إسلام ويب

الإحياءللشيخ : محمد إسماعيل المقدم

  •  التفريغ النصي الكامل
  • أبو حامد الغزالي رحمه الله إمام بحر، وعالم متمكن له مكانته، يعد من أذكياء العالم، وأعاجيب الزمان، نال شهرة عظيمة حتى لقب بحجة الإسلام، وهو بشر كغيره يصيب ويخطئ، وقد أوغل في التصوف فخرج عن الحقيقة، وخرج في أكثر أحواله عن الطريقة، وجاء بألفاظ لا تطاق، ومعان ليس لها مع الشريعة انتظام ولا اتفاق، ومن ذلك ما جاء في كتابه إحياء علوم الدين، الذي نال شهرة واسعة، واهتماماً كبيراً من العلماء، وهو بحق يعد دستور التصوف، ففيه من الانحرافات والشطحات ما ينبغي أن يوقف عندها، وأن تبين ويحذر منها.

    1.   

    ضمان الرزق من الله تعالى لعباده

    الحمد لله الذي أنار الحق وأبانه، وهدم الباطل وأزاله، والصلاة والسلام على رسوله محمد خير عابد وقانت، القائل: (لقد تركتكم على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك) اللهم صل على محمد وآل محمد كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد، اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد.

    أما بعد:

    فعن جابر رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لو أن ابن آدم هرب من رزقه كما يهرب من الموت لأدركه رزقه كما يدركه الموت)، هذا الحديث رواه أبو نعيم في الحلية بسنده عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما وغيره، وحسنه الألباني .

    يقول المناوي رحمه الله تعالى في فيض القدير: قوله صلى الله عليه وسلم: (لو أن ابن آدم هرب من رزقه كما يهرب من الموت لأدركه رزقه كما يدركه الموت)؛ لأن الله تعالى ضمنه له، وكما أن الله سبحانه وتعالى لا راد لقضائه إذا حضر الأجل ونفذ العمر، كذلك لا راد لرزقه، فإن رزق الله لا يرده كراهية كاره ولا يجره حرص حريص، ولكن سبق علم الله سبحانه وتعالى وقضاؤه وقدره بما كتب لكل نفس، سواء من الطعام أو من الشراب أو من النفس ، ومن كل ما يرزقه الله سبحانه وتعالى.

    وقد ضمن الله عز وجل هذا الرزق لعباده فقال سبحانه وتعالى: وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا [هود:6]، ونحن نرى كيف يطمئن الناس إذا ضمنت لهم البنوك الأموال، وإذا حازوا الشيكات، وإذا رصدت لهم الأرصدة والضمانات الكافية، فيثقون بهذه الضمانات من لدن المخلوقين، وقد جاء هذا الضمان من الله سبحانه وتعالى فقال عز وجل: وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا [هود:6]، وهذا من صيغ العموم، خاصة إذا دخلت عليها (من) (وما من دابة).

    ثم لم يكتف الله سبحانه وتعالى بهذا الضمان الوارد في قوله: (إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا) حتى أقسم فقال سبحانه وتعالى: وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ * فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ [الذاريات:22-23].

    ضرورة الأخذ بالأسباب في طلب الرزق

    ثم لم يكتف سبحانه وتعالى بهذا القسم حتى أمر بالتوكل وأبلغ وأنذر فقال عز وجل: وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ [الفرقان:58]؛ فإن ضمان الرزق لا يعني ترك الأسباب التي ربطها الله سبحانه وتعالى بالنتائج، فإن الرزق مضمون، وقد سبقت كتابة الأرزاق، ولكن مع ذلك قال صلى الله عليه وسلم: (احرص على ما ينفعك).

    وقد علمتنا سيرة الأنبياء عليهم وعلى نبينا الصلاة والسلام الأخذ بالأسباب، وكذلك سير الصالحين، فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم لما هاجر إلى المدينة أخذ بالأسباب وعمل بها؛ حتى يعمي الخبر على كفار قريش، وهذه مريم عليها السلام تؤمر بالأخذ بالأسباب مع ضمان الرزق: وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا [مريم:25]، وموسى عليه السلام أخذ بالأسباب حينما فر من فرعون وخرج من المدينة خائفاً يترقب.

    يقول صلى الله عليه وسلم: (احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجز)، فلابد من الحرص على ما ينفع، سواء في الدين أو في الدنيا، وهذا لا ينافي أن الرزق مضمون؛ لأن الرزق وكل الأعمال قد سبق قضاؤها من عند الله سبحانه وتعالى، ومع ذلك لابد من الأخذ بالأسباب، فإن لم يطمئن العبد بضمان الله سبحانه وتعالى، ولم يقنع بقسمه عز وجل، ولم يبال بأمره ووعده ووعيده؛ فهو من الهالكين.

    قال الحسن رضي الله عنه: لعن الله أقواماً أقسم لهم ربهم فلم يصدقوه.

    وقال هرم بن حيان لـابن ادهم : أين تأمرني أن أقيم؟ قال: فأومأ بيده إلى الشام، قال: وكيف المعيشة فيها؟ فقال له: أف لهذه القلوب، لقد خالطها الشك فما تنفعها الموعظة.

    المقصود: أن يكون الإنسان على ثقة بما في يد الله سبحانه وتعالى، ويكون أوثق بهذا منه بما في يده هو، فإن ما عند الله سبحانه وتعالى لا ينفد، وإنما يعطي العبد بمقدار ما يصلحه: (لو أن ابن آدم هرب من رزقه كما يهرب من الموت، لأدركه رزقه كما يدركه الموت)، ولذلك لا يحل للإنسان أن يبحث عن الرزق فيما حرم الله سبحانه وتعالى عليه، فإن ما عند الله لا يطلب بمعاصي الله، وإنما يطلب بطاعة الله وما أحله سبحانه وتعالى.

    1.   

    بحث قيم يدرس كتاب إحياء علوم الدين

    ما يتعلق بكتاب: إحياء علوم الدين، يعتبر من القضايا المهمة التي سبق أن وعدنا بالكلام المفصل فيها، ثم يسر الله سبحانه وتعالى كتاباً قيماً بعنوان: أبو حامد الغزالي والتصوف، دراسة حول العديد من كتب الغزالي وخاصة كتابه: إحياء علوم الدين للأخ الشيخ عبد الرحمن دمشقية ، والكتاب غير متوفر مع أهميته، وهو عبارة عن دراسة نقدية للفكر الصوفي، وقد تكلم عن مرجع يعد بحق دستور التصوف الذي يعتمد عليه الصوفية اعتماداً أساسياً حتى يومنا هذا، والدراسة النقدية أيضاً في إمام من أئمة التصوف، وعلم من أعلامه، فالإمام الغزالي رحمه الله تعالى يعتبر محطة رئيسية في قضية التصوف، لابد أن ينزل عليها ويردها كل من نسب إلى طريق التصوف.

    1.   

    قاعدة مهمة قبل الكلام عن الغزالي وكتابه

    لكن قبل أن نشرع في دراسة فكر الإمام أبي حامد الغزالي كعلم من أعلام التصوف ومحطة رئيسية من محطاته، هناك قاعدة ينبغي أن تكون محل اتفاق قبل الشروع في المقصود، هذه القاعدة: هي أن تخطئة غير المعصوم أهون من نسبة الباطل إلى المعصوم، بمعنى: تخطئة الشخص غير المعصوم أهون من أن ننسب الباطل والخطأ إلى المعصوم وهو الشريعة المطهرة، فالمعصوم هو كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، اللذان هما بحق حجة الإسلام على كل أحد، والكتاب والسنة هما المرشد من الضلال، وهما القسطاس المستقيم، وهما ميزان العمل، وهما منهاج العاملين والعارفين.

    إن التساهل في هذه القاعدة تحت أي ضغط أو إرهاب فكري، يعيد فتح باب التحريف والتبديل في دين الله على مصراعيه، والتحريف والتبديل أخطر على الإسلام من وصف كبار الشخصيات بالخطأ.

    إن الإسلام لا يعطي العصمة لأحد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكننا معشر المسلمين في الواقع نعطي هذه العصمة للرجال، ويعز علينا أن نرى الشخصية الكبيرة التي نحبها ونجلها تخطئ، كما أننا عملياً لا نتعامل مع هذه الشخصيات الكبيرة إلا على أساس التسليم لهم بكل شيء أو رفض كل شيء.

    لقد تحول هذا الأسلوب إلى منهج مقرر، يتحدى القواعد الإسلامية الراسخة التي يحفظها كل الناس، مثل قول مالك بن أنس: ليس أحد بعد النبي صلى الله عليه وسلم إلا ويؤخذ من قوله ويترك إلا النبي صلى الله عليه وآله وسلم.

    وهذا الكلام في الأصل مروي عن الحبر البحر ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وأخذه عن ابن عباس مجاهد والحكم بن عتيبة ، وعنهما أخذه الإمام مالك رحمه الله تعالى، ثم اشتهر عن الإمام مالك رحمه الله تعالى، ثم أخذه الإمام أحمد رحمه الله عن الإمام مالك رحمهم الله تعالى أجمعين.

    إذاً: التنازل عن القاعدة التي ذكرنا آنفاً يعد تنكراً لهذه الأصول التي أسسها السلف الصالح، مثل قول ابن عباس رضي الله عنهما المذكور.

    ومثل قول الإمام أبي حنيفة رحمه الله تعالى: إذا قلت قولاً يخالف كتاب الله تعالى وخبر الرسول صلى الله عليه وسلم فاتركوا قولي.

    وقول الإمام مالك رحمه الله تعالى: إنما أنا بشر أخطئ وأصيب، فانظروا في رأيي، فكل ما وافق الكتاب والسنة فخذوه، وكل ما لم يوافق الكتاب والسنة فاتركوه.

    وقول الإمام الشافعي رحمه الله تعالى: ما من أحد إلا وتذهب عليه سنة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتعزب عنه، فمهما قلت من قول أو أبطلت من أصل فيه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم خلاف ما قلت، فالقول ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو قولي.

    وقول الشافعي أيضاً رحمه الله تعالى: كل مسألة صح فيها الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم عند أهل النقل بخلاف ما قلت، فأنا راجع عنها في حياتي وبعد موتي.

    وقول الإمام أحمد رحمه الله تعالى: لا تقلدني، ولا تقلد مالكاً ولا الشافعي ولا الأوزاعي ولا الثوري ، وخذ من حيث أخذوا.

    إن تذوق العلم وحده هو الذي يستطيع أن يعودنا الاحترام الواجب لأهل العلم، بحيث نصل معه إلى درجة نقدر فيها العلم الذي عندهم، ونغفر لهم الخطأ الذي وقعوا فيه دون أن يصير خطؤهم غلاً في أعناقنا، نأخذ ما أصابوا فيه ونتجنب ما أخطئوا فيه، دون أن نجعل خطأهم انتقاصاً لهم، ودون أن نجعل صوابهم عصمة مطلقة لهم، فهذا الأمر هو الذي ينزه الاحترام الواجب لأهل العلم عن أن يتحول إلى نوع من التقديس والغلو والتعصب.

    فليس الهدف إذاً تجريح شخصيات أو تقليصها، وإنما الهدف اتخاذ موقف سديد بين الحق وبين الرجل، وأن يبقى الحق حقاً والرجل رجلاً؛ لأن الحق حق فقط، ولكن الرجل غير المعصوم يمكن أن يكون محقاً، ويمكن أن يكون مبطلاً، وبينهما درجات كثيرة، ولهذا يقال: لا تعرف الحق بالرجال، ولكن اعرف الحق تعرف أهله.

    1.   

    أبو حامد الغزالي ومكانته العلمية

    نحن الآن سندرس فكر أبي حامد الغزالي وكتبه، خاصة كتاب الإحياء، الذي هو بحق -كما ذكرنا- دستور التصوف، وكلاهما -الكتاب والمؤلف- ملآ أسماع الدنيا، وشغل الناس كثيراً، فـأبو حامد الغزالي إمام بحر وعالم له مكانته، يعد من أذكياء العالم وأعاجيب الزمان، نال شهرة عظيمة، حتى لقب بحجة الإسلام.

    هذه المكانة الرفيعة إلى جانب نبوغه وعبقريته وعلو همته، ليست محل منازعة بين الموافقين والمخالفين له على السواء، ولقد اجتمع في أبي حامد رحمه الله تعالى الذكاء الخارق، والعاطفة الجياشة، حتى كأنك إذ تطالع كتاباته تتعامل مع كائن حي، تحس فيه الحرارة المتقدة والوجدان الصادق، وتتنسم من خلال السطور عبير الإخلاص الذي كان همه.

    لقد كان الإخلاص هم أبي حامد رحمه الله تعالى، حتى قال فيه الحافظ شمس الدين الذهبي رحمه الله تعالى: لولا أن أبا حامد رحمه الله من الأذكياء وخيار المخلصين لتلف.

    وحتى إن رجلاً يقول للإمام أبي حامد رحمه الله وهو في سياق الموت: أوصني، فيقول له: عليك بالإخلاص، عليك بالإخلاص .. فلم يزل يكررها حتى فارق الحياة رحمه الله تعالى، ومع ذلك فإن أبا حامد كان من البشر، وواحداً من ولد آدم الذين قال فيهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (كل بني آدم خطاء وخير الخطائين التوابون)، يقول تلميذه القاضي أبو بكر بن العربي رحمه الله تعالى، وقد التقى به هنا في الإسكندرية: كان أبو حامد تاجاً في هامة الليالي، وعقداً في لبة المعالي، حتى أوغل في التصوف، وأكثر معهم التصرف، فخرج عن الحقيقة، وخرج في أكثر أحواله عن الطريقة، وجاء بألفاظ لا تطاق، ومعان ليس لها مع الشريعة انتظام ولا اتفاق، فكان علماء بغداد يقولون: لقد أصابت الإسلام فيه عين.

    1.   

    المآخذ على أبي حامد الغزالي

    قلة علمه بالحديث

    المأخذ الأول على أبي حامد رحمه الله تعالى: قلة علمه بالحديث.

    ونحن ندرس سيرة الإمام أبي حامد حتى نأخذ العبرة والعظة؛ فإن طريق النجاة والفرقة الناجية أخص خصائصها التمسك بالكتاب والسنة، ولا يصح التمسك بالكتاب والسنة إلا بمعرفة سنن النبي صلى الله عليه وسلم وأحاديثه، فمن ليس بعالم بالحديث لا يكون عالماً قط، يقول الإمام أبو حامد عن نفسه: بضاعتي في علم الحديث مزجاة.

    وقد أثر قلة بضاعة الإمام الغزالي في علم الحديث في مذاهبه الفكرية وتصرفاته الفلسفية والكلامية كما سيأتي بالتفصيل.

    وننبه إلى هذا لأن العاصم من الوقوع في هذه المخاطر هو التمسك بسنة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، يقول الحافظ الذهبي رحمه الله تعالى: ولم يكن له علم بالآثار، ولا خبرة بالسنن النبوية القاضية على العقل. ومن ثم قال الإمام أبو بكر الطرطوشي رحمه الله تعالى: شحن أبو حامد الإحياء بالكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا أعلم كتاباً على بسيط الأرض أكثر كذباً منه، يعني: لا يوجد كتاب مشحون بالكذب على رسول الله -يقصد بذلك الأحاديث الموضوعة والضعيفة- أكثر من كتاب الإحياء.

    فنقول كما قال بعض العلماء: إنه كتبها كما اقتراها لا أنه افتراها، فليس المقصود أن أبا حامد هو الذي وضع هذه الأحاديث، معاذ الله وحاشاه من ذلك، لكنه أثبتها كما قرأها لا أنه افتراها.

    هذا هو المأخذ الأول الذي سوف نلاحظه من سيرة هذا الإمام.

    شكه وحيرته واضطرابه بين مذاهب الفلاسفة والصوفية

    المأخذ الثاني: شكه وحيرته واضطرابه بين مذاهب الفلاسفة والصوفية.

    فقد كان أبو حامد رحمه الله يعظم المنطق، رغم بعض النقد الذي وجهه إليه، واستطاع أن يدخله في علوم الإسلام؛ بل جعل تعلمه فرض كفاية على المسلمين.

    وفي النبوة اقتفى الغزالي أثر الفلاسفة بعامة وابن سينا بخاصة، وتلمح في أبي حامد شخصية فيها ذكاء ونبوغ لا ريب فيهما، وفيها رغبة في معارضة الغزو الثقافي الدخيل على المسلمين، كما ظهر ذلك جلياً في كتابيه العظيمين: تهافت الفلاسفة، وفضائح الباطنية، وتراه مع ذلك في أكثر كتبه تابعاً للفلسفة اليونانية والتصوف الهندي الشرقي، رغم أنه أراد أن يهدم هذه المذاهب، إلا أنه لم يسلم من دخنها، ووقع في بعض مؤاخذاتها، حتى قال فيه تلميذه القاضي أبو بكر بن العربي رحمه الله تعالى: شيخنا أبو حامد بلع الفلاسفة وأراد أن يتقيأهم فما استطاع.

    وهذا يذكرنا بنصيحة شيخ الإسلام ابن تيمية : أن الإنسان لا يفني عمره في تتبع الفرق الضالة والانحرافات الفكرية .. لأن القلب لابد أن يتصرف وأن يتوه ويعلق به كثير من مفاسد هذه الضلالات، يقول: وإلا كان قلبك مثل الإسفنجة، فإن الإسفنجة كلما ألقيت إليها قطرة تتشربها وتتشبع بها حتى تمتلئ بالشبهات، فلذلك يقول الإمام أبو بكر بن العربي في شيخه: شيخنا أبو حامد بلع الفلاسفة ثم أراد أن يتقيأهم فما استطاع. وفي مكان آخر: شيخنا أبو حامد دخل في بطن الفلاسفة فأراد أن يخرج فما استطاع.

    وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: ولما وقع في المضنون به على غير أهله وغيره من كتبه -أي: الشيخ أبو حامد - ما هو من جنس كلام الفلاسفة في الشفاعة وفي النبوة وغير ذلك، اشتد نكير علماء الإسلام على أبي حامد لهذا الكلام، وتكلموا في أبو حامد وأمثاله بكلام معروف.

    وممن انتقد أبا حامد وتكلم فيه أصحاب أبي المعالي كـ أبي الحسن المرغياني وغيره، وأهل بيت القشيري وأتباعه، والشيخ أبو البيان ، وأبو الحسن بن سكر ، وأبو عمرو بن الصلاح ، وأبو زكريا النووي ، وأبو بكر الطرطوسي ، وأبو عبد الله المنذري ، وابن حمدين القرطبي ، وأبو بكر بن العربي تلميذه، وأبو الوفاء بن عقيل ، وكان من أشد الناس على أبي حامد أبو الفرج بن الجوزي ، وأبو محمد المقدسي ، والخرزي وغيره من أصحاب أبي حنيفة .

    إذاً: حينما نتكلم في دراسة نقدية لفكر الغزالي ولكتابه إحياء علوم الدين خاصة، نقول: لسنا أول من قرع هذا الباب من أولي الألباب؛ بل لنا سلف قاموا على شرف المناضلة والذب عن الشريعة الغراء، مع احترامهم وحبهم للإمام الغزالي ، وحسن ظنهم به رحمه الله تعالى.

    حصره لاحتمالات النجاة في مذاهب الفلاسفة والمتكلمين والباطنية والصوفية

    المأخذ الثالث: أن الإمام أبا حامد حصر احتمالات وجود طريق النجاة في دوائر الفلاسفة والمتكلمين والباطنية والمتصوفة: أراد أن يبحث عن الحق فقال: إن الحق لا يخرج عن هذه الطوائف الأربع: الفلاسفة والمتكلمين والباطنية والصوفية، وهذا بعد الدراسة المستفيضة التي أنفق فيها كماً كبيراً من عمره رحمه الله، فخلص بعد دراسة هذه الاتجاهات والتنقل بينها إلى أن المنقذ من الضلال هو التصوف، وقد أخطأ الإمام رحمه الله تعالى خطأً فادحاً حين أغفل منهج أهل السنة والجماعة، منهج أصحاب الحديث وأهل العلم والفقه والأثر، الذين هم بحق الفرقة الناجية والطائفة المنصورة إلى قيام الساعة، مصداقاً لقوله صلى الله عليه وسلم: (لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خالفهم ولا من خذلهم حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك)، وقد ذكر العلماء أنهم أصحاب الحديث أو أهل العلم والفقه والأثر. فإذا قلنا: نوافق الإمام الغزالي رحمه الله تعالى فيما أخذه على الباطنية والفلاسفة والمتكلمين.. وإذا كان هو قد أصاب في الأمور التي أخذها عليهم، فلا يلزم من هذا أن يكون الإمام أبو حامد مصيباً في اعتباره التصوف طريق النجاة، بل إن التصوف ذاته في حاجة إلى من يحاكمه، ويزنه بميزان الكتاب والسنة اللذين هما بحق حجة الإسلام، ليكشف مظاهر مخالفته لدين الله سبحانه وتعالى. فالتصوف بمعناه المعروف الآن يخالف دين الله عز وجل في مصادر التلقي، فهناك فرق بين مصادر التلقي عند أهل السنة والجماعة أهل الاستقامة، والصوفية المبتدعين، ونحن نخالفهم في تقسيم الدين إلى شريعة وحقيقة، ونخالفهم في تبني معظم المفاهيم الكنسية الرهبانية، ومصادمة بعض مقاصد الشريعة كالترغيب في العزوبة، والترهيب من النكاح، بجانب انحراف الصوفية في تصوراتهم؛ ونخالفهم في الإلهيات والنبوة والولاية، واعتقادهم اختصاص الخواص بأسرار دينية لا يطلع عليها غيرهم, وتقديم المكاشفات والإلهامات والمنامات المزعومة على الأدلة المعصومة، وشيوع استدلالهم بالأحاديث والآثار الواهية والموضوعة .. إلى آخر مظاهر انحرافهم عن الجادة، فضلاً عن بدعهم الشنيعة التي أفاض في ذكرها الإمام أبو الفرج ابن الجوزي رحمه الله تعالى في تلبيس إبليس، أو: نقد العلم والعلماء -الكتاب له اسمان- وغيره من الأئمة الأعلام. ومن ثم يمكننا بعد الدراسة المستفيضة لأحوال الصوفية ومخالفتهم للكتاب والسنة أن نخلص إلى القول بأن الصوفية فئة غارقة في البدع بأنواعها: علمية وعملية، حقيقية وإضافية، عبادية وعادية، فعلية وتركية، كلية وجزئية، وأن الصوفية غير مؤهلة لحمل أمانة هذا الدين إلى العالمين؛ لأنها لا تؤتمن عليه وقد انحرفت عن حقائقه هذا الانحراف الخطير. هذا فيما يتعلق بالمؤلف وهو الإمام أبو حامد الغزالي باختصار.

    حصره لاحتمالات طريق النجاة في مذاهب الفلاسفة والمتكلمين والباطنية والصوفية

    المأخذ الثالث: أن الإمام أبا حامد حصر احتمالات وجود طريق النجاة في دوائر الفلاسفة والمتكلمين والباطنية والمتصوفة:

    أراد أن يبحث عن الحق فقال: إن الحق لا يخرج عن هذه الطوائف الأربع: الفلاسفة والمتكلمين والباطنية والصوفية، وهذا بعد الدراسة المستفيضة التي أنفق فيها كماً كبيراً من عمره رحمه الله، فخلص بعد دراسة هذه الاتجاهات والتنقل بينها إلى أن المنقذ من الضلال هو التصوف، وقد أخطأ الإمام رحمه الله تعالى خطأً فادحاً حين أغفل منهج أهل السنة والجماعة، منهج أصحاب الحديث وأهل العلم والفقه والأثر، الذين هم بحق الفرقة الناجية والطائفة المنصورة إلى قيام الساعة، مصداقاً لقوله صلى الله عليه وسلم: {لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خالفهم ولا من خذلهم حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك}، وقد ذكر العلماء أنهم أصحاب الحديث أو أهل العلم والفقه والأثر.

    فإذا قلنا: نوافق الإمام الغزالي رحمه الله تعالى فيما أخذه على الباطنية والفلاسفة والمتكلمين.. وإذا كان هو قد أصاب في الأمور التي أخذها عليهم، فلا يلزم من هذا أن يكون الإمام أبو حامد مصيباً في اعتباره التصوف طريق النجاة، بل إن التصوف ذاته في حاجة إلى من يحاكمه، ويزنه بميزان الكتاب والسنة اللذين هما بحق حجة الإسلام، ليكشف مظاهر مخالفته لدين الله سبحانه وتعالى.

    فالتصوف بمعناه المعروف الآن يخالف دين الله عز وجل في مصادر التلقي، فهناك فرق بين مصادر التلقي عند أهل السنة والجماعة أهل الاستقامة، والصوفية المبتدعين، ونحن نخالفهم في تقسيم الدين إلى شريعة وحقيقة، ونخالفهم في تبني معظم المفاهيم الكنسية الرهبانية، ومصادمة بعض مقاصد الشريعة كالترغيب في العزوبة، والترهيب من النكاح، بجانب انحراف الصوفية في تصوراتهم؛ ونخالفهم في الإلهيات والنبوة والولاية، واعتقادهم اختصاص الخواص بأسرار دينية لا يطلع عليها غيرهم, وتقديم المكاشفات والإلهامات والمنامات المزعومة على الأدلة المعصومة، وشيوع استدلالهم بالأحاديث والآثار الواهية والموضوعة .. إلى آخر مظاهر انحرافهم عن الجادة، فضلاً عن بدعهم الشنيعة التي أفاض في ذكرها الإمام أبو الفرج ابن الجوزي رحمه الله تعالى في تلبيس إبليس، أو: نقد العلم والعلماء -الكتاب له اسمان- وغيره من الأئمة الأعلام.

    ومن ثم يمكننا بعد الدراسة المستفيضة لأحوال الصوفية ومخالفتهم للكتاب والسنة أن نخلص إلى القول بأن الصوفية فئة غارقة في البدع بأنواعها: علمية وعملية، حقيقية وإضافية، عبادية وعادية، فعلية وتركية، كلية وجزئية، وأن الصوفية غير مؤهلة لحمل أمانة هذا الدين إلى العالمين؛ لأنها لا تؤتمن عليه وقد انحرفت عن حقائقه هذا الانحراف الخطير.

    هذا فيما يتعلق بالمؤلف وهو الإمام أبو حامد الغزالي باختصار.

    1.   

    كتاب إحياء علوم الدين

    أما الكتاب المؤلف وهو كتاب الإحياء، ونحن في الحقيقة نتحرج من أن نقول: إحياء علوم الدين، لكن نستطيع أن نقول: كتاب الإحياء، فهناك ظاهرة تتعلق بكتاب الإحياء تستلفت النظر.

    وهذا الكتاب قد استحوذ من اهتمام العلماء على قدر عظيم، ما بين شارح ومختصر، ومخرج لأحاديثه، وراد عليه .. وهكذا، فقد شرحه الإمام الزبيدي في كتاب يقع في ثلاثين مجلداً سماه: إتحاف السادة المتقين بشرح أسرار إحياء علوم الدين، وألف الحافظ العراقي كتاباً مستقلاً في تخريج أحاديث إحياء علوم الدين أسماه: المغني عن حمل الأسفار في الأسفار لتخريج ما في الإحياء من الآثار، والكتاب الملحق بالطبعة المتداولة من إحياء علوم الدين هو مختصر للكتاب الأصلي الذي ألفه الحافظ العراقي في تخريج أحاديث الإحياء، أما الكتاب الحقيقي فلا أعلم أنه عثر عليه حتى الآن، لكن يقال إن الزبيدي استعان به في تخريجاته الرائعة للأحاديث في كتابه إتحاف السادة المتقين.

    كذلك الإمام الغزالي نفسه ألف على كتاب الإحياء كتاب الإملاء في إشكالات الإحياء، وشقيق الإمام الغزالي أحمد بن الغزالي ألف كتاب: مختصر إحياء علوم الدين، وهو أول من اختصره، كذلك الشيخ عبد القادر العيدروس ألف كتاب: تعريف الأحياء بفضائل الإحياء.

    مواقف العلماء من كتاب الإحياء

    من الناس من غض الطرف تماماً عن المآخذ التي تضمنها هذا الكتاب وغلا فيه، حتى قال بعضهم: كاد الإحياء أن يكون قرآناً! وقال آخر: لو بعث الله الموتى لما أوصوا الأحياء إلا بالإحياء! وقال ثالث: من لا يطالع في الإحياء فما فيه حياة! وقال رابع: الحجة فيما اختاره الحجة! وقال خامس: دع اللحية واقتنِ الإحياء! يعني: دع الاهتمام باللحية والمظهر واقتن كتاب الإحياء.

    وفي الجانب الآخر -وانظر إلى تضارب مواقف العلماء من الكتاب- أفتى بتحريق نسخ الإحياء علماء المغرب ممن عرف بالسنة، وتم ذلك بالفعل، فقد جمعوا نسخ كتاب الإحياء وأحرقوها، وسماه كثير من علماء المغرب: إماتة علوم الدين، وقام الإمام ابن عقيل الحنبلي أعظم قيام فيه بالذم والتشنيع، وقال فيه قولاً شديداً حوى أوصافاً شنيعة لا نستجيد حكايتها؛ لأننا كطلبة علم لنا حدود لا ننقل كل ما يكون في الكتب.

    وصنف بعض العلماء في الرد على ما تضمنه الإحياء من مجازفات، كما فعل الإمام أبو الفرج بن الجوزي ، فقد ألف كتاب: إعلام الأحياء بأغلاط الإحياء، والإمام أبو الحسن بن سكر ألف كتاب: إحياء مجلس الأحياء في الرد على كتاب الأحياء، والإمام المازري ألف كتاب: الكف والإنباء عن كتاب الإحياء.

    ومن العلماء من زجر عن مطالعته إلا بشروط، كما قال الإمام المازري : ومن لم يكن عنده من البسطة في العلم ما يعتصم به من غوائل هذا الكتاب فإن قراءته لا تجوز، وإن كان فيه ما ينتفع به. يعني: مع أنه يوجد ما ينتفع به في هذا الكتاب، إلا أنه لا تجوز قراءته لكل أحد، إلا رجل قد آتاه الله من العلم ما ينجو به من غوائل وآفات هذا الكتاب.

    ومن العلماء من أرشد في رفق إلى التحذير من مطالعته، كما فعل الحافظ الذهبي رحمه الله تعالى، ومنهم من زجر عن ذلك مطلقاً، كما قال الشيخ عبد اللطيف الحنبلي في رسالة كتبها إلى بعض أصحابه:

    بسم الله الرحمن الرحيم

    من عبد اللطيف بن عبد الرحمن إلى الأخ في الله عبد الله بن معيذر ، سلام الله عليكم ورحمته وبركاته، وبعد:

    فقد بلغني عنك ما يشغل كل من له حمية إسلامية، وغيرة دينية على الملة الحنيفية؛ وذلك أنك اشتغلت بالقراءة في كتاب الإحياء للغزالي ، وجمعت عليه من لديك من الضعفاء والعامة الذين لا تمييز لهم بين مسائل الهداية والسعادة، ووسائل الكفر والشقاوة، وأسمعتهم ما في الإحياء من التحريفات الجائرة، والتأويلات الضالة الخاسرة، والثقافة التي اشتملت على الداء الجسيم والفلسفة في أصل الدين، وقد أمر الله تعالى وأوجب على عباده أن يتبعوا رسله وأن يلتزموا سبيل المؤمنين، وهذا الأصل المحكم لا قيام للإسلام إلا به.

    وقد سلك في الإحياء طريق الفلاسفة والمتكلمين في كثير من مباحث الإلهيات وأصول الدين، وكسا الفلسفة لحاء الشريعة، حتى ظنه الأغمار والجهال بالحقائق من دين الله الذي جاءت به الرسل ونزلت به الكتب ودخل به الناس في الإسلام، وهي في الحقيقة نهج فلسفة منتنة يعرفها أولو الأبصار، ويمجها من سلك سبيل أهل العلم كافة في القرى والأمصار، قد حذر أهل العلم والبصيرة عن النظر فيها ومطالعة قاصيها ودانيها ...

    إلى أن قال: إذا سمعت بعض عباراته المزخرفة قلت: كيف ينهانا عن هذا فلان، أو يأمر بالإعراض عن هذا الشان؟! كأنك سقطت على الدرة المفقودة، والضالة المنشودة، وقد يكون ما أطربك وهز أعطافك وحركك فلسفة منتنة وزندقة مبهمة أخرجت في قالب الأحاديث النبوية والعبارات السلفية ..إلخ.

    وهناك فريق من العلماء نظر إلى القواعد الجليلة المبسوطة في الإحياء، والمقتبسة من نور القرآن ومشكاة السنة، فرأوه مدرسة تربوية شاملة في جنسها ونفيسة في نفسها، وفي ذاك الوقت أدركوا خطر المجازفات التي تضمنها، والتي تنحرف بمعتقد سالكها عن سبيل أهل السنة والجماعة، فدندنوا حول الإحياء.

    إذاً: هناك علماء رفضوا على الإطلاق كتاب الإحياء حتى قاموا بإحراقه، وعلماء غالوا فيه حتى قالوا: كاد الإحياء أن يكون قرآناً، وعلماء حذروا من قراءته إلا لبعض الخواص ممن قد حشاهم الله بالعلم بحيث يأمنون غوائل الكتاب، ثم أتى هذا الجانب المتوسط الذي أراد أن يجمع بين المصلحتين، واتخذ الموقف الوسط، فدندنوا حول الإحياء يحاولون تهذيبه، وإخراجه غضاً سائغاً من بين فرث الفلسفة ودم الكلام المذموم، ومن هؤلاء الإمام أبو الفرج ابن الجوزي رحمه الله تعالى، الذي ألف كتاباً في تهذيب كتاب الإحياء سماه: منهاج القاصدين ومفيد الصادقين، قال في مقدمته: اعلم أن في كتاب الإحياء آفات لا يعلمها إلا العلماء، وأقلها الأحاديث الباطلة الموضوعة والموقوفة، وقد جعلها مرفوعة، وإنما نقلها كما اقتراها لا أنه افتراها، ولا ينبغي التعبد بحديث موضوع، والاغترار بلفظ مسموع.

    القول الوسط في كتاب الإحياء

    هذه المواقف من العلماء، وهذه الدندنة حول الكتاب -كما سنرى- تفيد أن الكتاب فيه فوائد قطعاً غير موجودة في غيره، وأن الكتاب عبارة عن مدرسة تربوية شاملة في علم الأخلاق والرقائق، وفي نفس الوقت هذه الظاهرة تومئ وتشير إلى أن الكتاب فيه آفات خطيرة أدت إلى هذه المواقف من العلماء، ويجمع هذين الجانبين موقف الفريق الوسط الذي قام بتهذيب الكتاب ودندن حوله، وجعله محور حركته في إيجاد مدرسة تربوية مستخلصة من فوائد كتاب الإحياء. يقول الإمام ابن الجوزي في مقدمة منهاج القاصدين ومفيد الصادقين: اعلم أن في كتاب الإحياء آفات لا يعلمها إلا العلماء، وأقلها الأحاديث الباطلة الموضوعة والموقوفة، وقد جعلها مرفوعة، وإنما نقلها كما اقتراها -أي: كما وجدها وقرأها في الكتب- لا أنه افتراها، ولا ينبغي التعبد بحديث موضوع، والاغترار بلفظ مسموع، وكيف أرتضي لك أن تصلي صلوات الأيام ولياليها، وليس فيها كلمة قالها رسول الله صلى الله عليه وسلم -يعني: الصلاة يوم السبت، والصلاة يوم الأحد، والصلاة يوم كذا، وكل يوم له صلاة مخصوصة به بلا دليل وبلا حديث صحيح مرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم- يقول: وكيف أرتضي لك أن تصلي صلوات الأيام ولياليها وليس فيها كلمة قالها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكيف أوثر أن يطرق سمعك من كلام المتصوفة الذي جمعه وندب إلى العمل به -يعني جمعه أبو حامد ، ورغب الناس: إلى العمل به- ما لا حاصر له، من الكلام في الفناء والبقاء، والأمر بشدة الجوع، والخروج إلى السياحة في غير حاجة، والدخول في الفلاة بغير زاد.. إلى غير ذلك مما قد كتبت عن عواره في كتابي المسمى: بتلبيس إبليس، وسأكتب لك كتاباً يخلو عن مفاسده ولا يخل بفوائده ... إلى آخر كلامه رحمه الله تعالى. ثم قام الإمام نجم الدين أبو العباس أحمد بن محمد بن عبد الرحمن بن قدامة المقدسي باختصار كتاب ابن الجوزي منهاج القاصدين ومفيد الصادقين، في كتاب سماه: مختصر منهاج القاصدين، وهو معروف ومتداول. وممن اختصر كتاب الإحياء أيضاً العجلوني ومحمد بن سعيد اليماني ، وأحمد بن موسى الموصلي ، والسيوطي ، والقاسمي في كتابه: موعظة المؤمنين، ثم حققه طائفة وأسموه: تهذيب موعظة المؤمنين، وللشيخ محمود عوض رحمه الله أيضاً مختصر له أسماه: طب القلوب، وللشيخ أبي الحسن الندوي أيضاً مختصر له أسماه: تهذيب الأخلاق، وقد تجاوزت الكتب المؤلفة حول كتاب الإحياء العشرين كتاباً. ونحن اليوم على أعتاب نهضة قرآنية وصحوة سنية ويقظة سلفية، نتلمس الطريق الذي نرتقي بسلوكه إلى مستوى الجيل الأول، بعيداً عن مخلفات الغزو الفكري، سواء كان الغزو الحديث أو القديم؛ فالحديث يتمثل في العلمانية والتنصير والاستشراق.. إلخ، والغزو الفكري القديم المتمثل في الباطنية والفلسفة والكلام والصوفية.. إلخ. فما أشد حاجتنا إلى الدراسة المسفرة الواعية لفكر أبي حامد الغزالي رحمه الله تعالى، باعتباره رمزاً من رموز المنهج الصوفي، دخل في غمار الفلاسفة والمتكلمين والباطنية، فحمل عليهم وانغمس في صفوفهم، وما زال يجاهدهم حتى فل شوكتهم وكسرهم، وفرق جموعهم شذر مذر، وفلق هام كثير منهم، غير أنه أصابه في أثناء ذلك شيء من دمائهم، فحاول أن يغسل أثر الدم عنه فما استطاع، فالإمام أبو حامد لم يكن يقصد أن يتبني منهج الفلاسفة أو الباطنية، لكنه دخل يقاتلهم ويقضي عليهم، فأصابه شيء من لوثهم، أو من دمائهم.

    القول الوسط والعدل في كتاب الإحياء

    هذه المواقف من العلماء، وهذه الدندنة حول الكتاب -كما سنرى- تفيد أن الكتاب فيه فوائد قطعاً غير موجودة في غيره، وأن الكتاب عبارة عن مدرسة تربوية شاملة في علم الأخلاق والرقائق، وفي نفس الوقت هذه الظاهرة تومئ وتشير إلى أن الكتاب فيه آفات خطيرة أدت إلى هذه المواقف من العلماء، ويجمع هذين الجانبين موقف الفريق الوسط الذي قام بتهذيب الكتاب ودندن حوله، وجعله محور حركته في إيجاد مدرسة تربوية مستخلصة من فوائد كتاب الإحياء.

    يقول الإمام ابن الجوزي في مقدمة منهاج القاصدين ومفيد الصادقين: اعلم أن في كتاب الإحياء آفات لا يعلمها إلا العلماء، وأقلها الأحاديث الباطلة الموضوعة والموقوفة، وقد جعلها مرفوعة، وإنما نقلها كما اقتراها -أي: كما وجدها وقرأها في الكتب- لا أنه افتراها، ولا ينبغي التعبد بحديث موضوع، والاغترار بلفظ مسموع، وكيف أرتضي لك أن تصلي صلوات الأيام ولياليها، وليس فيها كلمة قالها رسول الله صلى الله عليه وسلم -يعني: الصلاة يوم السبت، والصلاة يوم الأحد، والصلاة يوم كذا، وكل يوم له صلاة مخصوصة به بلا دليل وبلا حديث صحيح مرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم- يقول: وكيف أرتضي لك أن تصلي صلوات الأيام ولياليها وليس فيها كلمة قالها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكيف أوثر أن يطرق سمعك من كلام المتصوفة الذي جمعه وندب إلى العمل به -يعني جمعه أبو حامد ، ورغب الناس: إلى العمل به- ما لا حاصر له، من الكلام في الفناء والبقاء، والأمر بشدة الجوع، والخروج إلى السياحة في غير حاجة، والدخول في الفلاة بغير زاد.. إلى غير ذلك مما قد كتبت عن عواره في كتابي المسمى: بتلبيس إبليس، وسأكتب لك كتاباً يخلو عن مفاسده ولا يخل بفوائده ... إلى آخر كلامه رحمه الله تعالى.

    ثم قام الإمام نجم الدين أبو العباس أحمد بن محمد بن عبد الرحمن بن قدامة المقدسي باختصار كتاب ابن الجوزي منهاج القاصدين ومفيد الصادقين، في كتاب سماه: مختصر منهاج القاصدين، وهو معروف ومتداول.

    وممن اختصر كتاب الإحياء أيضاً العجلوني ومحمد بن سعيد اليماني ، وأحمد بن موسى الموصلي ، والسيوطي ، والقاسمي في كتابه: موعظة المؤمنين، ثم حققه طائفة وأسموه: تهذيب موعظة المؤمنين، وللشيخ محمود عوض رحمه الله أيضاً مختصر له أسماه: طب القلوب، وللشيخ أبي الحسن الندوي أيضاً مختصر له أسماه: تهذيب الأخلاق، وقد تجاوزت الكتب المؤلفة حول كتاب الإحياء العشرين كتاباً.

    ونحن اليوم على أعتاب نهضة قرآنية وصحوة سنية ويقظة سلفية، نتلمس الطريق الذي نرتقي بسلوكه إلى مستوى الجيل الأول، بعيداً عن مخلفات الغزو الفكري، سواء كان الغزو الحديث أو القديم؛ فالحديث يتمثل في العلمانية والتنصير والاستشراق.. إلخ، والغزو الفكري القديم المتمثل في الباطنية والفلسفة والكلام والصوفية.. إلخ.

    فما أشد حاجتنا إلى الدراسة المسفرة الواعية لفكر أبي حامد الغزالي رحمه الله تعالى، باعتباره رمزاً من رموز المنهج الصوفي، دخل في غمار الفلاسفة والمتكلمين والباطنية، فحمل عليهم وانغمس في صفوفهم، وما زال يجاهدهم حتى فل شوكتهم وكسرهم، وفرق جموعهم شذر مذر، وفلق هام كثير منهم، غير أنه أصابه في أثناء ذلك شيء من دمائهم، فحاول أن يغسل أثر الدم عنه فما استطاع، فالإمام أبو حامد لم يكن يقصد أن يتبني منهج الفلاسفة أو الباطنية، لكنه دخل يقاتلهم ويقضي عليهم، فأصابه شيء من لوثهم، أو من دمائهم.

    1.   

    نشأة الإمام الغزالي في أحضان التصوف وعودته إلى مذهب السلف

    هذا هو حال أبي حامد رحمه الله تعالى، وواجبنا أن نتأمل في تجربته وأن نستنبط منها العبر، وأعظم عبرة نستقيها من تجربة الإمام أبي حامد رحمه الله تعالى، هي عودته بعد طول غربة إلى منهج السلف الصالح رحمه الله تعالى.

    فالإمام أبو حامد في آخر أيامه ندم على تضييع عمره في هذه الطرق المشتتة، وعكف على دراسة علم الحديث، حتى إنه رحمه الله مات وصحيح البخاري على صدره رحمه الله تعالى، فأعظم عبرة نستخلصها من تجربته -كما سنرى- هي عودته بعد طول غربة إلى منهج السلف الصالح، نادماً على بضاعة العمر النفيسة التي أنفقها في التحري والبحث والتنقل.

    فحري بنا أن نحرص جميعاً على نقطة البداية ونحن نتلقى المفاهيم والعلوم، وهذه أعظم العبر، وهي أن كل إنسان عليه أن يهتم بنقطة البداية في تربية نفسه وتعليمها، أو في تربية غيره من أولاد أو غيرهم، فنقطة البداية تشكل محوراً خطيراً جداً في حياة أي إنسان، والغالب أن الإنسان دائماً يتعصب لأول شيخ تعلم على يديه، ويتعصب لأول كتاب قرأه، ويتعصب لأول مدرسة ينتمي لها، فمن كان يراد له السعادة من الله سبحانه وتعالى وفقه الله إذا كان حدثاً أن ينشأ على يد رجل من أهل السنة والجماعة، وإن كان كافراً وأسلم أن يسلم على يد رجل من أهل السنة، وإلا فكم رأينا عشرات الكفار يسلمون على أيدي أناس لا علاقة لهم بالإسلام، ويظنون أن هذا هو الإسلام.

    وعلى كل حال فالإنسان يتعصب ويتمسك بأول من يرشده إلى الإسلام، فإذا كان حظه سعيداً ووقع عند واحد من أهل السنة، فهذه من علامات إرادة الخير به.

    وقد كانت نقطة البداية في تربية الإمام أبي حامد أنه نشأ في أحضان الصوفية، وتربى في كنفها، وترعرع في ظلالها، فإن كان الغزالي بدأ بالصوفية، وتدرج إلى الباطنية والفلاسفة والمتكلمين، وظن في النهاية أن طريق الخلاص والنجاة هو طريق التصوف، ثم ندم بعد ذلك على هذا كله ورجع إلى منهج السلف الصالح، وألف وقال كلاماً عظيما جداً في الانتقال إلى عقيدة السلف في نهاية عمره وفي آخر مؤلفاته، وإن كان -كما ذكرنا- مات والبخاري على صدره، من شدة اهتمامه وتعطشه إلى علم الحديث الذي أيقن أنه فرط في حقه كثيراً؛ فعلينا أن نبدأ من حيث انتهى الغزالي رحمه الله تعالى، وأن ندقق في الطريق الذي سوف نسلكه قبل أن تطأه أقدامنا، وننفق فيه بضاعة العمر، وإلا فإذا مشينا في طريق مسدود فسنقف في النهاية أمام سد منيع يحول بيننا وبين طريق النجاة، فنعض أناملنا، ويغشانا الندم ولات حين مندم!

    وقد قيل: فساد الانتهاء من فساد الابتداء، فالأصل أن الإنسان إذا كانت بدايته فاسدة فإنها تستمر معه إلى النهاية والعياذ بالله، إلا من رحمه الله، ومن هنا عد السلف الصالح رحمهم الله تعالى من علامات السعادة للإنسان إذا نسك وإذا تعبد وإذا تاب: أن يواخي صاحب سنة يحمله عليها، وأن يقيض الله له رجلاً من أهل السنة والجماعة يضع قدميه منذ البداية على طريق الفرقة الناجية والطائفة الظاهرة المنصورة.

    1.   

    ترجمة الإمام الغزالي رحمه الله

    اسمه ومولده ونشأته

    يقول عبد الرحمن دمشقية : هو محمد بن محمد بن محمد بن أحمد الطوسي المعروف بـالغزالي ، ولد بطوس سنة (450هـ)، وكان والده يغزل الصوف ويبيعه في دكانه بطوس، فلما حضرته الوفاة أوصى به وبأخيه أحمد إلى صديق له متصوف من أهل الخير، وقال له: إن لي لتأسفاً عظيماً على تعلم الخط، وأشتهي استدراك ما فاتني في ولدي هذين فعلمهما، ولا عليك أن تصرف في ذلك جميع ما أخلفه لهما.

    فلما مات أبوهما أقبل صديقه على تعليمهما إلى أن أفنى ذلك المال اليسير الذي خلفه لهما أبوهما، فتعذر عليه القيام بقوتهما لأنه كان رجلاً فقيراً، فقال لهما: اعلما أني قد أنفقت عليكما ما كان لكما، وأنا رجل من الفقر والتجريد بحيث لا مال لي فآويكما به، وأصلح ما أرى لكما أن تلجآ إلى مدرسة، فإنكما من طلبة العلم، فيحصل لكما قوت يعينكما على وقتكما.

    يعني: إنكما ما زلتما صغيرين، وأنا ليس عندي ما أنفق عليكما، فأنصحكما أن تلتحقا بإحدى المدارس، فإنكما من طلبة العلم، وستجدون فيها القوت والطعام.

    ففعلا ذلك، وكان هو السبب في سعادتهما وعلو درجاتهما، وكان الغزالي رحمه الله تعالى حينما يتذكر هذه الأيام يحكيها، ويقول: طلبنا العلم لغير الله، فأبى أن يكون إلا لله، يعني: كانت بداية طلب العلم أنهما يذهبان إلى المدرسة حتى ينالا القوت؛ لأنه نفذ ما كان لهما من مال في تعلم الخط، فقد أرادا العلم لأجل القوت فقط، فأبى العلم إلا أن يأخذ بناصيتهما حتى يكون لوجه الله سبحانه وتعالى.

    كانت الحالة المادية الصعبة هي التي دفعت بـالغزالي إلى دخول إحدى المدارس الدينية ليتعلم الفقه فيها ظاهراً، وليضمن القوت باطناً، حيث إنه لم يكن له اختيار في ذلك، لكن هذا الفقر كان عامل خير في تكوين شخصية الغزالي الفقهية التي تطورت ونمت بشكل أثار حوله إعجاب الآخرين، ولذلك نرى الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى يصفه بأنه كان من أذكياء العالم، ومعلوم أن الغزالي من الأذكياء النوابغ في التاريخ، وأنه من شخصيات التاريخ النادرة التي عرفت بالذكاء الخارق.

    يقول: كان من أذكياء العالم في كل ما يتكلم فيه، وقد ساد الإمام الغزالي في شبيبته، حتى إنه درس بالنظامية في بغداد وكان يحضر درسه هذا أكابر العلماء، وممن كان يحضر عنده أبو الخطاب وابن عقيل ، فتعجبوا من فصاحته واطلاعه.

    وقد حكى عنه ابن كثير أيضاً بأن النسخ كان من مصادر قوته، كان ينسخ الكتب والمصاحف مثلاً ويبيعها.

    طلبه للعلم ونبوغه فيه

    قال ابن السبكيرحمه الله: وفي عام (465هـ) -وكان عمره حينئذٍ خمسة عشر عاماً- بدأ الغزالي يدرس الفقه على أحمد الراذكاني بطوس، ولما تمكن من العلم سافر إلى جرجان ليطلب المزيد من العلم على يد الشيخ أبي نصر الإسماعيلي ، وعلق عنه التعليقة، ثم قدم نيسابور ونزل هناك على إمام الحرمين الجويني ، وجد واجتهد حتى برع في العلوم، ووقف على الخلاف والجدل والأصلين -يعني أصول الدين وأصول الفقه- والمنطق، وقرأ الفلسفة وأحكم ذلك كله، وفهم كلام أرباب هذه العلوم، وتصدى للرد عليهم وإبطال دعاويهم.

    وقد أظهر إمام الحرمين الجويني عناية خاصة به لما ظهر له فيه من بوادر النبوغ السريع، حتى كان الإمام الجويني يصف الغزالي بأنه البحر المغرق، وقد لازمه الغزالي مدة انتهت بوفاته سنة (478هـ).

    لقد كان هذا التلميذ النابغ للإمام الجويني يمضي نحو تألقه وسطوعه بخطوات سريعة، فقد ألف كتاباً في أصول الفقه أسماه: المنخول من علم الأصول، غطى هذا الكتاب على أستاذه حتى قال له شيخه الجويني لما رآه وقرأه: دفنتني وأنا حي.. هلا صبرت حتى أموت!

    يقول ابن عساكر نقلاً عن عبد الغافر -وهو أحد تلامذة الغزالي - في ترجمته: ثم قدم نيسابور مختلفاً إلى درس إمام الحرمين في طائفة من الشبان، وجد واجتهد حتى تخرج في مدة قريبة، وبز الأقران -يعني: تفوق على أقرانه- وحمل القرآن، وصار أنظر أهل زمانه في المناظرة، وأوحد أقرانه في أيام إمام الحرمين، وكان الطلبة يستفيدون منه ويدرس لهم ويرشدهم، ويجتهد في نفسه، وبلغ الأمر به إلى أن أخذ في التصنيف.

    وكان الإمام مع علو درجته وسمو عبارته وسرعة جريه في النطق والكلام لا يصفي نظره إلى الغزالي سراً لإنافته عليه في سرعة العبارة وقوة الطبع، ولا يطيب له تصديه للتصنيف، فكان الشيخ يجد حرجاً من أن يتصدر تلميذه لتأليف الكتب، وإن كان متخرجاً به منتسباً إليه، كما لا يخفى من طبع البشر، ولكنه يظهر التبجح به والاعتزاز بمكانه ظاهراً خلاف ما يضمره.

    ثم بقي كذلك إلى انقضاء أيام الإمام، ثم عهد إليه التدريس بالمدرسة النظامية ببغداد فقبل ذلك، وكان ذلك سنة (484هـ) ولم يكن تجاوز فيها الرابعة والثلاثين من عمره.

    تدريسه في بغداد وتصديه لفضح الباطنية

    وقد احتل من مجلس نظام الملك هناك محل القبول، وظهر اسمه، وبرزت مناظراته للفحول ومناقرته للكبار، وارتفق بذلك أكمل الارتفاق، حتى أدت به الحال إلى أن صمم على ترك المعسكر والتدريس بنظامية بغداد.

    وصل أبو حامد إلى بغداد ولاقى تشجيعاً له على تحقيق دعوته ومواصلة تدريسه في نظامية بغداد، وصارت له مكانة وشهرة واسعة، حيث كان مدرساً لثلاثمائة من الطلاب في الفقه والأصول وغيرهما، لكن ذلك لم يدم طويلاً، فقد أصابه مرض اضطره إلى مفارقة بغداد، فرحل إلى الحجاز حاجاً، ثم أتى الشام وتركها ذاهباً إلى القدس نحو سنتين، وقيل: إن خروجه من بغداد كان لسبب خطر الباطنية الذين تم على أيديهم اغتيال نظام الملك سنة (485هـ)، وبهذا فقد قويت شكيمتهم واستفحل أمرهم، ولقد كان وقع نبأ نظام الملك عميقاً في نفس الغزالي ، وتأثر بسبب ذلك تأثراً بليغاً، وبلغ هذا التأثر مبلغه حين توفي المهتدي سنة سبع وثمانين وأربعمائة بطريقة غامضة، ولعلها مؤامرة باطنية أيضاً.

    ثم جاء المستظهر بالله فطلب من الغزالي محاربة عقيدة الباطنية وفضح آرائهم ومذهبهم، ففعل الغزالي ذلك، وصنف ضدهم العديد من المصنفات أشهرها كتابه: المستظهري، إذاً: المستظهري نسبة إلى المستظهر بالله الذي أمره بالرد على عقائد الباطنية، وأصبح اسم الكتاب: فضائح الباطنية، ولذلك لما رد الغزالي على عقيدة الباطنية وفضحهم أصبح مهدداً بالخطر، فالباطنية يترصدونه ويتحينون الفرصة المواتية للتخلص منه، فخرج من بغداد سنة (488هـ)، وقد ترك أخاه أحمد للتدريس في نظامية بغداد، وفي بغداد أيضاً انصرف الغزالي إلى دراسة الفلسفة دراسة عميقة، فطالع كتب الفارابي وابن سينا ، وألف على إثر ذلك كتابه: تهافت الفلاسفة.

    يقول بعض العلماء: الغزالي لم يؤلف هذا الكتاب عن رغبة مجردة في العلم؛ بل لأنه عانى من مرحلة من الاضطراب والتشكك الذهني أو الفكري، والدليل على ذلك أنه ألف كتابه المشهور: تهافت الفلاسفة لإبداء شكوكه في قيمة العلم وبراهينه المنطقية، وبعض الناس يفسرون خروجه من بغداد بأنه كان نتيجة هذه الشكوك التي طرأت على عقيدته فجعلته يترك التدريس، وترك الأهل والولد والمال وخرج من بغداد سنة (488هـ).

    تركه للتدريس وخروجه من بغداد إلى الشام

    يقول الغزالي حاكياً عن خروجه من بغداد: ثم لاحظت أحوالي فإذا أنا منغمس في العلائق، وقد أحدقت بي من كل الجوانب، ولاحظت عملي وأحسنها التدريس والتعليم، فإذا أنا مقبل على علوم غير مهمة ولا نافعة في طريق الآخرة، فلم أزل أتردد بين تجاذب الدنيا ودواعي الآخرة قريباً من تسعة أشهر، أولها رجب سنة (488هـ)، ثم لما أحسست بعجزي وسقط بالكلية اختياري، أظهرت عزم الخروج إلى مكة وأنا أضمر في نفسي سفر الشام؛ حذراً أن يطلع الخليفة وجملة الأصحاب على عزمي في المقام بالشام، فتلطفت بلطائف الحيل في الخروج من بغداد على عزم أن لا أعاودها أبداً، ففارقت بغداد.

    فخرج الغزالي يريد الشام في الباطن، وأظهر للناس أنه يريد الحج في الظاهر، ويبدو أنه كان تواقاً إلى العيش في الشام، والدليل على ذلك أنه عزم في نفسه على أن لا يعود إلى بغداد أبداً.

    يقول: ثم تفكرت في نيتي في التدريس فإذا هي غير خالصة لوجه الله؛ بل باعثها ومحركها طلب الجاه وانتشار الصيت، فتيقنت أني على شفا جرف هار، فصارت شهوات الدنيا تجاذبني بسلاسلها إلى المقام، ومنادي الإيمان ينادي الرحيل الرحيل، فلم يبق من العمر إلا القليل، وبين يديك السفر الطويل، وجميع ما أنت فيه من العلم والعمل رياء وسمعة.

    فخرج الغزالي إلى مكة، فالمدينة، فدمشق، فالقدس، فدمشق، فالإسكندرية، ثم عاد إلى بغداد؛ قال القاضي أبو بكر بن العربي تلميذه: رأيت الغزالي في البرية -وهي صحراء دمشق- وبيده عكازة، وعليه مرقعة وعلى عاتقه ركوة، وقد كنت رأيته في بغداد يحضر درسه أربعمائة عمامة من أكابر الناس وأفاضلهم يأخذون عنه العلم، فدنوت منه فسلمت عليه وقلت له: يا إمام! أليس تدريس العلم ببغداد خيراً من هذا؟ فنظر إلي، ثم قال: لما طلع بدر السعادة في فلك الإرادة، وجنحت شمس الوصول في مغارب الأفول ..

    تركت هوى ليلى وسعدى بمنزل وعدت إلى تصحيح أول منزل

    ونادت بي الأشواق مهلاً فهذه منازل من تهوى رويدك فانزل

    غزلت لهم غزلاً دقيقاً فلم أجد لغزلي نساجاً فكسرت مغزلي

    عودته إلى التدريس في بغداد

    ثم بعد عشرة أعوام من السفر بين الحجاز ودمشق والقدس والإسكندرية، عاد أخيراً إلى نيسابور، وكان ذلك سنة (498هـ)، بأمر من الوزير فخر الملك علي بن نظام الملك، الذي كان وزيراً في نيسابور للسلطان سنجر حاكم خراسان، فألح عليه فخر الملك إلحاحاً شديداً في ذلك، فلبى الغزالي طلبه، وتولى التدريس بالنظامية في ذي القعدة سنة (499هـ)، لكنها فترة قصيرة لم تدم طويلاً، فسرعان ما طغت أيدي الباطنيين على فخر الملك سنة (503هـ)، وحينئذ خرج الغزالي مسرعاً إلى طوس ثانية، وسكن في الطابران منها.

    وفاته رحمه الله

    توفي الغزالي يوم الإثنين (14) من شهر جمادى الآخرة سنة (505هـ)، ودفن بظاهر قصبة طابران وهي قصبة في طوس، فرحمه الله تعالى، ولم يعقب إلا بنات، وكان له من الأسباب إرث وكسب يقوم بكفايته ونفقة أهله وأولاده، قيل: لقد قسمت كراريس الغزالي بعدد الأيام التي عاشها فبلغت أربعة كراريس لكل يوم، أي أنهم قسموا المؤلفات التي ألفها فوجدوا أن كل يوم كان يؤلف فيه أربعة كراريس، وقد بلغت هذه الكتب والرسائل المئات، منها المطبوع ومنها غير المطبوع.

    1.   

    تأثر الإمام الغزالي بأهل الكلام والفلاسفة والباطنية والصوفية

    لقد عاش الإمام أبو حامد الغزالي رحمه الله تعالى زمناً كثرت فيه الآراء والمذاهب والفرق، وكان أبرز تلك الفرق آنذاك أهل الكلام والفلاسفة والباطنية والصوفية، وقد عكف الغزالي على دراسة كل واحدة من هذه الاتجاهات الأربعة.

    تلقى الأصول وعلم الكلام عن إمام الحرمين الجويني وتفرغ لدراسة الفلسفة دراسة وافية، وأكب على كتب ابن سينا : كالشفاء والنجاة والإشارات، حتى يقول بعض العلماء : الغزالي أمرضه الشفاء، يعني: كتاب الشفاء لـابن سينا ، والعجيب أن بعض الناس يضللون في دراسة كتب التاريخ فيقولون: الفلاسفة أنشئوا حضارة، وبرعوا في شتى الاتجاهات الفكرية، فكان منهم ابن سينا ، والكندي ، والفارابي !!

    المقصود أنه درس كتب ابن سينا : كالشفاء والنجاة والإشارات، ورسائل أبي حيان التوحيدي ، ورسائل إخوان الصفا، ولذلك فإن أغلب الفلسفة التي في كتاب الإحياء مأخوذة من هذه الرسائل الإلحادية الباطنية (رسائل إخوان الصفا) ومؤلفات الفارابي ، وتهذيب الأخلاق لـابن مسكويه ، وأكثر المصادر التي أخذ منها هي النجاة لـابن سينا ، وتهذيب الأخلاق لـابن مسكويه .

    1.   

    ذكر بعض خرافات الصوفية

    وها هو الشيخ أحمد الرفاعي يطلب شراء بستان من صاحبه فيقول له صاحب البستان: تشتريه مني بقصر في الجنة؟ فقال: من أنا حتى تطلب مني هذا يا ولدي؟! اطلب من الدنيا.

    فقال: يا سيدي! شيئاً من الدنيا لا أريد، فإن أردت البستان فاشتره بما أطلب.

    فنكس السيد أحمد الرفاعي رأسه ساعة واصفر لونه وتغير -ما أدري هل كان الوحي ينزل عليه أم ماذا؟!- يقول: نكس رأسه ساعة واصفر لونه وتغير، ثم رفع وقد تبدلت الصفرة احمراراً، وقال: يا إسماعيل ! قد اشتريت منك البستان بما طلبت!

    فقال: يا سيدي! اكتب لي خط يدك، فكتب له السيد أحمد الرفاعي ورقة فيها: بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما اشترى إسماعيل بن عبد المنعم من العبد الفقير الحقير أحمد بن أبي الحسن الرفاعي ضامناً على كرم الله تعالى قصراً في الجنة تجمعه حدود أربعة: الأول إلى جنة عدن، والثاني إلى جنة المأوى، والثالث إلى جنة الخلد، والرابع إلى جنة الفردوس، بجميع حوره وولدانه وفرشه وستره وأنهاره وأشجاره، عوض بستان في الدنيا، وله الله شاهد وكفيل.

    فهذه بعض مهازل هؤلاء الصوفية التي شابهوا بها سلوك النصارى، بالإضافة إلى الرهبنة والغلو في الدين وفي الرجال، مما جعل تصرفاتهم شبيهة بمهازل الكنيسة وأربابها، فلا شك أن بيع العقارات في الجنة أسلوب معروف عند النصارى.

    فالبابا لا يقدر على أن يضمن لأحد الجنة، بل ولا لنفسه، ولا الشيخ عبد الله العيدروس قادر على ضمان الجنة لأحد بل ولا لنفسه.

    وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم ما يفيد نهيه عن تزكية الأخ أخاه مجرد المدح فقط، فكيف بالذي يضمن له الجنة؟! (لما توفي 1001302) .

    يقول الله: قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ [الأحقاف:9]، يعني: في الدنيا، أما في الآخرة فلا شك أن النبي عليه الصلاة والسلام مقطوع له بأنه يكون في الجنة.

    1.   

    عجائب وغرائب وخرافات من كلام الغزالي

    كلامه حول الخلوة والانقطاع من الدنيا

    نعرض بعض العجائب من أقوال الغزالي في كتبه، وخاصة كتاب الإحياء.

    يقول: وأما حياة الخلوة ففائدتها دفع الشواغل، وضبط السمع والبصر، فإنهما دهليز القلب، وليس يتم ذلك إلا بالخلوة في بيت مظلم، وإن لم يكن له مكان مظلم فليلف رأسه في جيبه، أو يتدثر بكساء أو إزار، ففي مثل هذه الحالة يسمع نداء الحق، ويشاهد جلال الحضرة الربوبية.

    واستدل على ذلك بقوله: يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ [المدثر:1]، وقوله سبحانه وتعالى: يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ [المزمل:1]، فهو ينصح الشخص الذي يدخل في الخلوة بأن يخلو بنفسه في زاوية ويقتصر على الفرائض، ولا يقرن همه بقراءة القرآن، ولا بالتأمل في التفسير، ولا بكتب حديث ولا غيره.

    فنقول: ومن أين يأتيه الخير إن كان يعتزل القرآن ويعتزل أحاديث النبي صلى الله عليه وآله وسلم؟!

    ويقول أيضاً: واطو الطريق فإنك بالواد المقدس طوى، واستمع بسر قلبك لما يوحى، فلعلك تجد على النار هدى، ولعلك من سرادقات العرش تنادى بما نودي به موسى: إني أنا ربك!

    ويقول أيضاً: اعلم أن المريد في ابتداء أمره ينبغي أن لا يشغل نفسه بالتزويج، فإن ذلك شغل شاغل يمنعه من السلوك، ويستجره إلى الأنس بالزوجة، ومن أنس بغير الله شغل عن الله، ولا يغرنه كثرة نكاح رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فإنه كان لا يشغل قلبه جميع ما في الدنيا عن الله تعالى، فلا تقاس الملائكة بالحدادين، قال أبو سليمان الداراني : من تزوج فقد ركن إلى الدنيا.

    فنقول: أين هذا من قول النبي عليه الصلاة والسلام: (يا معشر الشباب! من استطاع منكم الباءة فليتزوج، فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج ..) ؟! فهذه دعوة كنسية، ورهبانية ليست من الإسلام في شيء؛ لأنها مناقضة لأصول مقاصد الشريعة العليا.

    كلام الغزالي عما يسمى بالأباجاد

    وله في بعض كتبه كلام كانوا يسمونه الترياق، ويسمونه: أباجاد، وهذه الأشياء يتعاطاها المنجمون الذين ينظرون في النجوم، ويعتقدون أن لها تأثيراً على الحوادث الأرضية، وأن معرفة هذه الأشياء لها صلة بالأحوال الفلكية، فكانوا يعملون حوالي تسعة مربعات، ويكتبون أحرفاً ضمن هذه المربعات، فتكون هذه الحروف رموزاً لأرقام محددة، يحصل بواسطته كشف المقادير المخبأة في تلك الأفلاك، يعملون مربعين منقسمين إلى ثلاثة أفلاك، ويعملون في كل مربع تسعة مربعات، فواحد فيه: (ب. ط. د. ز. ع. و. واحد. ح) وهكذا، حروف ورموز لهؤلاء المنجمين، والغريب أن الغزالي رسمها في بعض كتبه! وذكر أنه من الأسباب ذات الخواص العجيبة والمجربة في معاملة الحامل التي عسر عليها الطلق، ثم قال: يكتب على خرقتين ثم يشدهما لم يصبهما ماء، وتنظر إليهما الحامل بعينها وتضعهما تحت قدميها، فيسرع الولد في الحال إلى الخروج.

    وهذه الطريقة شائعة الاستعمال عند اليهود؛ لأنهم أهل خبرة بها.

    وقد سئل ابن عباس عن قوم يكتبون أباجاد وينظرون في النجوم، فقال: (ما أرى من فعل ذلك له عند الله من خلاق).

    إثبات الغزالي للمشاهدات والمكاشفات الصوفية

    ويقول الغزالي أيضاً: عند أول سلوك طريق التصوف تتبع المشاهدات والمكاشفات، حتى إنهم في يقظتهم يشاهدون الملائكة وأرواح الأنبياء، ويسمعون منهم أصواتاً ويقتبسون منهم فوائد، ثم يترقى الحال من مشاهدة الصور والأمثال إلى درجة يضيق عنها نطاق النطق.

    يعني أنه لا يجوز لنا أن نحكيها، إنما هي أسرار وألغاز! مع أنه لا يوجد في الإسلام أسرار ولا ألغاز، يقول الله تعالى لنبيه: يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ [المائدة:67]، وقال عليه الصلاة والسلام للصحابة أجمعين في أعظم اجتماع لهم وهو حجة الوداع: ألا هل بلغت؟ اللهم فاشهد.. ألا إنكم مسئولون عني فبماذا تجيبون؟ قالوا: نشهد أنك قد بلغت، فهل بعد ذلك يشك شاك أن الرسول عليه السلام خص بعض الناس بعلوم وخبأها عن الآخرين؟ هذه أيضاً من مهازل هذا الفكر الصوفي الخبيث.

    يقول: ثم يترقى الحال من مشاهدة الصور والأمثال إلى درجة يضيق عنها نطاق النطق، فلا يحاول معبر أن يعبر عنها إلا اشتمل لفظه على خطأ صريح لا يمكنه الاحتراز عنه.

    وعلى الجملة ينتهي الأمر إلى قرب يكاد يتخيل منه طائفة الحلول، وطائفة الاتحاد، وطائفة الوصول، وكل ذلك خطأ، بل الذي لابسته تلك الحالة لا يزيد على أن يقول:

    وكان ما كان مما لست أذكره فظن خيراً ولا تسأل عن الخبر

    يحيلك على مذهلات، (وكان ما كان مما لست أذكره) أي حصلت أشياء لا أستطيع أن أحكيها، فهي أسرار، كما لو سرحت في مقامات الفناء ونحو ذلك مما يذكرونه، ومثل هذه الكلمات التي لا ينطقون بها، فإذا نطقوا بها كانت قرينة الكفر، والتي يذكر الغزالي بأنه لا أحد يحاول أن يفسر هذه الأشياء أو يعبر عنها، مثل قول بعضهم: سبحاني ما أعظم شأني! وقول الحلاج : ما في الجبة إلا الله! وقول الآخر: أنا الحق وما في الدارين غيري! ونحو ذلك من تعبيراتهم الكفرية.

    كلام الغزالي حول إسقاط الجاه عند الناس

    يلفت الغزالي في مواضع من كتابه إلى وسيلة إسقاط الجاه، فيقول:

    إن الجاه نوع من الكرب للإنسان، ولذلك يستحسن بعض الناس أن يعملوا تصرفات حتى يسقط جاههم في قلوب الناس.

    ويقول: فإسقاط الجاه عن قلوب الخلق بمباشرة أفعال يلام عليها حتى يسقط من أعين الخلق.

    وهذا مذهب الملامتية، والملامتية الشخص الذي لا يظهر في ظاهره ما في باطنه، وهذا عند الصوفية من أعظم الناس إخلاصاً لله سبحانه وتعالى؛ لأنه يخفي على الناس صلاحه وتقواه ويظهر خلاف الحقيقة.

    يقول: إذ اقتحموا الفواحش في صورتها ليسقطوا أنفسهم من أعين الناس؛ ليسلموا من آفة الجاه.

    أي: من أجل أن يتخلص من مسألة الجاه، فإن الناس يحترمونه لأنه رجل صالح وتقي، فيقول: أريد أن أزيل عني هذه الشبهة، وحتى لا أطلب الجاه بقلوب الناس، فيأتي ببعض التصرفات كأن يظهر أنه مجنون مثلاً، ويجعل الصبيان يضربونه بالحجارة، أو يجلس على مزبلة، أو في مكان قذر بحيث يمتلئ بالقمل والقاذورات، يقول الغزالي : فمنهم من شرب شراباً حلالاً في قدح لونه لون الخمر، حتى يظن أنه يشرب الخمر فيسقط في أعين الناس!

    وأقول: هل هذه مفاهيم إسلامية؟ أن توقع نفسك في مواقع الشبهة ومواقع التهمة؟!

    ومما يحكى أن بعضهم عرف بالزهد وأقبل الناس عليه ووصفوه بالزهد، والرجل عابد ومجتهد في العبادة، فدخل حماماً عاماً ولبس ثياب غيره -سرق ملابس غيره- وخرج، فوقف في الطريق حتى عرفوه، من أجل أن يكتشفوا أن هناك ملابس سرقت فيبحثون عن الذي سرقها، فيجدون أنه هو الذي سرقها، فأخذوه وضربوه واستردوا منه الثياب، وفي هذه الحالة اطمأن أنه لم يعد متهماً بالصلاح، طالما أنه سيتهم بالفسق.

    أيضاً يقول عن بعضهم: إنه كان يعالج قوة الغضب، ويتكلف صفة الحلم، فكان يعطي السفهاء أجرة ليزدروه بالشتم في المحافل فيتعود احتمالهم.

    يعني أنه يريد أن يمرن نفسه على أن يشتم أو يهان من أجل أن يعالج صفة الغضب في نفسه! فيعطي بعض السفهاء أموالاً من أجل أن يشتموه في المحافل أمام الناس، ويصبر هو على ذلك الشتم تدريباً لنفسه، فصار بحيث يضرب به المثل في الحلم!

    وآخر عالج حب المال بأن باع كل ماله، ورمى بثمنه في البحر.

    هذا يريد أن يعالج فتنة المال، فباع كل ما يملك من أموال وأخذ ثمنها وألقاه في البحر!! أليست هذه سفاهة؟! سبحان الله! وهذا مثل عباد الهند، يقول الغزالي : وعباد الهند يعالجون الكسل عن العبادة بالقيام طول ليلة على رجل واحدة لا ينتقل عنها.

    وحكى عن الشبلي أنه عالج البخل بأن قام ورمى أمواله في دجلة، وقال: ما أعزك أحد إلا أذله الله عز وجل! وعقب الغزالي على فعل الشبلي بقوله: فكذلك الذي يريد علاج البخل ينبغي أن يفارق المال تكلفاً بأن يبذله، بل لو رماه في الماء كان أولى به من إمساكه إياه مع الحب له!

    كيف سيكون جوابه أمام الله سبحانه وتعالى إذا سأله عن ماله من أين اكتسبه وفي أي شيء أنفقه؟ لماذا لا يحرص على أن يطعم الفقراء والجياع بهذا المال، أو يعد للغزو والجهاد في سبيل الله؟ وسوف يعالج البخل، وفي نفس الوقت ينفع بهذا المال غيره.

    قول الغزالي إن من أولياء الله من تزوره الكعبة وتطوف به

    أيضاً يقول الغزالي في الإحياء: إن من أولياء الله من تزوره الكعبة وتطوف به!

    أيها الإخوة! هذه الخرافات الصوفية هي فعلاً أفيون الشعوب، تجد الحكام الظلمة والطواغيت أعداء الإسلام لا يجدون مطية أحسن من الصوفية يركبونها للعبور على الإسلام والإجهاز عليه، حتى إن هناك كتاباً ألفه رجل أمريكي اسمه: (القناطر التي نعبر عليها حتى نجهز على الإسلام) وكل الكتاب يتكلم على أن الصوفية هي أعظم مطية نستطيع أن نركبها لنقضي على الإسلام.

    فإذا كان الغزالي يقول: إن الكعبة تروح إلى بعض الناس وتطوف بهم، فلا نستبعد ما حكي عن رابعة أنها نذرت هي وآخر أن يحجوا إلى الكعبة، فالرجل نذر أن يذهب زاحفاً على بطنه، وهي نذرت أن تمشي خطوة وتركع ركعتين .. وهكذا حتى تصل، وكل واحد وفى بنذره، فوصل الرجل إلى الكعبة قبلها، فحينما وصل لم يلق الكعبة في الحرم، فقال: أين الكعبة؟ قالوا: ذهبت تستقبل رابعة ! والله المستعان!

    قول الغزالي بأنه يجوز للصوفي تمزيق ثيابه عند السماع

    يقول أيضاً: يجوز للصوفي تمزيق الثياب الجديدة.

    وهذا عندما يسمع الإنشاد الصوفي ويحصل الانفعال والوجد، ونحو هذه الأشياء من الفناء، فيجوز له تمزيق الثياب الجديدة إذا قطعها قطعاً مربعة، يعني إذا أراد أن يقطع ثيابه فلا يقطعها قطعاً عشوائية، بل يقطعها على هيئة معينة فيجوز له ذلك.

    وكيف تحصل هذه الهيئة؟

    يقول: يجوز للصوفي تمزيق الثياب الجديدة إذا قطعها قطعاً مربعة مربعة تصلح لترقيع الثياب والسجادات، فإن الثوب يمزق حتى يخاط منه القميص ولا يكون تضييعاً.

    يعلق الإمام ابن الجوزي على ذلك قائلاً: ولقد عجبت من هذا الرجل كيف سلبه حب مذهب التصوف عن أصول الفقه ومذهب الشافعي ! وليس العجب من تلبيس إبليس على الجهال فيهم، بل الفقهاء الذين اختاروا بدع الصوفية على حكم أبي حنيفة والشافعي ومالك وأحمد رضوان الله عليهم أجمعين.

    قول الغزالي بأن صلاة المنفرد أفضل من الجماعة إذا كان خشوعه يزيد بانفراده

    أيضاً من ذلك: فتوى الغزالي بأن صلاة المنفرد أولى من صلاة الجماعة إن كان خشوعه يزيد بانفراده، وقد أنكر الإمام السبكي هذه الفتوى على الغزالي رغم أنه متعصب للغزالي ، وقال: ولا تترك سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم التي أفتى البعض بأنها فرض -صلاة الجماعة- وجعلها آخرون شرطاً لصحة الصلاة لمثل هذه الخيالات.

    أيضاً من هذه العجائب: أنه استحسن ابتداء قص الأظفار بالسبابة؛ لأن لها الفضل على بقية الأصابع، ولكونها المسبحة.

    قول الغزالي بأفضلية السماع على القرآن

    أيضاً من عجائب ما قاله الغزالي : قوله بأفضلية السماع -سماع الغناء- على القرآن لقلب المبتدئ.

    يقول: فإن سأل سائل: إن كان سماع القرآن مفيداً بالوجد فما بالهم يجتمعون على سماع الغناء من القوالين دون القارئين؟

    قال الغزالي : فاعلم أن السماع أشد تهييجاً للوجد من القرآن من سبعة أوجه.

    ثم ذكر الوجه الأول: أن جميع آيات القرآن لا تناسب حال المستمع، وأن القرآن محفوظ للأكثرين ومتكرر على الأسماع والقلوب.

    وأطال في ذكر الأوجه إلى أن ختم بالوجه السابع فقال فيه:

    السابع: أن القرآن كلام الله وصفة من صفاته، وهو حق لا تطيقه البشرية؛ لأنه غير مخلوق، فلا تطيقه الصفات المخلوقة، والألحان الطيبة مناسبة للطباع، فنسبتها نسبة الحظوظ لا نسبة الحقوق، فما دامت البشرية باقية، ونحن بصفاتنا وحظوظنا نتنعم بالنغمات الشجية والأصوات الطيبة، فانبساطنا لمشاهدة بقاء هذه الحظوظ إلى التصاعد أولى من انبساطنا إلى كلام الله تعالى الذي هو صفته وكلامه الذي منه بدأ وإليه يعود.

    وهذا كلام عجيب! فهل مجرد وجود التلذذ بهذه الأنغام والتمتع يبيح الفعل؟! إذاً لماذا لا نستحل كثيراً من المحرمات التي فيها مثل هذا التلذذ؟!

    ثم يحكي الغزالي قصة رجل فيقول: وقد حكي عن أبي الحسن الدراج أنه قال: قصدت يوسف بن الحسين الرازي من بغداد للزيارة والسلام عليه، فلما دخلت الري كنت أسأل عنه، فكل من سألته عنه قال: أيش تعمل بذلك الزنديق؟ قال أبو الحسن : فلم أسأل عنه حتى دخلت عليه في مسجده، وهو قاعد في المحراب، وبين يديه رجل وبيده مصحف يقرأ، فإذا هو شيخ بهي حسن الوجه واللحية، فسلمت عليه، فأقبل علي وقال لي: أتحسن أن تقول شيئاً؟ فقلت: نعم، قال: هات، قال: فأنشأت أقول:

    رأيتك تبني دائماً في قطيعتي ولو كنت ذا حزم لهدمت ما تبني

    كأني بكم والليت أفضل قولكم ألا ليتنا كنا إذ الليت لا يغني

    فأطبق المصحف ولم يزل يبكي حتى ابتلت لحيته، وابتل ثوبه، حتى رحمته من كثرة بكائه، ثم قال: يا بني! تلوم أهل الري يقولون: يوسف زنديق! هأنا من صلاة الغداة أقرأ المصحف لم تقطر من عيني قطرة، وقد قامت القيامة علي لهذين البيتين.

    أي: أنك استغربت من الناس الذي كنت تسألهم في الطريق وكلما تسأل واحداً: أين فلان؟ فيقول لك: الزنديق ماذا تريد منه؟! يقول: كيف تستغرب من ذلك وأنا جالس أقرأ القرآن من صلاة الفجر إلى هذا الوقت وعيني لم تقطر منها قطرة، وقد قامت علي القيامة بسماع هذين البيتين من الشعر!

    ويعلق الغزالي على هذه القصة بقوله: فإذاً القلوب وإن كانت محترقة في حب الله تعالى، فإن البيت الغريب يهيج منها ما لا تهيج تلاوة القرآن!

    ويستدل الغزالي على إباحة السماع الصوفي بقوله تعالى: يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ [فاطر:1] فيقول: إنه الصوت الحسن.

    تجويز الغزالي للرقص عند التواجد بالسماع

    الصوفية ليس لهم سلاح غير المنامات والخيالات والأوهام، كما يقول بعض السلف: أعوذ بالله من فكر الفلسفي وخيال الصوفي، فالفلسفة فكر منحرف، والصوفية خيال وأوهام وأساطير وخرافات، يروي الغزالي عن الدنوري قوله: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في النوم فقلت له: يا رسول الله! هل تنكر من هذا السماع شيئاً؟ فقال: لا أنكر منه شيئاً، ولكن قل لهم يفتتحون قبله بالقرآن ويختتمون بعده بالقرآن. لا حول ولا قوة إلا بالله! مثل التلفزيون فعلاً. أيضاً: يقول الغزالي في ذكر آداب السماع: الأدب الخامس في السماع: موافقة القوم. يعني تتأدب مع الناس الذين تسمع معهم الإنشاد الصوفي، فإذا جاء واحد منهم وأصابته المواجيد وانفعل وقام يرقص، فقم واشترك معه في الرقص؛ لأن هذا من حسن العشرة وحقوق الأخوة. يقول: موافقة القوم في القيام إذا قام واحد منهم في وجد صادق من غير رياء وتكلف، كذلك إن جرت عادة طائفة بتنحية العمامة على موافقة صاحب الوجد إذا سقطت عمامته. يعني إذا سقطت عمامة أحدهم لأجل الوجد فعليك أن توافقه أيضاً وتنحي عمامتك. يقول: كذلك إن جرت عادة طائفة بتنحية العمامة على موافقة صاحب الوجد إذا سقطت عمامته، أو خلع الثياب إذا سقط عنه الثوب بالتمزيق، فالموافقة في هذه الأمور من حسن الصحبة والمعاشرة. وهذا مذكور في الإحياء (2/304-305). يقول: ومن الأدب أن لا يقوم للرقص مع القوم إن كان يستثقل رقصه، ولا يشوش عليهم أحوالهم، إذ الرقص من غير إظهار التواجد مباح. أقول: لقد ذكر ربنا سبحانه وتعالى أن الرقص والطبل والتصفيق هذه من أفعال المشركين: وَمَا كَانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً [الأنفال:35] قال ابن عباس : كانت قريش تطوف بالبيت عراة تصفر وتصفق. فالتصفيق عند الصوفية من جملة الآداب التي يؤدونها في خلواتهم. فأي دين هذا؟! يقول بعض الشعراء: أقال الله حين عشقتموه كلوا أكل البهائم وارقصوا لي؟! ما قال الله سبحانه وتعالى ذلك وما أحل الله عز وجل ذلك.

    الجنة ونعيمها وأهلها عند الغزالي

    أخيراً: نختم برأي الغزالي رحمه الله وعفا عنه في الجنة وأهلها.

    فيرى الغزالي أن للعارفين مقاماً يجاوز مقام الجنة، أي أن العارفين لهم مقام أعلى من مجرد الدخول إلى الجنة، وهو مقام مجالسة الرحمن الدائمة. هذا المقام لا يناله عموم الناس وهم عوامهم، وإنما هو لخواص الناس من العارفين.

    وكل هذا الانحراف سره اعتماده على أثر ضعيف من الآثار السيئة والأحاديث الضعيفة، حديث ضعيف يقول: (أكثر أهل الجنة البله، وعليون لذوي الألباب)، كان الناس إذا رأوا رجلاً معتوهاً فيقولون: هذا ولي من أولياء الله، وبمجرد أن يموت يبنون على قبره قبة، ويقولون للناس: إن هذا من أولياء الله، وأنتم لا تعرفون ذلك، هؤلاء لهم أسرار .. وكذا وكذا، ويفترون على رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه يقول: (أكثر أهل الجنة البله، وعليون لذوي الألباب)، ومن هنا يستطيع الإنسان أن يتصور إلى أي مدى تعتبر الصوفية خطراً على الإسلام ومفاهيم الإسلام.

    يقول الغزالي : فمن كان حبه في الدنيا رجاء نعيم الجنة والحور العين، مكن من الجنة يتبوأ منها حيث يشاء، فيلعب مع الولدان ويتمتع بالنساء، فهناك تنتهي لذته في الآخرة، فالأبرار يرتعون في البساتين وينعمون في الجنان مع الحور العين والولدان، والمقربون ملازمون للحضرة عاكفون بطرفهم عليها، يستحقرون نعيم الجنان بالإضافة إلى ذرة منها، فقوم بقضاء شهوة البطن والفرج مشغولون وللمجالسة قوم آخرون، ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أكثر أهل الجنة البله). والحديث -كما سبق- ضعيف.

    أرونا إثبات رؤية الله في الآخرة؟ أين مرتبة إثبات رؤية الله في الآخرة لأهل الجنة؟ التي يدافع عنها الغزالي ويرد على المعتزلة في تفسير قوله تعالى: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ [القيامة:23]، فأهل الجنة يرون ربهم؛ لأن الإنسان بدن وروح، فنعيم البدن نعيم حسي، ونعيم الروح هو أعظم هذا النعيم، وهو الذي يأخذ كل لذات الجنة وهو رؤية الله سبحانه وتعالى في الآخرة، فليس هناك تعارض أن يتم النعيم لهم من كل الوجوه، وأن يكون أرقى وأعظم هذه المقاصد هو رؤية الرب سبحانه وتعالى في الآخرة؛ فهو يقول: إن تناولهم لشهوات البطون والفروج يلهيهم عن إبصار جمال الله وجلاله الذي هو خاص بالمقربين فهذه الآية لها هذا الكلام، وهو يعلم عقيدة أهل السنة في إثبات رؤية الله في الآخرة، خاصة وأنه أطال في الرد على المعتزلة في إنكارهم الرؤية.

    يقول الغزالي : وأما العارف إذا انفتح له ثمانية أبواب من أبواب جنة المعارف، يعني أن هناك جنتين: جنة البله وجنة المعارف، وجنة المعارف لها ثمانية أبواب غير أبواب الجنة الثمانية.

    فيقول: وأما العارف إذا انفتح له ثمانية أبواب من أبواب جنة المعارف، واعتكف فيها، لم يلتفت أصلاً إلى جنة البله، وإياك أن تستبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير فتكون من جملة البله.

    إذاً: البله هم الذين يريدون النجاة.. الفوز بالجنة والنجاة من النار.

    يقول: ولا تظن أن روح العارف من الانشراح في رياض المعرفة وبساتينها، أقل من روح من يدخل الجنة التي يعرفها ويقضي فيها شهوة البطن والفرج، وأنى يتساويان! بل لا ينكر أن يكون في العارفين من رغبته في فتح أبواب المعارف لينظر في ملكوت السماء والأرض أكثر من رغبته في المنكوح والمأكول والملبوس.

    وخلاصة الكلام يقول: فإن كنت ترى مشاركة البهائم لذاتها، أحق بالطلب من مساهمة الملائكة في فرحهم وسرورهم بمطالعة جمال حضرة الربوبية، فما أشد غيك وجهلك وغباوتك.

    يقول: اعلم أن هذه الشهوة خلقت في العارفين ولم تخلق لك، كما خلقت لك شهوة الجاه ولم تخلق للصبيان، وإنما للصبيان شهوة اللعب.

    فأقول: أين هذا الكلام من سلوك الأنبياء؟ لماذا لا ننضبط بضوابط الكتاب والسنة؟ أليس إبراهيم عليه السلام خليل الرحمن وأبو الأنبياء يدعو الله سبحانه وتعالى ويقول: وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ [الشعراء:85]؟ والأنبياء كلهم كانوا يطلبون الجنة، فالصوفية اخترعوا مفاهيم أجنبية عن الإسلام، يحكون عن رابعة العدوية أنها مشت وفي يدها اليمين ماء وفي يدها الشمال نار، فقالوا: أين تذهبين يا رابعة ؟ قالت: أنا ذاهبة إلى الجنة والنار، سوف أطفئ النار بهذا الماء، وأحرق الجنة بهذه النيران، حتى أفني الجنة والنار، حتى لا يعبده الناس خوفاً من ناره ولا طمعاً في جنته، ولكن حباً فيه!

    فهذه المفاهيم أجنبية، مفاهيم دخيلة على دين الإسلام، وليست من الإسلام في شيء، فهم يقتبسون تارة من النصارى والرهبان، وتارة من اليهود، وتارة من البراهمة والهنادسة والوثنيين، فهذه الأشياء كلها من الفلاسفة، ومن المتكلمين، ومن الباطنية الملاحدة .. وهكذا، فدين الصوفية دين أجنبي عن دين الإسلام!

    الرسول عليه السلام رغبنا في أن ندعو الله عز وجل: (اللهم آت محمداً الوسيلة والفضيلة ..) إلى آخر الحديث، والوسيلة ذكر عليه الصلاة والسلام أن الوسيلة منزلة في الجنة، ورغب أمته في أن يدعوا الله سبحانه وتعالى أن يكون هو صاحب هذه المنزلة صلى الله عليه وآله وسلم.

    إذاً: هذا رسول الله عليه الصلاة والسلام أفضل البشر، أحوجهم لله وأحبهم لله، ومع ذلك كان يسأل الله الجنة، وقد ورد في الحديث: أن مريم و فاطمة رضي الله عنهما من سيدات نساء العالمين، و: الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة، وورد أن أبا بكر وعمر وعثمان وعلياً وطلحة والزبير وسعد بن مالك وعبد الرحمن بن عوف مشهود لهم بالجنة، وبشر الله أهل بدر بالجنة، وكذلك وعد بالجنة الذين بايعوا تحت الشجرة، وأي الوعدين أعظم: وعد الله سبحانه وتعالى لهؤلاء الأفاضل الكرام بالجنة، أم وعد الغزالي نفسه والصوفية بجنة المعرفة التي يعظمونها بجانب جنة الخلد التي وعد المتقون؟ أي قيمة تحصل لهذا الوعد الإلهي إذا كانت هذه الجنة مخصوصة بالبله الذين ليس لهم هَمٌّ إلا الأكل والتمتع، وأنهم يشابهون الأنعام كما يرمز الغزالي إلى ذلك؟

    فمتاع الجنة عند الغزالي بهذه النظرة الصوفية مثل متاع الدنيا ينبغي أن يزهد فيه.

    يقول بعض السلف: يا معشر الشباب! أكثروا من ذكر الحور العين حتى تتشوقوا إلى الجنة!

    فالشريعة تأمر بالحرص على متاع الجنة سواء في ذلك المتاع الحسي والمتاع الروحي، وهؤلاء الصوفية يوافقون الشريعة في الزهد في الدنيا، لكنهم يخالفونها في أنهم يطالبوننا بالزهد في فضل الله سبحانه وتعالى ورحمته في الجنة.

    فهذه مناقضة للشريعة، وهذا فهم دخيل وأجنبي عما بعث الله عز وجل به رسله.

    يقول الغزالي حاكياً عن ممشاد الدينوري قال: منذ ثلاثين سنة تعرض علي الجنة بملكها فما أعرتها طرفي! يعني: احتقاراً للجنة وزهداً فيها.

    ويقول أيضاً: روي عن إبراهيم بن أدهم أنه قال: إلهي إنك تعلم أن الجنة لا تزن عندي جناح بعوضة في جنب ما أكرمتني من محبتك وآنستني من ذكرك.

    وهكذا يأتون بعد تلك العبارة بكلام حسن من أجل أن تتقبلها وتشرب السم في العسل، وهذا كما يحكون عن رابعة العدوية أنهم قالوا لها: يا رابعة ! هل تحبين رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالت: والله إني لأحبه غير أن حبي لله لم يبق في قلبي مكاناً لحب مخلوق سواه!

    وهل تتعارض محبة رسول الله مع محبة الله؟ وهذا الكلام لا يصح عنها رحمها الله، لكن هذا الكلام معتمد عند الصوفية ويبنون عليه دينهم.

    وقيل أيضاً لـرابعة العدوية : ألا تسألين الله الجنة؟ فقالت: الجار ثم الدار. تقصد مجاورة الله أولاً ثم بعد ذلك تسأله الجنة.

    وروي عن بعضهم قوله: من عبد الله لعوض فهو لئيم!

    سبحان الله! أي معارضة للقرآن والسنة مثل هذه التي تعرض في ثوب الزهد والتصوف؟! وكل هذه الأشياء موجودة في كتب الغزالي .

    انحراف الصوفية في العبادة والمحبة

    أيضاً: انحرف الصوفية بمزيد من الشطحات والانحرافات، حيث صرفهم الشيطان عن طلب أعظم ما وعد الله سبحانه وتعالى به عباده بدعوى المحبة والإخلاص في التعبد، فيقولون: نعبد ربنا حباً فيه فقط، لكن لا نعبده خوفاً من ناره ولا طمعاً في جنته! فاختلت عندهم الموازين، وظنوا أن الرجاء والخوف من الله سبحانه وتعالى يخل بالعبودية الصحيحة.

    يقول أبو يزيد البسطامي : ما النار؟ لا أفهمها، لأستندن عليها غداً وأقول: اجعلني فداء لأهلها وإلا بلعتها!

    أستغفر الله .. أستغفر الله!

    ويقول: ما الجنة؟ لعبة صبيان ومراد أهل الدنيا.

    ولا يكتفي بتحقير ما عظمه الله سبحانه وتعالى؛ بل لما سأله أحدهم أن يحدثه بشيء من كراماته قال له: أدخلني الله في الفلك الأسفل، فدورني في الملكوت السفلي وأراني الأرضين وما تحتها إلى الثرى، ثم أدخلني في الفلك العلوي فصوت لي في السماوات وأراني ما فيها من الجنان إلى العرش، ثم أوقفني بين يديه فقال: سلني أي شيء رأيته حتى أهبه لك، فقلت: يا سيدي ما رأيت شيئاً فأسألك إياه!

    كل هذا لم يعجبه شيء منه والله المستعان، وهذه كلها موجودة عند الغزالي تحت فصل: حكايات المحبين، أي: الذين لا يعبدون الله خوفاً من النار ولا طمعاً في الجنة؛ لكن حباً فيه.

    وهذا التصرف من الصوفية جعل من بعدهم يبنون على هذه المفاهيم الاستخفاف والاستهانة بالنار وبعذابها، حتى إنهم قالوا: إن عذاب النار مشتق من العذوبة، فيقول ابن عربي في حق أهل النار:

    وإن دخلوا دار الشقاء فإنهم على لذة فيها نعيم مباين

    نعيم جنان الخلد فالأمر واحد وبينهما عند التجلي تباين

    يسمى عذاباً من عذوبة لفظه وذاك له كالقشر والقشر صاين

    وهذا الملحد ابن عربي يفسر قوله سبحانه وتعالى: بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ [الأحقاف:24]، فيقول: (عذاب) هنا مشتقة من العذوبة والريح من الراحة، رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ [الأحقاف:24] يقول: إن الريح هاهنا إشارة إلى ما فيها من الراحة، فإن بهذه الريح أراحهم الله من هذه الهياكل المظلمة.

    وهذه درجة أحط من درجة احتقار الجنة والنار، فالصوفية الأوائل بنوا المذهب على أن تعبد الله حباً فيه -وهذه زندقة- لا خوفاً من ناره ولا طمعاً في جنته؛ فأتى ابن عربي فيما بعد وأسس المذهب الأحط من هذا، وهو أن عذاب النار في ذاته نعيم وراحة وعذوبة. يقول: وفي هذه الريح عذاب، أي: أمر يستعذبونه إذا ذاقوه، ويسألون الله أن يذيقهم هذه العذوبة، ولما قرأ البعض كلام ابن عربي قال: الله يذيقكم هذه العذوبة، يقصد هؤلاء الصوفية.

    وقد قال الحلاج قبل ابن عربي :

    أريدك لا أريدك للثواب ولكني أريدك للعقاب

    فاستجاب الله له فمات مصلوباً، وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى [طه:127].

    ولا شك أن هذه التصرفات إنما نشأت بسبب أنهم لا يعبدون الله طمعاً في جنته ولا خوفاً من ناره، لكن يزعمون المحبة، وكما قال بعض السلف الصالح -وهذا محكي عن مكحول الدمشقي -: من عبد الله بالخوف فهو حروري -أي مثل الخوارج- ومن عبده بالرجاء فهو مرجئي أو مرجئ، ومن عبده بالمحبة فهو زنديق، ومن عبده بالخوف والرجاء والمحبة فهو مؤمن موحد.

    نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا من هؤلاء الموحدين.

    أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم.

    سبحانك اللهم ربنا وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك.

    تجويز الغزالي للرقص عن التواجد بالسماع

    الصوفية ليس لهم سلاح غير المنامات والخيالات والأوهام، كما يقول بعض السلف: أعوذ بالله من فكر الفلسفي وخيال الصوفي، فالفلسفة فكر منحرف، والصوفية خيال وأوهام وأساطير وخرافات، يروي الغزالي عن الدنوري قوله: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في النوم فقلت له: يا رسول الله! هل تنكر من هذا السماع شيئاً؟ فقال: لا أنكر منه شيئاً، ولكن قل لهم يفتتحون قبله بالقرآن ويختتمون بعده بالقرآن. لا حول ولا قوة إلا بالله! مثل التلفزيون فعلاً.

    أيضاً: يقول الغزالي في ذكر آداب السماع: الأدب الخامس في السماع: موافقة القوم. يعني تتأدب مع الناس الذين تسمع معهم الإنشاد الصوفي، فإذا جاء واحد منهم وأصابته المواجيد وانفعل وقام يرقص، فقم واشترك معه في الرقص؛ لأن هذا من حسن العشرة وحقوق الأخوة.

    يقول: موافقة القوم في القيام إذا قام واحد منهم في وجد صادق من غير رياء وتكلف، كذلك إن جرت عادة طائفة بتنحية العمامة على موافقة صاحب الوجد إذا سقطت عمامته. يعني إذا سقطت عمامة أحدهم لأجل الوجد فعليك أن توافقه أيضاً وتنحي عمامتك.

    يقول: كذلك إن جرت عادة طائفة بتنحية العمامة على موافقة صاحب الوجد إذا سقطت عمامته، أو خلع الثياب إذا سقط عنه الثوب بالتمزيق، فالموافقة في هذه الأمور من حسن الصحبة والمعاشرة. وهذا مذكور في الإحياء (2/304-305).

    يقول: ومن الأدب أن لا يقوم للرقص مع القوم إن كان يستثقل رقصه، ولا يشوش عليهم أحوالهم، إذ الرقص من غير إظهار التواجد مباح.

    أقول: لقد ذكر ربنا سبحانه وتعالى أن الرقص والطبل والتصفيق هذه من أفعال المشركين: وَمَا كَانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً [الأنفال:35] قال ابن عباس : كانت قريش تطوف بالبيت عراة تصفر وتصفق. فالتصفيق عند الصوفية من جملة الآداب التي يؤدونها في خلواتهم.

    فأي دين هذا؟! يقول بعض الشعراء:

    أقال الله حين عشقتموه كلوا أكل البهائم وارقصوا لي؟!

    ما قال الله سبحانه وتعالى ذلك وما أحل الله عز وجل ذلك.

    مكتبتك الصوتية

    أو الدخول بحساب

    البث المباشر

    المزيد

    من الفعاليات والمحاضرات الأرشيفية من خدمة البث المباشر

    عدد مرات الاستماع

    3086718659

    عدد مرات الحفظ

    755829478