاً متساوياً في جميع المؤمنين، هذا الحد لا يتفاوت ولا يتضاعف ولا يزيد ولا ينقص، يرتبط بوجوده استحقاق الإنسان صفة المسلم، ويرتبط تخلفه بتخلفها، وهذا القدر أيضاً لا علاقة له بعلم، ولا بجهل، ولا بحداثة عهد بالإسلام، أو رسوخ قدم فيه، ولا بإقامة دار الإسلام، أو في شعب الجبال، والبوادي المنعزلة.

    يقول المؤلف في تصوير عدم العذر في حد الإسلام: وذلك لأن للإسلام حداً لا توجد صفة الإسلام قبل استيفاء أركانه، وتتخلف بتخلفه، ويتخلف الحد بتخلف أحد أركانه، هذا الحد هو كما قال ابن القيم في طريق الهجرتين: الإسلام هو توحيد الله وعبادته وحده لا شريك له، والإيمان بالله ورسوله، واتباعه فيما جاء به، فما لم يأت العبد بهذا فليس بمسلم، وإن لم يكن كافراً معانداً فهو كافر جاهل، يقول: وهذه القاعدة تنطبق على كل أركان الحد.

    الفرق بين حد الإسلام والإيمان الواجب

    يفرق الباحث بين هذا حد الإسلام وبين ما دونه، فعنده فرق بين حد الإسلام، وبين الإيمان الواجب، عنده الإيمان الواجب يقع فيه تفاوت، ويقبل الازدياد والنقصان. الإيمان الواجب العملي من أداء المفروضات، وترك المحرمات، هذا الجانب العملي من الإيمان بعد ثبوت حد الإسلام، فحد الإسلام إذا اختل ركن من أركانه، أو شيء من أساسيته يحبط كل الإيمان، ولا يستحق الإنسان لفظة المسلم، أما العمل فهو الفرائض، اجتناب المحارم، هذا هو الذي يحصل فيه زيادة ونقصاناً.

    يقول: عندما يكون الإسلام قسيماً للإيمان في الدلالة بمجموعهما على أصل الدين، يكونان متلازمين لا يقبل أحدهما بدون الآخر، وتخلف العمل هنا كفر؛ لأنه لا إيمان يقبل بدون إسلام، وإذا عبر بالإيمان عن مجموعهما فإنه بهذه الحالة لا يتبعض ولا يزيد ولا ينقص، وفي حالة الإيمان الواجب فإن الإيمان يزيد وينقص، وإذا ذهب بعضه بقي بعضه، ومن خرج من الإيمان الواجب بترك الفرائض وارتكاب المحرمات خرج من الإيمان إلى الإسلام، فلم يخرج من الإيمان مطلقاً، ولكن خرج من الإيمان الواجب إلى الإيمان المجمل؛ لأن الإسلام لا بد له من إيمان يصح به، فإذا ذهب العمل بقي التوحيد بشقيه القولي والعملي، ولهذا فإن الإيمان الواجب يتبعض ويستثنى منها، ولا يستثنى في الإسلام ولا الإيمان المجمل بل يقطع به. يعني: لا يجوز أن يقال: إن شاء الله، فهنا الإيمان المجمل لا يتبعض ولا يزيد ولا ينقص، لكن الإيمان الواجب الذي هو أداء الفرائض وترك المحرمات، يرد عليه ذلك كله.

    وقرر أيضاً في موضع آخر: أن الفروع تتبعض وتتساوى، والأصل لا تفاوت ولا تبعيض بين أركانه.

    وفي ضوء هذا الكلام نناقش قضيتين: الأولى:

    هل الإيمان المجمل قابل للتبعيض والتفاوت النقص والزيادة أما لا؟

    ثم: ما هو ذلك الإيمان المجمل؟ وبلغة الكاتب واصطلاحه: ما هو حد الإسلام الذي عقد الكاتب مؤلفه كله لتقريره؟

    نقد كلمة (حد الإسلام)

    هذه التسمية التي أطلقها الكاتب على أصل الدين موضع نظر، بل هي غير صحيحة أصلاً، والسبب في ذلك أن الحد في الاصطلاح هو التعريف، فلابد أن يكون الحد مطابقاً للمحدود، أما أن يعرف الشيء بذكر جزء من أجزائه، أو ركن من أركانه، فذلك غير معهود في باب التعريفات، والكاتب استخدم هذا التعبير -حد الإسلام- لبيان الحد الأدنى من الدين الذي يثبت به عقد الإسلام، والذي يؤدي تخلفه إلى تخلف صفة الإسلام أصلاً، ولا يثبت للإنسان الإسلام، ولا يعرف عند أهل العلم استخدام مثل ذلك في الدلالة على هذا المعنى. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: والنبي صلى الله عليه وسلم سطر الإسلام والإيمان بما أجاب به، كما يجاب عن المحدود بالحد، إذا قيل: ما كذا؟ قيل: كذا وكذا، فسئل مثلاً: (ما الإسلام؟ قال: أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله)، ما الإيمان؟ ما الإحسان؟ سئل مثلاً: (ما الغيبة؟ قال: ذكرك أخاك بما يكره) وقال أيضاً: (الكبر بطر الحق وغمط الناس)، ففي التعريفات يبين المعرف بذكر حقيقته لا بذكر حدوده الدنيا. يعني: ذكرك كل حقيقة الشيء الذي تريد أن تعرفه، ولا تقتصر على ذكر الحد الأدنى منه. عند ذكر كلمة (الحد) فمعنى الحد هو التعريف، كما تدرس في أي علم من العلوم أن تعريف الشيء الفلاني كذا، فالحد يكون جامعاً لكل أركان وأطراف وفروع ما يدخل تحت هذا المصطلح، مانعاً غيره من الدخول فيه، فلا بد أن يكون التعريف جامعاً مانعاً. أما أن يعرف الشيء ويكون تعريف الشيء وتحديده بذكر جزء من أجزائه أو ركن من أركانه، فذلك غير معهود في باب التعريفات، فالكاتب هنا استعمل تعبير (حد الإسلام) ليدل على الحد الأدنى من الإسلام الذي يثبت به عقد الإسلام، والذي إذا تخلف تخلف الدين كله من أساسه. ففي باب التعريفات يبين المعرف بذكر حقيقته لا بذكر حده الأدنى، أو حدوده الدنيا، ولا بذكر واحد من أركانه. نعم، ربما يجاب عن الشيء بذكر أحد أركانه، لكن ليس في مقام التعريف والتحديد، بل في مقام التأكيد على أهمية هذا الركن وتعظيم أمره، مثال ذلك قول النبي عليه الصلاة والسلام: (الحج عرفة)، فهل معنى ذلك أن الركن الوحيد في الحج هو الوقوف بعرفة أم أن هناك أركاناً أخرى للحج لا يصح بدونها؟ فهو هنا يقول: (الحج عرفة)، لبيان أهمية ركنية الوقوف بعرفات في الحج، لكن ليس كل الحج هو عرفة، فحينما نريد أن نضع تعريفاً فلا بد أن نستوفي كل أركان المعرف، وأما في مثل هذا الجواب فالمقصود تعظيم أمر هذا الشيء المذكور، والتنويه بأمره، وبيان أهميته. وأيضاً: هذا التعبير للدلالة على هذا المعنى لم يسبق إليه الكاتب-والله أعلم- ولم نجده في كتب أهل السنة والجماعة في شتى العصور ليدل بحد الإسلام على هذا المعنى الذي هو الحد الأدنى من الإسلام المنجي. وأيضاً: ليس في نصوص أهل العلم التي ساقها في كتابه -وما أكثرها- ما يؤيد استعمال مثل هذا التعبير، فقد أسرف الباحث في استخدام هذا التعبير، وأشاعه في ثنايا كتابه دون أن يؤيد استخدامه لهذا التعبير بنقل واحد عن إمام من أئمة العلم، رغم أن كتابه مكتظ بمئات النقول، وربما ساق النقول الكثيرة لتقرير بعض الأمور البديهية التي لا يحتاج تقريرها إلى عناء شديد.

    مسالك تقرير حد الإسلام عند الكاتب

    نعود إلى الكلام الذي ساقه في مقدمة المسلك الإجمالي ثم التفصيلي في بيان حد الإسلام، فقد سلك مسلكين في تقرير حد الإسلام: أولاً: مسلك الإجمال. ثانياً: مسلك التفصيل. مسلك الإجمال هو أن حد الإسلام ذو شقين أو ركنين: تصديق خبر الرسول صلى الله عليه وآله وسلم جملة وعلى الغيب، والتزام شريعته صلى الله عليه وآله وسلم جملة وعلى الغيب. وذكر في موضع آخر أن هذين الشقين هما حد الإسلام، فقال في بيان العلاقة بين الأصل والفروع: لا يقبل ركن من أركان الحد بغير الركن الآخر، فلا يقبل تصديق بغير التزام، ولا التزام بغير تصديق، فلابد من استيفاء الحد كله لاستحقاق الاسم والصفة، وتخلف ركن من أركان الأصل يتخلف به الأصل، والدين يتخلف بتخلف الأصل، أما الفروع فالغالب فيها أن لا تلازم بينها في الفرائض والواجبات، وإتيان الواجبات وترك المحرمات يمكن أن يتخلف بعضها دون أن تنقض أصل الإسلام بالكلية. هذا فيما يتعلق بمسلكه الإجمالي. أما عن المسلك التفصيلي: فإنه حينما فصّل حد الإسلام وضع له ثلاثة أركان، هي: توحيد الحكم، والولاية، والعبادة أو النسك. فعند حديثه عن أركان توحيد العبادة قرر أنها ثلاثة، فسلك مسلكاً مفصلاً فقال: هي نفي النسك عن غير الله عز وجل، ثم هي قبول شرع الله ونفي ما سواه، وإفراد الله تبارك وتعالى بالولاية. وأراد أن يفصل هذا الأمر فقال: أصل الدين وحد الإسلام سواء علينا سميناه: الإيمان، أو الإسلام، أو التوحيد، أو الدين، أو إفراد الله بالعبادة، فمسماه واحد لا يختلف باختلاف الإسماء. وبالنسبة لهذا المسلك الثاني -وهو مسلك التفصيل لم يقتصر الكاتب هنا على مجرد الاعتقاد المجمل للألوهية، وإنما تجاوز ذلك إلى عمل استقراء لما يندرج تحت توحيد الألوهية من المفردات، وجعل هذه المفردات الثلاثة مرتبطة بما سماه (حد الإسلام) الذي لا تثبت صفة الإسلام قبل استيفائه، والذي لا يعذر فيه أحد بالجهل كائناً من كان، بل من كان عليه كان مسلماً، ومن لم يكن عليه كان كافراً، وإن لم يكن كافراً معانداً فهو كافر جاهل؛ لأنه مما لا يتوقف الحكم به. وتقسيم الناس على أساسه إلى بلاغ أو إعراض، فلم يقتصر في هذا المسلك التفصيلي على الاعتقاد المجمل للألوهية، وإنما تناول ما يندرج تحته من تفاصيل العبادة، فتحت البند الأول في المسلك التفصيلي ذكر نفي النسك عن غير الله عز وجل، وبهذا دخلت تحت هذا البند كافة صور العبادة: من دعاء، واستغاثة، ونذر، وذبح، وتوكل، ورغبة، ورهبة، وخوف، ورجاء، وإنابة ..، وغير ذلك. ودخل تحت البند الثاني -أي: نفي الحكم عن غير الله عز وجل- كل صور تبديل الشرائع، والحكم بغير ما أنزل الله عز وجل. ودخلت تحت البند الثالث -أي: نفي الولاية عن غير الله عز وجل- كافة صور الموالاة لأعداء الله الجلية والخفية بجميع شعبها وأنواعها. فلا تثبت عنده للمرء صفة الإسلام بادئ ذي بدء إلا باستيفاء هذه الأركان: من شهد الشهادتين، واستوفى مثلاً الإقرار والفهم والالتزام بقضية توحيد النسك وتوحيد الولاية، لكن إن كان عنده خلل في بعض أجزاء قضية الحاكمية مثلاً، فهذا لا يقول: إنه ارتد بعد الإسلام، بل يقول إنه لم يدخل أصلاً في الإسلام، ولم يَصر مسلماً بسبب تخلف بعض هذه الأركان، فلا يثبت للمرء صفة الإسلام بادئ ذي بدء إلا باستيفاء هذه الأركان، وتصحيح اعتقاده في كل ما يندرج تحتها من تفصيلات.

    مسلك الكاتب في حد الإسلام المجمل وبيان الحق في ذلك

    نناقش الآن مسلكي الإجمال والتفصيل عند الكاتب ونلاحظ العلاقة بينهما من تخالف أو توافق: فبالنسبة لمسلك الإجمال فهو: أن حد الإسلام أو الإيمان أو التوحيد عبارة عن شقين: تصديق بخبر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم جملة وعلى الغيب، والتزام شريعته صلى الله عليه وسلم جملة وعلى الغيب. ولا ينازع أحد من علماء أهل السنة في أن أصل الدين هو الإقرار المجمل بكل ما صح به الخبر عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم تصديقاً وانقياداً، وأن من لم يكن في قلبه التصديق والانقياد فهو كافر. فهذا أصل الدين الأصيل الذي تعبر عنه كلمة التوحيد: أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فهذه الكلمة تعني الإقرار المجمل، لذلك جاء في الرواية الأخرى: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله ويؤمنوا بي وبما جئت به)، أي: يصدقوا بخبره عليه الصلاة والسلام. فأصل الدين عند أهل السنة هو الإقرار المجمل وليس المفصل، فبمجرد أن يدخل في الإسلام وينخلع من حالته السابقة -من اليهودية أو النصرانية أو غير ذلك من ملل الكفر- فإنه يدخل في دين الإسلام من هذا المنطلق، وهو الشهادة بأن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم، لذلك جعلت الشريعة الشهادتين هما باب الدخول، ونيطت وعلقت بإعلان المرء هاتين الشهادتين عصمة دمه وماله وعرضه؛ لأنهما تتضمنان الالتزام المطلق بالإسلام جملة وعلى الغيب، إذ معنى الشهادتين أنك تصدق الخبر، وتلتزم الشريعة، وتلتزم الحكم. وهنا نذكر قوله صلى الله عليه وآله وسلم ثانية: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، ويؤمنوا بي وبما جئت به، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها، وحسابهم على الله)، فشهادة أن لا إله إلا الله تعني: الإقرار المجمل بالتوحيد، والبراءة المجملة من الشرك؛ لأن فيها نفياً وإثباتاً. فـ(لا إله): براءة من كل ما يعبد من دون الله، و(إلا الله) إثبات استحقاق الله عز وجل وحده بأن يعبد بلا شريك. والشهادة لرسول الله صلى الله عليه وسلم بالرسالة تعني الإقرار المجمل بكل ما جاء به صلى الله عليه وآله وسلم تصديقاً وانقياداً. فلهذا كانت هاتان الشهادتان هما أصل الدين، وكانتا أول واجب على المكلف، وأول ما يدعى إليه الناس من الإسلام، ومعلوم حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه حينما بعثه النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى اليمن فقال: (إنك تأتي قوماً أهل كتاب، فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم). إن ما ساقه المؤلف من أدلة يصدق على كلمة التوحيد لا على ما سماه: حد الإسلام، وهذا هو الذي يتوقف على تحقيقه ثبوت عقد الإسلام، فلا يكون المرء مسلماً إلا باستيفاء هاتين الشهادتين، فالخصائص التي ذكرها الكاتب لتعريفه هي للإسلام أو لحد الإسلام في نظره وأولى بأن تختص بها كلمة الشهادتين: لا إله إلا الله محمد رسول الله. وهذا يتضح بربط الأحاديث مثل: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، ويؤمنوا بي وبما جئت به، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها، وحسابهم على الله)، فهذا الحد هو النطق بالشهادتين باعتبار أنهما تعبران عن الإيمان المجمل الذي يتضمن الالتزام المطلق بشريعة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وهو الحد الذي يتوقف على تحقيقه ثبوت عقد الإسلام، ولا يكون المرء مسلماً إلا باستيفائه، وهذا الحد -وهو الشهادتان- شرط في صحة التوحيد؛ توحيد المعبود، وتوحيد الطريق الموصلة إليه، وأنه لا طريق إليه إلا طريق رسول الله صلى الله عليه وسلم، دون اعتبار لعلم أو جهل. حينما يتحدث البعض عن مسألة الكافر الذي يسمع بأن هناك إسلاماً، وأن هناك نبياً يسمى محمداً عليه الصلاة والسلام، وهناك قرآناً، وهذا اليهودي أو النصراني -أو قل ما شئت- سمع بذلك ولم يؤمن به، فما حكمه؟ الجواب: كافر، ويستحق الخلود في النار إن مات على هذا الكفر. لكن المسلم الذي نطق بالشهادتين، وأتى بشيء من أفعال الكفر جهلاً بأنها كفر، أو أنكر شيئاً من أحاديث الرسول عليه الصلاة والسلام، أو من الأحكام الشرعية جهلاً بأن هذا هو حكم الله، فهل هذا يكفر؟ الجواب: هذا يعذر بجهله؛ لأن الفرق: أن هذا نطق بالشهادتين فصار عنده إيمان وتصديق مجمل، وانقياد مجمل لشريعة الرسول عليه الصلاة والسلام، فإذا كذب بحديث غير متواتر كأن يقول: هذا الحديث لا يثبت من حيث إن الرواة مطعون بهم، فلا يقبل حديثهم، فهذا لا يكفر. فالمقصود: أن ثمة فرقاً بين من نطق بالشهادتين فصار عنده انقياد وإيمان مجمل بما جاء في القرآن أو ثبت في سنة رسول الله عليه الصلاة والسلام، فهو يؤمن به تصديقاً وانقياداً واتباعاً وعلماً، وبين من هو كافر وما زال يستكبر عن أن يقول: لا إله إلا الله، فلا سواء بين من استكبر عن أن يقول: لا إله إلا الله، ومن دخل وأعلن انقياده لشهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فمن لم يقل لا إله إلا الله فلا يعذر بجهله، ما دام أنه سمع عن الإسلام، ومن لم يتحقق لديه هذا المعنى لم يكن مسلماً دون اعتبار لعلم أو لجهل، لماذا؟ لأن هناك إجماعاً بين مختلف الفرق الإسلامية على الشهادة بالكفر على كل من لم يَدِنْ بدين الإسلام، يهودياً كان أو نصرانياً أو مجوسياً أو بوذياً أو غيره، يقول عليه الصلاة والسلام: (والذي نفس محمد بيده! لا يسمع بي رجل من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم لا يؤمن بالذي جئت به إلا دخل النار). فكل من لم يشهد لله بالوحدانية، ولمحمد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالرسالة فهو كافر بلا نزاع، أما ما كان من نزاع في بعض هؤلاء ممن لم تبلغهم النذارة، ومن لم يصلهم البلاغ، فهذا فيما يتعلق بأحكام الآخرة، هل يخلد في النار لأنه كافر، أو يعفى عنه لأنه لم تبلغه الحجة؟ قلنا: إن هذا الالتزام المجمل يصدق عليه أكثر ما أورده الكاتب من الخصائص لما سماه حد الإسلام، فهو سمى حد الإسلام وذكر له خصائص وأكثر هذه الخصائص -لا كلها- تصدق على كلمة التوحيد، لوجود منازعة للكاتب في بعض ما قرره من أن هذا الحد لا يتفاوت ولا يزيد ولا ينقص. فالإيمان المجمل الذي عبر عنه بحد الإسلام عبارة عن تصديق خبر رسول الله صلى الله عليه وسلم جملة وعلى الغيب، والانقياد لشريعته جملة وعلى الغيب، فالتصديق والالتزام هما الركنان، بينما هو يقول: إن هذا الحد غير قابل للزيادة وغير قابل للنقصان، والحقيقة أن الإيمان المجمل بركنيه التصديق والالتزام كل منهما قابل للنقص والزيادة، وهذا أصل عظيم من أصول أهل السنة والجماعة، ولم يخالف في ذلك إلا أهل البدع.

    التفاوت بين درجات التصديق

    سبق الكلام بالتفصيل في قضية زيادة الإيمان ونقصانه، ولكننا سنذكر هنا حقيقة هذا التفاوت من عدة أوجه، فما من شك أن درجات التصديق تختلف قوة وضعفاً تبعاً للتصديق القلبي، أو المجمل في الحقيقة يختلف من حيث القوة والضعف، فالأنبياء أكمل الناس تصديقاً، ويليهم في ذلك أصحابهم وحواريهم الذين تلقوا الهدى على أيديهم، ورأوا بأعينهم من المعجزات والآيات ما لا يبقى معه شك في أن هذا الرسول مؤيد من قبل الله تبارك وتعالى، ثم يليهم بعد ذلك سائر المؤمنين الأمثل فالأمثل، فالقول بتماثل درجات التصديق التي قامت في نفوس هؤلاء ضرب من المكابرة، فما من شك أن ثمة فرق في اليقين والتصديق بين طوائف المؤمنين ابتداء بأعلاهم إيماناً وهو النبي صلى الله عليه وسلم، ثم أصحابه، ثم الأمثل فالأمثل، هذا موسى عليه السلام لما أخبره الله عز وجل بعد أن أخذ ألواح التوراة التي خطها الله له بيده وقال له الله عز وجل: وَمَا أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يَا مُوسَى [طه:83] * قَالَ هُمْ أُوْلاءِ عَلَى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى [طه:84] * قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ [طه:85]، هل حكى الله عن موسى أنه غضب وانفعل الانفعال الذي وصل إلى حد أنه ألقى الألواح؟ كلا. لكن لما عاين ذلك منهم غضب أشد الغضب، ووصل غضبه إلى أنه ألقى الألواح، وأخذ برأس أخيه يجره إليه، هل معنى ذلك: أن موسى عليه السلام كان يشك في خبر الله حينما أخبره أن قومه عبدوا العجل؟ أما أن لهذا تفسير آخر؟ له تفسير آخر، وهو: أن هناك تفاوت في درجات التصديق؛ لأنه ليس المخبر كالمعاين، يقول الله تبارك وتعالى بعدما حكى سورة أصحاب الكهف وهم نائمون فيه: لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا [الكهف:18]، هذا إشارة إلى نفس هذه القاعدة: ليس المخبر كالمعاين، فوصف الله عز وجل حالهم في القرآن، ومع ذلك لم يقع الفرار ولا الرعب الشديد من صورتهم، لكن يخبر الله أنك لو رأيتهم بعينك (( لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا )) لماذا؟ لمالك من انفعال بما تعاينه وتراه يكون أشد بما تسمع به ولم تره، فهذا تفاوت في درجات التصديق.

    انظر إلى قصة إبراهيم عليه السلام: وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي [البقرة:260]، هل كان هذا شك من إبراهيم عليه السلام؟ كلا. وإنما كان ذلك منه ليطمئن قلبه، ويتحول علم اليقين إلى عين اليقين، فما من شك أن التصديق في حد ذاته يتفاوت ويختلف من شخص لآخر.

    أيضاً: من هو ذلك الشخص الذي يجرؤ على أن يزعم أن هناك تماثلاً ومساواة بين تصديق رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الذي عرج به إلى السموات العلا، ورأى من آيات ربه الكبرى، وبين تصديق رجل من عامة المسلمين؟

    إن المؤلف يرى في حد الإسلام: أنه لا يتفاوت أهله فيه، ولا يتفاضلون فيه، ولا يزيد ولا ينقص، هل تصديق الرسول صلى الله عليه وآله وسلم الذي عاين من آيات الله عز وجل في رحلة المعراج، يكون كتصديق رجل أدنى رجل من عوام المسلمين؟ هذا شيء لا يقبل على الإطلاق.

    أيضاً: درجات التصديق تختلف قلة وكثرة بحسب العلم بتفصيل الشرائع والجهل بها، فكلما كان الإنسان أكثر علماً كان أكثر تصديقاً، خصوصاً قضايا الإيمان والعقيدة والتوحيد، ولا شك أن الشخص كلما تعلم أكثر سيصدق بقلبه بأمور أكثر الذي درس الإيمان بالله، وملائكته، وكتبه، ورسله، واليوم الآخر، والقدر، وتعلم أركان هذا الإيمان في كل واحدة من هذه القضايا، فكلما تعلم خبراً جديداً ويعلم بحكم جديد في القدر أو في غير ذلك من أساسيات الإيمان فإن كمية الأشياء التي يصدق بها وكمية التصديق بقلبه تزيد مع زيادة علمه، ويكون تصديقه أكبر وأقوى وأكثر من تصديق ذلك الذي لم يعلم هذه المسائل، فتختلف درجات التصديق في الحقيقة قلة وكثرة بحسب العلم بتفاصيل الشرائع أو الجهل بها، فكلما كان الإنسان أكثر علماً كان أكثر تصديقاً، وكلما قل علمه قل تصديقه، فمن أحاط علماً بعشرات الفرائض لابد أن يكون أكثر تصديقاً ممن كان دونه في ذلك، فالزيادة هنا في هذه الحالة من حيث الكم، ومن حيث العلم بالشرائع زيادة ونقصاناً، وفي الحالة السابقة التي ضربنا لها مثالاً بموسى عليه السلام والألواح هذه من حيث الكيف، انظر كيف تفاوت التصديق كماً وكيفاً حسب زيادة العلم ونقصانه، وحسب قوة هذا التصديق وقوة اليقين.

    أيضاً الالتزام بطاعة الله عز وجل، وسائر أعمال القلوب من المحبة والخشية والرجاء تتفاوت من شخص إلى آخر تفاوتاً عظيماً، وهذا معروف مشاهد ومحسوس ولا ينكره إلا معاند.

    لكن إن قال قائل: إن الحد الأدنى من التصديق والالتزام الذي يصح به عقد الإسلام لابد أن يتماثل في الناس جميعاً، فهو من ناحية الحد الأدنى يتماثل لا يتبعض ولا يتفاوت ولا يزيد ولا ينقص. يكون الجواب: أن هذا القدر لا يمكن ضبطه، ولا يتصور وجوده إلا في مجال الظاهر، بحيث يمكن أن يقال: إن الواجب على الناس جميعاً أن يعلنوا التزامهم المجمل بالإسلام، يعني: هذا الافتراض يكون فقط في الظاهر، أما في أحوال الباطن فلا سبيل إلى الاطلاع على هذا.

    فإن قيل: إن الحد الأدنى من التصديق والالتزام الذي يصح به عقد الإسلام لا بد أن يتماثل في الناس جميعاً، فهو من هذه الناحية يتماثل ولا يتضاعف ولا يتفاوت ولا يزيد ولا ينقص، فالجواب: أن هذا القدر لا يمكن ضبطه ولا يتصور وجوده إلا في مجال الظاهر، بحيث يمكن أن يقال: إن الواجب على الناس جميعاً أن يعلنوا التزامهم المجمل بالإسلام تصديقاً وانقياداً، وبراءتهم من كل دين يخالفه، وأن ذلك تعبر عنه كلمة الشهادتين، فهذا كله يتمثل في الشهادة لله عز وجل بالوحدانية، ولرسوله محمد صلى الله عليه وآله وسلم بالرسالة، فهذا الإعلان الظاهري هو الذي يتماثل عند الناس جميعاً في هذه الناحية، ففي الظاهر الناس يتفاوتون في ذلك تفاوتاً عظيماً، بل يتفاوت الشخص نفسه من حالة إلى أخرى، ويتفاوت تصديقه ويزيد إيمانه وينقص ويقوى يقينه ويضعف وهكذا .. هذا من حيث حقيقة ما في القلب، ولا يمكن تصور حد أدنى متماثلاً عند كافة الناس؛ لأن إيمان كل إنسان يخصه والزيادة والنقصان تكون بحسب حالته هو لا بحسب حد أدنى مشترك يمثل مقياساً خارجياً للزيادة والنقصان، إذاً ما هو هذا الحد الأدنى؟ هو النطق بكلمتي الشهادة.

    فهذه الماهية المجردة لا وجود لها في الأذهان ولا حقيقة لها في الخارج، فلا نستطيع أن نتصور ماهية مجردة للإيمان متماثلة في سائر المؤمنين، لا تتفاوت ولا تزيد ولا تنقص، بل لكل إنسان إيمان يخصه، هذا الإيمان قابل للزيادة والنقصان في كل وقت بالنسبة لمستوى الإيمان وحاله وقت وقوع كل منهما، لا بالنسبة لمستوى ثابت محدد موجود لدى كافة المؤمنين في جميع الأوقات، مثلاً إذا سئل رجل كم مال زيد؟ فأجاب وقال: يزيد وينقص، هل يستنتج السائل من هذا الجواب: أن لمال زيد مقدار محدود يزيد عنه مرة، وينقص عنه أخرى، مع ثبات هذا المقدار في الوجود، بل الزيادة والنقصان إنما تكون بالنسبة إلى المال الموجود وقت وقوعها.

    بيان المسلك التفصيلي في حد الإسلام

    سبق أن الباحث في تحريره لقضية حد الإسلام -على حسب تعبيره- سلك مسلكين: مسلك الإجمال، ومسلك التفصيل، الكلام الماضي كان فيما يتعلق بمسلك الإجمال، وذكرنا بالنسبة لمسلك الإجمال موقف أهل السنة وما هو معروف في عقيدتهم، وأن الخصائص التي ذكرها لحد الإسلام كان أولى بمعظمها كلمتا التوحيد، وإنما قلنا: إن معظم هذه الخصائص وليس كلها؛ لأن هناك ملاحظة في دعواه: أن هذا الحد لا يزيد ولا ينقص، بل يتماثل فيه الناس أجمعون، وبيان أن هذا غير صحيح.

    السؤال الآن: هل يمكن للكاتب أن ينحو مسلكه الأول منحى التفصيل؟ وهل يمكن أن يكون قد قصد فعلاً إلى ذلك؟ لا بد أن نبين المقصود بذلك؛ لأن الحكم على الشيء فرع عن تصوره.

    المقصود: هل يمكن أن يذهب الباحث إلى أن أصل الدين هو التصديق والالتزام بما جاء به النبي صلى الله عليه وآله وسلم على جهة التفصيل المطلق؟ أي: الإقرار التفصيلي بكل ما ثبت بالوحي المعصوم خبراً خبراً وتكليفاً تكليفاً، ثم يكون هذا الإقرار والالتزام هو أصل الدين الذي يثبت به جميع ما أثبته الكاتب لأصل الدين من الخصائص، فلا تثبت صفة الإسلام إلا باستيفائه، ولا يعذر فيه أحد بجهل، ويكون سابق على غيره من التكاليف، فلا يصح عمل ولا يقبل إلا به، ولا يقبل التبعض ولا الزيادة ولا النقص، الظاهر أنه لا يريد ولا يقصد هذا المعنى؛ لأنه صرح في بعض المواضع فقال: إن الجهل بفريضة الصلاة إن كان له وجه كحال من لم تبلغه فريضتها في دار الحرب عذر يسقط التكليف بها، ويستحق به صاحبه عفو الله عنه، وهذا داخل في أحد شقي التعريف، الذي هو الانقياد لشريعة النبي صلى الله عليه وسلم جملة وعلى الغيب، وصرح في موضع آخر فقال: إن الجهل بحكم الله في مسألة من المسائل يصلح عذراً لمن ارتضى في هذه المسألة حكماً غير حكم الله، ظناً منه أن هذا هو حكم الله، فهذا مثل المجتهد المخطئ، يجتهد ويتحرى أن يصل إلى حكم إلهي، يبذل غاية وسعه وجهده ليصل إلى حكم الله، إن أصاب له أجران، وإن أخطأ فله أجر، وخطؤه مغفور له، فمن جهل بحكم الله في مسألة من المسائل فهذا معذور إذا قبل حكماً غير حكم الله ظناً أن هذا هو حكم الله.

    أيضاً صرح في موضع ثالث بأن جهل الجارية التي زنت بدرهمين يصلح عذراً لها يسقط الحد ويرفع المؤاخذة، هذه الجارية التي أتت بالفاحشة وأتي بها إلى أحد الخلفاء الأربعة الراشدين ولعله علي ؛ فسألوها فاعترفت وتكلمت بنوع من العفوية والبساطة، فقال الحاضرين: يا أمير المؤمنين! كأنها لا تعلمه، أي: أنه لاحظ طريقتها في الكلام والاعتراف كأنها لا تعرف أن هذا الفعل يستوجب حداً، فاستسهلت به وصرحت وكان ظاهر حالها أنها لا تعلم، فلما تبين ذلك منها عذرت بذلك؛ لأنها تجهل أن هذا يستوجب الحد، فهنا أيضاً أيد هذا الحكم، وأن الجهل بهذا الحد يسقط الحد ويرفع المؤاخذة.

    منهج الكاتب في هذا الأمر قائم على التفريق بين أصل الدين وفروعه، وعنده اعتبار: أن الفروع تقبل التبعيض، ولا يتشرط فيها التلازم.

    نزيد الأمر وضوحاً فنقول: إن اعتبار الإيمان على جهة التفصيل بكل ما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أصل للدين يتوقف على استيفائه بادئ ذي بدء ثبوت عقد الإسلام، وتثبت له جميع ما أثبته أهل العلم من أصل الدين من الخصائص أمر لا يمكن أن يستقيم لأي إنسان عاقل، فلم يقل أحد من السابقين ولا اللاحقين، لا من أهل السنة ولا من أهل البدع بتوقف ثبوت صفة الإسلام على الإحاطة بجميع الأخبار، وجميع التكاليف الشرعية على وجه الاستقصاء والتفصيل، ثم إعلان الإقرار بها والانقياد لها خبراً خبراً وأمراً أمراً يكفي مجرد تصوره للحكم بفساده، هذه نقطة متفق عليها: أنه لا أحد يقصد أبداً بالتصديق المجمل عن نية الشخص الذي يريد الإسلام، ونذكر له جميع أخبار الرسول عليه الصلاة والسلام، وجميع التكاليف الشرعية واحداً واحداً، ثم بعد ذلك يقر بها ويعلن انقياده لها خبراً خبراً وأمراً أمراً، وأنه إن لم يفعل ذلك لا يكون مسلماً، فهذا لم يقل به أحد على الإطلاق.

    أيضاً لم يقل أحد من أهل القبلة: إن الجهل بأي أمر من الأمور الشرعية الذي يعلم بضرورة الحال أنه جاهل به، وما دام الإنسان جاهلاً بشيء فهو لا يعتقد، فلم يقل أحد أن هذا الجهل ببعض أصول الدين بالتالي لا يعتقد فيه، يؤدي إلى انخرام أصل الدين والخروج عن ملة الإسلام، بل عدم الدخول فيها من البداية، مجرد تصور هذه النتيجة كاف للقطع بفساد ما أدى إليها.

    يعني: لو أن رجلاً شهد شهادة التوحيد، وجهل بأمر من الأمور الشرعية، وبالتالي ما دام هو جاهل لا يعتقد فيه، فلم يقل أحد: إن جهل هذا الرجل مع نطقه بالشهادتين، ونطقه بهذه المسألة لم يدخل أصلاً في الإسلام، وإنما هو باق على كفره الأصلي، هذا أيضاً فساده يعلم، أيضاً لم يعرف في تاريخ الإسلام أن أحداً أرجئ الحكم بإسلامه حتى تعرض عليه كافة شرائع الدين، وكافة أخباره وزواجره ووعده ووعيده ليأخذ قراره التفصيلي بذلك كله، ثم يثبت له عقد الإسلام بعد ذلك، بل كان الدعاة ولا يزالون من السلف والخلف يقبلون من الناس الإقرار العام والالتزام العام، ثم يعلمونهم بعد ذلك شرائع الدين على مكث.

    المقصود: أنه لا بد أن نفهم المسلك الإجمالي للكاتب أنه لا يقصد بكلمة جملة وعلى الغيب الإقرار بكل الأخبار وبالانقياد بكل التكاليف، بل يقصد بذلك الإقرار الإجمالي وليس التفصيلي، يعني: هنا لا نقول: إن الكاتب قال هذا الكلام، لكن نقول: هل هو يقصد بقوله: إن حد الإسلام هو: الإقرار بخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم جملة وعلى الغيب، والانقياد لشريعته صلى الله عليه وسلم جملة وعلى الغيب .. هل المقصود: أن تأتي بجميع أخبار الرسول عليه الصلاة والسلام كلها، والتكاليف كلها ثم بعد ذلك يقر بها؟ لابد على ضوء ما بينا أن نؤكد أن الكاتب عندما قرر أن أصل الدين أو حد الإسلام هو تصديق خبر الرسول جملة وعلى الغيب، والالتزام بشريعته جملة وعلى الغيب، لا بد أنه كان يقصد الإجمال حقيقة، وما كان له أن يقصد سوى ذلك، لا سيما وقد قرر لأصل الدين ما قرر من الخصائص، هذه الخصائص الخطيرة لابد معها أنه كان يقصد حقيقة الإجمال، وليس تفاصيله، فأصل الدين كما قرر الباحث هو القبول المجمل لكل ما جاء به النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وليس هو القبول على وجه التفصيل لكافة الأخبار والتكاليف؛ لأن هذا الأخير مما لا يتوقف على استيفائه من البداية ثبوت عقد الإسلام، ولا يعتبر شرطاً في صحة أو قبول الأعمال، ولا يقال: إنه لا عذر فيه بالجهل؛ لأن الإقرار التفصيلي يتضمن فيما يتضمن الفروع، وهو هو يعذر في الفروع بالجهل كالأمثلة التي ذكرناها، فيلزم من ذلك أنه لا يقال: إن هذا الأمر لا يقبل الزيادة ولا النقصان؛ لأن تفاوت الناس في معرفة هذه التفاصيل والإقرار بها معروف بالحس والبداهة، وشتان بين العامة في ذلك وبين العلماء.

    على أي الأحوال: الأمر يحتاج لمزيد من التبسيط، ولكن القضية بإذن الله كلما مضى وقت أكثر وسبرنا أغوار البحث أكثر ستزداد إيضاحاً.

    أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718663

    عدد مرات الحفظ

    755949088